Translate

السبت، 18 فبراير 2023

بداية المجتهد ونهاية المقتصدلابن رشد {من الطهارة الي اخر الحج ثم اخر الجهاد} يليه كتاب النكاح

 

 

 

 

 

 

بداية المجتهد ونهاية المقتصد للإمام ابن رشد القرطبي الجزء الأول

مقدمة المؤلف. -بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد حمد الله بجميع محامده، والصلاة والسلام على محمد رسوله وآله وأصحابه، فإن غرضي في هذا الكتاب أن أثبت فيه لنفسي (في نسخة فاس: التنبيه لنفسي بدل أن أثبت) (انظر ترجمة المؤلف آخر الكتاب)

 

 

على جهة التذكرة من مسائل الأحكام المتفق عليها والمختلف فيها بأدلتها، والتنبيه على نكت الخلاف فيها، ما يجري مجرى الأصول والقواعد لما عسى أن يرد على المجتهد من المسائل المسكوت عنها في الشرع، وهذه المسائل في الأكثر هي المسائل المنطوق بها في الشرع أو تتعلق بالمنطوق به تعلقا قريبا، وهي المسائل التي وقع الاتفاق عليها، أو اشتهر الخلاف فيها بين الفقهاء الإسلاميين من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن فشا التقليد. وقبل ذلك فلنذكر كم أصناف الطرق التي تتلقي منها الأحكام الشرعية، وكم أصناف الأحكام الشرعية، وكم أصناف الأسباب التي أوجبت الاختلاف بأوجز ما يمكننا في ذلك. فنقول: إن الطرق التي منها تلقيت الأحكام عن النبي عليه الصلاة والسلام بالجنس ثلاثة: إما لفظ، وإما فعل، وإما إقرار. وأما ما سكت عنه الشارع من الأحكام فقال الجمهور: إن طريق الوقوف عليه هو القياس. وقال أهل الظاهر: القياس في الشرع باطل، وما سكت عنه الشارع فلا حكم له. ودليل العقل يشهد ثبوته [أي ثبوت القياس. دار الحديث]، وذلك أن الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية، والنصوص والأفعال والإقرارات متناهية، ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى. وأصناف الألفاظ التي تتلقى منها الأحكام من السمع أربعة: ثلاثة متفق عليها، ورابع مختلف فيه. أما الثلاثة المتفق عليها فلفظ عام يحمل على عمومه، أو خاص يحمل على خصوصه، أو لفظ عام يراد به الخصوص، أو لفظ خاص يراد به العموم، وفي هذا يدخل التنبيه بالأعلى على الأدنى، وبالأدنى على الأعلى، وبالمساوي على المساوى؛ فمثال الأول قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} فإن المسلمين اتفقوا على أن لفظ الخنزير متناول لجميع أصناف الخنازير ما لم يكن مما يقال عليه الاسم بالاشتراك، مثل خنزير الماء، ومثال العام يراد به الخاص قوله تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} فإن المسلمين اتفقوا على أن ليست الزكاة واجبة في جميع أنواع المال، ومثال الخاص يراد به العام قوله تعالى {فلا تقل لهما أف} وهو من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإنه يفهم من هذا تحريم الضرب والشتم وما فوق ذلك، وهذه إما أن يأتي المستدعى بها فعله بصيغة الأمر، وإما أن يأتي بصيغة الخبر يراد به الأمر، وكذلك المستدعي تركه، إما أن يأتي بصيغة النهي، وإما أن يأتي بصيغة الخبر يراد به النهي، وإذا أتت هذه الألفاظ بهذه الصيغ، فهل يحمل استدعاء الفعل بها على الوجوب أو على الندب على ما سيقال في حد الواجب والمندوب إليه، أو يتوقف حتى يدل الدليل على أحدهما، فيه بين العلماء خلاف مذكور في كتب أصول الفقه، وكذلك الحال في صيغ النهي هل تدل على الكراهية أو التحريم، أو لا تدل على واحد منهما، فيه الخلاف المذكور أيضا، والأعيان التي يتعلق بها الحكم إما أن يدل عليها بلفظ يدل على معنى واحد فقط، وهو الذي يعرف في صناعة أصول الفقه بالنص، ولا خلاف في وجوب العمل به، وإما أن يدل عليها بلفظ يدل على أكثر من معنى واحد، وهذا قسمان: إما أن تكون دلالته على تلك المعاني بالسواء، وهو الذي يعرف في أصول الفقه بالمجمل، ولا خلاف في أنه لا يوجب حكما، وإما أن تكون دلالته على بعض تلك المعاني أكثر من بعض، وهذا يسمى بالإضافة إلى المعاني التي دلالته عليها أكثر ظاهرا، ويسمى بالإضافة إلى المعاني التي دلالته عليها أقل محتملا، وإذا ورد مطلقا حمل على تلك المعاني التي هو أظهر فيها حتى يقوم الدليل على حمله على المحتمل، فيعرض الخلاف للفقهاء في أقاويل الشارع، لكن ذلك من قبل ثلاثة معان: من قبل الاشتراك في لفظ العين الذي علق به الحكم، ومن قبل الاشتراك في الألف واللام المقرونة بجنس تلك العين، هل أريد بها الكل أو البعض؟ ومن قبل الاشتراك الذي في ألفاظ الأوامر والنواهي. وأما الطريق الرابع فهو أن يفهم من إيجاب الحكم لشيء ما نفي ذلك الحكم عما عدا ذلك الشيء أو من نفى الحكم عن شيء ما إيجابه لما عدا ذلك الشيء الذي نفي عنه، وهو الذي يعرف بدليل الخطاب، وهو أصل مختلف فيه، مثل قوله عليه الصلاة والسلام "في سائمة الغنم الزكاة" فإن قوما فهموا منه أن لا زكاة في غير السائمة، وأما القياس الشرعي فهو إلحاق الحكم الواجب لشيء ما بالشرع بالشيء، المسكوت عنه لشبهه بالشيء الذي أوجب الشرع له ذلك الحكم أو لعلة جامعة بينهما، ولذلك كان القياس الشرعي صنفين قياس شبه، وقياس علة؛ والفرق بين القياس الشرعي واللفظ الخاص يراد به العام: أن القياس يكون على الخاص الذي أريد به الخاص، فيلحق به غيره، أعني أن المسكوت عنه يلحق بالمنطوق به من جهة الشبه الذي بينهما لا من جهة دلالة اللفظ لأن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به من جهة تنبيه اللفظ ليس بقياس، وإنما هو من باب دلالة اللفظ، وهذان الصنفان يتقاربان جدا لأنهما إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به، وهما يلتبسان على الفقهاء كثيرا جدا، فمثال القياس إلحاق شارب الخمر بالقاذف في الحد والصداق بالنصاب في القطع، وأما إلحاق الربويات بالمقتات أو بالمكيل أو بالمطعوم فمن باب الخاص أريد به العام، فتأمل هذا فإن فيه غموضا. والجنس الأول هو الذي ينبغي للظاهرية أن تنازع فيه، وأما الثاني فليس ينبغي لها أن تنازع فيه لأنه من باب السمع، والذي يرد ذلك يرد نوعا من خطاب العرب، وأما الفعل فإنه عند الأكثر من الطرق التي تتلقي منها الأحكام الشرعية، وقال قوم الأفعال: ليست تفيد حكما إذ ليس لها صيغ، والذين قالوا إنها تتلقي منها الأحكام اختلفوا في نوع الحكم الذي تدل عليه، فقال قوم: تدل على الوجوب، وقال قوم: تدل على الندب، والمختار عند المحققين أنها إن أتت بيانا لمجمل واجب دلت على الوجوب، وإن أتت بيانا لمجمل مندوب إليه دلت على الندب؛ وإن لم تأت بيانا لمجمل، فإن كانت من جنس القربة دلت على الندب وإن كانت من جنس المباحات دلت على الإباحة، وأما الإقرار فإنه يدل على الجواز فهذه أصناف الطرق التي تتلقى منها الأحكام أو تستنبط. وأما الإجماع فهو مستند إلى أحد هذه الطرق الأربعة، إلا أنه إذا وقع في واحد منها ولم يكن قطعيا نقل الحكم من غلبة الظن إلى القطع وليس الإجماع أصلا مستقلا بذاته من غير استناد إلى واحد من هذه الطرق، لأنه لو كان كذلك لكان يقتضي إثبات شرع زائد بعد النبي ﷺ إذ كان لا يرجع إلى أصل من الأصول المشروعة. وأما المعاني المتداولة المتأدية من هذه الطرق اللفظية للمكلفين، فهي بالجملة: إما أمر بشيء وإما نهي عنه، وإما تخيير فيه. والأمر إن فهم منه الجزم وتعلق العقاب بتركه سمي واجبا، وإن فهم منه الثواب على الفعل وانتفى العقاب مع الترك سمي ندبا. والنهي أيضا إن فهم منه الجزم وتعلق العقاب بالفعل سمي محرما ومحظورا،وإن فهم منه الحث على تركه من غير تعلق عقاب بفعله سمي مكروها، فتكون أصناف الأحكام الشرعية الملتقاة من هذه الطرق الخمس: واجب، ومندوب، ومحظور، ومكروه، ومخير فيه وهو المباح. وأما أسباب الاختلاف بالجنس فستة: أحدها تردد الألفاظ بين هذه الطرق الأربع: أعني بين أن يكون اللفظ عاما يراد به الخاص، أو خاصا يراد به العام، أو عاما يراد به العام، أو خاصا يراد به الخاص، أو يكون له دليل خطاب، أو لا يكون له. والثاني الاشتراك الذي في الألفاظ، وذلك إما في اللفظ المفرد كلفظ القرء الذي ينطلق على الأطهار وعلى الحيض، وكذلك لفظ الأمر هل يحمل على الوجوب أو الندب، ولفظ النهي هل يحمل على التحريم أو على الكراهية، وإما في اللفظ المركب مثل قوله تعالى {إلا الذين تابوا} فإنه يحتمل أن يعود على الفاسق فقط، ويحتمل أن يعود على الفاسق والشاهد، فتكون التوبة رافعة للفسق ومجيزة شهادة القاذف. والثالث اختلاف الإعراب. والرابع تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة أو حمله على نوع من أنواع المجاز، التي هي: إما الحذف، وإما الزيادة، وإما التقديم وإما التأخير، وإما تردده على الحقيقة أو الاستعارة. والخامس إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة، مثل إطلاق الرقبة في العتق تارة، وتقييدها بالإيمان تارة. والسادس التعارض في الشيئين في جميع أصناف الألفاظ التي يتلقى منها الشرع الأحكام بعضها مع بعض وكذلك التعارض الذي يأتي في الأفعال أو في الإقرارات، أو تعارض القياسات أنفسها،أو التعارض الذي يتركب من هذه الأصناف الثلاثة: أعني معارضة القول للفعل أو للإقرار أو للقياس، ومعارضة الفعل للإقرار أو للقياس، ومعارضة الإقرار للقياس. قال القاضي رضي الله عنه: وإذ قد ذكرنا بالجملة هذه الأشياء، فلنشرع فيما قصدنا له، مستعينين بالله، ولنبدأ من ذلك بكتاب الطهارة على عاداتهم. 2*كتاب الطهارة من الحدث.

@-فنقول: إنه اتفق المسلمون على أن الطهارة الشرعية طهارتان: طهارة من الحدث، وطهارة من الخبث، واتفقوا على أن الطهارة من الحدث ثلاثة أصناف: وضوء، وغسل، وبدل منهما وهو التيمم، وذلك لتضمن ذلك آية الوضوء الواردة في ذلك، فلنبدأ من ذلك بالقول في الوضوء، فنقول: 3*كتاب الوضوء.

@-إن القول المحيط بأصول هذه العبادة ينحصر في خمسة أبواب: الباب الأول في الدليل على وجوبها، وعلى من تجب ومتى تجب. الثاني في معرفة أفعالها. الثالث في معرفة ما به تفعل وهو الماء. الرابع في معرفة نواقضها. الخامس في معرفة الأشياء التي تفعل من أجلها. 4*الباب الأول.

@-فأما الدليل على وجوبها فالكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق} الآية. فإنه اتفق المسلمون على أن امتثال هذا الخطاب واجب على كل من لزمته الصلاة إذا دخل وقتها. وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام "لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول" وقوله عليه الصلاة والسلام "لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ" وهذان الحديثان ثابتان عند أئمة النقل. وأما الإجماع، فإنه لم ينقل عن أحد من المسلمين في ذلك خلاف، ولو كان هناك خلاف لنقل، إذ العادات تقتضي ذلك. وأما من تجب عليه فهو البالغ العاقل، وذلك أيضا ثابت بالسنة والإجماع. أما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام "رفع القلم عن ثلاث، فذكر: الصبي حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق" وأما الإجماع، فإنه لم ينقل في ذلك خلاف، واختلف الفقهاء هل من شرط وجوبها الإسلام أم لا؟ وهي مسألة قليلة الغناء في الفقه، لأنها راجعة إلى الحكم الأخروي. وأما متى تجب فإذا دخل وقت الصلاة، أو أراد الإنسان الفعل الذي الوضوء شرط فيه، وإن لم يكن ذلك متعلقا بوقت، أما وجوبه عند دخول وقت الصلاة على المحدث فلا خلاف فيه لقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} الآية، فأوجب الوضوء عند القيام إلى الصلاة، ومن شروط الصلاة دخول الوقت، وأما دليل وجوبه عند إرادة الأفعال التي هو شرط فيها فسيأتي ذلك عند ذكر الأشياء التي يفعل الوضوء من أجلها واختلاف الناس في ذلك. 4*الباب الثاني.

@-وأما معرفة فعل الوضوء فالأصل فيه ما ورد من صفته في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين} . وما ورد من ذلك أيضا في صفة وضوء النبي ﷺ في الآثار الثابتة، ويتعلق بذلك مسائل اثنتا عشرة مشهورة تجري مجرى الأمهات، وهي راجعة إلى معرفة الشروط والأركان وصفة الأفعال وأعدادها وتعيينها وتحديد محال أنواع أحكام جميع ذلك. @-(المسألة الأولى من الشروط): اختلف علماء الأمصار هل النية شرط في صحة الوضوء أم لا بعد اتفاقهم على اشتراط النية في العبادات لقوله تعالى {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} ولقوله ﷺ "إنما الأعمال بالنيات" الحديث المشهور. فذهب فريق منهم إلى أنها شرط، وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد وأبي ثور وداود. وذهب فريق آخر إلى أنها ليست بشرط، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري. وسبب اختلافهم تردد الوضوء بين أن يكون عبادة محضة: أعني غير معقولة المعنى، وإنما يقصد بها القربة فقط كالصلاة وغيرها، وبين أن يكون عبادة معقولة المعنى كغسل النجاسة، فإنهم لا يختلفون أن العبادة المحضة مفتقرة إلى النية، والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرة إلى النية، والوضوء فيه شبه من العبادتين، ولذلك وقع الخلاف فيه، وذلك أنه يجمع عبادة ونظافة، والفقه أن ينظر بأيهما هو أقوى شبها فيلحق به. @-(المسألة الثانية من الأحكام): اختلف الفقهاء في غسل اليد قبل إدخالها في إناء الوضوء، فذهب قوم إلى أنه من سنن الوضوء بإطلاق، وإن تيقن طهارة اليد، وهو مشهور مذهب مالك والشافعي. وقيل إنه مستحب للشاك في طهارة يده؛ وهو أيضا مروي عن مالك. وقيل إن غسل اليد واجب على المنتبه من النوم، وبه قال داود وأصحابه. وفرق قوم بين نوم الليل ونوم النهار، فأوجبوا ذلك في نوم الليل ولم يوجبوه في نوم النهار، وبه قال أحمد، فتحصل في ذلك أربعة أقوال: قول إنه سنة بإطلاق، وقوله إنه استحباب للشاك وقول إنه واجب على المنتبه من نوم وقول أنه واجب على المنتبه من نوم الليل دون نوم النهار، والسبب في اختلافهم في ذلك اختلافهم في مفهوم الثابت من حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها الإناء، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" وفي بعض رواياته "فليغسلها ثلاثا" فمن لم ير بين الزيادة الواردة في هذا الحديث على ما في آية الوضوء معارضة، وبين آية الوضوء حمل لفظ الأمر ههنا على ظاهره من الوجوب، وجعل ذلك فرضا من فروض الوضوء، ومن فهم من هؤلاء من لفظ البيات نوم الليل أوجب ذلك من نوم الليل فقط، ومن لم يفهم منه ذلك وإنما فهم منه النوم فقط أوجب ذلك على كل مستيقظ من النوم نهارا أو ليلا، ومن رأى أن بين هذه الزيادة والآية تعارضا إذ كان ظاهر الآية المقصود منه حصر فروض الوضوء كان وجه الجمع بينهما عنده أن يخرج لفظ الأمر عن ظاهره الذي هو الوجوب إلى الندب، ومن تأكد عنده هذا الندب لمثابرته عليه الصلاة والسلام على ذلك قال إنه من جنس السنن، ومن لم يتأكد عنده هذا الندب قال إن ذلك من جنس المندوب المستحب، وهؤلاء غسل اليد عندهم بهذه الحال إذا تيقنت طهارتها: أعني من يقول إن ذلك سنة، من يقول إنه ندب، ومن لم يفهم من هؤلاء من هذا الحديث علة توجب عنده أن يكون من باب الخاص أريد به العام كان ذلك عنده مندوبا للمستيقظ من النوم فقط، ومن فهم منه علة الشك وجعله من باب الخاص أريد به العام كان ذلك عنده للشاك، لأنه في معنى النائم، والظاهر من هذا الحديث أنه لم يقصد به حكم اليد في الوضوء، وإنما قصد به حكم الماء الذي يتوضأ به، إذا كان الماء مشترطا فيه الطهارة وأما من نقل من غسله ﷺ يديه قبل إدخالهما في الإناء في أكثر أحيانه، فيحتمل أن يكون من حكم اليد على أن يكون غسلها في الابتداء من أفعال الوضوء، ويحتمل أن يكون من حكم الماء، أعني أن لا ينجس أو يقع فيه شك إن قلنا إن الشك مؤثر. @-(المسألة الثالثة من الأركان): اختلفوا في المضمضة والاستنشاق في الوضوء على ثلاثة أقوال: قول إنهما سنتان في الوضوء، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة، وقول إنهما فرض فيه، وبه قال ابن أبي ليلى وجماعة من أصحاب داود، وقول إن الاستنشاق فرض والمضمضة سنة، وبه قال أبو ثور وأبو عبيدة وجماعة من أهل الظاهر، وسبب اختلافهم في كونها فرضا أو سنة اختلافهم في السنن الواردة في ذلك، هل هي زيادة تقتضي معارضة آية الوضوء أو لا تقتضي ذلك؛ فمن رأى أن هذه الزيادة إن حملت على الوجوب اقتضت معارضة الآية، إذ المقصود من الآية تأصيل هذا الحكم وتبيينه أخرجها من باب الوجوب إلى باب الندب، ومن لم ير أنها تقتضي معارضة حملها على الظاهر من الوجوب ومن استوت عنده هذه الأقوال والأفعال في حملها على الوجوب لم يفرق بين المضمضة والاستنشاق، ومن كان عنده القول محمولا على الوجوب والفعل محولا على الندب فرق بين المضمضة والاستنشاق، وذلك أن المضمضة نقلت من فعله عليه الصلاة والسلام ولم تنقل من أمره وأما الاستنشاق فمن أمره عليه الصلاة والسلام وفعله، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر، ومن استجمر فليوتر" خرجه مالك في موطئه، والبخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة. @-(المسألة الرابعة من تحديد المحال): اتفق العلماء على أن غسل الوجه بالجملة من فرائض الوضوء لقوله تعالى {فاغسلوا وجوهكم} واختلفوا منه في ثلاثة مواضع: في غسل البياض الذي بين العذار والأذن، وفي غسل ما انسدل من اللحية، وفي تخليل اللحية، فالمشهور من مذهب مالك أنه ليس البياض الذي بين العذار والأذن من الوجه، وقد قيل في المذهب بالفرق بين الأمرد والملتحي فيكون في المذهب في ذلك ثلاثة أقوال. وقال أبو حنيفة والشافعي: هو من الوجه. وأما ما انسدل من اللحية، فذهب مالك إلى وجوب إمرار الماء عليه، ولم يوجبه أبو حنيفة ولا الشافعي في أحد قوليه؛ وسبب اختلافهم في هاتين المسئلتين هو خفاء تناول اسم الوجه لهذين الموضعين، أعني هل يتناولهما أو لا يتناولهما وأما تخليل اللحية فمذهب مالك أنه ليس واجبا، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في الوضوء، وأوجبه ابن عبد الحكم من أصحاب مالك؛ وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في صحة الآثار التي ورد فيها الأمر بتخليل اللحية والأكثر على أنها غير صحيحة مع أن الآثار الصحاح التي ورد فيها صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام ليس في شيء منها التخليل. @-(المسألة الخامسة من التحديد): اتفق العلماء على أن غسل اليدين والذراعين من فروض الوضوء لقوله تعالى {وأيديكم إلى المرافق} واختلفوا في إدخال المرافق فيها؛ فذهب الجمهور ومالك والشافعي وأبو حنيفة إلى وجوب إدخالها، وذهب بعض أهل الظاهر وبعض متأخري أصحاب مالك والطبري إلى أنه لا يجب إدخالها في الغسل؛ والسبب في اختلافهم في ذلك الاشتراك الذي في حرف إلى، وفي اسم اليد في كلام العرب وذلك أن حرف إلى مرة يدل في كلام العرب على الغاية، ومرة يكون بمعنى مع، واليد أيضا في كلام العرب تطلق على ثلاثة معان على الكف فقط، وعلى الكف والذراع، وعلى الكف والذراع والعضد، فمن جعل "إلى" بمعنى مع (هنا في نسخة فاس بمعنى من)، أو فهم من اليد مجموع الثلاثة الأعضاء أوجب دخولها في الغسل (فيها هنا زيادة لأن إلى عنده تكون بمعنى من ومبدأ الشيء من الشيء)، ومن فهم من "إلى" الغاية ومن اليد ما دون المرفق ولم يكن الحد عنده داخلا في المحدود لم يدخلهما في الغسل، وخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد ثم اليسرى كذلك، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، ثم غسل اليسرى كذلك، ثم قال هكذا رأيت رسول الله ﷺ يتوضأ. وهو حجة لقول من أوجب إدخالها في الغسل، لأنه إذا تردد اللفظ بين المعنيين على السواء وجب أن لا يصار إلى أحد المعنيين إلا بدليل، وإن كانت "إلى" في كلام العرب أظهر في معنى الغاية منها في معنى مع، وكذلك اسم اليد أظهر فيما دون العضد منه فيما فوق العضد، فقول من لم يدخلها من جهة الدلالة اللفظية أرجح، وقول من أدخلها من جهة هذا الأثر أبين، إلا أن يحمل هذا الأثر على الندب، والمسألة محتملة كما ترى، وقد قال قوم: إن الغاية إذا كانت من جنس ذي الغاية دخلت فيه، وإن لم تكن من جنسه لم تدخل فيه. @-(المسألة السادسة من التحديد): اتفق العلماء على أن مسح الرأس من فروض الوضوء، واختلفوا في القدر المجزئ منه. فذهب مالك إلى أن الواجب مسحه كله، وذهب الشافعي وبعض أصحاب مالك وأبو حنيفة إلى أن مسح بعضه هو الفرض، ومن أصحاب مالك من حد هذا البعض بالثلث، ومنهم من حده بالثلثين، وأما أبو حنيفة فحده بالربع، وحد مع هذا القدر من اليد الذي يكون به المسح، فقال: إن مسحه بأقل من ثلاثة أصابع لم يجزه. وأما الشافعي فلم يحد في الماسح ولا في الممسوح حدا. وأصل هذا الاختلاف في الاشتراك الذي في الباء في كلام العرب، وذلك أنها مرة تكون زائدة مثل قوله تعالى {تنبت بالدهن} على قراءة من قرأ تنبت بضم التاء وكسر الباء من أنبت، ومرة تدل على التبعيض مثل قول القائل: أخذت بثوبه وبعضده، ولا معنى لإنكار هذا في كلام العرب، أعني كون الباء مبعضة، وهو قول الكوفيين من النحويين، فمن رآها زائدة أوجب مسح الرأس كله؛ ومعنى الزائدة ههنا كونها مؤكدة، ومن رآها مبعضة أوجب مسح بعضه، وقد احتج من رجح هذا المفهوم بحديث المغيرة "أن النبي عليه الصلاة والسلام توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة" خرجه مسلم. وإن سلمنا أن الباء زائدة بقي ههنا أيضا احتمال آخر، وهو هل الواجب الأخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها. @-(المسألة السابعة من الأعداد): اتفق العلماء على أن الواجب من طهارة الأعضاء المغسولة هو مرة مرة إذا أسبغ، وإن الاثنين والثلاث مندوب إليهما، لما صح "أنه ﷺ توضأ مرة مرة وتوضأ مرتين مرتين وتوضأ ثلاثا ثلاثا" ولأن الأمر ليس يقتضي إلا الفعل مرة مرة، أعني الأمر الوارد في الغسل في آية الوضوء، واختلفوا في تكرير مسح الرأس هل هو فضيلة أم ليس في تكريره فضيلة. فذهب الشافعي إلى أنه من توضأ ثلاثا ثلاثا يمسح رأسه أيضا ثلاثا، وأكثر الفقهاء يرون أن المسح لا فضيلة في تكريره؛ وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في قبول الزيادة الواردة في الحديث الواحد إذا أتت من طريق واحد ولم يرها الأكثر، وذلك أن أكثر الأحاديث التي روي فيها أنه توضأ ثلاثا ثلاثا من حديث عثمان وغيره لم ينقل فيها إلا أنه مسح واحدة فقط. في بعض الروايات عن عثمان في صفة وضوئه أنه عليه الصلاة والسلام مسح برأسه ثلاثا، وعضد الشافعي وجوب قبول هذه الزيادة بظاهر عموم ما روي أنه عليه الصلاة والسلام توضأ مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا، وذلك أن المفهوم من عموم هذا اللفظ وإن كان من لفظ الصحابي هو حمله على سائر أعضاء الوضوء، إلا أن هذه الزيادة ليست في الصحيحين، فإن صحت يجب المصير إليها، لأن من سكت عن شيء ليس هو بحجة على من ذكره. وأكثر العلماء أوجب تجديد الماء لمسح الرأس قياسا على سائر الأعضاء. وروى عن ابن الماجشون أنه قال: إذا نفذ الماء مسح رأسه ببلل لحيته، وهو اختيار ابن حبيب ومالك والشافعي. ويستحب في صفة المسح أن يبدأ بمقدم رأسه فيمر يديه إلى قفاه ثم يردهما إلى حيث بدأ على ما في حديث عبد الله بن زيد الثابت. وبعض العلماء يختار أن يبدأ من مؤخر الرأس، وذلك أيضا مروي من صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام من حديث الربيع بنت معوذ، إلا أنه لم يثبت في الصحيحين. @-(المسألة الثامنة من تعيين المحال): اختلف العلماء في المسح على العمامة، فأجاز ذلك أحمد بن حنبل وأبو ثور والقاسم بن سلام وجماعة، ومنع من ذلك جماعة منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة، وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في وجوب العمل بالأثر الوارد في ذلك من حديث المغيرة وغيره "أنه عليه الصلاة والسلام مسح بناصيته وعلى العمامة" وقياسا على الخف، ولذلك اشترط أكثرهم لبسهما على طهارة، وهذا الحديث إنما رده من رده، إما لأنه لم يصح عنده، وإما لأن ظاهر الكتاب عارضه عنده، أعني الأمر فيه بمسح الرأس، وإما لأنه لم يشتهر العمل به عند من يشترط اشتهار العمل فيما نقل من طريق الآحاد وبخاصة في المدينة على المعلوم من مذهب مالك أنه يرى اشتهار العمل، وهو حديث خرجه مسلم، وقال فيه أبو عمر بن عبد البر إنه حديث معلول، وفي بعض طرقه أنه مسح على العمامة ولم يذكر الناصية، ولذلك لم يشترط بعض العلماء في المسح على العمامة المسح على الناصية، إذ لا يجتمع الأصل والبدل في فعل واحد. @-(المسألة التاسعة من الأركان): اختلفوا في مسح الأذنين هل هو سنة أو فريضة، وهل يجدد لهما الماء أم لا؟ فذهب بعض الناس إلى أنه فريضة، وأنه يجدد لهما الماء وممن قال بهذا القول جماعة من أصحاب مالك ويتأولون مع هذا أنه مذهب مالك لقوله فيهما إنهما من الرأس. وقال أبو حنيفة وأصحابه مسحهما فرض كذلك (انظر هذا، فإن المقرر في مذهب أبي حنفية أن مسحهما سنة لا فرض) إلا أنهما يمسحان مع الرأس بماء واحد. وقال الشافعي مسحهما سنة ويجدد لهما الماء. وقال بهذا القوم جماعة أيضا من أصحاب مالك؛ ويتأولون أيضا أنه قوله لما روي عنه أنه قال حكم مسحهما حكم المضصمضة؛ وأصل اختلافهم في كون مسحهما سنة أو فرضا اختلافهم في الآثار الواردة بذلك، أعني مسحه عليه الصلاة والسلام أذنيه هل هي زيادة على ما في الكتاب من مسح الرأس فيكون حكمهما أن يحمل على الندب لمكان التعارض الذي يتخيل بينها وبين الآية إن حملت على الوجوب، أم هي مبينة لمجمل الذي في الكتاب فيكون حكمهما حكم الرأس في الوجوب، فمن أوجبهما جعلها مبينة لمجمل الكتاب، ومن لم يوجبهما جعلها زائدة كالمضمضة، والآثار الواردة بذلك كثيرة، وإن كانت لم تثبت في الصحيحين فهي قد اشتهر العمل بها. وأما اختلافهم في تجديد الماء لهما فسببه تردد الأذنين بين أن يكونا عضوا مفردا بذاته من أعضاء الوضوء، أو يكونا جزءا من الرأس. وقد شذ قوم فذهبوا إلى أنهما يغسلان مع الوجه، وذهب آخرون إلى أنه يمسح باطنهما مع الرأس ويغسل ظاهرهما مع الوجه، وذلك لتردد هذا العضو بين أن يكون جزءا من الوجه أو جزءا من الرأس، وهذا لا معنى له مع اشتهار الآثار في ذلك بالمسح واشتهار العمل به. والشافعي يستحب فيهما التكرار كما يستحبه في مسح الرأس. @-(المسألة العاشرة من الصفات): اتفق العلماء على أن الرجلين من أعضاء الوضوء، واختلفوا في نوع طهارتهما، فقال قوم: طهارتهما الغسل، وهم الجمهور، وقال قوم: فرضهما المسح، وقال قوم: بل طهارتهما تجوز بالنوعين: الغسل والمسح، وإن ذلك راجع إلى اختيار المكلف، وسبب اختلافهم القراءتان المشهورتان في آية الوضوء: أعني قراءة من قرأ، وأرجلكم بالنصب عطفا على المغسول، وقراءة من قرأ وأرجلكم بالخفض عطفا على الممسوح، وذلك أن قراءة النصب ظاهرة في الغسل، وقراءة الخفض ظاهرة في المسح كظهور تلك في الغسل، فمن ذهب إلى أن فرضهما واحد من هاتين الطهارتين على التعيين إما الغسل وإما المسح ذهب إلى ترجيح ظاهر إحدى القراءتين على القراءة الثانية، وصرف بالتأويل ظاهر القراءة الثانية إلى معنى ظاهر القراءة التي ترجحت عنده؛ ومن اعتقد أن دلالة كل واحدة من القراءتين على ظاهرها على السواء، وأنه ليست إحداهما على ظاهرها أدل من الثانية على ظاهرها أيضا جعل ذلك من الواجب المخير ككفارة اليمين وغير ذلك، وبه قال الطبري وداود. وللجمهور تأويلات في قراءة الخفض، أجودها أن ذلك عطف على اللفظ لا على المعنى، إذ كان ذلك موجودا في كلام العرب مثل قول الشاعر: لعب الزمان بها وغيرها * بعدي سوا في المحور والقطر. بالخفض، ولو عطف على المعنى لرفع القطر. وأما الفريق الثاني، وهم الذين أوجبوا المسح، فإنهم تأولوا قراءة النصب على أنها عطف على الموضع كما قال الشاعر: فلسنا بالجبال ولا الحديدا. وقد رجح الجمهور قراءتهم هذه بالثابت عنه عليه الصلاة والسلام إذ قال في قوم لم يستوفوا غسل أقدامهم في الوضوء "ويل للأعقاب من النار" قال فهذا يدل على أن الغسل هو الفرض، لأن الواجب هو الذي يتعلق بتركه العقاب، وهذا ليس فيه حجة، لأنه إنما وقع الوعيد على أنهم تركوا أعقابهم دون غسل، ولا شك أن من شرع في الغسل ففرضه الغسل في جميع القدم كما أن من شرع في المسح ففرضه المسح عند من يخير بين الأمرين، وقد يدل هذا على ما جاء في أثر آخر خرجه أيضا مسلم أنه قال: فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى "ويل للأعقاب من النار" وهذا الأثر وإن كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح، فهو أدل على جوازه منه على منعه، لأن الوعيد إنما تعلق فيه بترك التعميم لا بنوع الطهارة، بل سكت عن نوعها، وذلك دليل على جوازها، وجواز المسح هو أيضا مروي عن بعض الصحابة والتابعين، ولكن من طريق المعنى، فالغسل أشد مناسبة للقدمين من المسح كما أن المسح أشد مناسبة للرأس من الغسل، إذ كانت القدمان لا ينقى دنسهما غالبا إلا بالغسل، وينقى دنس الرأس بالمسح وذلك أيضا غالب، والمصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسبابا للعبادات المفروضة حتى يكون الشرع لاحظ فيهما معنيين: معنى مصلحيا، ومعنى عباديا، وأعني بالمصلحي ما رجع إلى الأمور المحسوسة، وبالعبادي ما رجع "إلى" زكاة النفس. وكذلك اختلفوا في الكعبين هل يدخلان في المسح أو في الغسل عند من أجاز المسح؟ وأصل اختلافهم الاشتراك الذي في حرف إلى أعني في قوله تعالى {وأرجلكم إلى الكعبين} وقد تقدم القول في اشتراك هذا الحرف في قوله تعالى {إلى المرفقين} لكن الاشتراك وقع هنالك من جهتين من اشتراك اسم اليد، ومن اشتراك حرف إلى وهنا من قبل اشتراك حرف إلى فقط. وقد اختلفوا في الكعب ما هو، وذلك لاشتراك اسم الكعب واختلاف أهل اللغة في دلالته، فقيل هما العظمان اللذان عند معقد الشراك وقيل هما العظمان الناتئان في طرف الساق، ولا خلاف فيما أحسب في دخولهما في الغسل عند من يرى أنهما عند معقد الشراك إذا كانا جزءا من القدم، لذلك قال قوم: إنه إذا كان الحد من جنس المحدود دخلت الغاية فيه: أعني الشيء الذي يدل عليه حرف إلى، إذا لم يكن من جنس المحدود لم يدخل فيه مثل قوله تعالى {ثم أتموا الصيام إلى الليل} . @-(المسألة الحادية عشرة من الشروط): اختلفوا في وجود ترتيب أفعال الوضوء على نسق الآية. فقال قوم: هو سنة، وهو الذي حكاه المتأخرون من أصحاب مالك عن المذهب، وبه قال أبو حنيفة والثوري وداود. وقال قوم: هو فريضة، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو عبيد، وهذا كله في ترتيب المفروض مع المفروض، وأما ترتيب الأفعال المفروضة مع الأفعال المسنونة فهو عند مالك مستحب؛ وقال أبو حنيفة هو سنة؛ وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما الاشتراك الذي في واو العطف، وذلك أنه قد يعطف بها الأشياء المترتبة بعضها على بعض، وقد يعطف بها غير المرتبة، وذلك ظاهر من استقراء كلام العرب، ولذلك انقسم النحويون فيها قسمين، فقال نحاة البصرة: ليس تقتضي نسقا ولا ترتيبا، وإنما تقتضي الجمع فقط، وقال الكوفيون: بل تقتضي النسق والترتيب؛ فمن رأى أن الواو في آية الوضوء تقتضي الترتيب قال بإيجاب الترتيب، ومن رأى أنها لا تقتضي الترتيب لم يقل بإيجابه. والسبب الثاني اختلافهم في أفعاله عليه الصلاة والسلام، هل هي محمولة على الوجوب أو على الندب؟ فمن حملها على الوجوب قال بوجوب الترتيب، لأنه لم يرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه توضأ قط إلا مرتبا، ومن حملها على الندب قال إن الترتيب سنة، ومن فرق بين المسنون والمفروض من الأفعال قال: إن الترتيب الواجب إنما ينبغي أن يكون في الأفعال الواجبة، ومن لم يفرق قال: إن الشروط الواجبة قد تكون في الأفعال التي ليست واجبة. @-(المسألة الثانية عشرة من الشروط): اختلفوا في الموالاة في أفعال الوضوء، فذهب مالك إلى أن الموالاة فرض مع الذكر ومع القدرة ساقطة مع النسيان ومع الذكر عند العذر ما لم يتفاحش التفاوت. وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن الموالاة ليست من واجبات الوضوء، والسبب في ذلك الاشتراك الذي في الواو أيضا، وذلك أنه قد يعطف بها الأشياء المتتابعة المتلاحقة بعضها على بعض، وقد يعطف بها الأشياء المتراخية بعضها عن بعض. وقد احتج قوم لسقوط الموالاة بما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يتوضأ في أول طهوره ويؤخر غسل رجليه إلى آخر الطهر، وقد يدخل الخلاف في هذه المسألة أيضا في الاختلاف في حمل الأفعال على الوجوب أو على الندب، وإنما فرق مالك بين العمد والنسيان، لأن الناسي الأصل فيه في الشرع أنه معفو عنه إلى أن يقوم الدليل على غير ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" وكذلك العذر يظهر من أمر الشرع أن له تأثيرا في التخفيف، وقد ذهب قوم إلى أن التسمية من فروض الوضوء واحتجوا لذلك بالحديث المرفوع، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "لا وضوء لمن لم يسم الله" وهذا الحديث لم يصح عند أهل النقل، وقد حمله بعضهم على أن المراد به النية، وبعضهم حمله على الندب فيما أحسب، فهذه مشهورات المسائل التي تجري من هذا الباب مجرى الأصول، وهي كما قلنا متعلقة إما بصفات أفعال هذه الطهارة، وإما بتحديد مواضعها، وإما بتعريف شروطها وأركانها وسائر ما ذكر، ومما يتعلق بهذا الباب مسح الخفين إذ كان من أفعال الوضوء. 4*(والكلام المحيط بأصوله يتعلق بالنظر في سبع مسائل) بالنظر في جوازه، وفي تحديد محله، وفي تعيين محله، وفي صفته: أعني صفة المحل، وفي توقيته، وفي شروطه، وفي نواقضه:

@-(المسألة الأولى): فأما الجواز، ففيه ثلاثة أقوال: القول المشهور أنه جائز على الإطلاق، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار. والقول الثاني جوازه في السفر دون الحضر. والقول الثالث منع جوازه بإطلاق وهو أشدها. والأقاويل الثلاثة مروية عن الصدر الأول وعن مالك، والسبب في اختلافهم ما يظن من معارضة آية الوضوء الوارد فيها الأمر بغسل الأرجل للآثار التي وردت في المسح مع تأخير آية الوضوء، وهذا الخلاف كان بين الصحابة في الصدر الأول، فكان منهم من يرى أن آية الوضوء ناسخة لتلك الآثار، وهو مذهب ابن عباس، واحتج القائلون بجوازه بما رواه مسلم أنه كان يعجبهم حديث جرير، وذلك أنه روى "أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام يمسح على الخفين، فقيل له إنما كان ذلك قبل نزول المائدة، فقال: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة" وقال المتأخرون القائلون بجوزاه: ليس بين الآية والآثار تعارض، لأن الأمر بالغسل إنما هو متوجه إلى من لا خف له، والرخصة إنما هي للابس الخف، وقيل إن تأويل قراءة الأرجل بالخفض هو المسح على الخفين، وأما من فرق بين السفر والحضر فلأن أكثر الآثار الصحاح الواردة في مسحه عليه الصلاة والسلام إنما كانت في السفر، مع أن السفر مشعر بالرخصة والتخفيف، والمسح على الخفين هو من باب التخفيف، فإن نزعه مما يشق على المسافر. @-(المسألة الثانية): وأما تحديد المحل فاختلف فيه أيضا فقهاء الأمصار، فقال قوم: إن الواجب من ذلك مسح أعلى الخف، وإن مسح الباطن أعني أسفل الخف مستحب، ومالك أحد من رأى هذا والشافعي، ومنهم من أوجب مسح ظهورهما وبطونهما، وهو مذهب ابن نافع من أصحاب مالك، ومنهم من أوجب مسح الظهور فقط ولم يستحب مسح البطون، وهو مذهب أبي حنيفة وداود وسفيان وجماعة، وشذ أشهب فقال: إن الواجب مسح الباطن، أو الأعلى أيهما مسح (نسخة فاس: والأعلى مستحب)؛ وسبب اختلافهم تعارض الآثار الواردة في ذلك وتشبيه المسح بالغسل، وذلك أن في ذلك أثرين متعارضين: أحدهما حديث المغيرة بن شعبة وفيه "أنه ﷺ مسح على الخف وباطنه" والآخر حديث علي "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه" وقد رأيت رسول الله ﷺ يمسح على ظاهر خفيه، فمن ذهب مذهب الجمع بين الحديثين حمل حديث المغيرة على الاستحباب، وحديث علي على الوجوب، وهي طريقة حسنة. ومن ذهب مذهب الترجيح أخذ إما بحديث علي، وإما بحديث المغيرة، فمن رجح حديث المغيرة على حديث علي رجحه من قبل القياس، أعني قياس المسح على الغسل، ومن رجح حديث علي رجحه من قبل مخالفته للقياس أو من جهة السند، والأسعد في هذه المسألة هو مالك. وأما من أجاز الاقتصار على مسح الباطن فقط فلا أعلم له حجة، لأنه لا هذا الأثر اتبع، ولا هذا القياس استعمل، أعني قياس المسح على الغسل. @-(المسألة الثالثة): وأما نوع محل المسح فإن الفقهاء القائلين بالمسح اتفقوا على جواز المسح على الخفين، واختلفوا في المسح على الجوربين، فأجاز ذلك قوم ومنعه قوم، وممن منع ذلك مالك والشافعي وأبو حنيفة، وممن أجاز ذلك أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وسفيان الثوري. وسبب اختلافهم اختلافهم في صحة الآثار الواردة عنه عليه الصلاة والسلام أنه مسح على الجوربين والنعلين. واختلافهم أيضا في هل يقاس على الخف غيره أم هي عبادة لا يقاس عليها ولا يتعدى بها محلها، فمن لم يصح عنده الحديث أو لم يبلغه، ولم ير القياس على الخف قصر المسح عليه، ومن صح عنده الأثر، أو جوز القياس على الخف أجاز المسح على الجوربين، وهذا الأثر لم يخرجه الشيخان أعني البخاري ومسلما وصححه الترمذي، ولتردد الجوربين المجلدين بين الخف والجورب غير المجلد عن مالك في المسح عليهما روايتان: إحداهما بالمنع والأخرى بالجواز. @-(المسألة الرابعة): وأما صفة الخف، فإنهم اتفقوا على جواز المسح على الخف الصحيح، واختلفوا في المخرق، فقال مالك وأصحابه: يمسح عليه إذا كان الخرق يسيرا، وحدد أبو حنيفة بما يكون الظاهر منه أقل من ثلاثة أصابع. وقال قوم بجواز المسح على الخف المنخرق ما دام يسمى خفا وإن تفاحش خرقه، وممن روى عنه ذلك الثوري، ومنع الشافعي أن يكون في مقدم الخف خرق يظهر منه القدم ولو كان يسيرا في أحد القولين عنه وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في انتقال الفرض من الغسل إلى المسح هل هو لموضع الستر أعني ستر خف القدمين، أم هو لموضع المشقة في نوع الخفين؟ فمن رآه لموضع الستر لم يجز المسح على الخف المنخرق، لأنه إذا انكشف من القدم شيء انتقل فرضهما من المسح إلى الغسل، ومن رأى أن العلة في ذلك المشقة لم يعتبر الخرق ما دام يسمى خفا. وأما التفريق بين الخرق الكثير واليسير فاستحسان ورفع للحرج. وقال الثوري: كانت خفاف المهاجرين والأنصار لا تسلم من الخروق كخفاف الناس، فلو كان في ذلك حظر لورد ونقل عنهم. قلت: هذه المسألة هي مسكوت عنها، فلو كان فيها حكم مع عموم الابتلاء به لبينه ﷺ، وقد قال تعالى {لتبين للناس ما نزل إليهم} . @-(المسألة الخامسة): وأما التوقيت فإن الفقهاء أيضا اختلفوا فيه، فرأى مالك أن ذلك غير مؤقت، وأن لابس الخفين يمسح عليهما ما لم ينزعهما أو تصيبه جنابة؛ وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أن ذلك مؤقت. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أنه ورد في ذلك ثلاثة أحاديث: أحدها حديث علي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "جعل رسول الله ﷺ ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم" خرجه مسلم. والثاني حديث أبي بن عمارة "أنه قال يارسول الله أأمسح على الخف؟ قال: نعم، قال: يوما؟ قال: نعم، ويومين؟ قال: نعم، قال: وثلاثة؟ قال نعم حتى بلغ سبعا، ثم قال: امسح ما بدا لك" خرجه أبو داود والطحاوي. والثالث حديث صفوان بن عسال قال: كنا في سفر فأمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من بول أو نوم أو غائط (هكذا رواية الترمذي ورواية النسائي "ثلاثة أيام بلياليهن" من غائط وبول ونوم إلا من جنابة). قلت: أما حديث علي فصحيح خرجه مسلم. وأما حديث أبي بن عمارة فقال فيه أبو عمر بن عبد البر إنه حديث لا يثبت وليس له إسناد قائم، ولذلك ليس ينبغي أن يعارض به حديث علي. وأما حديث صفوان بن عسال فهو وإن كان لم يخرجه البخاري ولا مسلم فإنه قد صححه قوم من أهل العلم بحديث الترمذي وأبو محمد بن حزم، وهو بظاهره معارض بدليل الخطاب لحديث أبي كحديث علي، وقد يحتمل أن يجمع بينهما بأن يقال: إن حديث صفوان وحديث علي خرجا مخرجا السؤال عن التوقيت، وحديث أبي بن عمارة نص في ترك التوقيت، لكن حديث أبي لم يثبت بعد، فعلى هذا يجب العمل بحديثي علي وصفوان، وهو الأظهر إلا أن دليل الخطاب فيهما يعارضه القياس، وهو كون التوقيت غير مؤثر في نقض الطهارة، لأن النواقض هي الأحداث. @-(المسألة السادسة): وأما شرط المسح على الخفين، فهو أن تكون الرجلان طاهرتين بطهر الوضوء، وذلك شيء مجمع عليه إلا خلافا شاذا. وقد روي عن ابن القاسم عن مالك ذكره ابن لبابة في المنتخب، وإنما قال به الأكثر لثبوته في حديث المغيرة وغيره إذا أراد أن ينزع الخف عنه، فقال عليه الصلاة والسلام "دعهما فإني أدخلتهما وهما طاهرتان" والمخالف حمل هذه الطهارة على الطهارة اللغوية، واختلف الفقهاء من هذا الباب فيمن غسل رجليه ولبس خفيه ثم أتم وضوءه هل يمسح عليهما؟ فمن لم ير أن الترتيب واجب ورأى أن الطهارة تصح لكل عضو قبل أن تكمل الطهارة لجميع الأعضاء قال بجواز ذلك، ومن رأى أن الترتيب واجب وأنه لا تصح طهارة العضو إلا بعد طهارة جميع أعضاء الطهارة لم يجز ذلك، وبالقول الأول قال أبو حنيفة، وبالقول الثاني قال الشافعي ومالك، إلا أن مالكا لم يمنع ذلك من جهة الترتيب، وإنما منعه من جهة أنه يرى أن الطهارة لا توجد للعضو إلا بعد كمال جميع الطهارة، وقد قال عليه الصلاة والسلام "وهما طاهرتان" فأخبر عن الطهارة الشرعية. وفي بعض روايات المغيرة "إذا أدخلت رجليك في الخف وهما طاهرتان فامسح عليهما" وعلى هذه الأصول يتفرع الجواب فيمن لبس أحد خفيه بعد أن غسل إحدى رجليه وقبل أن يغسل الأخرى؛ فقال مالك: لا يمسح على الخفين لأنه لابس للخف قبل تمام الطهارة، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة والثوري والمزي والطبري وداود: يجوز له المسح، وبه قال جماعة من أصحاب مالك منهم مطرف وغيره، وكلهم أجمعوا أنه لو نزع الخف الأول بعد غسل الرجل الثانية ثم لبسها جاز له المسح، وهل من شرط المسح على الخف أن لا يكون على خف آخر عن مالك فيه قولان. وسبب الخلاف هل كما تنتقل طهارة القدم إلى الخف إذا ستره الخف، كذلك تنتقل طهارة الخف الأسفل الواجبة إلى الخف الأعلى؟ فمن شبه النقلة الثانية بالأولى أجاز المسح على الخف الأعلى، ومن لم يشبهها بها وظهر له الفرق لم يجز ذلك. @-(المسألة السابعة): فأما نواقض هذه الطهارة، فإنهم أجمعوا على أنها نواقض الوضوء بعينها، واختلفوا هل نزع الخف ناقض لهذه الطهارة أم لا؟ فقال قوم: إن نزعه وغسل قدميه فطهارته باقية، وإن لم يغسلهما وصلى أعاد الصلاة بعد غسل قدميه، وممن قال بذلك مالك وأصحابه والشافعي وأبو حنيفة، إلا أن مالكا رأى أنه إن أخر ذلك استأنف الوضوء على رأيه في وجوب المولاة على الشرط الذي تقدم. وقال قوم: طهارته باقية حتى يحدث حدثا ينقض الوضوء وليس عليه غسل، وممن قال بهذا القول داود وابن أبي ليلى. وقال الحسن بن حي: إذا نزع خفيه فقد بطلت طهارته، وبكل واحد من هذه الأقوال الثلاثة قالت طائفة من فقهاء التابعين، وهذه المسألة هي مسكوت عنها. وسبب اختلافهم هل المسح على الخفين هو أصل بذاته في الطهارة أو بدل من غسل القدمين عند غيبوبتهما في الخفين؟ فإن قلنا هو أصل بذاته فالطهارة باقية وإن نزع الخفين كمن قطعت رجلاه بعد غسلهما، وإن قلنا إنه بدل، فيحتمل أن يقال إذا نزع الخف بطلت الطهارة وإن كنا نشترط الفور، ويحتمل أن يقال إن غسلهما أجزأت الطهارة إذا لم يشترط الفور. وأما اشتراط الفور من حين نزع الخف فضعيف، وإنما هو شيء يتخيل فهذا ما رأينا أن نثبته في هذا الباب. 4*الباب الثالث في المياه.

@-والأصل في وجوب الطهارة بالمياه قوله تعالى {وينزل عليكم من السماء ماءا ليطهركم به} وقوله {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} وأجمع العلماء على أن جميع أنواع المياه طاهرة في نفسها مطهرة لغيرها، إلا ماء البحر، فإن فيه خلافا في الصدر الأول شاذا، وهم محجوبون بتناول اسم الماء المطلق له، وبالأثر الذي خرجه مالك وهو قوله عليه الصلاة والسلام في البحر "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وهو وإن كان حديثا مختلفا في صحته، فظاهر الشرع يعضده، وكذلك أجمعوا على أن كل ما يغير الماء مما لا ينفك عنه غالبا أنه لا يسلبه صفة الطهارة والتطهير إلا خلافا شاذا، روي في الماء الآجن عن ابن سيرين، وهو أيضا محجوج بتناول اسم الماء المطلق له، واتفقوا على أن الماء الذي غيرت النجاسة إما طعمه أو لونه أو ريحه أو أكثر من واحد من هذه الأوصاف أنه لا يجوز به الوضوء ولا الطهور. واتفقوا على أن الماء الكثير المستبحر لا تضره النجاسة التي لم تغير أحد أوصافه وأنه طاهر، فهذا ما أجمعوا عليه من هذا الباب، واختلفوا من ذلك في ست مسائل تجري مجرى القواعد والأصول لهذا الباب. @-(المسألة الأولى) اختلفوا في الماء إذا خالطته نجاسة ولم تغير أحد أوصافه، فقال قوم: هو طاهر سواء كان كثيرا أو قليلا، وهي إحدى الروايات عن مالك، وبه قال أهل الظاهر، وقال قوم: بالفرق بين القليل والكثير، فقالوا إن كان قليلا كان نجسا، وإن كان كثيرا لم يكن نجسا. وهؤلاء اختلفوا في الحد بين القليل والكثير، فذهب أبو حنيفة إلى أن الحد في هذا هو أن يكون الماء من الكثرة بحيث إذا حركه آدمي من أحد طرفيه لم تسر الحركة إلى الطرف الثاني منه. وذهب الشافعي إلى أن الحد في ذلك هو قلتان من هجر، وذلك نحو قلال من خمسمائة رطل، ومنهم من لم يجد في ذلك حدا، ولكن قال: إن النجاسة تفسد قليل الماء وإن لم تغير أحد أوصافه، وهذا أيضا مروي عن مالك، وقد روي أيضا أن هذا الماء مكروه فيتحصل عن مالك في الماء اليسير تحله النجاسة اليسيرة ثلاثة أقوال: قول إن النجاسة تفسده، وقول إنها لا تفسده إلا أن يتغير أحد أوصافه، وقول إنه مكروه. وسبب اختلافهم في ذلك هو تعارض ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك، وذلك أن حديث أبي هريرة المتقدم وهو قوله عليه الصلاة والسلام "إذا استيقظ أحدكم من نومه" الحديث، يفهم من ظاهره أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء، وكذلك أيضا حديث أبي هريرة الثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه" فإنه يوهم بظاهره أيضا أن قليل النجاسة ينجس قليل الماء. وكذلك ما ورد من النهي عن اغتسال الجنب في الماء الدائم. وأما حديث أنس الثابت "أن أعرابيا قام إلى ناحية من المسجد فبال فيها، فصاح به الناس، فقال رسول الله ﷺ : دعوه، فلما فرغ أمر رسول الله ﷺ بذنوب ماء فصب على بوله" فظاهره أن قليل النجاسة لا يفسد قليل الماء، إذ معلوم أن ذلك الموضع قد طهر من ذلك الذنوب. وحديث أبي سعيد الخدري كذلك أيضا خرجه أبو داود قال: سمعت رسول الله ﷺ يقال له "إنه يتسقى من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب والمحائض وعذرة الناس، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن الماء لا ينسجه شيء" فرام العلماء الجمع بين هذه الأحاديث واختلفوا في طريق الجمع فاختلفت لذلك مذاهبهم؛ فمن ذهب إلى القول بظاهر حديث الأعرابي وحديث أبي سعيد قال: إن حديثي أبي هريرة غير معقولي المعنى، وامتثال ما تضمناه عبادة لا لأن ذلك الماء ينجس، حتى إن الظاهرية أفرطت في ذلك فقالت: لو صب البول إنسان في ذلك الماء من قدح لما كره الغسل به والوضوء، فجمع بينهما على هذا الوجه من قال هذا القول، ومن كره الماء القليل تحله النجاسة اليسيرة جمع بين الأحاديث، فإنه حمل حديثي أبي هريرة على الكراهية، وحمل حديث الأعرابي وحديث أبي سعيد على ظاهرهما، أعني على الإجزاء. وأما الشافعي وأبو حنيفة، فجمعا بين حديثي أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري، بأن حملا حديثي أبي هريرة على الماء القليل، وحديث أبي سعيد على الماء الكثير. وذهب الشافعي إلى أن الحد في ذلك الذي يجمع الأحاديث هو ما ورد في حديث عبد الله بن عمر عن أبيه، خرجه أبو داود والترمذي، وصححه أبو محمد بن حزم قال "سئل رسول الله ﷺ عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب؟ فقال: إن كان الماء قلتين لم يحمل خبثا" وأما أبو حنيفة فذهب إلى أن الحد في ذلك من جهة القياس، وذلك أنه اعتبر سريان النجاسة في جميع الماء بسريان الحركة، فإذا كان الماء بحيث يظن أن النجاسة لا يمكن فيها أن تسري في جميعه فالماء طاهر، لكن من ذهب هذين المذهبين فحديث الأعرابي المشهور معارض له ولا بد، فلذلك لجأت الشافعية إلى أن فرقت بين ورود الماء على النجاسة وورودها على الماء، فقالوا إن ورد عليها الماء كما في حديث الأعرابي لم ينجس، وإن وردت النجاسة على الماء كما في حديث أبي هريرة نجس. وقال جمهور الفقهاء: هذا تحكم، وله إذا تؤمل وجه من النظر، وذلك أنهم إنما صاروا إلى الإجماع على أن النجاسة اليسيرة لا تؤثر في الماء الكثير إذا كان الماء الكثير بحيث يتوهم أن النجاسة لا تسري في جميع أجزائه، وأنه يستحيل عينها عن الماء الكثير، وإذا كان ذلك كذلك، فلا يبعد أن قدرا ما من الماء لو حله قدر ما من النجاسة لسرت فيه ولكان نجسا، فإذا ورد ذلك الماء على النجاسة جزءا فجزءا فمعلوم أنه تفنى عين تلك النجاسة وتذهب قبل فناء ذلك الماء، وعلى هذا فيكون آخر جزء ورد من ذلك الماء قد طهر المحل لأن نسبته إلى ما ورد عليه مما بقي من النجاسة نسبة الماء الكثير إلى القليل من النجاسة، ولذلك كان العلم يقع في هذه الحال بذهاب عين النجاسة، أعني في وقوع الجزء الأخير الطاهر على آخر جزء يبقى من عين النجاسة، ولهذا أجمعوا على أن مقدار ما يتوضأ به يطهر قطرة البول الواقعة في الثوب أو البدن. واختلفوا إذا وقعت القطرة من البول في ذلك القدر من الماء. وأولى المذاهب عندي وأحسنها طريقة في الجمع، هو أن يحمل حديث أبي هريرة وما في معناه على الكراهية، وحديث أبي سعيد وأنس على الجواز، لأن هذا التأويل يبقى مفهوم الأحاديث على ظاهرها، أعني حديثي أبي هريرة من أن المقصود بها تأثير النجاسة في الماء؛ وحد الكراهية عندي هو ما تعافه النفس وترى أنه ماء خبيث، وذلك أن ما يعاف الإنسان شربه يجب أن يجتنب استعماله في القربة إلى الله تعالى، وأن يعاف وروده على ظاهر بدنه كما يعاف وروده على داخله، وأما من احتج بأنه لو كان قليل النجاسة ينجس قليل الماء لما كان الماء يطهر أحدا أبدا، إذ كان يجب على هذا أن يكون المنفصل من الماء عن الشيء النجس المقصود تطهيره أبدا نجسا، فقول لا معنى له، لما بيناه من أن نسبة آخر جزء يرد من الماء على آخر جزء يبقى من النجاسة في المحل نسبة الماء الكثير إلى النجاسة القليلة، وإن كان يعجب به كثير من المتأخرين، فإنا نعلم قطعا أن الماء الكثير يحيل النجاسة ويقلب عينها إلى الطهارة، ولذلك أجمع العلماء على أن الماء اللكثير لا تفسده النجاسة القليلة، فإذا تابع الغاسل صب الماء على المكان النجس أو العضو النجس، فيحيل الماء ضرورة عين النجاسة بكثرته، ولا فرق بين الماء الكثير أن يرد على النجاسة الواحدة بعينها دفعة، أو يرد عليها جزءا بعد جزء، فإذا هؤلاء إنما احتجوا بموضع الإجماع على موضع الخلاف من حيث لم يشعروا بذلك، والموضعان في غاية التباين، فهذا ما ظهر لنا في هذه المسألة من سبب اختلاف الناس فيها وترجيح أقوالهم فيها، ولوددنا لو أن سلكنا في كل مسألة هذا المسلك، لكن رأينا أن هذا يقتضي طولا وربما عاق الزمان عنه، وأن الأحوط هو أن نؤم الغرض الأول الذي قصدناه، فإن يسر الله تعالى فيه وكان لنا انفساح من العمر فسيتم هذا الغرض. @-( المسألة الثانية) الماء الذي خالطه زعفران أو غيره من الأشياء الطاهرة التي تنفك منه غالبا متى غيرت أحد أوصافه، فإنه طاهر عند جميع العلماء غير مطهر عند مالك والشافعي، ومطهر عند أبي حنيفة ما لم يكن التغير عن طبخ. وسبب اختلافهم هو خفاء تناول اسم الماء المطلق للماء الذي خالطه أمثال هذه الأشياء، أعني هل يتناوله أو لا يتناوله؟ فمن رأى أنه لا يتناوله اسم الماء المطلق وإنما يضاف إلى الشيء الذي خالطه فيقال ماء كذا لا ماء مطلق لم يجز الوضوء به، إذ كان الوضوء إنما يكون بالماء المطلق، ومن رأى أنه يتناوله اسم الماء المطلق أجاز به الوضوء، ولظهور عدم تناول اسم الماء للماء المطبوخ مع شيء طاهر اتفقوا على أنه لا يجوز الوضوء به، وكذلك في مياه النبات المستخرجة منه إلا ما في كتاب ابن شعبان من أجازة طهر الجمعة بماء الورد. والحق أن الاختلاط يختلف بالكثرة والقلة، فقد يبلغ من الكثرة إلى حد لا يتناوله اسم الماء المطلق مثل ما يقال ماء الغسل، وقد لا يبلغ إلى ذلك الحد، وبخاصة متى تغيرت منه الريح فقط، ولذلك لم يعتبر الريح قوم ممن منعوا الماء المضاف، وقد قال عليه الصلاة والسلام لأم عطية عند أمره إياها بغسل ابنته "اغسلنها بماء وسدر واجعلن في الأخيرة كافورا أو شيئا من كافور" فهذا ماء مختلط ولكنه لم يبلغ من الاختلاط بحيث يسلب عنه اسم الماء المطلق، وقد روي عن مالك باعتبار الكثرة في المخالطة والقلة والفرق بينهما، فأجازه مع القلة وإن ظهرت الأوصاف، ولم يجزه مع الكثرة. @-(المسلئة الثالثة) الماء المستعمل في الطهارة. اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: فقوم لم يجيزوا الطهارة به على كل حال، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وقوم كرهوه ولم يجيزوا التيمم مع وجوده، وهو مذهب مالك وأصحابه، وقوم لم يروا بينه وبين الماء المطلق فرقا، وبه قال أبو ثور وداود وأصحابه، وشذ أبو يوسف فقال إنه نجس. وسبب الخلاف في هذا أيضا ما يظن من أنه لا يتناوله اسم الماء المطلق حتى إن بعضهم غلا فظن أن اسم الغسالة أحق به من اسم الماء، وقد ثبت أن النبي ﷺ كان أصحابه يقتتلون على فضل وضوئه، ولا بد أن يقع من الماء المستعمل في الإناء الذي بقي فيه الفضل. وبالجملة فهو ماء مطلق لأنه في الأغلب ليس ينتهي إلى أن يتغير أحد أوصافه بدنس الأعضاء التي تغسل به، فإن انتهى إلى ذلك، فحكمه حكم الماء الذي تغير أحد أوصافه بشيء طاهر، وإن كان هذا تعافه النفوس أكثر، وهذا لحظ من كرهه، وأما من زعم أنه نجس فلا دليل معه. @-(المسألة الرابعة) اتفق العلماء على طهارة أسآر المسلمين وبهيمة الأنعام، واختلفوا فيما عدا ذلك اختلافا كثيرا، فمنهم من زعم أن كل حيوان طاهر السؤر، ومنهم من استثنى من ذلك الخنزير فقط، وهذان القولان مرويان عن مالك، ومنهم من استثنى من ذلك الخنزير والكلب، وهو مذهب الشافعي ومنهم من استثنى من ذلك السباع عامة، وهو مذهب ابن القاسم، ومنهم من ذهب إلى أن الأسآر تابعة للحوم، فإن كانت اللحوم محرمة فالأسآر نجسة، وإن كانت مكروهة فالأسآر مكروهة، وإن كانت مباحة فالأسآر طاهرة. وأما سؤر المشرك فقيل إنه نجس، وقيل إنه مكروه إذا كان يشرب الخمر، وهو مذهب ابن القاسم، وكذلك عنده جميع أسآر الحيوانات التي لا تتوقى النجاسة غالبا مثل الدجاج المخلاة والإبل الجلالة والكلاب المخلاة. وسبب اختلافهم في ذلك هو ثلاثة أشياء: أحدها معارضة القياس لظاهر الكتاب. والثاني معارضته لظاهر الآثار. والثالث معارضة الآثار بعضها بعضا في ذلك. أما القياس فهو أنه لما كان الموت من غير ذكاة هو سبب نجاسة عين الحيوان بالشرع وجب أن تكون الحياة هي سبب طهارة عين الحيوان، وإذا كان ذلك كذلك فكل حي طاهر العين، وكل طاهر العين فسؤره طاهر. وأما ظاهر الكتاب فإنه عارض هذا القياس في الخنزير والمشرك، وذلك أن الله تعالى يقول في الخنزير {فإنه رجس} وما هو رجس في عينه فهو نجس لعينه، ولذلك استثنى قوم من الحيوان الحي الخنزير فقط، ومن لم يستثنه حمل قوله "رجس" على جهة الذم له. وأما المشرك ففي قوله تعالى {إنما المشركون نجس} فمن حمل هذا أيضا على ظاهره استثنى من مقتضى ذلك في القياس المشركين، ومن أخرجه مخرج الذم لهم طرد قياسه. وأما الآثار فإنها عارضت هذا القياس في الكلب والهر والسباع. أما الكلب فحديث أبي هريرة المتفق على صحته، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبع مرات" وفي بعض طرقه "أولاهن بالتراب" وفي بعضها "وعفروه الثامنة بالتراب" وأما الهر فما رواه قرة عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ "طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين" وقرة ثقة عند أهل الحديث. وأما السباع فحديث ابن عمر المتقدم عن أبيه قال "سئل رسول الله ﷺ عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب فقال: إن كان الماء قلتين لم يحمل خبثا". وأما تعارض الآثار في هذا الباب، فمنها أنه روي عنه "أنه سئل ﷺ عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها الكلاب والسباع، فقال "لها ما حملت في بطونها ولكم ما غبر شرابا وطهورا" ونحو هذا حديث عمر الذي رواه مالك في موطئه وهو قوله "يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا" وحديث أبي قتادة أيضا الذي خرجه مالك "أن كبشة سكبت له وضوء فجاءت هرة لتشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت، ثم قال إن رسول الله ﷺ قال: إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات" فاختلف العلماء في تأويل هذه الآثار ووجه جمعها مع القياس المذكور؛ فذهب مالك في الأمر بإراقة سؤر الكلب وغسل الإناء منه، إلى أن ذلك عبادة غير معللة، وأن الماء الذي يلغ فيه ليس بنجس، ولم ير إراقة ما عدا الماء من الأشياء التي يلغ فيها الكلب في المشهور عنه، وذلك كما قلنا لمعارضة ذلك القياس له، ولأنه ظن أيضا أنه إن فهم منه أن الكلب نجس العين عارضه ظاهر الكتاب وهو قوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} يريد أنه لو كان نجس العين لنجس الصيد بمماسته، وأيد هذا التأويل بما جاء في غسله من العدد والنجاسات ليس يشترط في غسلها العدد فقال: إن هذا الغسل إنما هو عباده، ولم يعرج على سائر تلك الآثار لضعفها عنده. وأما الشافعي فاستثنى الكلب من الحيوان الحي ورأى أن ظاهر هذا الحديث يوجب نجاسة سؤره، وأن لعابه هو النجس لا عينه فيما أحسب، وأنه يجب أن يغسل الصيد منه، وكذلك استثنى الخنزير لمكان الآية المذكورة. وأما أبو حنيفة فإنه زعم أن المفهوم من هذه الآثار الواردة بنجاسة سؤر السباع والهر والكلب هو من قبل تحريم لحومها، وأن هذا من باب الخاص أريد به العام فقال: الأسآر تابعة للحوم الحيوان، وأما بعض الناس فاستثنى من ذلك الكلب والهر والسباع على ظاهر الأحاديث الواردة في ذلك. وأما بعضهم فحكم بطهارة سؤر الكلب والهر، فاستثنى من ذلك السباع فقط. أما سؤر الكلب فللعدد المشترط في غسله، ولمعارضة ظاهر الكتاب له ولمعارضة حديث أبي قتادة له، إذ علل عدم نجاسة الهرة من قبل أنها من الطوافين والكلب طواف. وأما الهرة فمصيرا إلى ترجيح حديث أبي قتادة على حديث قرة عن ابن سيرين، وترجيح حديث ابن عمر على حديث عمر، وما ورد في معناه لمعارضة حديث أبي قتادة له بدليل الخطاب؛ وذلك أنه لما علل عدم النجاسة في الهرة بسبب الطواف فهم منه أن ما ليس بطواف وهي السباع فأسآرها محرمة، وممن ذهب هذا المذهب ابن القاسم، وأما أبو حنيفة فقال كما قلنا بنجاسة سؤر الكلب، ولم ير العدد في غسله شرطا في طهارة الإناء الذي ولغ فيه لأنه عارض ذلك عنده القياس في غسل النجاسات، أعني أن المعتبر فيها إنما هو إزالة العين فقط، وهذا على عادته في رد أخبار الآحاد لمكان معارضة الأصول لها. قال القاضي: فاستعمل من هذا الحديث بعضا ولم يستعمل بعضا، أعني أنه استعمل منه ما لم تعارضه عنده الأصول، ولم يستعمل ما عارضته منه الأصول، وعضد ذلك بأنه مذهب أبي هريرة الذي روى الحديث، فهذه هي الأشياء التي حركت الفقهاء إلى هذا الاختلاف الكثير في هذه المسألة وقادتهم إلى الافتراق فيها، والمسألة اجتهادية محضة يعسر أن يوجد فيها ترجيح ، ولعل الأرجح أن يستثنى من طهارة أسآر الحيوان الكلب والخنزير والمشرك لصحة الآثار الواردة في الكلب ولأن ظاهر الكتاب أولى أن يتبع في القول بنجاسة عين الخنزير والمشرك من القياس، وكذلك ظاهر الحديث، وعليه أكثر الفقهاء، أعني على القول بنجاسة سؤر الكلب، فإن الأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب مخيل ومناسب في الشرع لنجاسة الماء الذي ولغ فيه، أعني أن المفهوم بالعادة في الشرع من الأمر بإراقة الشيء وغسل الإناء منه هو لنجاسة الشيء، وما اعترضوا به من أنه لو كان ذلك لنجاسة الإناء لما اشترط فيه العدد، فغير نكير أن يكون الشرع يخص نجاسة دون نجاسة بحكم دون حكم تغليظا لها. قال القاضي: وقد ذهب جدي رحمة الله عليه في كتاب المقدمات إلى أن هذا الحديث معلل معقول المعنى ليس من سبب النجاسة. بل من سبب ما يتوقع أن يكون الكلب الذي ولغ في الإناء كلبا، فيخاف من ذلك السم. قال: ولذلك جاء هذا العدد الذي هو السبع في غسله، فإن هذا العدد قد استعمل في الشرع في مواضع كثيرة في العلاج والمداواة من الأمراض، وهذا الذي قال رحمه الله هو وجه حسن على طريقة المالكية، فإنه إذا قلنا إن ذلك الماء غير نجس، فالأولى أن يعطى علة في غسله من أن يقول إنه غير معلل، وهذا طاهر بنفسه، وقد اعترض عليه فيما بلغني بعض الناس بأن قال: إن الكلب الكلب لا يقرب الماء في حين كلبه، وهذا الذي قالوه هو عند استحكام هذه العلة بالكلاب، لا في مباديها وفي أول حدوثها، فلا معنى لاعتراضهم. وأيضا فإنه ليس في الحديث ذكر الماء، وإنما فيه ذكر الإناء، ولعل في سؤره خاصية من هذا الوجه ضارة، أعني قبل أن يستحكم به الكلب، ولا يستنكر ورود مثل هذا في الشرع، فيكون هذا من باب ما ورد في الذباب إذا وقع في الطعام أن يغمس، وتعليل ذلك بأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء. وأما ما قيل في المذهب من أن هذا الكلب هو الكلب المنهي عن اتخاذه أو الكلب الخضري فضعيف وبعيد من هذا التعليل، إلا أن يقول قائل: إن ذلك أعني النهي من باب التحريج في اتخاذه. @-(المسألة الخامسة) اختلف العلماء في أسآر الطهر على خمسة أقوال: فذهب قوم إلى أن أسآر الطهر طاهرة بإطلاق، وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة. وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز للرجل أن يتطهر بسؤر المرأة، ويجوز للمرأة أن تتطهر بسؤر الرجل، وذهب آخرون إلى أنه يجوز للرجل أن يتطهر بسؤر المرأة ما لم تكن المرأة جنبا أو حائضا، وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز لواحد منهما أن يتطهر بفضل صاحبه إلا أن يشرعا معا. وقال قوم: لا يجوز وإن شرعا معا، وهو مذهب أحمد بن حنبل. وسبب اختلافهم في هذا اختلاف الآثار، وذلك أن في ذلك أربعة آثار: أحدها أن النبي ﷺ كان يغتسل من الجنابة هو وأزواجه من إناء واحد، والثاني حديث ميمونة أنه اغتسل من فضلها، والثالث حديث الحكم الغفاري أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، خرجه أبو داود والترمذي. والرابع حديث عبد الله بن سرجس قال "نهى رسول الله ﷺ أن يغتسل الرجل بفضل المرأة والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان معا". فذهب العلماء في تأويل هذه الأحاديث مذهبين: مذهب الترجيح، ومذهب الجمع في بعض والترجيح في بعض، أما من رجح حديث اغتسال النبي ﷺ مع أزواجه من إناء واحد على سائر الأحاديث، لأنه مما اتفق الصحاح على تخريجه، ولم يكن عنده فرق بين أن يغتسلا معا أو يغتسل كل منهما بفضل صاحبه، لأن المغتسلين معا كل واحد منهما مغتسل بفضل صاحبه، وصحح حديث ميمونة مع هذا الحديث ورجحه على حديث الغفاري فقال بطهر الأسآر على الإطلاق. وأما من رجح حديث الغفاري على حديث ميمونة وهو مذهب أبي محمد بن حزم. وجمع بين حديث الغفاري وحديث اغتسال النبي عليه الصلاة والسلام مع أزواجه من إناء واحد بأن فرق بين الاغتسال معا، وبين أن يغتسل أحدهما بفضل الآخر وعمل على هذين الحديثين فقط أجاز للرجل أن يتطهر مع المرأة من إناء واحد، ولم يجز أن يتطهر هو من فضل طهرها، وأجاز أن تتطهر هي من فضل طهره. وأما من ذهب مذهب الجمع بين الأحاديث كلها ما خلا حديث ميمونة، فإنه أخذ بحديث عبد الله بن سرجس، لأنه يمكن أن يجتمع عليه حديث الغفاري، وحديث غسل النبي ﷺ مع أزواجه من إناء واحد ويكون فيه زيادة، وهي أن لا تتوضأ المرأة أيضا بفضل الرجل، لكن يعارضه حديث ميمونة، وهو حديث خرجه مسلم، لكن قد علله كما قلنا بعض الناس من أن بعض رواته قال فيه: أكثر ظني أو أكثر علمي أن أبا الشعثاء حدثني، وأما من لم يجز لواحد منهما أن يتطهر بفضل صاحبه ولا يشرعان معا، فلعله لم يبلغه من الأحاديث إلا حديث الحكم الغفاري وقاس الرجل على المرأة. وأما من نهى عن سؤر المرأة الجنب والحائض فقط، فلست أعلم له حجة إلا أنه مروي عن بعض السلف أحسبه عن ابن عمر. @-(المسألة السادسة) صار أبو حنيفة من بين معظم أصحابه وفقهاء الأمصار إلى إجازة الوضوء بنبيذ التمر في السفر لحديث ابن عباس "أن ابن مسعود خرج مع رسول الله ﷺ ليلة الجن، فسأله رسول الله ﷺ فقال: هل معك من ماء؟ فقال: معي نبيذ في إداوتي، فقال رسول الله ﷺ: اصبب فتوضأ به، وقال: شراب وطهور" وحديث أبي رافع مولى ابن عمر عن عبد الله بن مسعود بمثله، وفيه قال رسول الله ﷺ "ثمرة طيبة وماء طهور" وزعموا أنه منسوب إلى الصحابة علي وابن عباس، وأنه لا مخالف لهم من الصحابة، فكان كالإجماع عندهم. ورد أهل الحديث هذا الخبر ولم يقبلوه لضعف رواته، ولأنه قد روي من طرق أوثق من هذه الطرق أن ابن مسعود لم يكن مع رسول الله ﷺ ليلة الجن. واحتج الجمهور لرد هذا الحديث بقوله تعالى {فلم تجدوا ماء فتيموا صعيدا طيبا} قالوا فلم يجعل ههنا وسطا بين الماء والصعيد، وبقوله عليه الصلاة والسلام "الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء إلى عشر حجج، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته" ولهم أن يقولوا إن هذا قد أطلق عليه في الحديث اسم الماء، والزيادة لا تقتضي نسخا فيعارضها الكتاب، لكن هذا مخالف لقولهم إن الزيادة نسخ. 4*الباب الرابع في نواقض الوضوء.

@-والأصل في هذا الباب قوله تعالى {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} وقوله عليه الصلاة والسلام "لا يقبل الله صلاة من أحدث حتى يتوضأ" واتفقوا في هذا الباب على انتقاض الوضوء من البول والغائط والريح والمذي والودي لصحة الآثار في ذلك إذا كان خروجها على وجه الصحة. @-(ويتعلق بهذا الباب مما اختلفوا فيه سبع مسائل) تجري منه مجرى القواعد لهذا الباب. @-(المسألة الأولى) اختلف علماء الأمصار في انتقاض الوضوء مما يخرج من الجسد من النجس على ثلاثة مذاهب: فاعتبر قوم في ذلك الخارج وحده من أي موضع خرج وعلى أي جهة خرج، وهو أبو حنيفة وأصحابه والثوري وأحمد وجماعة ولهم من الصحابة السلف فقالوا: كل نجاسة تسيل من الجسد وتخرج منه يجب منها الوضوء كالدم والرعاف الكثير والفصد والحجامة والقيء إلا البلغم عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة: إنه إذا ملأ الفم ففيه الوضوء، ولم يعتبر أحد من هؤلاء اليسير من الدم إلا مجاهد، واعتبر قوم آخرون المخرجين الذكر والدبر، فقالوا: كل ما خرج من هذين السبيلين فهو ناقض للوضوء من أي شيء خرج من دم أو حصا أو بلغم وعلى أي وجه خرج كان خروجه على سبيل الصحة أو على سبيل المرض، وممن قال بهذا القول الشافعي وأصحابه ومحمد بن عبد الحكم من أصحاب مالك. واعتبر قوم آخرون الخارج والمخرج وصفة الخروج، فقالوا: كل ما خرج من السبيلين مما هو معتاد خروجه وهو البول والغائط والمذي والودي والريح إذا كان خروجه على وجه الصحة فهو ينقض الوضوء، فلم يروا في الدم والحصاة والدود وضوءا ولا في السلس، وممن قال بهذا القول مالك وجل أصحابه. والسبب في اختلافهم أنه لما أجمع المسلمون على انتقاض الوضوء مما يخرج من السبيلين من غائط وبول وريح ومذي لظاهر الكتاب ولتظاهر الآثار بذلك. تطرق إلى ذلك ثلاث احتمالات: أحدها أن يكون الحكم إنما علق بأعيان هذه الأشياء فقط المتفق عليها على ما رآه مالك رحمه الله. الاحتمال الثاني أن يكون الحكم إنما علق بهذه من جهة أنها أنجاس خارجة من البدن لكون الوضوء طهارة، والطهارة إنما يؤثر فيها النجس. والاحتمال الثالث أن يكون الحكم أيضا إنما علق بها من جهة أنها خارجة من هذين السبيلين، فيكون على هذين القولين الأخيرين ورود الأمر بالوضوء من تلك الأحداث المجمع عليها إنما هو من باب الخاص أريد به العام ويكون عند مالك وأصحابه إنما هو من باب الخاص المحمول على خصوصه؛ فالشافعي وأبو حنيفة اتفقا على أن الأمر بها هو من باب الخاص أريد به العام، واختلفا أي عام هو الذي قصد به؟ فمالك يرجح مذهبه بأن الأصل هو أن يحمل الخاص على خصوصه حتى يدل الدليل على غير ذلك، والشافعي محتج بأن المراد به المخرج لا الخارج باتفاقهم على إيجاب الوضوء من الريح الذي يخرج من أسفل، وعدم إيجاب الوضوء منه إذا خرج من فوق وكلاهما ذات واحدة، والفرق بينهما اختلاف المخرجين، فكان هذا تنبيها على أن الحكم للمخرج وهو ضعيف لأن الريحين مختلفان في الصفة والرائحة، وأبو حنيفة يحتج لأن المقصود بذلك هو الخارج النجس لكون النجاسة مؤثرة في الطهارة، وهذه الطهارة وإن كانت طهارة حكمية فإن فيها شبها من الطهارة المعنوية، أعني طهارة النجس، وبحديث ثوبان "أن رسول الله ﷺ قاء فتوضأ" وبما روي عن عمر وابن عمر رضي الله عنهما من إيجابهما الوضوء من الرعاف وبما روي من أمره ﷺ المستحاضة بالوضوء لكل صلاة، فكان المفهوم من هذا كله عند أبي حنيفة الخارج النجس، وإنما اتفق الشافعي وأبو حنيفة على إيجاب الوضوء من الأحداث المتفق عليها وإن خرجت على جهة المرض لأمره ﷺ بالوضوء عند كل صلاة للمستحاضة والاستحاضة مرض. وأما مالك فرأى أن المرض له ههنا تأثير في الرخصة قياسا أيضا على ما روي أيضا من أن المستحاضة لم تؤمر إلا بالغسل فقط، وذلك أن حديث فاطمة بنت أبي حبيش هذا هو متفق على صحته، ويختلف في هذه الزيادة فيه، أعني الأمر بالوضوء لكل صلاة، ولكن صححها أبو عمر بن عبد البر، قياسا على من يغلبه الدم من جرح ولا ينقطع، مثل ما روي أن عمر رضي الله عنه صلى وجرحه يثعب دما. @-(المسألة الثانية) اختلف العلماء في النوم على ثلاثة مذاهب: فقوم رأوا أنه حدث، فأوجبوا من قليله وكثيره الوضوء، وقوم رأوا أنه ليس بحدث فلم يوجبوا منه الوضوء إلا إذا تيقن بالحدث على مذهب من لا يعتبر الشك، وإذا شك على مذهب من يعتبر الشك حتى إن بعض السلف كان يوكل بنفسه إذا نام من يتفقد حاله، أعني هل يكون منه حدث أم لا؟ وقوم فرقوا بين النوم القليل الخفيف والكثير المستثقل، فأوجبوا في الكثير المستثقل الوضوء دون القليل، وعلى هذا فقهاء الأمصار والجمهور. ولما كانت بعض الهيئات يعرض فيها الاستثقال من النوم أكثر من بعض، وكذلك خروج الحدث اختلف الفقهاء في ذلك، فقال مالك: من نام مضطجعا أو ساجدا فعليه الوضوء، طويلا كان النوم أو قصيرا. ومن نام جالسا فلا وضوء عليه إلا أن يطول ذلك به. واختلف القول في مذهبه في الراكع، فمرة قال حكمه حكم القائم، ومرة قال حكمه حكم الساجد. وأما الشافعي فقال: على كل نائم كيفما نام الوضوء إلا من نام جالسا، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا وضوء إلا على من نام مضطجعا، وأصل اختلافهم في هذه المسألة اختلاف الآثار الواردة في ذلك، وذلك أن ههنا أحاديث يوجب ظاهرها أنه ليس في النوم وضوء أصلا، كحديث ابن عباس "أن النبي ﷺ دخل إلى ميمونة فنام عندها حتى سمعنا غطيطه ثم صلى ولم يتوضأ" وقوله عليه الصلاة والسلام "إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإنه لعله يذهب أن يستغفر ربه فيسب نفسه" وما روي أيضا "أن أصحاب النبي ﷺ كانوا ينامون في المسجد حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون" وكلها آثار ثابتة وههنا أيضا أحاديث يوجب ظاهرها أن النوم حدث، وأبينها في ذلك حديث صفوان بن عسال وذلك أنه قال "كنا في سفر مع النبي ﷺ فأمرنا أن لا ننزع خفافنا من غائط وبول ونوم ولا ننزعها إلا من جنابة" فسوى بين البول والغائط والنوم، صححه الترمذي. ومنها حديث أبي هريرة المتقدم، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه" فإن ظاهره أن النوم يوجب الوضوء قليله وكثيره، وكذلك يدل ظاهر آية الوضوء عند من كان عنده المعنى في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} أي إذا قمتم من النوم على ما روي عن زيد بن أسلم وغيره من السلف فلما تعارضت ظواهر هذه الآثار ذهب العلماء فيها مذهبين: مذهب الترجيح، ومذهب الجمع؛ فمن ذهب مذهب الترجيح إما أسقط وجوب الوضوء من النوم أصلا على ظاهر الأحاديث التي تسقطه وإما أوجبه من قليله أو كثيره على ظاهر الأحاديث التي توجبه أيضا، أعني على حسب ما ترجح عنده من الأحاديث الموجبة، أو من الأحاديث المسقطة؛ ومن ذهب مذهب الجمع حمل الأحاديث الموجبة للوضوء منه على الكثير والمسقطة للوضوء على القليل، وهو كما قلنا مذهب الجمهور، والجمع أولى من الترجيح ما أمكن الجمع عند أكثر الأصوليين. وأما الشافعي فإنما حملها على أن استثنى من هيئات النائم الجلوس فقط لأنه قد صح ذلك عن الصحابة، أعني أنهم كانوا ينامون جلوسا ولا يتوضئون ويصلون. وإنما أوجبه أبو حنيفة في النوم والاضطجاع فقط لأن ذلك ورد في حديث مرفوع، وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال "إنما الوضوء على من نام مضطجعا" والرواية بذلك ثابتة عن عمر. وأما مالك فلما كان النوم عنده إنما ينقض الوضوء من حيث كان غالبا سبب للحدث راعى فيه ثلاثة أشياء: الاستثقال أو الطول أو الهيئة، فلم يشترط في الهيئة التي يكون منها خروج الحدث غالبا لا الطول ولا الاستثقال، واشترط ذلك في الهيئات التي لا يكون خروج الحدث منها غالبا. @-(المسألة الثالثة) اختلف العلماء في إيجاب الوضوء من لمس النساء باليد أو بغير ذلك من الأعضاء الحساسة، فذهب قوم إلى أن من لمس امرأة بيده مفضيا إليها ليس بينه وبينها حجاب ولا ستر فعليه الوضوء، وكذلك من قبلها لأن القبلة عندهم لمس ما، سواء التذ أم لم يلتذ وبهذا القول قال الشافعي وأصحابه، إلا أنه مرة فرق بين اللامس والملموس، فأوجب الوضوء على اللامس دون الملموس، ومرة سوى بينهما، ومرة أيضا فرق بين ذوات المحارم والزوجة، فأوجب الوضوء من لمس الزوجة دون ذوات المحارم، ومرة سوى بينهما. وذهب آخرون إلى إيجاب الوضوء من اللمس إذا قارنته اللذة أو قصد اللذة في تفصيل لهم في ذلك وقع بحائل أو بغير حائل بأي عضو اتفق ما عدا القبلة، فإنهم لم يشترطوا لذة في ذلك، وهو مذهب مالك وجمهور أصحابه، ونفى قوم إيجاب الوضوء من لمس النساء وهو مذهب أبي حنيفة، ولكل سلف من الصحابة إلا اشتراط اللذة فإني لا أذكر أحدا من الصحابة اشترطها. وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم اللمس في كلام العرب، فإن العرب تطلقه مرة على اللمس الذي هو باليد، ومرة تكني به عن الجماع، فذهب قوم إلى أن اللمس الموجب للطهارة في آية الوضوء هو الجماع في قوله تعالى {أو لامستم النساء} وذهب آخرون إلى أنه اللمس باليد، ومن هؤلاء من رآه من باب العام أريد به الخاص فاشترط فيه اللذة، ومنهم من رآه من باب العام أريد به العام فلم يشترط اللذة فيه، ومن اشترط اللذه فإنما دعاه إلى ذلك ما عارض عموم الآية من أن النبي ﷺ كان يلمس عائشة عند سجوده بيده وربما لمسته وخرج أهل الحديث حديث حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة عن النبي ﷺ "أنه قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، فقلت من هي إلا أنت؟ فضحكت" قال أبو عمر هذا الحديث وهنه الحجازيون وصححه الكوفيون، وإلى تصحيحه مال أبو عمر بن عبد البر، قال: وروى هذا الحديث أيضا من طريق معبد بن نباتة، وقال الشافعي إن ثبت حديث معبد بن نباتة في القبلة لم أر فيها ولا في اللمس وضوءا. وقد احتج من أوجب الوضوء من اللمس باليد بأن اللمس ينطلق حقيقة على اللمس باليد وينطلق مجازا على الجماع، وأنه إذا تردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز، فالأولى أن يحمل على الحقيقة حتى يدل الدليل على المجاز؛ ولأولئك أن يقولوا إن المجاز إذا كثر استعماله كان أدل على المجاز منه على الحقيقة كالحال في اسم الغائط الذي هو أدل على الحدث الذي هو فيه مجاز منه على المطمئن من الأرض الذي هو فيه حقيقة. والذي أعتقده أن اللمس وإن كانت دلالته على المعنيين بالسواء أو قريبا من السواء أنه أظهر عندي في الجماع وإن كان مجازا، لأن الله تبارك وتعالى قد كنى بالمباشرة والمس عن الجماع وهما في معنى اللمس، وعلى هذا التأويل في الآية يحتج بها في إجازة التيمم للجنب دون تقدير تقديم فيها ولا تأخير على ما سيأتي بعد، وترتفع المعارضة التي بين الآثار والآية على التأويل الآخر. وأما من فهم من الآية اللمسين معا فضعيف، فإن العرب إذا خاطبت بالاسم المشترك إنما تقصد به معنى واحد من المعاني التي يدل عليها الاسم لا جميع المعاني التي يدل عليها، وهذا بين بنفسه في كلامهم. @-(المسألة الرابعة) مس الذكر. اختلف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب، فمنهم من رأى الوضوء فيه كيفما مسه، وهو مذهب الشافعي وأصحابه وأحمد وداود، ومنهم من لم ير فيه وضوءا أصلا وهو أبو حنيفة وأصحابه، ولكلا الفريقين سلف من الصحابة والتابعين. وقوم فرقوا بين أن يمسه بحال أو لا يمسه بتلك الحال، وهؤلاء افترقوا فيه فرقا: فمنهم من فرق فيه بين أن يلتذ أو لا يلتذ. ومنهم من فرق بين أن يمسه بباطن الكف أو لا يمسه، فأوجبوا الوضوء مع اللذة ولم يوجبوه مع عدمها، وكذلك أوجبه قوم مع المس بباطن الكف ولم يوجبوه مع المس بظاهرها، وهذان الاعتباران مرويان عن أصحاب مالك، وكان اعتبار باطن الكف راجع إلى اعتبار سبب اللذة. وفرق قوم في ذلك بين العمد والنسيان، فأوجبوا الوضوء منه مع العمد ولم يوجبوه مع النسيان، وهو مروي عن مالك، وهو قول داود وأصحابه. ورأى قوم أن الوضوء من مسه سنة لا واجب، قال أبو عمر: وهذا الذي استقر من مذهب مالك عند أهل المغرب من أصحابه، والرواية عنه فيه مضطربة. وسبب اختلافهم في ذلك أن فيه حديثين متعارضين: أحدهما الحديث الوارد من طريق بسرة أنها سمعت رسول الله ﷺ يقول "إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ" وهو أشهر الأحاديث الواردة في إيجاب الوضوء من مس الذكر، خرجه مالك في الموطأ، وصححه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل، وضعفه أهل الكوفة؛ وقد روي أيضا معناه من طريق أم حبيبة، وكان أحمد بن حنبل يصححه، وقد روي أيضا معناه من طريق أبي هريرة، وكان ابن السكن أيضا يصححه، ولم يخرجه البخاري ولا مسلم. والحديث الثاني المعارض له حديث طلق بن علي قال "قدمنا على رسول الله ﷺ وعنده رجل كأنه بدوي، فقال: يا رسول الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد أن يتوضأ؟ فقال: وهل هو إلا بضعة منك؟" خرجه أيضا أبو داود والترمذي، وصححه كثير من أهل العلم الكوفيون وغيرهم؛ فذهب العلماء في تأويل هذه الأحاديث أحد مذهبين: إما مذهب الترجيح أو النسخ، وإما مذهب الجمع، فمن رجح حديث بسرة أو رآه ناسخا لحديث طلق بن علي قال بإيجاب الوضوء من مس الذكر، ومن رجح حديث طلق بن علي أسقط وجوب الوضوء من مسه، ومن رام أن يجمع بين الحديثين أوجب الوضوء منه في حال ولم يوجبه في حال، أو حمل حديث بسرة على الندب، وحديث طلق بن علي نفى الوجوب والاحتجاجات التي يحتج بها كل واحد من الفريقين في ترجيح الحديث الذي رجحه كثيرة يطول ذكرها، وهي موجودة في كتبهم، ولكن نكتة اختلافهم هو ما أشرنا إليه. @-(المسألة الخامسة) اختلف الصدر الأول في إيجاب الوضوء من أكل ما مسته النار لاختلاف الآثار الواردة في ذلك عن رسول الله ﷺ، واتفق جمهور فقهاء الأمصار بعد الصدر الأول على سقوطه، إذ صح عندهم أنه عمل الخلفاء الأربعة، ولما ورد من حديث جابر أنه قال: "كان آخر الأمرين من رسول الله ﷺ ترك الوضوء مما مست النار" خرجه أبو داود. ولكن ذهب قوم من أهل الحديث أحمد وإسحاق وطائفة غيرهم أن الوضوء يجب فقط من أكل لحم الجزور لثبوت الحديث الوارد بذلك عنه عليه الصلاة والسلام. @-(المسألة السادسة): شذ أبو حنيفة فأوجب الوضوء من الضحك في الصلاة لمرسل أبي العالية، وهو أن قوما ضحكوا في الصلاة فأمرهم النبي ﷺ بإعادة الوضوء والصلاة. ورد الجمهور هذا الحديث لكونه مرسلا ولمخالفته للأصول، وهو أن يكون شيء ما ينقض الطهارة في الصلاة ولا ينقضها في غير الصلاة وهو مرسل صحيح. @-(المسألة السابعة) وقد شذ قوم فأوجبوا الوضوء من حمل الميت، وفيه أثر ضعيف "من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ" وينبغي أن تعلم أن جمهور العلماء أوجبوا الوضوء من زوال العقل بأي نوع كان من قبل إغماء أو جنون أو سكر، وهؤلاء كلهم قاسوه على النوم، أعني أنهم رأوا أنه إذا كان يوجب الوضوء في الحالة التي هي سبب للحدث غالبا وهو الاستثقال، فأحرى أن يكون ذهاب العقل سببا لذلك، فهذه هي مسائل هذا الباب المجمع عليها، والمشهورات من المختلف فيها، وينبغي أن نصير إلى الباب الخامس. 4*الباب الخامس. وهو معرفة الأفعال التي تشترط هذه الطهارة في فعلها.

@-والأصل في هذا الباب قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} الآية، وقوله عليه الصلاة والسلام "لايقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول" فاتفق المسلمون على أن الطهارة شرط من شروط الصلاة لمكان هذا، وإن كانوا اختلفوا هل هي شرط من شروط الصحة أو من شروط الوجوب، ولم يختلفوا أن ذلك شرط في جميع الصلوات إلا في صلاة الجنازة وفي السجود، أعني سجود التلاوة، فإن فيه خلافا شاذا، والسبب في ذلك الاحتمال العارض في انطلاق اسم الصلاة على الصلاة على الجنائز وعلى السجود، فمن ذهب إلى أن اسم الصلاة ينطلق على صلاة الجنائز وعلى السجود نفسه وهم الجمهور اشترط هذه الطهارة فيهما: ومن ذهب إلى أنه لا ينطلق عليهما إذ كانت صلاة الجنائز ليس فيها ركوع ولا سجود، وكان السجود أيضا ليس فيه قيام ولا ركوع لم يشترطوا هذه الطهارة فيهما، ويتعلق بهذا الباب مع هذه المسألة أربع مسائل: @-(المسألة الأولى) هل هذه الطهارة شرط في مس المصحف أم لا؟ فذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي إلى أنها شرط في مس المصحف، وذهب أهل الظاهر إلى أنها ليست بشرط في ذلك، والسبب في اختلافهم تردد مفهوم قوله تعالى {لا يمسه إلا المطهرون} بين أن يكون المطهرون هم بنو آدم وبين أن يكونوا هم الملائكة، وبين أن يكون هذا الخبر مفهمومه النهي، وبين أن يكون خبرا لا نهيا، فمن فهم من المطهرون بني آدم، وفهم من الخبر النهي قال: لا يجوز أن يمس المصحف إلا طاهر، ومن فهم منه الخبر فقط وفهم من لفظ المطهرون الملائكة قال: إنه ليس في الآية دليل على اشتراط هذه الطهارة في مس المصحف، وإذا لم يكن هنالك دليل لا من كتاب ولا من سنة ثابتة بقي الأمر على البراءة الأصلية وهي الإباحة؛ وقد احتج الجمهور لمذهبهم بحديث عمرو بن حزم "أن النبي عليه الصلاة والسلام كتب: لا يمس القرآن إلا طاهر" وأحاديث عمرو بن حزم اختلف الناس في وجوب العمل بها لأنها مصحفة، ورأيت ابن المفوز يصححها إذا روتها الثقات لأنها كتاب النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك أحاديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأهل الظاهر يردونهما، ورخص مالك للصبيان في مس المصحف على غير طهر لأنهم غير مكلفين. @-(المسألة الثانية) اختلف الناس في إيجاب الوضوء على الجنب في أحوال: أحدها إذا أراد أن ينام وهو جنب؛ فذهب الجمهور إلى استحبابه دون وجوبه وذهب أهل الظاهر إلى وجوبه لثبوت ذلك عن النبي ﷺ من حديث عمر "أنه ذكر لرسول الله ﷺ أنه تصيبه جنابة من الليل، فقال له رسول الله ﷺ: توضأ واغسل ذكرك ثم نم" وهو أيضا مروي عنه من طريق عائشة. وذهب الجهمور إلى حمل الأمر بذلك على الندب والعدول به عن ظاهره لمكان عدم مناسبة وجوب الطهارة لإرادة النوم، أعني المناسبة الشرعية، وقد احتجوا أيضا لذلك بأحاديث أثبتها حديث ابن عباس "أن رسول الله ﷺ خرج من الخلاء فأتي بطعام، فقالوا: ألا نأتيك بطهر؟ فقال: أأصلي فأتوضأ. وفي بعض رواياته: فقيل له: ألا تتوضأ؟ فقال: ما أردت الصلاة فأتوضأ" والاستدلال به ضعيف، فإنه من باب مفهوم الخطاب من أضعف أنواعه، وقد احتجوا بحديث عائشة "أنه عليه الصلاة والسلام كان ينام وهو جنب لا يمس الماء" إلا أنه حديث ضعيف. وكذلك اختلفوا في وجوب الوضوء على الجنب الذي يريد أن يأكل أو يشرب وعلى الذي يريد أن يعاود أهله، فقال الجمهور في هذا كله بإسقاط الوجوب لعدم مناسبة الطهارة لهذه الأشياء، وذلك أن الطهارة إنما فرضت في الشرع لأحوال التعظيم كالصلاة، وأيضا فلمكان تعارض الآثار في ذلك، وذلك أنه روي عنه عليه الصلاة والسلام "أنه أمر الجنب إذا أراد أن يعاود أهله أن يتوضأ" وروي عنه أنه كان يجامع ثم يعاود ولا يتوضأ. وكذلك روي عنه منع الأكل والشرب للجنب حتى يتوضأ. وروي عنه إباحة ذلك. @-(المسألة الثالثة) ذهب مالك والشافعي إلى اشتراط الوضوء في الطواف، وذهب أبو حنيفة إلى إسقاطه. وسبب اختلافهم تردد الطواف بين أن يلحق حكمه بحكم الصلاة أو لا يلحق، وذلك أنه ثبت "أن رسول الله ﷺ منع الحائض الطواف كما منعها الصلاة" فأشبه الصلاة من هذه الجهة. وقد جاء في بعض الآثار تسمية الطواف صلاة، وحجة أبي حنيفة أنه ليس كل شيء منعه الحيض، فالطهارة شرط في فعله إذا ارتفع الحيض كالصوم عند الجمهور. @-(المسألة الرابعة) ذهب الجمهور إلى أنه يجوز لغير متوضئ أن يقرأ القرآن ويذكر الله، وقال قوم: لا يجوز ذلك له إلا أن يتوضأ. وسبب الخلاف حديثان متعارضان ثابتان: أحدهما حديث أبي جهم قال "أقبل رسول الله ﷺ من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه السلام حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم إنه رد عليه الصلاة والسلام السلام". والحديث الثاني حديث علي "أن رسول الله ﷺ كان لا يحجبه عن قراءة القرآن شيء إلا الجنابة" فصار الجمهور إلى أن الحديث الثاني ناسخ للأول، وصار من أوجب الوضوء لذكر الله إلى ترجيح الحديث الأول. 3*كتاب الغسل.

@-والأصل في هذه الطهارة قوله تعالى {وإن كنتم جنبا فاطهروا} والكلام المحيط بقواعدها ينحصر بعد المعرفة بوجوبها وعلى من تجب، ومعرفة ما به تفعل، وهو الماء المطلق في ثلاثة أبواب: الباب الأول: في معرفة العمل في هذه الطهارة. والثاني: في معرفة نواقض هذه الطهارة. والباب الثالث: في معرفة أحكام نواقض هذه الطهارة. فأما على من تجب؟ فعلى كل من لزمته الصلاة ولا خلاف في ذلك، وكذلك لا خلاف في وجوبها ودلائل ذلك هي دلائل الوضوء بعينها، وقد ذكرناها، وكذلك أحكام المياه، وقد تقدم القول فيها. 4*الباب الأول في معرفة العلم في هذه الطهارة. وهذا الباب يتعلق به أربع مسائل:

@-(المسألة الأولى) اختلف العلماء هل من شرط هذه الطهارة إمرار اليد على جميع الجسد كالحال في طهارة أعضاء الوضوء، أم يكفي فيها إفاضة الماء على جميع الجسد وإن لم يمر يديه على بدنه؛ فأكثر العلماء على أن إفاضة الماء كافية في ذلك. وذهب مالك وجل أصحابه والمزني من أصحاب الشافعي إلى أنه إن فات المتطهر موضع واحد من جسده لم يمر يده عليه أن طهره لم يكمل بعد. والسبب في اختلافهم اشتراك اسم الغسل ومعارضة ظاهر الأحاديث الواردة في صفة الغسل لقياس الغسل على ذلك في الوضوء، وذلك أن الأحاديث الثابتة التي وردت في صفة غسله عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة وميمونة ليس فيها ذكر التدلك، وإنما فيها إفاضة الماء فقط. ففي حديث عائشة قالت "كان رسول الله ﷺ إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات، ثم يفيض الماء على جلده كله" والصفة الواردة في حديث ميمونة قريبة من هذا، إلا أنه أخر غسل رجليه من أعضاء الوضوء إلى آخر الطهر، وفي حديث أم سلمة أيضا، وقد سألته عليه الصلاة والسلام : "هل تنقض ضفر رأسها لغسل الجنابة، فقال عليه الصلاة والسلام : إنما يكفيك أن تحثي على رأسك الماء ثلاث حثيات، ثم تفيضي عليك الماء فإذا أنت قد طهرت" وهو أقوى في إسقاط التدلك من تلك الأحاديث الأخر، لأنه لا يمكن هنالك أن يكون الواصف لطهره قد ترك التدلك، وأما ههنا فإنما حصر لها شروط الطهارة، ولذلك أجمع العلماء على أن صفة الطهارة الواردة من حديث ميمونة وعائشة هي أكمل صفاتها، وأن ما ورد في حديث أم سلمة من ذلك فهو من أركانها الواجبة، وأن الوضوء في أول الطهر ليس من شرط الطهر إلا خلافا شاذا، روي عن الشافعي وفيه قوة من جهة الأحاديث، وفي قول الجمهور قوة من جهة النظر، لأن الطهارة ظاهر من أمرها أنها شرط في صحة الوضوء، لا أن الوضوء شرط في صحتها، فهو من باب معارضة القياس لظاهر الحديث، وطريقة الشافعي تغليب ظاهر الأحاديث على القياس؛ فذهب قوم كما قلنا إلى ظاهر الأحاديث وغلبوا ذلك على قياسها على الوضوء، فلم يوجبوا التدلك، وغلب آخرون قياس هذه الطهارة على الوضوء على ظاهر الأحاديث، فأوجبوا التدلك كالحال في الوضوء، فمن رجح القياس صار إلى إيجاب التدلك، ومن رجح ظاهر الأحاديث على القياس صار إلى إسقاط التدلك، وأعني بالقياس: قياس الطهر على الوضوء. وأما الاحتجاج من طريق الاسم ففيه ضعف إذ كان اسم الطهر والغسل ينطلق في كلام العرب على المعنيين جميعا على حد سواء. @-(المسألة الثانية) اختلفوا هل من شروط هذه الطهارة النية أم لا؟ كاختلافهم في الوضوء، فذهب مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وداود وأصحابه إلى أن النية من شروطها، وذهب أبو حنيفة وأصحابه والثوري إلى أنها تجزئ بغير نية كالحال في الوضوء عندهم. وسبب اختلافهم في الطهر هو بعينه سبب اختلافهم في الوضوء، وقد تقدم ذلك. @-(المسألة الثالثة) اختلفوا في المضمضة والاستنشاق في هذه الطهارة أيضا كاختلافهم فيهما في الوضوء. أعني هل هما واجبان فيها أم لا؟ فذهب قوم إلى أنهما غير واجبين فيها، وذهب قوم إلى وجوبهما؛ وممن ذهب إلى عدم وجوبهما مالك والشافعي، وممن ذهب إلى وجوبهما أبو حنيفة وأصحابه. وسبب اختلافهم معارضة ظاهر حديث أم سلمة للأحاديث التي نقلت من صفة وضوئه عليه الصلاة والسلام في طهره وذلك أن الأحاديث التي نقلت من صفة وضوئه في الطهر فيها المضمضة والاستنشاق، وحديث أم سلمة ليس فيه أمر لا بمضمضة ولا باستنشاق، فمن جعل حديث عائشة وميمونة مفسرا لمجمل حديث أم سلمة ولقوله تعالى {وإن كنتم جنبا فاطهروا} أوجب المضمضة والاستنشاق، ومن جعله معارضا جمع بينهما بأن حمل حديثي عائشة وميمونة على الندب، وحديث أم سلمة على الوجوب، ولهذا السبب بعينه اختلفوا في تخليل الرأس هل هو واجب في هذه الطهارة أم لا؟ ومذهب مالك أنه مستحب، ومذهب غيره أنه واجب، وقد عضد مذهبه من أوجب التخليل بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال " تحت كل شعرة جنابة فأنقوا البشرة وبلوا الشعر". @-(المسألة الرابعة) اختلفوا هل من شرط هذه الطهارة الفور والترتيب، أم ليسا من شروطهما كاختلافهم من ذلك في الوضوء؟. وسبب اختلافهم في ذلك هل فعله عليه الصلاة والسلام محمول على الوجوب أو على الندب؟ فإنه لم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه ما توضأ قط إلا مرتبا متواليا، وقد ذهب قوم إلى أن الترتيب في هذه الطهارة أبين منها في الوضوء. وذلك بين الرأس وسائر الجسد، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أم سلمة "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضي الماء على جسدك" وحرف ثم يقتضي الترتيب بلا خلاف بين أهل اللغة. 4*الباب الثاني في معرفة نواقض هذه الطهارة.

@-والأصل في هذا الباب قوله تعالى {وإن كنتم جنبا فاطهروا} وقوله {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} الآية. واتفق العلماء على وجوب هذه الطهارة من حدثين: أحدهما خروج المني على وجه الصحة في النوم أو اليقظة من ذكر كان أو أنثى، إلا ما روي عن النخعي من أنه كان لا يرى على المرأة غسلا من الاحتلام، وإنما اتفق الجمهور على مساواة المرأة في الاحتلام للرجل لحديث أم سلمة الثابت أنها قالت "يا رسول الله المرأة ترى في المنام مثل ما يرى الرجل هل عليها غسل؟ قال: نعم إذا رأت الماء". وأما الحديث الثاني الذي اتفقوا عليه فهو دم الحيض، أعني إذا انقطع، وذلك أيضا لقوله تعالى {ويسألونك عن المحيض} الآية، ولتعليمه الغسل من الحيض لعائشة وغيرها من النساء. واختلفوا في هذا الباب مما يجري مجرى الأصول في مسئلتين مشهورتين. @-(المسألة الأولى) اختلف الصحابة رضي الله عنهم في سبب إيجاب الطهر من الوطء، فمنهم من رأى الطهر واجبا في التقاء الختانين أنزل أم لم ينزل، وعليه أكثر فقهاء الأمصار مالك وأصحابه والشافعي وأصحابه وجماعة من أهل الظاهر، وذهب قوم من أهل الظاهر إلى إيجاب الطهر مع الإنزال فقط والسبب في اختلافهم في ذلك تعارض الأحاديث في ذلك، لأنه ورد في ذلك حديثان ثابتان اتفق أهل الصحيح على تخريجهما. قال القاضي رضي الله عنه: ومتى قلت ثابت، فإنما أعني به ما أخرجه البخاري ومسلم، أو ما اجتمعا عليه: أحدهما حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "إذا قعد بين شعبها الأربع وألزق الختان بالختان فقد أوجب الغسل" والحديث الثاني حديث عثمان أنه سئل فقيل له "أرأيت الرجل إذا جامع أهله ولم يمن؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة سمعته من رسول الله ﷺ " فذهب العلماء في هذين الحديثين مذهبين: أحدهما مذهب النسخ، والثاني مذهب الرجوع إلى ما عليه الاتفاق عند التعارض الذي لا يمكن الجمع فيه ولا الترجيح. فالجمهور رأوا أن حديث أبي هريرة ناسخ لحديث عثمان، ومن الحجة لهم على ذلك ما روي عن أبي بن كعب أنه قال: إن رسول الله ﷺ إنما جعل ذلك رخصة في أول الإسلام ثم أمر بالغسل، خرجه أبو داود. وأما من رأى أن التعارض بين هذين الحديثين هو مما لا يمكن الجمع فيه بينهما ولا الترجيح فوجب الرجوع عنده إلى ما عليه الاتفاق، وهو وجوب الماء من الماء. وقد رحج الجمهور حديث أبي هريرة من جهة القياس، قالوا: وذلك أنه لما وقع الإجماع على أن مجاورة الختانين توجب الحد وجب أن يكون هو الموجب للغسل، وحكموا أن هذا القياس مأخوذ عن الخلفاء الأربعة، ورجح الجمهور ذلك أيضا من حديث عائشة لأخبارها ذلك عن رسول الله ﷺ، خرجه مسلم. @-(المسألة الثانية) اختلف العلماء في الصفة المعتبرة في كون خروج المني موجبا للطهر. فذهب مالك إلى اعتبار اللذة في ذلك. وذهب الشافعي إلى أن نفس خروجه هو الموجب للطهر سواء خرج بلذة أو بغير لذة. وسبب اختلافهم في ذلك هو شيئان: أحدهما هل اسم الجنب ينطلق على الذي أجنب على الجهة الغير المعتادة أم ليس ينطلق عليه؟ فمن رأى أنه إنما ينطلق على الذي أجنب على طريق العادة لم يوجب الطهر في خروجه من غير لذة، ومن رأى أنه ينطلق على خروج المني كيفما خرج أوجب منه الطهر وإن لم يخرج مع لذة. والسبب الثاني تشبيه خروجه بغير لذة بدم الاستحاضة، واختلافهم في خروج الدم على جهة الاستحاضة هل يوجب طهرا أم ليس يوجبه؟ فسنذكره في باب الحيض وإن كان من هذا الباب. وفي المذهب في هذا الباب فرع، وهو إذا انتقل من أصل مجاريه بلذة ثم خرج في وقت آخر بغير لذة مثل أن يخرج من المجامع بعد أن يتطهر، فقيل يعيد الطهر، وقيل لا يعيده، وذلك أن هذا النوع من الخروج صحبته اللذة في بعض نقلته ولم تصحبه في بعض، فمن غلب حال اللذة قال: يجب الطهر، ومن غلب حال عدم اللذة قال: لا يجب عليه الطهر. 4*الباب الثالث. في أحكام هذين الحدثين أعني الجنابة والحيض.

5*أما أحكام الحدث الذي هو الجنابة، ففيه ثلاث مسائل:

@-(المسألة الأولى) اختلف العلماء في دخول المسجد للجنب على ثلاثة أقوال: فقوم منعوا ذلك بإطلاق، وهو مذهب مالك وأصحابه؛ وقوم منعوا ذلك إلا لعابر فيه لا مقيم ومنهم الشافعي؛ وقوم أباحوا ذلك للجميع، ومنهم داود وأصحابه فيما أحسب. وسبب اختلاف الشافعي وأهل الظاهر هو تردد قوله تبارك وتعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} الآية، بين أن يكون في الآية مجاز حتى يكون هنالك محذوف مقدر وهو موضع الصلاة: أي لا تقربوا موضع الصلاة، ويكون عابر السبيل استثناء من النهي عن قرب موضع الصلاة، وبين أن لا يكون هنالك محذوف أصلا وتكون الآية على حقيقتها، ويكون عابر السبيل هو المسافر الذي عدم الماء وهو جنب، فمن رأى أن في الآية محذوفا أجاز المرور للجنب في المسجد ومن لم ير ذلك لم يكن عنده في الآية دليل على منع الجنب الإقامة في المسجد وأما من منع العبور في المسجد فلا أعلم له دليلا إلا ظاهر ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا أحل المسجد لجنب ولا حائض" وهو حديث غير ثابت عند أهل الحديث، واختلافهم في الحائض في هذا المعنى هو اختلافهم في الجنب. @-(المسألة الثانية: مس الجنب المصحف) ذهب قوم إلى إجازته وذهب الجهمور إلى منعه، وهم الذين منعوا أن يمسه غير متوضئ. وسبب اختلافهم هو سبب اختلافهم في منع غير المتوضئ أن يمسه أعني قوله {لا يمسه إلا المطهرون} وقد ذكرنا سبب الاختلاف في الآية فيما تقدم، وهو بعينه سبب اختلافهم في منع الحائض مسه. @-(المسألة الثالثة: قراءة القرآن للجنب) اختلف الناس في ذلك، فذهب الجمهور إلى منع ذلك، وذهب قوم إلى إباحته، والسبب في ذلك الاحتمال المتطرق إلى حديث علي أنه قال "كان عليه الصلاة والسلام لا يمنعه من قراءة القرآن شيء إلا الجنابة" وذلك أن قوما قالوا: إن هذا لا يوجب شيئا، لأنه ظن من الراوي، ومن أين يعلم أحد أن ترك القراءة كان لموضع الجنابة إلا لو أخبره بذلك؟ والجمهور رأوا أنه لم يكن علي رضي الله عنه ليقول هذا عن توهم ولا ظن، وإنما قاله عن تحقق، وقوم جعلوا الحائض في هذا الاختلاف بمنزلة الجنب، وقوم فرقوا بينهما، فأجازوا للحائض القراءة القليلة استحسانا لطول مقامها حائضا، وهو مذهب مالك، فهذه هي أحكام الجنابة. @-(وأما أحكام الدماء الخارجة من الرحم) فالكلام المحيط بأصولها ينحصر في ثلاثة أبواب: الأول: معرفة أنواع الدماء الخارجة من الرحم. والثاني: معرفة العلامات التي تدل على انتقال الطهر إلى الحيض، والحيض إلى الطهر أو الاستحاضة، والاستحاضة أيضا إلى الطهر. والثالث: معرفة أحكام الحيض والاستحاضة: أعني موانعهما وموجباتهما. ونحن نذكر في كل باب من هذه الأبواب الثلاثة من المسائل ما يجري مجرى القواعد والأصول لجميع ما في هذا الباب على ما قصدنا إليه مما اتفقوا عليه واختلفوا فيه. 4*الباب الأول.

@-اتفق المسلمون على أن الدماء التي تخرج من الرحم ثلاثة: دم حيض، وهو الخارج على جهة الصحة، ودم استحاضة، وهو الخارج على جهة المرض، وأنه غير دم الحيض لقوله عليه الصلاة والسلام "إنما ذلك عرق وليس بالحيضة". ودم نفاس، وهو الخارج مع الولد. 4*الباب الثاني.

@-أما معرفة علامات انتقال هذه الدماء بعضها إلى بعض، وانتقال الطهر إلى الحيض، والحيض إلى الطهر، فإن معرفة ذلك في الأكثر تنبني على معرفة أيام الدماء المعتادة وأيام الأطهار، ونحن نذكر منها ما يجري مجرى الأصول وهي سبع مسائل: @-(المسألة الأولى) اختلف العلماء في أكثر أيام الحيض وأقلها وأقل أيام الطهر، فروي عن مالك أن أكثر أيام الحيض خمسة عشر يوما، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: أكثره عشرة أيام، وأما أقل أيام الحيض فلا حد لها عند مالك، بل قد تكون الدفعة الواحدة عنده حيضا، إلا أنه لا يعتد بها في الأقراء في الطلاق. وقال الشافعي: أقله يوم وليلة. وقال أبو حنيفة: أقله ثلاثة أيام. وأما أقل الطهر فاضطربت فيه الروايات عن مالك، فروي عنه عشرة أيام، وروي عنه ثمانية أيام، وروي خمسة عشر يوما، وإلى هذه الرواية مال البغدايون من أصحابه، وبها قال الشافعي وأبو حنيفة، وقيل سبعة عشر يوما، وهو أقصى ما انعقد عليه الإجماع فيما أحسب، وأما أكثر الطهر فليس له عندهم حد؛ وإذا كان هذا موضوعا من أوقاويلهم فمن كان لأقل الحيض عنده قدر معلوم وجب أن يكون ما كان أقل من ذلك القدر إذا ورد في سن الحيض عنده استحاضة، ومن لم يكن لأقل الحيض عنده قدر محدود وجب أن تكون الدفعة عنده حيضا، ومن كان أيضا عنده أكثره محدودا وجب أن يكون ما زاد على ذلك القدر عنده استحاضة، ولكن محصل مذهب مالك في ذلك أن النساء على ضربين: مبتدأة ومعتادة؛ فالمبتدأة تترك الصلاة برؤية أول دم تراه إلى تمام خمسة عشر يوما، فإن لم ينقطع صلت وكانت مستحاضة، وبه قال الشافعي، إلا أن مالكا قال تصلي من حين تتيقن الاستحاضة، وعند الشافعي أنها تعيد صلاة ما سلف لها من الأيام، إلا أقل الحيض عنده وهو يوم وليلة. وقيل عن مالك بل تعتد أيام لداتها ثم تستظهر بثلاثة ايام، فإن لم ينقطع الدم فهي مستحاضة. وأما المعتادة ففيها روايتان عن مالك: إحداهما بناؤها على عادتها وزيادة ثلاثة أيام ما لم تتجاوز أكثر مدة الحيض. والثانية جلوسها إلى انقضاء أكثر مدة الحيض، أو تعمل على التمييز إن كانت من أهل التمييز. وقال الشافعي: تعمل على أيام عادتها وهذه الأقاويل لها المختلف فيها عند الفقهاء في أقل الحيض وأكثره وأقل الطهر لا مستند لها إلا التجربة والعادة، وكل إنما قال من ذلك ما ظن أن التجربة أوقفته على ذلك ولاختلاف ذلك في النساء عسر أن يعرف بالتجربة حدود هذه الأشياء في أكثر النساء، ووقع في ذلك هذا الخلاف الذي ذكرنا وأجمعوا بالجملة على أن الدم إذا تمادى أكثر من مدة أكثر الحيض أنه استحاضة لقول رسول الله ﷺ الثابت لفاطمة بنت حبيش "فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهبت قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي" والمتجاوزة لأمد أكثر أيام الحيض قد ذهب عنها قدرها ضرورة وإنما صار الشافعي ومالك رحمه الله في المعتادة في إحدى الروايتين عنه إلى أنها تبني على عادتها لحديث أم سلمة الذي رواه في الموطأ "أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله ﷺ فقال لتنظر إلى عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصلي" فألحقوا حكم الحائض التي تشك في الاستحاضة بحكم المستحاضة التي تشك في الحيض. وإنما رأى أيضا في المبتدأة أن يعتبر أيام لداتها، لأن أيام لداتها شبيهة بأيامها فجعل حكمهما واحدا. وأما الاستظهار الذي قال به مالك بثلاثة أيام، فهو شيء انفرد به مالك وأصحابه رحمهم الله وخالفهم في ذلك جميع فقهاء الأمصار ما عدا الأوزاعي، إذ لم يكن لذلك ذكر في الأحاديث الثابتة، وقد روي في ذلك أثر ضعيف. @-(المسألة الثانية) ذهب مالك وأصحابه في الحائض التي تنقطع حيضتها، وذلك بأن تحيض يوما أو يومين، وتطهر يوما أو يومين إلى أنها تجمع أيام الدم بعضها إلى بعض وتلغي أيام الطهر وتغتسل في كل يوم ترى فيه الطهر أول ما تراه وتصلي، فإنها لا تدري لعل ذلك طهر فإذا اجتمع لها من أيام الدم خمسة عشر يوما فهي مستحاضة، وبهذا القول قال الشافعي. وروي عن مالك أيضا أنها تلفق أيام الدم وتعتبر ذلك أيام عادتها فإن ساوتها استظهرت بثلاثة أيام، فإن انقطع الدم وإلا فهي مستحاضة، وجعل الأيام التي لا تر فيها الدم غير معتبرة في العدد لا معنى له، فإنه لا تخلو تلك الأيام أن تكون أيام حيض أو أيام طهر، فإن كانت أيام حيض فيجب أن تلفقها إلى أيام الدم، وإن كانت أيام طهر فليس يجب أن تلفق أيام الدم، إذ كان قد تخللها طهر، والذي يجيء على أصوله أنها أيام حيض لا أيام طهر إذ أقل الطهر عنده محدود وهو أكثر من اليوم واليومين فتدبر هذا فإنه بين إن شاء الله تعالى. والحق أن دم الحيض ودم النفاس يجري ثم ينقطع يوما أو يومين ثم يعود حتى تنقضي أيام الحيض أو أيام النفاس كما تجري ساعة أو ساعتين من النهار ثم تنقطع. @-(المسألة الثالثة) اختلفوا في أقل النفاس وأكثره؛ فذهب مالك إلى أنه لا حد لأقله، وبه قال الشافعي؛ وذهب أبو حنيفة وقوم إلى أنه محدود، فقال أبو حنيفة: هو خمسة وعشرون يوما، وقال أبو يوسف صاحبه: أحد عشر يوما، وقال الحسن البصري: عشرون يوما. وأما أكثره فقال مالك مرة: هو ستون يوما، ثم رجع عن ذلك فقال: يسأل عن ذلك النساء، وأصحابه ثابتون على القول الأول وبه قال الشافعي. وأكثر أهل العلم من الصحابة على أن أكثره أربعون يوما، وبه قال أبو حنيفة وقد قيل تعتبر المرأة في ذلك أيام أشباهها من النساء، فإذا جاوزتها فهي مستحاضة. وفرق قوم بين ولادة الذكر وولادة الأنثى، فقالوا: للذكر ثلاثون يوما وللأنثى أبعون يوما وسبب الخلاف عسر الوقوف على ذلك بالتجربة لاختلاف أحوال النساء في ذلك، ولأنه ليس هناك سنة يعمل عليها كالحال في اختلافهم في أيام الحيض والطهر. @-(المسألة الرابعة) اختلف الفقهاء قديما وحديثا هل الدم الذي ترى الحامل هو حيض أم استحاضة؟ فذهب مالك والشافعي في أصح قوليه وغيرهما إلى أن الحامل تحيض؛ وذهب أبو حنيفة وأحمد والثوري وغيرهم إلى أن الحامل لا تحيض، وأن الدم الظاهر لها دم فساد وعلة، إلا أن يصيبها الطلق، فأجمعوا على أنه دم نفاس، وأن حكمه حكم الحيض في منعه الصلاة وغير ذلك من أحكامه، ولمالك وأصحابه في معرفة انتقال الحائض الحامل إذا تمادى بها الدم من حكم الحيض إلى حكم الاستحاضة أقوال مضطربة: أحدها أن حكمها حكم الحائض نفسها؛ أعني إما أن تقعد أكثر أيام الحيض ثم هي مستحاضة، وإما أن تستظهر على أيامها المعتادة بثلاثة أيام ما لم يكن مجموع ذلك أكثر من خمسة عشر يوما، وقيل إنها تقعد حائضا ضعف أكثر أيام الحيض، وقيل إنها تضعف أكثر أيام الحيض بعدد الشهور التي مرت لها ففي الشهر الثاني من حملها تضعف أيام أكثر الحيض مرتين، وفي الثالث ثلاث مرات وفي الرابع أربع مرات وكذلك ما زادت الأشهر. وسبب اختلافهم في ذلك عسر الوقوف على ذلك بالتجربة واختلاط الأمرين، فإنه مرة يكون الدم الذي تراه الحامل دم حيض، وذلك إذا كانت قوة المرأة وافرة والجنين صغيرا، وبذلك أمكن أن يكون حمل على حمل على ما حكاه بقراط وجالينوس وسائر الأطباء، ومرة يكون الدم الذي تراه الحامل لضعف الجنين ومرضه التابع لضعفها ومرضها في الأكثر، فيكون دم علة ومرض، وهو في الأكثر دم علة. @-(المسألة الخامسة) اختلف الفقهاء في الصفرة والكدرة هل هي حيض أم لا؟ فرأت جماعة أنها حيض في أيام الحيض، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، وروي مثل ذلك عن مالك. وفي المدونة عنه: أن الصفرة والكدرة حيض في أيام الحيض وفي غير أيام الحيض رأت ذلك مع الدم أم لم تره. وقال داود وأبو يوسف: إن الصفرة والكدرة لا تكون حيضة إلا بأثر الدم. والسبب في اختلافهم مخالفة ظاهر حديث أم عطية لحديث عائشة، وذلك أنه روي عن أم عطية أنها قالت: كنا لا نعد الصفرة ولا الكدرة بعد الغسل شيئا، وروي عن عائشة: أن النساء كن يبعثن إليها بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة والكدرة من دم الحيض يسألنها عن الصلاة؛ فتقول: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء، فمن رجح حديث عائشة جعل الصفرة والكدرة حيضا، سواء ظهرت في أيام الحيض أو في غير أيامه مع الدم أو بلا دم، فإن حكم الشيء الواحد في نفسه ليس يختلف، ومن رام الجمع بين الحديثين قال: إن حديث أم عطية هو بعد انقطاع الدم، وحديث عائشة في أثر انقطاعه، أو إن حديث عائشة هو في أيام الحيض، وحديث أم عطية في غير أيام الحيض. وقد ذهب قوم إلى ظاهر حديث أم عطية ولم يروا الصفرة ولا الكدرة شيئا لا في أيام حيض ولا في غيرها، ولا بأثر الدم ولا بعد انقطاعه، لقول رسول الله ﷺ "دم الحيض دم أسود يعرف" ولأن الصفرة والكدرة ليست بدم، وإنما هي من سائر الرطوبات التي ترخيها الرحم، وهو مذهب أبي محمد بن حزم. @-(المسألة السادسة) اختلف الفقهاء في علامة الطهر، فرأى قوم أن علامة الطهر رؤية القصة البيضاء أو الجفوف، وبه قال ابن حبيب من أصحاب مالك وسواء كانت المرأة ممن عادتها أن تطهر بالقصة البيضاء أو بالجفوف أي ذلك رأت طهرت به. وفرق قوم فقالوا: إن كانت المرأة ممن ترى القصة البيضاء فلا تطهر حتى تراها، وإن كانت ممن لا تراها فطهرها الجفوف، وذلك في المدونة عن مالك. وسبب اختلافهم أن منهم من راعى العادة ومنهم من راعى انقطاع الدم فقط، وقد قيل إن التي عادتها الجفوف تطهر بالقصة البيضاء ولا تطهر التي عادتها القصة البيضاء بالجفوف وقد قيل بعكس هذا وكله لأصحاب مالك. @-(المسألة السابعة) اختلف الفقهاء في المستحاضة إذا تمادى بها الدم متى يكون حكمها حكم الحائض، كما اختلفوا في الحائض إذا تمادى بها الدم متى يكون حكمها حكم المستحاضة، وقد تقدم ذلك، فقال مالك في المستحاضة أبدأ: حكمها حكم الطاهرة إلى أن يتغير الدم إلى صفة الحيض، وذلك إذا مضى لاستحاضتها من الأيام ما هو أكثر من أقل أيام الطهر، فحينئذ تكون حائضا: أعني إذا اجتمع لها هذان الشيئان تغير الدم وأن يمر لها في الاستحاضة من الأيام ما يمكن أن يكون طهرا، وإلا فهي مستحاضة أبدا. وقال أبو حنيفة تقعد أيام عادتها إن كانت لها عادة، وإن كانت مبتدأة قعدت أكثر الحيض وذلك عنده عشرة أيام. وقال الشافعي تعمل على التمييز إن كانت من أهل التمييز، وإن كانت من أهل العادة عملت على العادة، وإن كانت من أهلهما معا فله في ذلك قولان: أحدهما تعمل على التمييز، والثاني على العادة. والسبب في اختلافهم أن في ذلك حديثين مختلفين أحدهما حديث عائشة عن فاطمة بنت أبي حبيش "أن النبي عليه الصلاة والسلام أمرها وكانت مستحاضة أن تدع الصلاة قدر أيامها التي كانت تحيض فيها قبل أن يصيبها الذي أصابها ثم تغتسل وتصلي" وفي معناه أيضا حديث أم سلمة المتقدم الذي خرجه مالك، والحديث الثاني ما خرجه أبو داود من حديث فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت استحيضت فقال لها رسول الله ﷺ "إن دم الحيضة أسود يعرف، فإذا كان ذلك فامكثي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضيء وصلي فإنما هو عرق" وهذا الحديث صححه أبو محمد بن حزم، فمن هؤلاء من ذهب مذهب الترجيح، ومنهم من ذهب مذهب الجمع، فمن ذهب مذهب ترجيح حديث أم سلمة وما ورد في معناه قال باعتبار الأيام، ومالك رضي الله عنه اعتبر عدد الأيام فقط في الحائض التي تشك في الاستحاضة، ولم يعتبرها في المستحاضة التي تشك في الحيض، أعني لا عددها ولا موضعها من الشهر إذا كان عندها ذلك معلوما، والنص إنما جاء في المستحاضة التي تشك في الحيض، فاعتبر الحكم في الفرع، ولم يعتبره في الأصل وهذا غريب فتأمله. ومن رجح حديث فاطمة بنت أبي حبيش قال باعتبار اللون، ومن هؤلاء من راعى مع اعتبار لون الدم مضي ما يمكن أن يكون طهرا من أيام الاستحاضة، وهو قول مالك فيما حكاه عبد الوهاب. ومنهم من لم يراع ذلك. ومن جمع بين الحديثين قال: الحديث الأول هو في التي تعرف عدد أيامها من الشهر وموضعها. والثاني في التي لا تعرف عددها ولا موضعها وتعرف لون الدم، ومنهم من رأى أنها إن لم تكن من أهل التمييز ولا تعرف موضع أيامها من الشهر وتعرف عددها أو لا تعرف عددها إنها تتحرى على حديث حمنة بنت جحش، صححه الترمذي، وفيه أن رسول الله ﷺ قال لها "إنما هي ركضة من الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي" وسيأتي الحديث بكماله عند حكم المستحاضة في الطهر، فهذه هي مشهورات المسائل التي في هذا الباب، وهي بالجملة واقعة في أربعة مواضع: أحدها معرفة انتقال الطهر إلى الحيض. والثاني معرفة انتقال الحيض إلى الطهر. والثالث معرفة انتقال الحيض إلى الاستحاضة. والرابع معرفة انتقال الاستحاضة إلى الحيض، وهو الذي وردت فيه الأحاديث. وأما الثلاثة فمسكوت عنها: أعني عن تحديدها، وكذلك الأمر في انتقال النفاس إلى الاستحاضة. 4*الباب الثالث. وهو معرفة أحكام الحيض والاستحاضة.

@-والأصل في هذا الباب قوله تعالى {ويسئلونك عن المحيض} الآية، والأحاديث الواردة في ذلك التي سنذكرها. واتفق المسلمون على أن الحيض يمنع أربعة أشياء: أحدها فعل الصلاة ووجوبها، أعني أنه ليس يجب على الحائض قضاؤها بخلاف الصوم. والثاني أنه يمنع فعل الصوم لا قضاءه، وذلك لحديث عائشة الثابت أنها قالت: "كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" وإنما قال بوجوب القضاء عليها طائفة من الخوارج. والثالث فيما أحسب الطواف لحديث عائشة الثابت حين أمرها رسول الله ﷺ أن تفعل كل ما يفعل الحاج غير الطواف بالبيت. والرابع الجماع في الفرج لقوله تعالى {فاعتزلوا النساء في المحيض} الآية. @-(واختلفوا من أحكامها في مسائل) نذكر منها مشهوراتها، وهي خمس: @-(المسألة الأولى) اختلف الفقهاء في مباشرة الحائض وما يستباح منها، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: له منها ما فوق الإزار فقط. وقال سفيان الثوري وداود الظاهري: إنما يجب عليه أن يجتنب موضع الدم فقط. وسبب اختلافهم ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك، والاحتمال الذي في مفهوم آية الحيض، وذلك أنه ورد في الأحاديث الصحاح عن عائشة وميمونة وأم سلمة أنه عليه الصلاة والسلام كان يأمر إذا كانت إحداهن حائضا أن تشد عليها إزارها ثم يباشرها، وورد أيضا من حديث ثابت بن قيس عن النبي ﷺ أنه قال "اصنعوا كل شيء بالحائض إلا النكاح" وذكر أبو داود عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال لها وهي حائض "اكشفي عن فخذك، قالت: فكشفت، فوضع خده وصدره على فخذي، وحنيت عليه حتى دفئ، وكان قد أوجعه البرد. وأما الاحتمال الذي في آية الحيض، فهو تردد قوله تعالى {قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض} بين أن يحمل على عمومه إلا ما خصصه الدليل، أو أن يكون من باب العام أريد به الخاص، بدليل قوله تعالى فيه {قل هو أذى} والأذى إنما يكون في موضع الدم، فمن كان المفهوم منه عنده العموم، أعني أنه إذا كان الواجب عنده أن يحمل هذا القول على عمومه حتى يخصصه الدليل، استثنى من ذلك ما فوق الإزار بالسنة، إذ المشهور جواز تخصيص الكتاب بالسنة عند الأصوليين، ومن كان عنده من باب العام أريد به الخاص رجح هذه الآية على الآثار المانعة مما تحت الإزار، وقوي ذلك عنده بالآثار المعارضة للآثار المانعة مما تحت الإزار، ومن الناس من رام الجمع بين هذه الآثار، وبين مفهوم الآية على هذا المعنى الذي نبه عليه الخطاب الوارد فيها وهو كونه أذى، فحمل أحاديث المنع لما تحت الإزار على الكراهية وأحاديث الإباحة، ومفهوم الآية على الجواز، ورجحوا تأويلهم هذا بأنه قد دلت السنة أنه ليس من جسم الحائض شيء نجس إلا موضع الدم وذلك "أن رسول الله ﷺ سأل عائشة أن تناوله الخمرة وهي حائض، فقالت: إني حائض، فقال عليه الصلاة والسلام: إن حيضتك ليست في يدك" وما ثبت أيضا من ترجيلها رأسه عليه الصلاة والسلام وهي حائض، وقوله عليه الصلاة والسلام "إن المؤمن لا ينجس". @-(المسألة الثانية) اختلفوا في وطء الحائض في طهرها وقبل الاغتسال، فذهب مالك والشافعي والجمهور إلى أن ذلك لا يجوز حتى تغتسل، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن ذلك جائز إذا طهرت لأكثر مدة الحيض وهو عنده عشرة أيام، وذهب الأوزاعي إلى أنها إن غسلت فرجها بالماء جاز وطؤها، أعني كل حائض طهرت متى طهرت، وبه قال أبو محمد بن حزم. وسبب اختلافهم الاحتمال الذي في قوله تعالى {فإذا تطهرن فاتوهن من حيث أمركم الله} هل المراد به الطهر الذي هو انقطاع دم الحيض أم الطهر بالماء؟ ثم إن كان الطهر بالماء، فهل المراد به طهر جميع الجسد أم طهر الفرج؟ فإن الطهر في كلام العرب وعرف الشرع اسم مشترك يقال على هذه الثلاثة المعاني، وقد رجح الجمهور مذهبهم بأن صيغة التفعل إنما تنطلق على ما يكون من فعل المكلفين، لا على ما يكون من فعل غيرهم، فيكون قوله تعالى {فإذا تطهرن} أظهر في معنى الغسل بالماء منه في الطهر الذي هو انقطاع الدم، والأظهر يجب المصير إليه حتى يدل الدليل على خلافه، ورجح أو حنيفة مذهبه بأن لفظ يفعلن في قوله تعالى {حتى يطهرن} هو أظهر في الطهر الذي هو انقطاع دم الحيض منه في التطهر بالماء. والمسألة كما ترى محتملة، ويجب على من فهم من لفظ الطهر في قوله تعالى {حتى يطهرن} معنى واحدا من هذه المعاني الثلاثة أن يفهم ذلك المعنى بعينه من قوله تعالى {فإذا تطهرن} لأنه مما ليس يمكن أو مما يعسر أن يجمع في الآية بين معنيين من هذه المعاني مختلفين حتى يفهم من لفظه يطهرن النقاء، ويفهم من لفظ تطهرن الغسل بالماء على ما جرت به عادة المالكيين في الاحتجاج لمالك، فإنه ليس من عادة العرب أن يقولوا لا تعط فلانا درهما حتى يدخل الدار، فإذا دخل المسجد فأعطه درهما، بل إنما يقولون وإذا دخل الدار فأعطه درهما، لأن الجملة الثانية هي مؤكدة لمفهوم الجملة الأولى. ومن تأول قوله تعالى {ولا تقربوهن حتى يطهرن} على أنه النقاء، وقوله {فإذا تطهرن} على أنه الغسل بالماء فهو بمنزلة من قال لا تعط فلانا درهما حتى يدخل الدار، فإذا دخل المسجد فأعطه درهما، وذلك غير مفهوم في كلام العرب، إلا أن يكون هنالك محذوف ويكون تقدير الكلام: ولا تقربوهن حتى يطهرن ويتطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، وفي تقدير هذا الحذف بعد أما ولا دليل عليه إلا أن يقول قائل: ظهور لفظ التطهر في معنى الاغتسال هو الدليل عليه، لكن هذا يعارضه ظهور عدم الحذف في الآية، فإن الحذف مجاز، وحمل الكلام على الحقيقة أظهر من حمله على المجاز، وكذلك فرض المجتهد هنا إذا انتهى بنظره إلى مثل هذا الموضع أن يوازن بين الظاهرين، فما ترجح عنده منهما على صاحبه عمل عليه، وأعني بالظاهرين أن يقايس بين ظهور لفظ فإذا تطهرن في الاغتسال بالماء وظهور عدم الحذف في الآية إن أحب أن يحمل لفظ تطهرن على ظاهره من النقاء، فأي الظاهرين كان عنده أرجح عمل عليه، أعني إما أن لا يقدر في الآية حذفا ويحمل لفظ فإذا تطهرن على النقاء أو يقدر في الآية حذفا ويحمل لفظ فإذا تطهرن على الغسل بالماء، أو يقايس بين ظهور لفظ فإذا تطهرن في الاغتسال وظهور يطهرن في النقاء، فأي كان عنده أظهر أيضا صرف تأويل اللفظ الثاني له وعمل على أنهما يدلان في الآية على معنى واحد، أعني إما على معنى النقاء وإما على معنى الاغتسال بالماء، وليس في طباع النظر الفقهي أن ينتهي في هذه الأشياء إلى أكثر من هذا فتأمله، وفي مثل هذه الحال يسوغ أن يقال: كل مجتهد مصيب. وأما اعتبار أبي حنيفة أكثر الحيض في هذه المسألة فضعيف. @-(المسألة الثالثة) اختلف الفقهاء في الذي يأتي امرأته وهي حائض، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: يستغفر الله ولا شيء عليه. وقال أحمد بن حنبل: يتصدق بدينار أو بنصف دينار. وقالت فرقة من أهل الحديث: إن وطئ في الدم فعليه دينار، وإن وطئ في انقطاع الدم فنصف دينار. وسبب اختلافهم في ذلك اختلافهم في صحة الأحاديث الواردة في ذلك أو وهيها، وذلك أنه روي عن ابن عباس عن النبي ﷺ في الذي يأتي امرأته وهي حائض أن يتصدق بدينار. وروي عنه بنصف دينار. وكذلك روي أيضا في حديث ابن عباس هذا أنه إن وطئ في الدم فعليه دينار، وإن وطئ في انقطاع الدم فنصف دينار. وروي هذا الحديث يتصدق بخمسي دينار، وبه قال الأوزاعي، فمن صح عنده شيء من هذه الأحاديث صار إلى العمل بها، ومن لم يصح عنده شيء منها وهم الجمهور عمل على الأصل الذي هو سقوط الحكم حتى يثبت بدليل. @-(المسألة الرابعة) اختلف العلماء في المستحاضة، فقوم أوجبوا عليها طهرا واحدا فقط، وذلك عند ما ترى أنه قد انقضت حيضتها بإحدى تلك العلامات التي تقدمت على حسب مذهب هؤلاء في تلك العلامات، وهؤلاء الذين أوجبوا عليها طهرا واحدا انقسموا قسمين: فقوم أوجبوا عليها أن تتوضأ لكل صلاة، وقوم استحبوا ذلك لها ولم يوجبوه عليها، والذين أوجبوا عليها طهرا واحد فقط هم مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وأكثر فقهاء الأمصار، وأكثر هؤلاء أوجبوا أن تتوضأ لكل صلاة، وبعضهم لم يوجب عليها إلا استحبابا وهو مذهب مالك، وقوم آخرون غير هؤلاء رأوا أن على المستحاضة أن تتطهر لكل صلاة، وقوم رأوا أن الواجب أن تؤخر الظهر إلى أول العصر، ثم تتطهر وتجمع بين الصلاتين، وكذلك تؤخر المغرب إلى آخر وقتها وهو أول وقت العشاء، وتتطهر طهرا ثانيا وتجمع بينهما ثم تتطهر طهرا ثالثا لصلاة الصبح، فأوجبوا عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة، وقوم رأوا أن عليها طهرا واحدا في اليوم والليلة، ومن هؤلاء من لم يحد له وقتا، وهو مروي عن علي. ومنهم من رأى أن تتطهر من طهر إلى طهر، فيتحصل في المسألة بالجملة أربعة أقوال: قول إنه ليس عليها إلا طهرا واحد فقط عند انقطاع دم الحيض. وقول إن عليها الطهر لكل صلاة. وقول إن عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة. وقول إن عليها طهرا واحدا في اليوم والليلة. والسبب في اختلافهم في هذه المسألة هو اختلاف ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك، وذلك أن الوارد في ذلك من الأحاديث المشهورة أربعة أحاديث: واحد منها متفق على صحته، وثلاثة مختلف فيها. أما المتفق على صحته فحديث عائشة قالت "جاءت فاطمة ابنة أبي حبيش إلى رسول الله ﷺ فقالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال لها عليه الصلاة والسلام: لا، إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي" وفي بعض روايات هذا الحديث "وتوضئي لكل صلاة" وهذه الزيادة لم يخرجها البخاري ولا مسلم، وخرجها أبو داود وصححها قوم من أهل الحديث. والحديث الثاني حديث عائشة عن أم حبيبة بنت جحش امرأة عبد الرحمن بن عوف "أنها استحاضت فأمرها رسول الله ﷺ أن تغتسل لكل صلاة" وهذا الحديث هكذا أسنده إسحاق عن الزهري، وأما سائر أصحاب الزهري فإنما رووا عنه: أنها استحيضت، فسألت رسول الله ﷺ فقال لها: "إنما هو عرق وليست بالحيضة" وأمرها أن تغتسل وتصلي، فكانت تغتسل لكل صلاة على أن ذلك هو الذي فهمت منه، لا أن ذلك منقول من لفظه عليه الصلاة والسلام ، ومن هذا الطريق خرجه البخاري، وأما الثالث فحديث أسماء بنت عميس "أنها قالت: يا رسول الله إن فاطمة ابنة أبي حبيش استحيضت، فقال رسول الله ﷺ : لتغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا، وللمغرب والعشاء غسلا واحدا، وتغتسل للفجر وتتوضأ فيما بين ذلك" خرجه أبو داود، وصححه أبو محمد بن حزم. وأما الرابع فحديث حمنة ابنة جحش، وفيه "أن رسول الله ﷺ خيرها بين أن تصلي الصلوات بطهر واحد عند ما ترى أنه قد انقطع دم الحيض، وبين أن تغتسل في اليوم والليلة ثلاث مرات على حديث أسماء بنت عميس، إلا أن هنالك ظاهره على الوجوب وهنا على التخيير، فلما اختلفت ظواهر هذه الأحاديث ذهب الفقهاء في تأويلها أربعة مذاهب: مذهب النسخ، ومذهب الترجيح، ومذهب الجمع، ومذهب البناء، والفرق بين الجمع والبناء أن الباني ليس يرى أن هنالك تعارضا فيجمع بين الحديثين، وأما الجامع فهو يرى أن هنالك تعارضا في الظاهر، فتأمل هذا، فإنه فرق بين. أما من ذهب مذهب الترجيح فمن أخذ بحديث فاطمة بنة حبيش لمكان الاتفاق على صحته عمل على ظاهره، أعني من أنه لم يأمرها ﷺ أن تغتسل لكل صلاة ولا أن تجمع بين الصلوات بغسل واحد، ولا بشيء من تلك المذاهب، وإلى هذا ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحاب هؤلاء وهم الجمهور، ومن صحت عنده من هؤلاء الزيادة الواردة فيه، وهو الأمر بالوضوء لكل صلاة أوجب ذلك عليها، ومن لم تصح عنده لم يوجب ذلك عليها، وأما من ذهب مذهب البناء فقال: إنه ليس بين حديث فاطمة وحديث أم حبيبة الذي من رواته ابن إسحاق تعارض أصلا، وأن الذي في حديث أم حبيبة من ذلك زيادة على ما في حديث فاطمة، فإن حديث فاطمة إنما وقع الجواب فيه عن السؤال، هل ذلك الدم حيض يمنع الصلاة أم لا؟ فأخبرها عليه الصلاة والسلام أنها ليست بحيضة تمنع الصلاة ولم يخبرها فيه بوجوب الطهر أصلا لكل صلاة ولا عند انقطاع دم الحيض؛ وفي حديث أم حبيبة أمرها بشيء واحد وهو التطهر لكل صلاة، لكن للجمهور أن يقولوا إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فلو كان واجبا عليها الطهر لكل صلاة لأخبرها بذلك، ويبعد أن يدعى مدع أنها كانت تعرف ذلك مع أنها كانت تجهل الفرق بين الاستحاضة والحيض. وأما تركه عليه الصلاة والسلام إعلامها بالطهر لواجب عليها عند انقطاع دم الحيض، فمضمن في قوله" إنها ليست بالحيضة" لأنه كان معلوما من سنته عليه الصلاة والسلام أن انقطاع الحيض يوجب الغسل، فإذا إنما لم يخبرها بذلك لأنها كانت عالمة به، وليس الأمر كذلك في وجوب الطهر لكل صلاة إلا أن يدعي مدع أن هذه الزيادة لم تكن قبل ثابتة وتثبت بعد، فيتطرق إلى ذلك المسألة المشهورة، هي الزيادة نسخ أم لا؟ وقد روي في بعض طرق حديث فاطمة أمره عليه الصلاة والسلام لها بالغسل، فهذا هو حال من ذهب مذهب الترجيح ومذهب البناء، وأما من ذهب مذهب النسخ فقال: إن حديث أسماء بنت عميس ناسخ لحديث أم حبيبة، واستدل على ذلك بما روي عن عائشة "أن سهلة بنت سهيل استحيضت وأن رسول الله ﷺ كان يأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر في غسل واحد والمغرب والعشاء في غسل واحد وتغتسل ثالثا للصبح" وأما الذين ذهبوا مذهب الجمع فقالوا: إن حديث فاطمة ابنة حبيش محمول على التي تعرف أيام الحيض من أيام الاستحاضة، وحديث أم حبيبة محمول على التي لا تعرف ذلك، فأمرت بالطهر في كل وقت احتياطا للصلاة، وذلك أن هذه إذا قامت إلى الصلاة يحتمل أن تكون طهرت فيجب عليها أن تغتسل لكل صلاة. وأما حديث أسماء ابنة عميس فمحمول على التي لا يتميز لها أيام الحيض من أيام الاستحاضة، إلا أنه قد ينقطع عنها في أوقات فهذه إذا انقطع عنها الدم وجب عليها أن تغتسل وتصلي بذلك الغسل صلاتين. وهنا قوم ذهبوا مذهب التخيير بين حديثي أم حبيبة وأسماء واحتجوا لذلك بحديث حمنة بنت جحش وفيه "أن رسول الله ﷺ خيرها" وهؤلاء منهم من قال: إن المخيرة هي التي لا تعرف أيام حيضتها. ومنهم من قال: بل هي المستحاضة على الإطلاق عارفة كانت أو غير عارفة، وهذا هو قول خامس في المسألة، إلا أن الذي في حديث حمنة ابنة جحش إنما هو التخيير بين أن تصلي الصلوات كلها بطهر واحد، وبين أن تتطهر في اليوم والليلة ثلاث مرات. وأما من ذهب إلى أن الواجب أن تطهر في كل يوم مرة واحدة، فلعله إنما أوجب ذلك عليها لمكان الشك ولست أعلم في ذلك أثرا. @-(المسألة الخامسة) اختلف العلماء في جواز وطء المستحاضة على ثلاثة أقوال: فقال قوم: يجوز وطؤها، وهو الذي عليه فقهاء الأمصار، وهو مروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وجماعة من التابعين. وقال قوم ليس يجوز وطؤها، وهو مروي عن عائشة، وبه قال النخعي والحكم. وقال قوم: لا يأتيها زوجها إلا أن يطول ذلك بها، وبهذا القول قال أحمد بن حنبل. وسبب اختلافهم هل إباحة الصلاة لها هي رخصة لمكان تأكيد وجوب الصلاة، أم إنما أبيحت لها الصلاة لأن حكمها حكم الطاهر؟ فمن رأى أن ذلك رخصة لم يجز لزوجها أن يطأها، ومن رأى ذلك لأن حكمها حكم الطاهر أباح لها ذلك، وهي بالجملة مسألة مسكوت عنها. وأما التفريق بين الطول ولا طول فاستحسان. 3*كتاب التيمم.

@-والقول المحيط بأصول هذا الكتاب يشتمل بالجملة على سبعة أبواب: الباب الأول في معرفة الطهارة التي هذه الطهارة بدل منها. الثاني: معرفة من تجوز له هذه الطهارة. الثالث: في معرفة شروط جواز هذه الطهارة. الرابع: في صفة هذه الطهارة. الخامس: فيما تصنع به هذه الطهارة. السادس: في نواقض الطهارة. السابع: في الأشياء التي هذه الطهارة شرط في صحتها أو في استباحتها. 4*الباب الأول في معرفة الطهارة التي هذه الطهارة بدل منها.

@-اتفق العلماء على أن هذه الطهارة هي بدل من الطهارة الصغرى، واختلفوا في الكبرى، فروى عن عمر وابن مسعود أنهما كانا لا يريانها بدلا من الكبرى، وكان علي وغيره من الصحابة يرون أن التيمم يكون بدلا من الطهارة الكبرى، وبه قال عامة الفقهاء. والسبب في اختلافهم الاحتمال الوارد في آية التيمم، وأنه لم تصح عندهم الآثار الواردة بالتيمم للجنب، أما الاحتمال الوارد في الآية فلأن قوله تعالى {فلم تجدوا ماء فتيمموا} يحتمل أن يعود الضمير الذي فيه على المحدث حدثا أصغر فقط، ويحتمل أن يعود عليهما معا، لكن من كانت الملامسة عنده في الآية الجماع فالأظهر أنه عائد عليهما معا، و من كانت الملامسة عنده هي اللمس باليد، أعني قوله تعالى {أو لامستم النساء} فالأظهر أنه إنما يعود الضمير عنده على المحدث حدثا أصغر فقط، إذ كانت الضمائر إنما يحمل أبدا عودها على أقرب مذكور إلا أن يقدر في الآية تقديما وتأخير حتى يكون تقديرها هكذا يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين، وإن كنتم جنبا فاطهروا: وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا. ومثل هذا ليس ينبغي أن يصار إليه إلا بدليل، فإن التقديم والتأخير مجاز وحمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز، وقد يظن أن في الآية شيئا يقتضي تقديما وتأخيرا، وهو أن حملها على ترتيبها يوجب أن المرض والسفر حدثان، لكن هذا لا يحتاج إليه إذا قدرت أو ههنا بمعنى الواو، وذلك موجود في كلام العرب في مثل قول الشاعر: وكان سيان أن لا يسرحوا نعما * أو يسرحوه بها واغبرت السرح فإنه إنما يقال: سيان زيد وعمرو. وهذا هو أحد الأسباب التي أوجبت الخلاف في هذه المسألة. وأما ارتيابهم في الآثار التي وردت في هذا المعنى فبين مما خرجه البخاري ومسلم: أن رجلا أتى عمر رضي الله عنه فقال: أجنبت فلم أجد الماء، فقال: لا تصل، فقال عمار: أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد الماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت، فقال النبي ﷺ: إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك، فقال عمر: اتق الله يا عمار، فقال: إن شئت لم أحدث به" وفي بعض الروايات: أنه قال له عمر: نوليك ما توليت وخرج مسلم عن شقيق (1) قال: كنت جالسا مع عبد الله بن مسعود وأبي موسى فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن أرأيت لو أن رجلا أجنب فلم يجد الماء شهرا كيف يصنع بالصلاة؟ فقال عبد الله لأبي موسى: لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهرا، فقال أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة المائدة {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا} فقال عبد الله: لو رخص لهم في هذه الآية لأوشك إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد، فقال أبو موسى لعبد الله ألم تسمع لقول عمار؟ وذكر له الحديث المتقدم، فقال له عبد الله: ألم تر عمر لم يقنع بقول عمار؟ لكن الجمهور رأوا أن ذلك قد ثبت من حديث عمار وعمران بن الحصين، خرجهما البخاري، وإن نسيان عمر ليس مؤثرا في وجوب العمل بحديث عمار، وأيضا فإنهم استدلوا بجواز التيمم للجنب والحائض بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا". وأما حديث عمران بن الحصين فهو "أن رسول الله ﷺ رأى رجلا معتزلا لم يصل مع القوم فقال: يا فلان أما يكفيك أن تصلي مع القوم؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء فقال عليه الصلاة والسلام: عليك بالصعيد فإنه يكفيك" ولموضع هذا الاحتمال اختلفوا: هل لمن ليس عنده ماء أن يطأ أهله أم لا يطؤها؟ أعني من يجوز للجنب التيمم.

(1)"شقيق": الأصل غير واضح، والتصحيح من صحيح مسلم. دار الحديث] 4*الباب الثاني في معرفة من تجوز له الطهارة.

@-وأما من تجوز له هذه الطهارة، فأجمع العلماء أنها تجوز لاثنين: للمريض والمسافر إذا عدما الماء. واختلفوا في أربع: المريض يجد الماء ويخاف من استعماله، وفي الحاضر يعدم الماء، وفي الصحيح المسافر يجد الماء فيمنعه من الوصول إليه خوف، وفي الذي يخاف من استعماله من شدة البرد. فأما المريض الذي يجد الماء ويخاف من استعماله، فقال الجمهور: يجوز التيمم له؛ وكذلك الصحيح الذي يخاف الهلاك أو المرض الشديد من برد الماء، وكذلك الذي يخاف من الخروج إلى الماء، إلا أن معظمهم أوجب عليه الإعادة إذا وجد الماء، وقال عطاء: لا يتيمم المريض ولا غير المريض إذا وجد الماء. وأما الحاضر الصحيح الذي يعدم الماء، فذهب مالك والشافعي إلى جواز التيمم له، وقال أبو حنيفة: لا يجوز التيمم للحاضر الصحيح وإن عدم الماء، وسبب اختلافهم في هذه المسائل الأربع التي هي قواعد هذا الباب؛ أما في المريض الذي يخاف من استعمال الماء، فهو اختلافهم: هل في الآية محذوف مقدر في قوله تعالى {وإن كنتم مرضى أو على سفر} . فمن رأى أن في الآية حذفا وأن تقدير الكلام وإن كنتم مرضى لا تقدرون على استعمال الماء، وأن الضمير في قوله تعالى {فلم تجدوا ماء} إنما يعود على المسافر فقط أجاز التيمم للمريض الذي يخاف من استعمال الماء. ومن رأى أن الضمير في "فلم تجدوا ماء" يعود على المريض والمسافر معا وأنه ليس في الآية حذف لم يجز للمريض إذا وجد الماء التيمم. وأما سبب اختلافهم في الحاضر الذي يعدم الماء، فاحتمال الضمير الذي في قوله تعالى "فلم تجدوا ماء" أن يعود على أصناف المحدثين: أعني الحاضرين والمسافرين، أو على المسافرين فقط. فمن رآه عائدا على جميع أصناف المحدثين أجاز التيمم للحاضرين، ومن رآه عائدا على المسافرين فقط أو على المرضى والمسافرين لم يجز التيمم للحاضر الذي عدم الماء، وأما سبب اختلافهم في الخائف من الخروج إلى الماء، فاختلافهم في قياسه على من عدم الماء، وكذلك اختلافهم في الصحيح يخاف من برد الماء، السبب فيه هو اختلافهم في قياسه على المريض الذي يخاف من استعمال الماء، وقد رجح مذهبهم القائلون بجواز التيمم للمريض بحديث جابر في المجروح الذي اغتسل فمات، فأجاز عليه الصلاة والسلام المسح له وقال "قتلوه قتلهم الله" وكذلك رجحوا أيضا قياس الصحيح الذي يخاف من برد الماء على المريض بما روي أيضا في ذلك عن عمرو بن العاص أنه أجنب في ليلة باردة، فتيمم وتلا قول الله تعالى {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما} فذكر ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام فلم يعنف. 4*الباب الثالث في معرفة شروط جواز هذه الطهارة.

@-وأما معرفة شروط هذه الطهارة، فيتعلق بها ثلاث مسائل قواعد: إحداها: هل النية من شرط هذه الطهارة أم لا؟. والثانية: هل الطلب شرط في جواز التيمم عند عدم الماء أم لا؟. والثالثة: هل دخول الوقت شرط في جواز التيمم أم لا؟. @-(أما المسألة الأولى) فالجمهور على أن النية فيها شرط لكونها عبادة غير معقولة المعنى، وشذ زفر فقال: إن النية ليست بشرط فيها، وأنها لا تحتاج إلى نية، وقد روى ذلك أيضا عن الأوزاعي والحسن بن حي وهو ضعيف. @-(وأما المسألة الثانية) فإن مالكا رضي الله عنه اشترط الطلب وكذلك الشافعي، ولم يشترطه أبو حنيفة. سبب اختلافهم في هذا هو هل يسمى من لم يجد الماء دون طلب غير واجد للماء أم ليس يسمى غير واجد للماء إلا إذا طلب الماء فلم يجده؟ لكن الحق في هذا أن يعتقد أن المتيقن لعدم الماء إما بطلب متقدم وإما بغير ذلك هو عادم للماء، وأما الظان فليس بعادم للماء، ولذلك يضعف القول بتكرر الطلب الذي في المذهب في المكان الواحد بعينه ويقوى اشتراطه ابتداء إذا لم يكن هنالك علم قطعي بعدم الماء. @-(وأما المسألة الثالثة) وهو اشتراط دخول الوقت فمنهم من اشترطه وهو مذهب الشافعي ومالك، ومنهم من لم يشترطه، وبه قال أبو حنيفة وأهل الظاهر وابن شعبان من أصحاب مالك. وسبب اختلافهم هو: هل ظاهر مفهوم آية الوضوء يقتضي أن لا يجوز التيمم والوضوء إلا عند دخول الوقت لقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} الآية، فأوجب الوضوء والتيمم عند وجوب القيام إلى الصلاة، وذلك إذا دخل الوقت، فوجب لهذا أن يكون حكم الوضوء والتيمم في هذا حكم الصلاة، أعني أنه كما أن الصلاة من شرط صحتها الوقت، كذلك من شروط صحة الوضوء والتيمم الوقت، إلا أن الشرع خصص الوضوء من ذلك، فبقي التيمم على أصله أم ليس يقتضي هذا ظاهر مفهوم الآية، وأن تقدير قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة، وأيضا فإنه لو لم يكن هنالك محذوف لما كان يفهم من ذلك إلا إيجاب الوضوء والتيمم عند وجوب الصلاة فقط، لا أنه لا يجزئ إن وقع قبل الوقت إلا أن يقاسا على الصلاة، فلذلك الأولى أن يقال في هذا إن سبب الخلاف فيه هو قياس التيمم على الصلاة، لكن هذا يضعف، فإن قياسه على الوضوء أشبه، فتأمل هذه المسألة، فإنها ضعيفة، أعني من يشترط في صحته دخول الوقت ويجعله من العبادات المؤقتة، فإن التوقيت في العبادة لا يكون إلا بدليل سمعي، وإنما يسوغ القول بهذا إذا كان على رجاء من وجود الماء قبل دخول الوقت فيكون هذا ليس من باب أن هذه العبادة مؤقتة، لكن من باب أنه ليس ينطلق اسم الغير واجد للماء إلا عند دخول وقت الصلاة، لأنه ما لم يدخل وقتها أمكن أن يطرأ هو على الماء، ولذلك اختلف المذهب متى يتيمم؟، هل في أول الوقت أو في وسطه أو في آخره؟ لكن ههنا مواضع يعلم قطعا أن الإنسان ليس بطارئ على الماء فيها قبل دخول الوقت، ولا الماء بطارئ عليه. وأيضا فإن قدرنا طرو الماء فليس يجب عليه إلا نقض التيمم فقط لا منع صحته، وتقدير الطرو هو ممكن في الوقت وبعده، فلم جعل حكمه قبل دخول الوقت خلاف حكمه في الوقت أعني أنه قبل الوقت يمنع انعقاد التيمم، وبعد دخول الوقت لا يمنعه، وهذا كله لا ينبغي أن يصار إليه إلا بدليل سمعي، ويلزم على هذا أن لا يجوز التيمم إلا في آخر الوقت فتأمله. 4*الباب الرابع في صفة هذه الطهارة

@-وأما صفة هذه الطهارة فيتعلق بها ثلاث مسائل هي قواعد هذا الباب. @-(المسألة الأولى) اختلف الفقهاء في حد الأيدي التي أمر الله بمسحها في التيمم في قوله {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} على أربعة أقوال: القول الأول: أن الحد الواجب في ذلك هو الحد الواجب بعينه في الوضوء، وهو إلى المرافق، وهو مشهور المذهب، وبه قال فقهاء الأمصار. والقول الثاني: أن الفرض هو مسح الكف فقط، وبه قال أهل الظاهر وأهل الحديث. والقول الثالث: الاستحباب إلى المرفقين، والفرض الكفان، وهو مروي عن مالك. والقول الرابع: أن الفرض إلى المناكب، وهو شاذ روي عن الزهري ومحمد بن مسلمة. والسبب في اختلافهم اشتراك اسم اليد في لسان العرب، وذلك أن اليد في كلام العرب يقال على ثلاثة معان: على الكف فقط وهو أظهرها استعمالا، ويقال على الكف والذراع، ويقال على الكف والساعد والعضد. والسبب الثاني اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أن حديث عمار المشهور فيه من طرقه الثابتة "إنما يكفيك أن تضرب بيدك ثم تنفخ فيها ثم تمسح بها وجهك وكفيك". وورد في بعض طرقه أنه قال له عليه الصلاة والسلام "وأن تمسح بيديك إلى المرفقين". وروي أيضا عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين" وروي أيضا من طريق ابن عباس ومن طريق غيره؛ فذهب الجمهور إلى ترجيح هذه الأحاديث على حديث عمار الثابت من جهة عضد القياس لها: أعني من جهة قياس التيمم على الوضوء وهو بعينه حملهم على أن عدلوا بلفظ اسم اليد عن الكف الذي هو فيه أظهر إلى الكف والساعد، ومن زعم أنه ينطلق عليهما بالسواء، وأنه ليس في أحدهما أظهر منه في الثاني فقط أخطأ، فإن اليد وإن كانت اسما مشتركا فهي في الكف حقيقة، وفيما فوق الكف مجاز، وليس كل اسم مشترك هو مجمل، وإنما المشترك المجمل الذي وضع من أول أمره مشتركا، وفي هذا قال الفقهاء إنه لا يصح الاستدلال به، ولذلك ما نقول إن الصواب هو أن يعتقد أن الفرض إنما هو الكفان فقط، وذلك أن اسم اليد لا يخلو أن يكون في الكف أظهر منه في سائر الأجزاء أو يكون دلالته على سائر أجزاء الذراع والعضد بالسواء، فإن كان أظهر فيجب المصير إلى الأخذ بالأثر الثابت، فأما أن يغلب القياس ههنا على الأثر فلا معنى له، ولا أن ترجح به أيضا أحاديث لم تثبت بعد، فالقول في هذه المسألة بين من الكتاب والسنة فتأمله. وأما من ذهب إلى الآباط فإنما ذهب إلى ذلك، لأنه قد روي في بعض طرق حديث عمار أنه قال "تيممنا مع رسول الله ﷺ فمسحنا بوجوهنا وأيدينا إلى المناكب". ومن ذهب إلى أن يحمل تلك الأحاديث على الندب وحديث عمار على الوجوب فهو مذهب حسن إذ كان الجمع أولى من الترجيح عند أهل الكلام الفقهي، إلا أن هذا إنما ينبغي أن يصار إليه إن صحت تلك الأحاديث. @-(المسألة الثانية) اختلف العلماء في عدد الضربات على الصعيد للتيمم، فمنهم من قال واحدة، ومنهم من قال اثنتين، والذين قالوا اثنتين منهم من قال: ضربة للوجه وضربة لليدين، وهم الجمهور، وإذا قلت الجمهور فالفقهاء الثلاثة معدودون فيهم: أعني مالكا والشافعي وأبا حنيفة، ومنهم من قال: ضربتان لكل واحد منهما: أعني لليد ضربتان وللوجه ضربتان، والسبب في اختلافهم أن الآية مجملة في ذلك والأحاديث متعارضة، وقياس التيمم على الوضوء في جميع أحواله غير متفق عليه، والذي في حديث عمار الثابت من ذلك إنما هو ضربة واحدة للوجه والكفين معا، لكن ههنا أحاديث فيها ضربتان، فرجح الجمهور هذه الأحاديث لمكان قياس التيمم على الوضوء. @-(المسألة الثالثة) اختلف الشافعي مع مالك وأبي حنيفة وغيرهما في وجوب توصيل التراب إلى أعضاء التيمم، فلم ير ذلك أبو حنيفة واجبا ولا مالك، ورأى ذلك الشافعي واجبا. وسبب اختلافهم الاشتراك الذي في حرف "من" في قوله تعالى {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه} وذلك أن من قد ترد للتبعيض، وقد ترد لتمييز الجنس، فمن ذهب إلى أنها ههنا للتبعيض أوجب نقل التراب إلى أعضاء التيمم. ومن رأى أنها لتمييز الجنس قال: ليس النقل واجبا. والشافعي إنما رجح حملها على التبعيض من جهة قياس التيمم على الوضوء، لكن يعارضه حديث عمار المتقدم لأن فيه ثم تنفخ فيها، وتيمم رسول الله ﷺ على الحائط، وينبغي أن تعلم أن الاختلاف في وجوب الترتيب في التيمم ووجوب الفور فيه هو بعينه اختلافهم في ذلك في الوضوء وأسباب الخلاف هنالك هي أسبابه هنا فلا معنى لإعادته. 4*الباب الخامس فيما تصنع به هذه الطهارة.

@-وفيه مسألة واحدة، وذلك أنهم اتفقوا على جوازها بتراب الحرث الطيب، واختلفوا في جواز فعلها بما عدا التراب من أجزاء الأرض المتولدة عنها كالحجارة، فذهب الشافعي إلى أنه لا يجوز التيمم إلا بالتراب الخالص وذهب مالك وأصحابه إلى أنه يجوز التيمم بكل ما صعد على وجه الأرض من أجزائها في المشهور عنه الحصا والرمل والتراب. وزاد أبو حنيفة فقال: وبكل ما يتولد من الأرض من الحجارة مثل النورة والزرنيخ والجص والطين والرخام. ومنهم من شرط أن يكون التراب على وجه الأرض وهم الجمهور. وقال أحمد بن حنبل: يتمم بغبار الثوب واللبد. والسبب في اختلافهم شيئان: أحدهما اشتراك اسم ا لصعيد في لسان العرب، فإنه مرة يطلق على التراب الخالص، ومرة يطلق على جميع أجزاء الأرض الظاهرة، حتى إن مالكا وأصحابه حملهم دلالة اشتقاق هذا الاسم أعني الصعيد أن يجيزوا في إحدى الروايات عنهم التيمم على الحشيش وعلى الثلج، قالوا: لأنه يسمى صعيدا في أصل التسمية، أعني من جهة صعوده على الأرض، وهذا ضعيف. والسبب الثاني إطلاق اسم الأرض في جواز التيمم بها في بعض روايات الحديث المشهور، وتقييدها بالتراب في بعضها، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" فإن في بعض رواياته "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" وفي بعضها "جعلت لي الأرض مسجد وجعلت لي تربتها طهورا" وقد اختلف أهل الكلام الفقهي هل يقضي بالمطلق على المقيد أو بالمقيد على المطلق؟ والمشهور عندهم أن يقضي بالمقيد على المطلق وفيه نظر، ومذهب أبي محمد بن حزم أن يقضي بالمطلق على المقيد، لأن المطلق فيه زيادة معنى، فمن كان رأيه القضاء بالمقيد على المطلق وحمل اسم الصعيد الطيب على التراب لم يجز التيمم إلا بالتراب، ومن قضى بالمطلق على المقيد وحمل اسم الصعيد على كل ما على وجه الأرض من أجزائها أجاز التيمم بالرمل والحصى. وأما إجازة التيمم بما يتولد منها فضعيف إذ كان لا يتناوله اسم الصعيد فإن أعم دلالة اسم الصعيد أن يدل على ما تدل عليه الأرض، لا أن يدل على الزرنيخ والنورة، ولا على الثلج والحشيش، والله الموفق للصواب، والاشتراك الذي في اسم الطيب أيضا من أحد دواعي الخلاف. 4*الباب السادس في نواقض هذه الطهارة.

@-وأما نواقض هذه الطهارة فإنهم اتفقوا على أنه ينقضها ما ينقض الأصل الذي هو الوضوء أو الطهر، واختلفوا من ذلك في مسألتين: إحداهما هل ينقضها إرادة صلاة أخرى مفروضة غير المفروضة التي تيمم لها؟. والمسألة الثانية هل ينقضها وجود الماء أم لا؟. @-(أما المسألة الأولى) فذهب مالك فيها إلى أن إرادة الصلاة الثانية تنقض طهارة الأولى، ومذهب غيره خلاف ذلك. وأصل هذا الخلاف يدور على شيئين: أحدهما هل في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} محذوف مقدر: أعني إذا قمتم من النوم، أو قمتم محدثين، أم ليس هنالك محذوف أصلا؟ فمن راى أن لا محذوف هنالك قال: ظاهر الآية وجوب الوضوء أو التيمم عند القيام لكل صلاة، لكن خصصت السنة من ذلك الوضوء فيبقي التيمم على أصله، لكن لا ينبغي أن يحتج بهذا لمالك فإن مالكا يرى أن في الآية محذوفا على ما رواه عن زيد بن أسلم في موطئه. وأما السبب الثاني فهو تكرار الطلب عند دخول وقت كل صلاة وهذا هو ألزم لأصول مالك أعني أن يحتج له بهذا، وقد تقدم القول في هذه المسألة، ومن لم يتكرر عنده الطلب وقدر في الآية محذوفا لم ير إرادة الصلاة الثانية ما لم ينقض التيمم. @-(وأما المسألة الثانية) فإن الجمهور ذهبوا إلى أن وجود الماء ينقضها. وذهب قوم إلى أن الناقض لها هو الحدث، وأصل هذ الخلاف هل وجود الماء يرفع استصحاب الطهرة التي كانت بالتراب، أو يرفع ابتداء الطهارة به؟ فمن رى أنه يرفع ابتداء الطهارة به قال: لا ينقضها إلا الحدث. ومن رأى أنه يرفع استصحاب الطهارة قال: إنه ينقضها، فإن حد الناقض هو الرافع للاستصحاب، وقد احتج الجمهور لمذهبهم بالحديث الثابت، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ما لم يجد الماء" والحديث محتمل، فإنه يمكن أن يقال: إن قوله عليه الصلاة والسلام "ما لم يجد الماء" يمكن أن يفهم منه: فإذا وجد الماء انقطعت هذه الطهارة وارتفعت، ويمكن أن يفهم منه: فإذا وجد الماء لم تصح ابتداء هذه الطهارة، والأقوى في عضد الجمهور هو حديث أبي سعيد الخدري، وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قال "فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك" فإن الأمر محمول عند جمهور المتكلمين على الفور، وإن كان أيضا قد يتطرق إليه الاحتمال المتقدم فتأمل هذا. وقد حمل الشافعي تسليمه على أن وجود الماء يرفع هذه الطهارة أن قال: إن التيمم ليس رافعا للحدث: أي ليس مفيدا للمتيمم الطهارة الرافعة للحدث، وإنما هو مبيح للصلاة فقط مع بقاء الحدث، وهذا لا معنى له، فإن الله قد سماه طهارة، وقد ذهب قوم من أصحاب مالك هذا المذهب فقالوا: إن التيمم لا يرفع الحدث، لأنه لو رفعه لم ينقضه إلا الحدث. والجواب أن هذه الطهارة وجود الماء في حقها هو حدث خاص بها على القول بأن الماء ينقضها، واتفق القائلون بأن وجود الماء ينقضها على أنه ينقضها قبل الشروع في الصلاة وبعد الصلاة، واختلفوا هل ينقضها طروه في الصلاة؟ فذهب مالك والشافعي وداود إلى أنه لا ينقض الطهارة في الصلاة، وذهب أبو حنيفة وأحمد وغيرهما إلى أنه ينقض الطهارة في الصلاة وهم أحفظ للأصل، لأنه أمر غير مناسب الشرع أن يوجد شيء واحد لا ينقض الطهارة في الصلاة وينقضها في غير الصلاة، وبمثل هذا شنعوا على مذهب أبي حنيفة فيما يراه من أن الضحك في الصلاة ينقض الوضوء، مع أنه مستند في ذلك إلى الأثر فتأمل هذه المسألة فإنها بينة، ولا حجة في الظواهر التي يرام الاحتجاح بها بإرادته وإنما أبطلها طرو الماء كما لو أحدث. 4*الباب السابع في الأشياء التي هذه الطهارة شرط في صحتها أو في استباحتها

@-واتفق الجمهور على أن الأفعال التي هذه الطهارة شرط في صحتها هي الأفعال التي الوضوء شرط في صحتها من الصلاة ومس المصحف وغير ذلك، واختلفوا هل يستباح بها أكثر من صلاة واحدة فقط؟ فمشهور مذهب مالك أنه لا يستباح بها صلاتان مفروضتان أبدا، واختلف قوله في الصلاتين المقضيتين، والمشهور عنه أنه إذا كانت إحدى الصلاتين فرضا والأخرى نفلا أنه إذا قدم الفرض جمع بينهما، وإن قدم النفل لم يجمع بينهما. وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز الجمع بين صلوات مفروضة بتيمم واحد. وأصل هذا الخلاف هو: هل التيمم يجب لكل صلاة أم لا؟ إما من قبل ظاهر الآية كما تقدم، وإما من قبل وجوب تكرار الطلب، وإما من كليهما. 2*كتاب الطهارة من النجس.

@-والقول المحيط بأصول هذه الطهارة وقواعدها ينحصر في ستة أبواب. الباب الأول: في معرفة حكم هذه الطهارة: أعني في الوجوب أو في الندب إما مطلقا وإما من جهة أنها مشترطة في الصلاة. الباب الثاني: في معرفة أنواع النجاسات. الباب الثالث: في معرفة المحال التي يجب إزالتها عنها. الباب الرابع: في معرفة الشيء الذي تزال به. الباب الخامس: في صفة إزالتها في محل محل. الباب السادس: في آداب الإحداث. 3*الباب الأول في معرفة حكم هذه الطهارة.

@-والأصل في هذا الباب إما من الكتاب، فقوله تعالى {وثيابك فطهر} وإما من السنة، فآثار كثيرة ثابتة، منها قوله عليه الصلاة والسلام "من توضأ فليستنثر، ومن استجمر فليوتر" ومنها "أمره ﷺ بغسل دم الحيض من الثوب، وأمره بصب ذنوب من ماء على بول الأعرابي" وقوله عليه الصلاة والسلام في صاحبي القبر "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول" واتفق العلماء لمكان هذه المسموعات على أن إزالة النجاسة مأمور بها في الشرع واختلفوا: هل ذلك على الوجوب أو على الندب المذكور، وهو الذي يعبر عنه بالسنة؟ فقال قوم: إن إزالة النجاسات واجبة، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال قوم: إزالتها سنة مؤكدة وليست بفرض. وقال قوم: هي فرض مع الذكر، ساقطة مع النسيان، وكلا هذين القولين عن مالك وأصحابه. وسبب اختلافهم في هذه المسألة راجع إلى ثلاثة أشياء: أحدها اختلافهم في قوله تبارك وتعالى {وثيابك فطهر} هل ذلك محمول على الحقيقة أو محمول على المجاز؟. والسبب الثاني تعارض ظواهر الآثار في وجوب ذلك، والسبب الثالث اختلافهم في الأمر والنهي الوارد لعلة معقولة المعنى، هل تلك العلة المفهومة من ذلك الأمر أو النهي، قرينة تنقل الأمر من الوجوب إلى الندب، والنهي من الحظر إلى الكراهة؟ أم ليست قرينة؟ وأنه لا فرق في ذلك بين العبادة المعقولة وغير المعقولة، وإنما صار من صار إلى الفرق في ذلك لأن الأحكام المعقولة المعاني في الشرع أكثرها هي من باب محاسن الأخلاق أو من باب المصالح، وهذه في الأكثر هي مندوب إليها، فمن حمل قوله تعالى {وثيابك فطهر} على الثياب المحسوسة قال: الطهارة من النجاسة واجبة، ومن حملها على الكناية عن طهارة القلب لم ير فيها حجة. وأما الآثار المتعارضة في ذلك، فمنها حديث صاحبي القبر المشهور، وقوله فيهما ﷺ "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير: أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله" فظاهر هذا الحديث يقتضي الوجوب، لأن العذاب لا يتعلق إلا بالواجب، وأما المعارض لذلك فما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من أنه رمي عليه وهو في الصلاة سلا جزور بالدم والفرث فلم يقطع الصلاة. وظاهر هذا أنه لو كانت إزالة النجاسة واجبة كوجوب الطهارة من الحدث لقطع الصلاة ومنها ما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في صلاة من الصلوات يصلي في نعليه، فطرح نعليه، فطرح الناس لطرحه نعليه، فأنكر ذلك عليهم عليه الصلاة والسلام وقال "إنما خلعتها لأن جبريل أخبرني أن فيها قذرا" فظاهر هذا أنه لو كانت واجبة لما بني على ما مضى من الصلاة، فمن ذهب في هذه الآثار مذهب ترجيح الظواهر قال إما بالوجوب إن رجح ظاهر حديث الوجوب، أو بالندب إن رجح ظاهر حديث الندب، أعني الحديثين اللذين يقضيان أن إزالتها من باب الندب المؤكد. ومن ذهب مذهب الجمع، فمنهم من قال هي فرض مع الذكر والقدرة، ساقطة مع النسيان وعدم القدرة. ومنهم من قال هي فرض مطلقا وليست من شروط صحة الصلاة وهي قول رابع في المسألة وهو ضعيف، لأن النجاسة إنما تزال في الصلاة، وكذلك من فرق بين العبادة المعقولة المعنى والغير معقولته، أعني أنه جعل الغير معقولة آكد في باب الوجوب فرق بين الأمر الوارد في الطهارة من الحدث، وبين الأمر الوارد في الطهارة من النجس، لأن الطهارة من النجس معلوم أن المقصود بها النظافة، وذلك من محاسن الأخلاق. وأما الطهارة من الحدث فغير معقولة المعنى مع ما اقترن بذلك من صلاتهم في النعال مع أنها لا تنفك من أن يوطأ بها النجاسات غالبا، وما أجمعوا عليه من العفو عن اليسير في بعض النجاسات. 3*الباب الثاني في معرفة أنواع النجاسات.

@-وأما أنواع النجاسات، فإن العلماء اتفقوا من أعيانها على أربعة: ميتة الحيوان ذي الدم الذي ليس بمائي، وعلى لحم الخنزير بأي سبب اتفق أن تذهب حياته، وعلى الدم نفسه من الحيوان الذي ليس بمائي انفصل من الحي أو الميت إذا كان مسفوحا، أعني كثيرا، وعلى بول ابن آدم ورجيعه، وأكثرهم على نجاسة الخمر، وفي ذلك خلاف عن بعض المحدثين، واختلفوا في غير ذلك، والقواعد من ذلك سبع مسائل: @-(المسألة الأولى) اختلفوا في ميتة الحيوان الذي لا دم له، وفي ميتة الحيوان البحري، فذهب قوم إلى أن ميتة ما لا دم له طاهرة، وكذلك ميتة البحر، وهو مذهب مالك وأصحابه، وذهب قوم إلى التسوية بين ميتة ذوات الدم والتي لا دم لها في النجاسة، واستثنوا من ذلك ميتة البحر، وهو مذهب الشافعي، إلا ما وقع الاتفاق على أنه ليس بميتة مثل دود الخل وما يتولد في المطعومات، وساوى قوم بين ميتة البر والبحر، واستثنوا ميتة ما لا دم له، وهو مذهب أبي حنيفة. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} وذلك أنهم فيما أحسب اتفقوا أنه من باب العام أريد به الخاص، واختلفوا أي خاص أريد به، فمنهم من استثنى من ذلك ميتة البحر وما لا دم له، ومنهم من استثنى من ذلك ميتة البحر فقط، ومنهم من استثنى من ذلك ميتة البحر فقط، ومنهم من استثنى من ذلك ميتة ما لا دم له فقط. وسبب اختلافهم في هذه المستثنيات هو سبب اختلافهم في الدليل المخصوص. أما من استثنى من ذلك ما لا دم له، فحجته مفهوم الأثر الثابت عنه عليه الصلاة والسلام من أمره بمقل الذباب إذا وقع في الطعام، قالوا: فهذا يدل على طهارة الذباب وليس لذلك علة إلا أنه غير ذي دم. وأما الشافعي فعنده أن هذا خاص بالذباب لقوله عليه الصلاة والسلام " فإن في إحدى جناحية داء وفي الأخرى دواء" ووهن الشافعي هذا المفهوم من الحديث بأن ظاهر الكتاب يقتضي أن الميتة والدم نوعان من أنواع المحرمات: أحدهما تعمل فيه التذكية وهي الميتة، وذلك في الحيوان المباح الأكل باتفاق، والدم لا تعمل فيه التذكية فحكمهما مفترق، فكيف يجوز أن يجمع بينهما حتى يقال: إن الدم هو سبب تحريم الميتة؟ وهذا قوي كما ترى، فإنه لو كان الدم هو السبب في تحريم الميتة لما كانت ترتقع الحرمية عن الحيوان بالذكاة، وتبقى حرمية الدم الذي لم ينفصل بعد عن المذكاة، وكانت الحلية إنما توجد بعد انفصال الدم عنه لأنه إذا ارتفع السبب ارتفع المسبب الذي يقتضيه ضرورة، لأنه إن وجد السبب والمسبب غير موجود فليس له هو سببا، ومثال ذلك أنه إذا ارتفع التحريم عن عصير العنب وجب ضرورة أن يرتفع الإسكار إن كنا نعتقد أن الإسكار هو سبب التحريم. وأما من استثنى من ذلك ميتة البحر فإنه ذهب إلى الأثر الثابت في ذلك من حديث جابر، وفيه "أنهم أكلوا من الحوت الذي رماه البحر أياما وتزودوا منه، وأنهم أخبروا بذلك رسول الله ﷺ فاستحسن فعلهم، وسألهم: هل بقي منه شيء؟" وهو دليل على أنه لم يجوز لهم لمكان ضروة خروج الزاد عنهم. واحتجوا أيضا بقوله عليه الصلاة والسلام "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". وأما أبو حنيفة فرجح عموم الآية على هذا الأثر، إما لأن الآية مقطوع بها، والأثر مظنون، وإما لأنه رأى أن ذلك رخصة لهم، أعني حديث جابر أو لأنه احتمل عنده أن يكون الحوت مات بسبب، وهو رمي البحر به إلى الساحل، لأن الميتة هو ما مات من تلقاء نفسه من غير سبب خارج، ولاختلافهم في هذا أيضا سبب آخر وهو احتمال عودة الضمير في قوله تعالى {وطعامه متاعا لكم وللسيارة} أعني أن يعود على البحر أو على الصيد نفسه، فمن أعاده على البحر قال طعامه هو الطافي، ومن أعاده على الصيد قال هو الذي أحل فقط من صيد البحر، مع أن الكوفيين أيضا تمسكوا في ذلك بأثر ورد فيه تحريم الطافي من السمك وهو عندهم ضعيف. @-(المسألة الثانية) وكما اختلفوا في أنواع الميتات كذلك اختلفوا في أجزاء ما اتفقوا عليه أنه ميتة، وذلك أنهم اتفقوا على أن اللحم من أجزاء الميتة ميتة. واختلفوا في العظام والشعر، فذهب الشافعي إلى أن العظم والشعر ميتة، وذهب أبو حنيفة إلى أنهما ليسا بميتة، وذهب مالك للفرق بين الشعر والعظم فقال: إن العظم ميتة وليس الشعر ميتة. وسبب اختلافهم هو اختلافهم فيما ينطلق عليه اسم الحياة من أفعال الأعضاء. فمن رأى أن النمو والتغذي هو من أفعال الحياة قال: إن الشعر والعظام إذا فقدت النمو والتغذي فهي ميتة. ومن رأى أنه لا ينطلق اسم الحياة إلا على الحس قال: إن الشعر والعظام ليست بميتة لأنها لا حس لها. ومن فرق بينهما أوجب للعظام الحس ولم يوجب للشعر. وفي حس العظام اختلاف، والأمر مختلف فيه بين الأطباء، ومما يدل على أن التغذي والنمو ليسا هما الحياة التي يطلق على عدمها اسم الميتة، أن الجميع قد اتفقوا على أن ما قطع من البهيمة وهي حية أنه ميتة لو زود ذلك في الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" واتفقوا على أن الشعر إذا قطع من الحي أنه طاهر، ولو انطلق اسم الميتة على من فقد التغذي والنمو لقيل في النبات المقلوع إنه ميتة، وذلك أن النبات فيه التغذي والنمو، وللشافعي أن يقول إن التغذي الذي ينطلق على عدمه اسم الموت هو التغذي الموجود في الحساس. @-(المسألة الثالثة) اختلفوا في الانتفاع بجلود الميتة، فذهب قوم إلى الانتفاع بجلودها مطلقا دبغت أو لم تدبغ، وذهب قوم إلى خلاف هذا، وهو ألا ينتفع به أصلا، وإن دبغت وذهب قوم إلى الفرق بين أن تدبغ وأن لا تدبغ، ورأوا أن الدباغ مطهر لها، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما مثل قول الشافعي، والثانية أن الدباغ لا يطهرها، ولكن تستعمل في اليابسات، والذين ذهبوا إلى أن الدباغ مطهر اتفقوا على أنه مطهر لما تعمل فيه الذكاة من الحيوان: أعني المباح الأكل، واختلفوا فيما لا تعمل فيه الذكاة، فذهب الشافعي إلى أنه مطهر لما تعمل فيه الذكاة فقط، وأنه بدل منها في إفادة الطهارة. وذهب أبو حنيفة إلى تأثير الدباغ في جميع ميتات الحيوان ما عدا الخنزير. وقال داود: تطهر حتى جلد الخنزير. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك، وذلك أنه ورد في حديث ميمونة إباحة الانتفاع بها مطلقا، وذلك أن فيه أنه مر بميتة، فقال عليه الصلاة والسلام "هلا انتفعتم بجلدها؟" وفي حديث ابن عكيم منع الانتفاع بها مطلقا، وذلك أن فيه "أن رسول الله ﷺ كتب: ألا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" قال: وذلك قبل موته بعام. وفي بعضها الأمر بالاتنفاع بها بعد الدباغ والمنع قبل الدباغ، والثابت في هذا الباب هو حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" فلمكان اختلاف هذه الآثار اختلف الناس في تأويلها، فذهب قوم مذهب الجمع على حديث ابن عباس، أعني أنهم فرقوا في الانتفاع بها بين المدبوغ وغير المدبوغ. وذهب قوم مذهب النسخ، فأخذوا بحديث ابن عكيم لقوله فيه موته بعام. وذهب قوم مذهب الترجيح لحديث ميمونة، ورأوا أنه يتضمن زيادة على ما في حديث ابن عباس، وأن تحريم الانتفاع ليس يخرج من حديث ابن عباس قبل الدباغ، لأن الاتنفاع غير الطهارة، أعني كل طاهر ينتفع به، وليس يلزم عكس هذا المعنى، أعني أن كل ما ينتفع به هو طاهر. @-(المسألة الرابعة) اتفق العلماء على أن دم الحيوان البري نجس، واختلفوا في دم السمك، وكذلك اختلفوا في الدم القليل من دم الحيوان غير البحري، فقال قوم: دم السمك طاهر، وهو أحد قولي مالك ومذهب الشافعي. وقال قوم: هو نجس على أصل الدماء، وهو قول مالك في المدونة. وكذلك قال قوم: إن قليل الدماء معفو عنه. وقال قوم: بل القليل منها والكثير حكمه واحد، والأول عليه الجمهور. والسبب في اختلافهم في دم السمك هو اختلافهم في ميتته، فمن جعل ميتته داخلة تحت عموم التحريم جعل دمه كذلك، ومن أخرج ميتته أخرج دمه قياسا على الميتتة، وفي ذلك أثر ضعيف وهو قوله عليه الصلاة والسلام "أحلت لنا ميتتان ودمان الجراد والحوت، والكبد والطحال". وأما اختلافهم في كثير الدم وقليله فسببه اختلافهم في القضاء بالمقيد على المطلق أو بالمطلق على المقيد، وذلك أنه ورد تحريم الدم مطلقا في قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير} وورد مقيدا في قوله تعالى {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما} إلى قوله {أو دما مسفوحا أو لحم خنزير} فمن قضى بالمقيد على المطلق وهم الجمهور قال المسفوح هو النجس المحرم فقط، ومن قضى بالمطلق على المقيد لأن فيه زيادة قال: المسفوح وهو الكثير، وغير المسفوح وهو القليل، كل ذلك حرام، وأيد هذا بأن كل ما هو نجس لعينه فلا يتبعض. @-(المسألة الخامسة) اتفق العلماء على نجاسة بول ابن آدم ورجيعه إلا بول الصبي الرضيع، واختلفوا فيما سواه من الحيوان، فذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنها كلها نجسة. وذهب قوم إلى طهارتها بإطلاق، أعني فضلتي سائر الحيوان البول والرجيع. وقال قوم: أبوالها وأرواثها تابعة للحومها، فما كان منها لحومها محرمة فأبوالها وأرواثها نجسة محرمة، وما كان منها لحومها مأكولة فأبوالها وأوراثها طاهرة، ما عدا التي تأكل النجاسة، وما كان منها مكروهة فأبوالها وأوراثها مكروهة، وبهذا قال مالك كما قال أبو حنيفة بذلك في الأسآر. وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما اختلافهم في مفهوم الإباحة الواردة في الصلاة في مرابض الغنم، وإباحته عليه الصلاة والسلام للعرنيين شرب أبوال الإبل وألبانها، وفي مفهوم النهي عن الصلاة في أعطان الإبل. والسبب الثاني اختلافهم في قياس سائر الحيوان في ذلك على الإنسان، فمن قاس سائر الحيوان على الإنسان ورأى أنه من باب قياس الأولى والأحرى لم يفهم من إباحة الصلاة في مرابض الغنم طهارة أرواثها وأبوالها جعل ذلك عبادة، ومن فهم من النهي عن الصلاة في أعطان الإبل النجاسة وجعل إباحته للعرنيين أبوال الإبل لمكان المداواة على أصله في إجازة ذلك قال: كل رجيع وبول فهو نجس، ومن فهم من حديث إباحة الصلاة في مرابض الغنم طهارة أرواثها وأبوالها وكذلك من حديث العرنيين وجعل النهي عن الصلاة في أعطان الإبل عبادة أو لمعنى غير معنى النجاسة، وكان الفرق عنده بين الإنسان وبهيمة الأنعام أن فضلتي الإنسان مستقذرة بالطبع وفضلتي بهيمة الأنعام ليست كذلك جعل الفضلات تابعة للحوم والله أعلم. ومن قاس على بهيمة الأنعام غيرها جعل الفضلات كلها ما عدا فضلتي الإنسان غير نجسة ولا محرمة والمسألة محتملة، ولولا أنه لا يجوز إحداث قول لم يتقدم إليه أحد في المشهور، وإن كانت مسألة فيها خلاف لقيل إن ما ينتن منها ويستقذر بخلاف ما لا ينتن ولا يستقذر، وبخاصة ما كان منها رائحته حسنة لاتفاقهم على إباحة العنبر وهو عند أكثر الناس فضلة من فضلات حيوان البحر، وكذلك المسك، وهو فضلة دم الحيوان الذي يوجد المسك فيه فيما يذكر. @-(المسألة السادسة) اختلف الناس في قليل النجاسات على ثلاثة أقوال: فقوم رأوا قليلها وكثيرها سواء، وممن قال بهذا القول الشافعي. وقوم رأوا أن قليل النجاسات معفو عنه، وحدوه بقدر الدرهم البغلي، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة، وشذ محمد بن الحسن فقال: إن كانت النجاسة ربع الثوب فما دونه جازت به الصلاة. وقال فريق ثالث: قليل النجاسات وكثيرها سواء إلا الدم على ما تقدم، وهو مذهب مالك، وعنه في دم الحيض روايتان والأشهر مساواته لسائر الدماء. وسبب اختلافهم اختلافهم في قياس قليل النجاسة على الرخصة الواردة في الاستجمار للعلم بأن النجاسة هناك باقية، فمن أجاز القياس على ذلك استجاز قليل النجاسة، ولذلك حدوه بالدرهم قياسا على قدر المخرج، ومن رأى أن تلك رخصة والرخص لا يقاس عليها منع ذلك. وأما سبب استثناء مالك من ذلك الدماء، فقد تقدم، وتفصيل مذهب أبي حنيفة أن النجاسات عنده تنقسم إلى مغلظة ومخففة، وأن المغلظة هي التي يعفى منها عن قدر الدرهم، والمخففة هي التي يعفى منها عن ربع الثوب، والمخففة عندهم مثل أرواث الدواب، وما لا تنفك منه الطرق غالبا، وتقسيمهم إياها إلى مغلظة ومخففة حسن جدا. @-(المسألة السابعة) اختلفوا في المني: هل هو نجس أم لا؟ فذهبت طائفة منهم مالك وأبو حنيفة إلى أنه نجس، وذهبت طائفة إلى أنه طاهر، وبهذا قال الشافعي وأحمد وداود وسبب اختلافهم فيه شيئان: أحدهما اضطراب الرواية في حديث عائشة وذلك أن في بعضها "كنت أغسل ثوب رسول الله ﷺ من المني فيخرج إلى الصلاة وإن فيه لبقع الماء" وفي بعضها "أفركه من ثوب رسول الله ﷺ " وفي بعضها "فيصلي فيه" خرج هذه الزيادة مسلم. والسبب الثاني تردد المني بين أن يشبه بالأحداث الخارجة من البدن، وبين أن يشبه بخروج الفضلات الطاهرة كاللبن وغيره، فمن جمع الأحاديث كلها بأن حمل الغسل على باب النظافة، واستدل من الفرك على الطهارة على أصله في أن الفرك لا يطهر نجاسة، وقاسه على اللبن وغيره من الفضلات الشريفة لم يره نجسا، ومن رجح حديث الغسل على الفرك وفهم منه النجاسة وكان بالأحداث عنده أشبه منه مما ليس بحدث قال: إنه نجس، وكذلك أيضا من اعتقد أن النجاسة تزول بالفرك قال: الفرك يدل على نجاسته كما يدل الغسل وهو مذهب أبي حنيفة، وعلى هذا فلا حجة لأولئك في قولها فيصلي فيه، بل فيه حجة لأبي حنيفة في أن النجاسة تزال بغير الماء وهو خلاف قول الماليكة. 3*الباب الثالث في معرفة المحال التي يجب إزالتها عنها.

@-وأما المحال التي تزال عنها النجاسات فثلاثة ولا خلاف في ذلك: أحدها الأبدان، ثم الثياب، ثم المساجد ومواضع الصلاة. وإنما اتفق العلماء على هذه الثلاثة لأنها منطوق بها في الكتاب والسنة. أما الثياب ففي قوله تعالى {وثيابك فطهر} على مذهب من حملها على الحقيقة، وفي الثابت من أمره عليه الصلاة والسلام بغسل الثوب من دم الحيض وصبه الماء على بول الصبي الذي بال عليه. وأما المساجد فلأمره عليه الصلاة والسلام بصب ذنوب من ماء على بول الأعرابي الذي بال في المسجد، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام "أنه أمر بغسل المذي من البدن وغسل النجاسات من المخرجين" واختلف الفقهاء هل يغسل الذكر كله من المذي أم لا؟ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث علي المشهور، وقد سئل عن المذي فقال "يغسل ذكره ويتوضأ" وسبب الخلاف فيه هو: هل الواجب هو الأخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها؟ فمن رأى أنه بأواخرها: أعني بأكثر ما ينطلق عليه الاسم قال يغسل الذكر كله، ومن رأى الأخذ بأقل ما ينطلق عليه قال إنما يغسل موضع الأذى فقط قياسا على البول والمذي. 3*الباب الرابع في الشيء الذي تزال به.

@-وأما الشيء الذي به تزال، فإن المسلمين اتفقوا على أن الماء الطاهر المطهر يزيلها من هذه الثلاثة المحال، واتفقوا أيضا على أن الحجارة تزيلها من المخرجين، واختلفوا فيما سوى ذلك من المائعات والجامدات التي تزيلها. فذهب قوم إلى أن ما كان طاهرا يزيل عين النجاسة مائعا كان أو جامدا في أي موضع كانت، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال قوم: لا تزال النجاسة بما سوى الماء إلا في الاستجمار فقط المتفق عليه، وبه قال مالك والشافعي. واختلفوا أيضا في إزالتها في الاستجمار بالعظم والروث، فمنع ذلك قوم، وأجازه بغير ذلك مما ينقي، واستثنى مالك من ذلك ما هو مطعوم ذو حرمة كالخبز، وقد قيل ذلك فيما في استعماله سرف كالذهب والياقوت. وقوم قصروا الإنقاء على الأحجار فقط، وهو مذهب أهل الظاهر. وقوم أجازوا الاستنجاء بالعظم دون الروث وإن كان مكروها عندهم. وشذ الطبري فأجاز الاستجمار بكل طاهر ونجس. وسبب اختلافهم في إزالة النجاسة بما عدا الماء فيما عدا المخرجين هو: هل المقصود بإزالة النجاسة بالماء هو إتلاف عينها فقط فيستوي في ذلك مع الماء كل ما يتلف عينها؟ أم للماء في ذلك مزيد خصوص ليس بغير الماء، فمن لم يظهر عنده للماء مزيد خصوص قال بإزالتها بسائر المائعات والجامدات الطاهرة، وأيد هذا المفهوم بالاتفاق على إزالتها من المخرجين بغير الماء، وبما ورد من حديث أم سلمة أنها قالت "إني أمرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر، فقال لها رسول الله ﷺ يطهره ما بعده" وكذلك بالآثار التي خرجها أبو داود في هذا مثل قوله عليه الصلاة والسلام "إذا وطئ أحدكم الأذى بنعليه فإن التراب له طهور" إلى غير ذلك مما روي في هذا المعنى، ومن رأى أن للماء في ذلك مزيد خصوص منع ذلك إلا في موضع الرخصة فقط، وهو المخرجان، ولما طالبت الحنفية الشافعية بذلك الخصوص المزيد الذي للماء لجئوا في ذلك إلى أنها عبادة إذ لم يقدروا أن يعطوا في ذلك سببا معقولا، حتى أنهم سلموا أن الماء لا يزيل النجاسة بمعنى معقول، وإنما إزالته بمعنى شرعي حكمي، وطال الخطب والجدل بينهم: هل إزالة النجاسة بالماء عبادة أو معنى معقول خلفا عن سلف، واطرت الشافعية إلى أن تثبت أن في الماء قوة شرعية في رفع أحكام النجاسات ليست في غيره، وإن استوى مع سائر الأشياء في إزالة العين، وأن المقصود إنما هو إزالة ذلك الحكم الذي اختص به الماء لإذهاب عين النجاسة، بل قد يذهب العين ويبقى الحكم فباعدوا المقصد وقد كانوا اتفقوا قبل مع الحنفيين أن طهارة النجاسة ليست طهارة حكمية أعني شرعية، ولذلك لم تحتج إلى نية ولو راموا الانفصال عنهم بأنا نرى أن للماء قوة إحالة للأنجاس والأدناس وقلعها من الثياب والأبدان ليست لغيره، ولذلك اعتمده الناس في تنظيف الأبدان والثياب لكان قولا جيدا وغيره بعيد، بل لعله واجب أن يعتقد أن الشرع إنما اعتمد في كل موضع غسل النجاسة بالماء لهذه الخاصية التي في الماء، ولو كانوا قالوا هذا لكانوا قد قالوا في ذلك قولا هو أدخل في المذهب الفقه الجاري على المعاني وإنما يلجأ الفقيه إلى أن يقول عبادة إذا ضاق عليه المسلك مع الخصم، فتأمل ذلك فإنه بين من أمرهم في أكثر المواضع. وأما اختلافهم في الروث فسببه اختلافهم في المفهوم من النهي الوارد في ذلك عنه عليه الصلاة والسلام، أعني أمره عليه الصلاة والسلام أن لا يستنجي بعظم ولا روث، فمن دل عنده النهي على الفساد لم يجز ذلك، ومن لم ير ذلك إذ كانت النجاسة معنى معقولا حمل ذلك على الكراهية ولم يعده إلى إبطال الاستنجاء بذلك، ومن فرق بين العظام والروث فلأن الروث نجس عنده. 3*الباب الخامس في صفة إزالتها.

@-وأما الصفة التي بها تزول فاتفق العلماء على أنها غسل ومسح ونضح لورود ذلك في الشرع وثبوته في الآثار. واتفقوا على أن الغسل عام لجميع أنواع النجاسات ولجميع محال النجاسات، وأن المسح بالأحجار يجوز في المخرجين ويجوز في الخفين وفي النعلين من العشب اليابس، وكذلك ذيل المرأة الطويل اتفقوا على أن طهارته هي على ظاهر حديث أم سلمة من العشب اليابس، واختلفوا من ذلك في ثلاث مواضع هي أصول هذا الباب: أحدها في النضح لأي نجاسة هو والثاني في المسح لأي محل هو ولأي نجاسة هو بعد أن اتفقوا على ما ذكرناه. والثالث اشتراط العدد في الغسل والمسح. أما النضح فإن قوما قالوا: هذا خاص بإزالة بول الطفل الذي لم يأكل الطعام. وقوم فرقوا بين بول الذكر في ذلك والأنثى، فقالوا: ينضح بول الذكر ويغسل بول الأنثى، وقوم قالوا: الغسل طهارة ما يتيقن بنجاسته، والنضح طهارة ما شك فيه، وهو مذهب مالك بن أنس رضي الله عنه. وسبب اختلافهم تعارض ظواهر الأحاديث في ذلك، أعني اختلافهم في مفهومها، وذلك أن ههنا حديثين ثابتين في النضح: أحدهما حديث عائشة "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يؤتى بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم، فأتى بصبي فبال عليه، فدعا بماء فأتبعه بوله ولم يغسله" وفي بعض رواياته "فنضحه ولم يغسله" خرجه البخاري والآخر حديث أنس المشهور حين وصف صلاة رسول الله ﷺ في بيته قال: فقمت إلى حصير لنا قد أسود من طول ما لبث، فنضحته بالماء. فمن الناس من صار إلى العمل بمقتضى حديث عائشة. وقال: هذا خاص ببول الصبي واستثناه من سائر البول. ومن الناس من رحج الآثار الواردة في الغسل على هذا الحديث، وهو مذهب مالك، ولم ير النضح إلا الذي في حديث أنس، وهو الثوب المشكوك فيه على ظاهر مفهومه. وأما الذي فرق في ذلك بين بول الذكر والأنثى، فإنه اعتمد على ما رواه أبو داود عن أبي السمح من قوله عليه الصلاة والسلام "يغسل بول الجارية ويرش بول الصبي" وأما من لم يفرق فإنما اعتمد قياس الأنثى على الذكر الذي ورد فيه الحديث الثابت. وأما المسح فإن قوما أجازوه في أي محل كانت النجاسة إذا ذهب عينها على مذهب أبي حنيفة، وكذلك الفرك على قياس من يرى أن كل ما أزال العين فقد طهر، وقوم لم يجيزوه إلا في المتفق عليه وهو المخرج وفي ذيل المرأة وفي الخف، وذلك من العشب اليابس لا من الأذى غير اليابس وهو مذهب مالك، وهؤلاء لم يعدوا المسح إلى غير المواضع التي جاءت في الشرع، وأما الفريق الآخر فإنهم عدوه. والسبب في اختلافهم في ذلك هل ما ورد من ذلك رخصة أو حكم؟ فمن قال رخصة لم يعدها إلى غيرها: أعني لم يقس عليها، ومن قال هو حكم من أحكام إزالة النجاسة كحكم الغسل عداه. وأما اختلافهم في العدد، فإن قوما اشترطوا الإبقاء فقط في الغسل والمسح، وقوم اشترطوا العدد في الاستجمار وفي الغسل، والذين اشترطوه في الغسل منهم من اقتصر على المحل الذي ورد فيه العدد في الغسل بطريق السمع، ومنهم من عداه إلى سائر النجاسات، أما من لم يشترط العدد لا في غسل ولا في مسح فمنهم مالك وأبو حنيفة، وأما من اشترط في الاستجمار العدد: أعني ثلاثة أحجار لا أقل من ذلك، فمنهم الشافعي وأهل الظاهر، وأما من اشترط العدد في الغسل واقتصر به على محله الذي ورد فيه وهو غسل الإناء سبعا من ولوغ الكلب، فالشافعي ومن قال بقوله. وأما من عداه واشترط السبع في غسل النجاسات ففي أغلب ظني أن أحمد بن حنبل منهم. وأبو حنيفة يشترط الثلاثة في إزالة النجاسة الغير محسوسة العين أعني الحكمية. وسبب اختلافهم في هذا تعارض المفهوم من هذه العبادة لظاهر اللفظ في الأحاديث التي ذكر فيها العدد، وذلك أن من كان المفهوم عنده من الأمر بإزالة النجاسة إزالة عينها لم يشترط العدد أصلا، وجعل العدد الوارد من ذلك في الاستجمار في حديث سلمان الثابت الذي فيه الأمر أن لا يستنجي بأقل من ثلاثة أحجار على سبيل الاستحباب حتى يجمع بين المفهوم من الشرع والمسموع من هذه الأحاديث، وجعل العدد المشترط في غسل الإناء من ولوغ الكلب عبادة لا لنجاسة كما تقدم من مذهب مالك. وأما من صار إلى ظواهر هذه الآثار واستثناها من المفهوم فاقتصر بالعدد على هذه المحال التي ورد العدد فيها، وأما من رجح الظاهر على المفهوم فإنه عدى ذلك إلى سائر النجاسات. وأما حجة أبي حنيفة في الثلاثة فقوله عليه الصلاة والسلام "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده ثلاثا قبل أن يدخلها في إنائه". 3*الباب السادس في آداب الاستنجاء.

@-وأما آداب الاستنجاء ودخول الخلاء فأكثرها محمولة عند الفقهاء على الندب، وهي معلومة من السنة كالبعد في المذهب إذا أراد الحاجة وترك الكلام عليها، والنهي عن الاستنجاء باليمين، وأن لا يمس ذكره بيمينه، وغير ذلك مما ورد في الآثار، وإنما اختلفوا من ذلك في مسألة واحدة مشهورة وهي استقبال القبلة للغائط والبول واستدبارها، فإن للعلماء فيها ثلاثة أقوال: أنه لا يجوز أن تستقبل القبلة لغائط ولا بول أصلا، ولا في موضع من المواضع، وقول إن ذلك يجوز بإطلاق. وقول إنه يجوز في المباني والمدن ولا يجوز ذلك في الصحراء وفي غير المباني والمدن. والسبب في اختلافهم هذا حديثان متعارضان ثابتان: أحدهما حديث أبي أيوب الأنصاري أنه قال عليه الصلاة والسلام "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا". والحديث الثاني حديث عبد الله بن عمر أنه قال "ارتقيت على ظهر بيت أختي حفصة، فرأيت رسول الله ﷺ قاعدا لحاجته على لبنتين مستقبل الشام مستدبر القبلة" فذهب الناس في هذين الحديثين ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب الجمع. والثاني مذهب الترجيح. والثالث مذهب الرجوع إلى البراءة الأصلية إذا وقع التعارض، وأعني بالبراءة الأصلية عدم الحكم، فمن ذهب مذهب الجمع حمل حديث أبي أيوب الأنصاري على الصحاري وحيث لا سترة، وحمل حديث ابن عمر على السترة، وهو مذهب مالك. ومن ذهب مذهب الترجيح رجح حديث أبي أيوب، لأنه إذا تعارض حديثان أحدهما فيه شرع موضوع، والآخر موافق للأصل الذي هو عدم الحكم ولم يعلم المتقدم منهما من المتأخر وجب أن يصار إلى الحديث المثبت للشرع، لأنه قد وجب العمل بنقله من طريق العدول، وتركه الذي ورد أيضا من طريق العدول يمكن أن يكون ذلك قبل شرع ذلك الحكم، ويمكن أن يكون بعده، فلم يجز أن نترك شرعا وجب العمل به بظن لم نؤمر أن نوجب النسخ به إلا لو نقل أنه كان بعده، فإن الظنون التي تستند إليها الأحكام محدودة بالشرع: أعني التي توجب رفعها أو إيجابها، وليست هي أي ظن اتفق، ولذلك يقولون إن العمل ما لم يجب بالظن وإنما وجب بالأصل المقطوع به، يريدون بذلك الشرع المقطوع به الذي أوجب العمل بذلك النوع من الظن، وهذه الطريقة التي قلناها هي طريقة أبي محمد بن حزم الأندلسي، وهي طريقة جيدة مبنية على أصول أهل الكلام الفقهي، وهو راجع إلى أنه لا يرتفع بالشك ما ثبت بالدليل الشرعي. وأما من ذهب مذهب الرجوع إلى الأصل عند التعارض فهو مبني على أن الشك يسقط الحكم ويرفعه وأنه كلا حكم، وهو مذهب داود الظاهري، ولكن خالفه أبو محمد بن حزم في هذا الأصل مع أنه من أصحابه. قال القاضي: فهذا هو الذي رأينا أن نثبته في هذا الكتاب من المسائل التي ظننا أنها تجري مجرى الأصول، وهي التي نطق بها في الشرع أكثر ذلك، أعني أن أكثرها يتعلق بالمنطوق به، إما تعلقا قريبا، أو قريبا من القريب، وإن تذكرنا لشيء من هذا الجنس أثبتناه في هذا الباب، وأكثر ما عولت فيما نقلته من نسبة هذه المذاهب إلى أربابها هو كتاب الاستذكار، وأنا قد أبحت لمن وقع من ذلك على وهم لي أن يصلحه، والله المعين والموفق.

====

 

 

 

 

 

 

 

 

كتاب الصلاة. @-(بسم الله الرحمن الرحيم) وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. الصلاة تنقسم أولا وبالجملة إلى فرض، وندب. والقول المحيط بأصول هذه العبادة ينحصر بالجملة في أربعة أجناس: أعني أربع جمل: الجملة الأولى: في معرفة الوجوب وما يتعلق به. والجملة الثانية: في معرفة شروطها الثلاث: أعني شروط الوجوب وشروط الصحة وشروط التمام والكمال. والجملة الثالثة: في معرفة ما تشتمل عليه من أفعال وأقوال، وهي الأركان. والجملة الرابعة في قضائها ومعرفة إصلاح ما يقع فيها من الخلل وجبره، لأنه قضاء ما إذا كان استدراكا لما فات. 3*(الجملة الأولى) وهذه الجملة فيها أربع مسائل هي في معنى أُصول هذا الباب.

@-المسألة الأولى: في بيان وجوبها. الثانية: في بيان عدد الواجبات منها. الثالثة: في بيان على من تجب. الرابعة: ما الواجب على من تركها متعمدا؟. @-(المسألة الأولى) أما وجوبها فبين من الكتاب والسنة والإجماع، وشهرة ذلك تغني عن تكلف القول فيه. @-(المسألة الثانية) وأما عدد الواجب منها ففيه قولان: أحدهما قول مالك والشافعي والأكثر، وهو أن الواجب هي الخمس صلوات فقط لا غير. والثاني قول أبي حنيفة وأصحابه، وهو أن الوتر واجب مع الخمس، واختلافهم هل يسمى ما ثبت بالسنة واجبا أو فرضا لا معنى له؟. وسبب اختلافهم الأحاديث المتعارضة. أما الأحاديث التي مفهومها وجوب الخمس فقط بل هي نص في ذلك فمشهورة وثابتة، ومن أبينها في ذلك ما ورد في حديث الإسراء المشهور "أنه لما بلغ الفرض إلى خمس قال له موسى: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، قال: فراجعته، فقال تعالى: هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي" وحديث الأعرابي المشهور الذي سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن الإسلام فقال له: "خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع" وأما الأحاديث التي مفهومها وجوب الوتر، فمنها حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ قال "إن الله قد زادكم صلاة وهي الوتر فحافظوا عليها" وحديث حارثة بن حذافة قال "خرج علينا رسول الله ﷺ فقال: "إن الله أمركم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر وجعلها لكم فيما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر" وحديث بريدة الأسلمي أن رسول الله ﷺ قال "الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا" فمن رأى أن الزيادة هي نسخ ولم تقو عنده هذه الأحاديث قوة تبلغ بها أن تكون ناسخة لتلك الأحاديث الثابتة المشهورة رجح تلك الأحاديث، وأيضا فإنه ثبت من قوله تعالى في حديث الإسراء "إنه لا يبدل القول لدي" وظاهره أنه لا يزاد فيها ولا ينقص منها وإن كان هو في النقصان أظهر، والخبر ليس يدخله النسخ، ومن بلغت عنده قوة هذه الأخبار التي اقتضت الزيادة على الخمس إلى رتبة توجب العمل أوجب المصير إلى هذه الزيادة، لا سيما إن كان ممن يرى أن الزيادة لا توجب نسخا، لكن ليس هذا من رأي أبي حنيفة. @-(المسألة الثالثة) وأما على من تجب فعلى المسلم البالغ ولا خلاف في ذلك. @-(المسألة الرابعة) وأما ما الواجب على من تركها عمدا وأمر بها فأبى أن يصليها لا جحودا لفرضها، فإن قوما قالوا: يقتل، وقوما قالوا: يعزر ويحبس، والذين قالوا يقتل منهم من أوجب قتله كفرا، وهو مذهب أحمد وإسحاق وابن المبارك، ومنهم من أوجبه حدا وهو مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر ممن رأى حبسه وتعزيره حتى يصلي. والسبب في هذا الاختلاف اختلاف الآثار، وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس" وروي عنه عليه الصلاة والسلام من حديث بريدة أنه قال "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" وحديث جابر عن النبي ﷺ أنه قال "ليس بين العبد وبين الكفر {أو قال الشرك} إلا ترك الصلاة" فمن فهم من الكفر ههنا الكفر الحقيقي جعل هذا الحديث كأنه تفسير لقوله عليه الصلاة والسلام "كفر بعد إيمان" ومن فهم ههنا التغليظ والتوبيخ أي أن أفعاله أفعال كافر وأنه في صورة كافر كما قال "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" ولم ير قتله كفرا. وأما من قال يقتل حدا فضعيف ولا مستند له إلا قياس شبه ضعيف إن أمكن، وهو تشبيه الصلاة بالقتل في كون الصلاة رأس المأمورات، والقتل رأس المنهيات. وعلى الجملة فاسم الكفر إنما ينطلق بالحقيقة على التكذيب، وتارك الصلاة معلوم أنه ليس بمكذب إلا أن يتركها معتقدا لتركها هكذا، فنحن إذن بين أحد أمرين: إما إن أردنا أن نفهم من الحديث الكفر الحقيقي يجب علينا أن نتأول أنه أراد عليه الصلاة والسلام من ترك الصلاة معتقدا لتركها فقد كفر، وإما أن يحمل على اسم الكفر على غير موضوعه الأول، وذلك على أحد معنيين: إما على أن حكمه حكم الكافر: أعني في القتل وسائر أحكام الكفار وإن لم يكن مكذبا، وإما على أن أفعاله أفعال كافر على جهة التغليظ والردع له: أي أن فاعل هذا يشبه الكافر في الأفعال، إذ كان الكافر لا يصلي كما قال عليه الصلاة والسلام "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" وحمله على أن حكمه حكم الكافر في أحكامه لا يجب المصير إليه إلا بدليل لأنه حكم لم يثبت بعد في الشرع من طريق يجب المصير إليه، فقد يجب إذا لم يدل عندنا على الكفر الحقيقي الذي هو التكذيب أن يدل على المعنى المجازي لا على معنى يوجب حكما لم يثبت بعد في الشرع بل يثبت ضده، وهو أنه لا يحل دمه إذ هو خارج عن الثلاث الذين نص عليهم الشرع فتأمل هذا، فإنه بين والله أعلم. أعني أنه يجب علينا أحد أمرين: إما أن نقدر في الكلام محذوفا إن أردنا حمله على المعنى الشرعي المفهوم من اسم الكفر، وإما أن نحمله على المعنى المستعار، وأما حمله على أن حكمه حكم الكافر في جميع أحكامه مع أنه مؤمن فشيء مفارق للأصول، مع أن الحديث نص في حق من يجب قتله كفرا أو حدا، ولذلك صار هذا القول مضاهيا لقول من يكفر بالذنوب. 3*(الجملة الثانية في الشروط)

@-وهذه الجملة فيها ثمانية أبواب: الباب الأول: في معرفة الأوقات. الثاني: في معرفة الأذان والإقامة. الثالث: في معرفة القبلة. الرابع: في ستر العورة واللباس في الصلاة. الخامس: في اشتراط الطهارة من النجس في الصلاة. السادس: في تعيين المواضع التي يصلي فيها من المواضع التي لا يصلي فيها. السابع: في معرفة الشروط التي هي شروط في صحة الصلاة. الثامن: في معرفة النية وكيفية اشتراطها في الصلاة. 3*الباب الأول في معرفة الأوقات.

@-وهذا الباب ينقسم أولا إلى فصلين: الأول في معرفة الأوقات المأمور بها. الثاني في معرفة الأوقات المنهي عنها. 4*الفصل الأول في معرفة الأوقات المأمور بها.

@-وهذا الفصل ينقسم إلى قسمين أيضا: القسم الأول في الأوقات الموسعة والمختارة. والثاني في أوقات أهل الضرورة. @-القسم الأول من الفصل الأول من الباب الأول من الجملة الثانية. والأصل في هذا الباب قوله تعالى {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} اتفق المسلمون على أن للصلوات الخمس أوقاتا خمسا هي شرط في صحة الصلاة، وأن منها أوقات فضيلة وأوقات توسعة، واختلفوا في حدود أوقات التوسعة والفضيلة، وفيه خمس مسائل: @-(المسألة الأولى) اتفقوا على أن أول وقت الظهر الذي لا تجوز قبله هو الزوال، إلا خلافا شاذا روي عن ابن عباس، وإلا ما روي من الخلاف في صلاة الجمعة على ما سيأتي، واختلفوا منها في موضعين في آخر وقتها الموسع وفي وقتها المرغب فيه. فأما آخر وقتها الموسع فقال مالك والشافعي وأبو ثور وداود هو أن يكون ظل كل شيء مثله. وقال أبو حنيفة: آخر الوقت أن يكون ظل كل شيء مثليه في إحدى الروايتين عنه، وهو عنده أول وقت العصر. وقد روي عنه أن آخر وقت الظهر هو المثل، وأول وقت العصر المثلان، وأن ما بين المثل والمثلين ليس يصلح لصلاة الظهر، وبه قال صاحباه أبو يوسف ومحمد. وسبب الخلاف في ذلك اختلاف الأحاديث وذلك أنه ورد في إمامة جبريل أنه صلى بالنبي ﷺ الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس، وفي اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثله، ثم قال: "الوقت ما بين هذين" وروي عنه قال ﷺ: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أوتي أهل التوراة التوراة فعملوا حتى إذا انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا إلى صلاة العصر، ثم عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا، ثم أوتينا القرآن فعملنا إلى غروب الشمس فأعطينا قيراطين قيراطين، فقال أهل الكتاب أي ربنا أعطيت هؤلاء قيراطين قيراطين وأعطينا قيراطا قيراطا ونحن كنا أكثر عملا؟ قال الله تعالى: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا، قال: فهو فضلي أوتيه من أشاء" فذهب مالك والشافعي إلى حديث إمامة جبريل، وذهب أبو حنيفة إلى مفهوم ظاهر هذا، وهو أنه إذا كان من العصر إلى الغروب أقصر من أول الظهر إلى العصر على مفهوم هذا الحديث، فواجب أن يكون العصر أكثر من قامة، وأن يكون هذا هو آخر وقت الظهر. وقال أبو محمد بن حزم: وليس كما ظنوا وقد امتحنت الأمر فوجدت القامة تنتهي من النهار إلى تسع ساعات وكسر. قال القاضي: أنا الشاك في الكسر، وأظنه قال: وثلث حجة من قال باتصال الوقتين، أعني اتصالا لا بفصل غير منقسم قوله عليه الصلاة والسلام "لا يخرج وقت صلاة حتى يدخل وقت أخرى" وهو حديث ثابت. وأما وقتها المرغب فيه والمختار فذهب مالك إلى أنه للمنفرد أول الوقت ويستحب تأخيرها عن أول الوقت قليلا في مساجد الجماعات. وقال الشافعي: أول الوقت أفضل إلا في شدة الحر. وروي مثل ذلك عن مالك. وقالت طائفة: أول الوقت أفضل بإطلاق للمنفرد والجماعة وفي الحر والبرد، وإنما اختلفوا في ذلك لاختلاف الأحاديث، وذلك أن في ذلك حديثين ثابتين: أحدهما قوله عليه الصلاة والسلام "إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم" والثاني "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي الظهر بالهاجرة" وفي حديث خباب "أنهم شكوا إليه حر الرمضاء فلم يشكهم" خرجه مسلم. قال زهير رواي الحديث: قلت لأبي إسحاق شيخه أفي الظهر؟ قال: نعم، قلت: أفي تعجليها؟ قال: نعم، فرجح قوم حديث الإبراد إذ هو نص، وتأولوا هذه الأحاديث إذ ليست بنص. وقوم رجحوا هذه الأحاديث لعموم ما روي من قوله عليه الصلاة والسلام "وقد سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لأول ميقاتها" والحديث متفق عليه، وهذه الزيادة فيه، أعني "لأول ميقاتها" مختلف فيه. @-(المسألة الثانية) اختلفوا من صلاة العصر في موضعين: أحدهما في اشتراك أول وقتها مع آخر وقت صلاة الظهر. والثاني في آخر وقتها. فأما اختلافهم في الاشتراك فإنه اتفق مالك والشافعي وداود وجماعة على أن أول وقت العصر هو بعينه آخر وقت الظهر، وذلك إذا صار ظل كل شيء مثله، إلا أن مالكا يرى أن آخر وقت الظهر وأول وقت العصر هو وقت مشترك للصلاتين معا: أعني بقدر ما يصلي فيه أربع ركعات. وأما الشافعي وأبو ثور وداود فآخر وقت الظهر عندهم هو الآن الذي هو أول وقت العصر هو زمان غير منقسم. وقال أبو حنيفة كما قلنا أول وقت العصر إلى أن يصير، ظل كل شيء مثليه، وقد تقدم سبب اختلاف أبي حنيفة معهم في ذلك. وأما سبب اختلاف مالك مع الشافعي ومن قال بقوله في هذه فمعارضة حديث جبريل في هذا المعنى لحديث عبد الله بن عمر، وذلك أنه جاء في إمامة جبريل أنه صلى بالنبي عليه الصلاة والسلام الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول. وفي حديث ابن عمر أنه قال عليه الصلاة والسلام "وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر" خرجه مسلم. فمن رجح حديث جبريل جعل الوقت مشتركا، ومن رجح حديث عبد الله لم يجعل بينهما اشتراكا، وحديث جبريل أمكن أن يصرف إلى حديث عبد الله من حديث عبد الله إلى حديث جبريل، لأنه يحتمل أن يكون الراوي تجوز في ذلك لقرب ما بين الوقتين، وحديث إمامة جبريل صححه الترمذي، وحديث ابن عمر خرجه مسلم. وأما اختلافهم في آخر وقت العصر فعن مالك في ذلك روايتان إحداهما: أن آخر وقتها أن يصير ظل كل شيء مثليه، وبه قال الشافعي. والثانية أن آخر وقتها ما لم تصفر الشمس، وهذا قول أحمد بن حنبل. وقال أهل الظاهر: آخر وقتها قبل غروب الشمس بركعة. والسبب في اختلافهم أن في ذلك ثلاثة أحاديث متعارضة: الظاهر أحدها حديث عبد الله بن عمر خرجه مسلم وفيه "فإذا صليتم العصر فإنه وقت إلى أن تصفر الشمس" وفي بعض رواياته "وقت العصر ما لم تصفر الشمس". والثاني حديث ابن عباس في إمامة جبريل، وفيه "أنه صلى به العصر في اليوم الثاني حين كان ظل كل شيء مثليه". والثالث حديث أبي هريرة المشهور "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح" فمن صار إلى ترجيح حديث إمامة جبريل جعل آخر وقتها المختار المثلين (ومن صار إلى ترجيح حديث ابن عمر جعل آخر وقتها اصفرار الشمس) (ما بين القوسين زائد بالنسخة المطبوعة بفاس أثبتناه لأنه من الضروري) ومن صار إلى ترجيح حديث أبي هريرة قال: وقت العصر إلى أن يبقى منها ركعة قبل غروب الشمس، وهم أهل الظاهر كما قلنا. وأما الجمهور فسلكوا في حديث أبي هريرة وحديث ابن عمر مع حديث ابن عباس إذ كان معارضا لهما كل التعارض مسلك الجمع، لأن حديثي ابن عباس وابن عمر تتقارب الحدود المذكورة فيهما، ولذلك قال مالك مرة بهذا، ومرة بذلك. وأما الذي في حديث أبي هريرة فبعيد منهما ومتفاوت فقالوا: حديث أبي هريرة إنما خرج مخرج أهل الأعذار. @-(المسألة الثالثة) اختلفوا في المغرب هل لها وقت موسع كسائر الصلوات أم لا؟ فذهب قوم إلى أن وقتها واحد غير موسع، وهذا هو أشهر الروايات عن مالك وعن الشافعي. وذهب قوم إلى أن وقتها موسع وهو ما بين غروب الشمس إلى غروب الشفق، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وأبو ثور وداود وقد روي هذا القول عن مالك والشافعي. وسبب اختلافهم في ذلك معارضة حديث إمامة جبريل في ذلك لحديث عبد الله بن عمر وذلك أن في حديث إمامة جبريل أنه صلى المغرب في اليومين في وقت واحد، وفي حديث عبد الله "ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق" فمن رجح حديث إمامة جبريل جعل لها وقتا واحد، ومن رجح حديث عبد الله جعل لها وقتا موسعا، وحديث عبد الله خرجه مسلم ولم يخرج الشيخان حديث إمامة جبريل: أعني حديث ابن عباس الذي فيه أنه صلى بالنبي عليه الصلاة والسلام عشر صلوات مفسرة الأوقات ثم قال له: الوقت ما بين هذين، والذي في حديث عبد الله من ذلك هو موجود أيضا في حديث بريدة الأسلمي، خرجه مسلم، وهو أصل في هذا الباب. قالوا: وحديث بريدة أولى لأنه كان بالمدينة عند سؤال السائل له عن أوقات الصلوات، وحديث جبريل كان في أول الفرض بمكة. @-(المسألة الرابعة) اختلفوا من وقت العشاء الآخرة في موضعين: أحدهما في أوله، والثاني في آخره. أما أوله فذهب مالك والشافعي وجماعة إلى أنه مغيب الحمرة، وذهب أبو حنيفة إلى أنه مغيب البياض الذي يكون بعد الحمرة. وسبب اختلافهم في هذه المسألة اشتراك اسم الشفق في لسان العرب فإنه كما أن الفجر في لسانهم فجران كذلك الشفق شفقان: أحمر، وأبيض. ومغيب الشفق الأبيض يلزم أن يكون بعده من أول الليل (إما بعد الفجر المستدق من آخر الليل: أعني الفجر الكاذب، وإما بعد الفجر الأبيض المستطير وتكون الحمرة نظير الحمرة، فالطوالع إذا أربعة: الفجر الكاذب، والفجر الصادق، والأحمر والشمس، وكذلك يجب أن تكون الغوارب ولذلك ما ذكر عن الخليل من أنه رصد الشفق الأبيض فوجده يبقى إلى ثلث الليل كذب بالقياس والتجربة (ما بين القوسين زيادة بالنسخة المصرية غير موجودة بالنسخة الفاسية فأثبتناها كما هي ا هـ))، وذلك أنه لا خلاف بينهم أنه قد ثبت في حديث بريدة وحديث إمامة جبريل أنه صلى العشاء في اليوم الأول حين غاب الشفق، وقد رجح الجمهور مذهبهم بما ثبت "أن رسول الله ﷺ كان يصلي العشاء عند مغيب القمر في الليلة الثالثة" ورجح أبو حنيفة مذهبة بما ورد في تأخير العشاء واستحباب تأخيره وقوله "لولا أن أشق على أمتي لأخرت هذه الصلاة إلى نصف الليل" وأما آخر وقتها فاختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: قول إنه ثلث الليل. وقول إنه نصف الليل وقول إنه إلى طلوع الفجر، وبالأول: أعني ثلث الليل، قال الشافعي وأبو حنيفة، وهو المشهور من مذهب مالك، وروي عن مالك القول الثاني: أعني نصف الليل، وأما الثالث فقول داود. وسبب الخلاف في ذلك تعارض الآثار، ففي حديث إمامة جبريل أنه صلاها بالنبي عليه الصلاة والسلام في اليوم الثاني ثلث الليل. وفي حديث أنس أنه قال "أخر النبي ﷺ صلاة العشاء إلى نصف الليل" خرجه البخاري. وروي أيضا من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "لولا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء إلى نصف الليل" وفي حديث أبي قتادة ليس التفريط في النوم إنما التفريط أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى. فمن ذهب مذهب الترجيح لحديث إمامة جبريل قال ثلث الليل، ومن ذهب مذهب الترجيح لحديث أنس قال شطر الليل. وأما أهل الظاهر فاعتمدوا حديث أبي قتادة وقالوا هو عام وهو متأخر عن حديث إمامة جبريل فهو ناسخ ولو لم يكن ناسخا لكان تعارض الآثار يسقط حكمها، فيجب أن يصار إلى استصحاب حال الإجماع، وقد اتفقوا على أن الوقت يخرج لما بعد طلوع الفجر واختلفوا فيما قبل، فإنا روينا عن ابن عباس أن الوقت عنده إلى طلوع الفجر فوجب أن يستصحب حكم الوقت، إلا حيث وقع الاتفاق على خروجه وأحسب أنه به قال أبو حنيفة. @-(المسألة الخامسة) واتفقوا على أن أول وقت الصبح طلوع الفجر الصادق وآخره طلوع الشمس، إلا ما روي عن ابن القاسم وعن بعض أصحاب الشافعي من أن آخر وقتها الإسفار. واختلفوا في وقتها المختار، فذهب الكوفيون وأبو حنيفة وأصحابه والثوري وأكثر العراقيين إلى أن الإسفار بها أفضل، وذهب مالك والشافعي وأصحابه وأحمد بن حنبل وأبو ثور وداود إلى أن التغليس بها أفضل، وسبب اختلافهم اختلافهم في طريقة جمع الأحاديث المختلفة الظواهر في ذلك، وذلك أنه ورد عنه عليه الصلاة والسلام من طريق رافع بن خديج أنه قال "أسفروا بالصبح فكلما أسفرتم فهو أعظم للأجر" وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال وقد سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: "الصلاة لأول ميقاتها" وثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يصلي الصبح فتنصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس" وظاهر الحديث أنه كان عمله في الأغلب، فمن قال إن حديث رافع خاص وقوله "الصلاة لأول ميقاتها" عام، والمشهور أن الخاص يقضي عن العام إذا هو استثنى من هذا العموم صلاة الصبح وجعل حديث عائشة محمولا على الجواز، وأنه إنما تضمن الإخبار بوقوع ذلك منه لا بأنه كان ذلك غالب أحواله ﷺ قال: الإسفار أفضل من التغليس. ومن رجح حديث العموم لموافقة حديث عائشة له، ولأنه نص في ذلك أو ظاهر، وحديث رافع بن خديج محتمل، لأنه يمكن أن يريد بذلك تبين الفجر وتحققه، فلا يكون بينه وبين حديث عائشة ولا العموم الوارد في ذلك تعارض قال: أفضل الوقت أوله. وأما من ذهب إلى أن آخر وقتها الإسفار فإنه تأول الحديث في ذلك أنه لأهل الضرورات: أعني قوله عليه الصلاة والسلام "من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح" وهذا شبيه بما فعله الجمهور في العصر. والعجب أنهم عدلوا عن ذلك في هذا ووافقوا أهل الظاهر، ولذلك لأهل الظاهر أن يطالبوهم بالفرق بين ذلك. @-القسم الثاني من الفصل الأول من الباب الأول. فأما أوقات الضرورة والعذر فأثبتها كما قلنا فقهاء الأمصار ونفاها أهل الظاهر، وقد تقدم سبب اختلافهم في ذلك. واختلف هؤلاء الذين أثبتوها في ثلاثة مواضع: أحدها لأي الصلوات توجد هذه الأوقات ولأيها لا؟ والثاني في حدود هذه الأوقات. والثالث في من هم أهل العذر الذين رخص لهم في هذه الأوقات وفي أحكامهم في ذلك: أعني من وجوب الصلاة ومن سقوطها. @-(المسألة الأولى) اتفق مالك والشافعي على أن هذا الوقت هو لأربع صلوات: للظهر والعصر مشتركا بينهما، والمغرب والعشاء كذلك، وإنما اختلفوا في جهة اشتراكهما على ما سيأتي بعد، وخالفهم أبو حنيفة فقال: إن هذا الوقت إنما هو للعصر فقط، وأنه ليس ههنا وقت مشترك. وسبب اختلافهم في ذلك هو اختلافهم في جواز الجمع بين الصلاتين في السفر في وقت إحداهما على ما سيأتي بعد، فمن تمسك بالنص الوارد في صلاة العصر أعني الثابت من قوله عليه الصلاة والسلام "من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل مغيب الشمس فقد أدرك العصر" وفهم من هذا الرخصة، ولم يجز الاشتراك في الجمع لقوله عليه الصلاة والسلام "لا يفوت وقت صلاة حتى يدخل وقت الأخرى" ولما سنذكره بعد في باب الجمع من حجج الفريقين قال: إنه لا يكون هذا الوقت إلا لصلاة العصر فقط. ومن أجاز الاشتراك في الجمع في السفر قاس عليه أهل الضرورات، لأن المسافر أيضا صاحب ضرورة وعذر، فجعل هذا الوقت مشتركا للظهر والعصر والمغرب والعشاء. @-(المسألة الثانية) اختلف مالك والشافعي في آخر الوقت المشترك لهما، فقال مالك: هو للظهر والعصر من بعد الزوال، بمقدار أربع ركعات للظهر للحاضر وركعتين للمسافر، إلى أن يبقى للنهار مقدار أربع ركعات للحاضر وركعتين للمسافر فجعل الوقت الخاص للظهر إنما هو مقدار أربع ركعات للحاضر بعد الزوال، وإما ركعتان للمسافر، وجعل الوقت الخاص بالعصر إما أربع ركعات قبل المغيب للحاضر وإما ثنتان للمسافر: أعني أنه من أدرك الوقت الخاص فقط لم تلزمه إلا الصلاة الخاصة بذلك الوقت إن كان ممن لم تلزمه الصلاة قبل ذلك الوقت، ومن أدرك أكثر من ذلك أدرك الصلاتين معا أو حكم ذلك الوقت وجعل آخر الوقت الخاص لصلاة العصر مقدار ركعة قبل الغروب، وكذلك فعل في اشتراك المغرب والعشاء، إلا أن الوقت الخاص مرة جعله للمغرب فقال: هو مقدار ثلاث ركعات قبل أن يطلع الفجر، ومرة جعله للصلاة الأخيرة كما فعل في العصر فقال هو مقدار أربع ركعات وهو القياس، وجعل آخر هذا الوقت مقدار ركعة قبل طلوع الفجر. وأما الشافعي فجعل حدود أواخر هذه الأوقات المشتركة حدا واحدا وهو إدراك ركعة قبل غروب الشمس، وذلك للظهر والعصر معا، ومقدار ركعة أيضا قبل انصداع الفجر وذلك للمغرب والعشاء معا، وقد قيل عنه بمقدار تكبيرة: أعني أنه من أدرك تكبيرة قبل غروب الشمس فقد لزمته صلاة الظهر والعصر معا. وأما أبو حنيفة فوافق مالكا في أن آخر وقت العصر مقدار ركعة لأهل الضرورات عنده قبل الغروب ولم يوافق في الاشتراك والاختصاص. وسبب اختلافهم أعني مالكا والشافعي هل القول باشتراك الوقت للصلاتين معا يقتضي أن لهما وقتين: وقت خاص بهما ووقت مشترك؟ أم إنما يقتضي أن لهما وقتا مشتركا فقط؟ وحجة الشافعي أن الجمع إنما دل على الاشتراك فقط لا على وقت خاص. وأما مالك فقاس الاشتراك عنده في وقت الضرورة على الاشتراك عنده في وقت التوسعة: أعني أنه لما كان لوقت الظهر والعصر الموسع وقتان، وقت مشترك ووقت خاص، وجب أن يكون الأمر كذلك في أوقات الضرورة، والشافعي لا يوافقه على اشتراك الظهر والعصر في وقت التوسعة، فخلافهما في هذه المسألة إنما ينبني والله أعلم على اختلافهم في تلك الأولى فتأمله، فإنه بين والله أعلم. @-(المسألة الثالثة) وأما هذه الأوقات: أعني أوقات الضرورة، فاتفقوا على أنها لأربع: للحائض تطهر في هذه الأوقات أو تحيض في هذه الأوقات وهي لم تصل، والمسافر يذكر الصلاة في هذه الأوقات وهو حاضر، أو الحاضر يذكرها فيها وهو مسافر، والصبي يبلغ فيها، والكافر يسلم. واختلفوا في المغمي عليه فقال مالك والشافعي: هو كالحائض من أهل هذه الأوقات لأنه لا يقضي عندهم الصلاة التي ذهب وقتها. وعند أبي حنيفة أنه يقضي الصلاة فيما دون الخمس، فإذا أفاق عنده من إغمائه متى ما أفاق قضى الصلاة. وعند الآخر أنه إذا أفاق في أوقات الضرورة لزمته الصلاة التي أفاق في وقتها، وإذا لم يفق فيها لم تلزمه الصلاة، وستأتي مسألة المغمى عليه فيما بعد، واتفقوا على أن المرأة إذا طهرت في هذه الأوقات إنما تجب عليها الصلاة التي طهرت في وقتها، فإن طهرت عند مالك وقد بقي من النهار أربع ركعات لغروب الشمس إلى ركعة فالعصر فقط لازمة لها وإن بقي خمس ركعات فالصلاتان معا. وعند الشافعي إن بقي ركعة للغروب فالصلاتان معا كما قلنا، أو تكبيرة على القول الثاني له، وكذلك الأمر عند مالك في المسافر الناسي يحضر في هذه الأوقات، أو الحاضر يسافر، وكذلك الكافر يسلم في هذه الأوقات: أعني أنه تلزمهم الصلاة، وكذلك الصبي يبلغ، والسبب في أن جعل مالك الركعة جزءا لآخر الوقت، وجعل الشافعي جزء الركعة حدا مثل التكبيرة. منها أن قوله عليه الصلاة والسلام "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" وهو عند مالك من باب التنبيه بالأقل على الأكثر، وعند الشافعي من باب التنبيه بالأكثر على الأقل، وأيد هذا بما روي "من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" فإنه فهم من السجدة ههنا جزء من الركعة وذلك على قوله الذي قال فيه: من أدرك منهم تكبيرة قبل الغروب أو الطلوع فقد أدرك الوقت. ومالك يرى أن الحائض إنما تعتد بهذا الوقت بعد الفراغ من طهرها، وكذلك الصبي يبلغ. وأما الكافر يسلم فيعتد له بوقت الإسلام دون الفراغ من الطهر وفيه خلاف. والمغمى عليه عند مالك كالحائض، وعند عبد الملك كالكافر يسلم. ومالك يرى أن الحائض إذا حاضت في هذه الأوقات وهي لم تصل بعد أن القضاء ساقط عنها، والشافعي يرى أن القضاء واجب عليها، وهو لازم لمن يرى أن الصلاة تجب بدخول أول الوقت، لأنها إذا حاضت وقد مضى من الوقت ما يمكن أن تقع فيه الصلاة فقد وجبت عليها الصلاة، إلا أن يقال إن الصلاة إنما تجب بآخر الوقت، وهو مذهب أبي حنيفة لا مذهب مالك، فهذا كما ترى لازم لقول أبي حنيفة أعني جاريا على أصوله لا على أصول قول مالك. 4*الفصل الثاني من الباب الأول في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.

@-وهذه الأوقات اختلف العلماء منها في موضعين: أحدهما في عددها، والثاني في الصلوات التي يتعلق النهي عن فعلها فيها. @-(المسألة الأولى) اتفق العلماء على أن ثلاثة من الأوقات منهي عن الصلاة فيها وهي: وقت طلوع الشمس، ووقت غروبها، ومن لَدُن تصلي صلاة الصبح حتى تطلع الشمس. واختلفوا في وقتين: في وقت الزوال وفي الصلاة بعد العصر؛ فذهب مالك وأصحابه إلى أن الأوقات المنهي عنها هي أربعة: الطلوع، والغروب، وبعد الصبح، وبعد العصر، وأجاز الصلاة عند الزوال. وذهب الشافعي إلى أن هذه الأوقات خمسة كلها منهي عنها إلا وقت الزوال يوم الجمعة فإنه أجاز فيه الصلاة. واستثنى قوم من ذلك الصلاة بعد العصر. وسبب الخلاف في ذلك أحد شيئين: إما معارضة أثر لأثر، وإما معارضة الأثر للعمل عند من راعى العمل: أعني عمل أهل المدينة، وهو مالك بن أنس، فحيث ورد النهي ولم يكن هناك معارض لا من قول ولا من عمل اتفقوا عليه، وحيث ورد المعارض اختلفوا. أما اختلافهم في وقت الزوال فلمعارضة العمل فيه للأثر، وذلك أنه ثبت من حديث عقبة بن عامر الجهني أنه قال "ثلاث ساعات كان رسول الله ﷺ ينهانا أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تضيف الشمس للغروب" خرجه مسلم، وحديث أبو عبد الله الصنابحي في معناه، ولكنه منقطع، خرجه مالك في موطئه. فمن الناس من ذهب إلى منع الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة كلها. ومن الناس من استثنى من ذلك وقت الزوال، إما بإطلاق وهو مالك، وإما في يوم الجمعة فقط وهو الشافعي. وأما مالك فلأن العمل عنده بالمدينة لما وجده على الوقتين فقط ولم يجده على الوقت الثالث: أعني الزوال أباح الصلاة فيه، وأعتقد أن ذلك النهي منسوخ بالعمل. وأما من لم ير للعمل تأثيرا فبقي على أصله في المنع، وقد تكلمنا في العمل وقوته في كتابنا في الكلام الفقهي، وهو الذي يدعى بأصول الفقه. وأما الشافعي فلما صح عنده ما روى ابن شهاب عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر، ومعلوم أن خروج عمر كان بعد الزوال على ما صح ذلك من حديث الطنفسة التي كانت تطرح إلى جدار المسجد الغربي، فإذا غشي الطنفسة كلها ظل الجدار خرج عمر بن الخطاب مع ما رواه أيضا عن أبي هريرة "أن رسول الله ﷺ نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة" استثنى من ذلك النهي يوم الجمعة، وقوي هذا الأثر عنده العمل في أيام عمر بذلك وإن كان الأثر عنده ضعيفا. وأما من رجح الأثر الثابت في ذلك فبقي على أصله في النهي. وأما اختلافهم في الصلاة بعد صلاة العصر فسببه تعارض الآثار الثابتة في ذلك، وذلك أن في ذلك حديثين متعارضين: أحدهما حديث أبي هريرة المتفق على صحته "أن رسول الله ﷺ نهى عن الصلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس". والثاني حديث عائشة قالت "ما ترك رسول الله ﷺ صلاتين في بيتي قط سرا ولا علانية: ركعتين قبل الفجر، وركعتين بعد العصر" فمن رجح حديث أبي هريرة قال بالمنع، ومن رجح حديث عائشة أو رآه ناسخا لأنه العمل الذي مات عليه ﷺ قال بالجواز، وحديث أم سلمة يعارض حديث عائشة، وفيه "أنها رأت رسول الله ﷺ يصلي ركعتين بعد العصر، فسألته عن ذلك فقال: إنه أتاني ناس من عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر وهما هاتان". @-(المسألة الثانية) اختلف العلماء في الصلاة التي لا تجوز في هذه الأوقات فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنها لا تجوز في هذه الأوقات صلاة بإطلاق لا فريضة مقضية ولا سنة ولا نافلة إلا عصر يومه، قالوا: فإنه يجوز أن يقضيه عند غروب الشمس إذا نسيه. واتفق مالك والشافعي أنه يقضي الصلوات المفروضة في هذه الأوقات. وذهب الشافعي إلى أن الصلوات التي لا تجوز في هذه الأوقات هي النوافل فقط التي تفعل لغير سبب، وأن السنن مثل صلاة الجنازة تجوز في هذه الأوقات، ووافقه مالك في ذلك بعد العصر وبعد الصبح: أعني في السنن، وخالفه في التي تفعل لسبب مثل ركعتي المسجد، فإن الشافعي يجيز هاتين الركعتين بعد العصر وبعد الصبح، ولا يجيز ذلك مالك، واختلف قول مالك في جواز السنن عند الطلوع والغروب. وقال الثوري في الصلوات التي لا تجوز في هذه الأوقات هي ما عدا الفرض ولم يفرق سنة من نفل، فيتحصل في ذلك ثلاثة أقوال: قول هي الصلوات بإطلاق. وقول إنها ما عدا الفروض سواء كانت سنة أو نفلا. وقول إنها النفل دون السنن. وعلى الرواية التي منع مالك فيها صلاة الجنائز عند الغروب قول رابع، وهو أنها النفل فقط بعد الصبح والعصر والنفل والسنن معا عند الطلوع والغروب. وسبب الخلاف في ذلك اختلافهم في الجمع بين العمومات المتعارضة في ذلك أعني الواردة في السنة، وأي يخص بأي، وذلك أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام "إذا نسي أحدكم الصلاة فليصلها إذا ذكرها" يقتضي استغراق جميع الأوقات، وقوله في أحاديث النهي في هذه الأوقات "نهى رسول الله ﷺ عن الصلاة فيها" يقتضي أيضا عموم أجناس الصلوات المفروضات والسنن والنوافل، فمتى حملنا الحديثين على العموم في ذلك وقع بينهما تعارض هو من جنس التعارض الذي يقع بين العام والخاص، إما في الزمان، وإما في اسم الصلاة. فمن ذهب إلى الاستثناء في الزمان: أعني الاستثناء الخاص من العام منع الصلوات بإطلاق في تلك الساعات، ومن ذهب إلى استثناء الصلاة المفروضة المنصوص عليها بالقضاء من عموم اسم الصلاة المنهي عنها منع ما عدا الفرض في تلك الأوقات، وقد رجح مالك مذهبه من استثناء الصلوات المفروضة من عموم لفظ الصلاة بما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" ولذلك استثنى الكوفيون عصر اليوم من الصلوات المفروضة، لكن قد كان يجب عليهم أن يستثنوا من ذلك صلاة الصبح أيضا للنص الوارد فيها، ولا يردوا ذلك برأيهم من أن المدرك لركعة قبل الطلوع يخرج للوقت المحظور، والمدرك لركعة قبل الغروب يخرج للوقت المباح. وأما الكوفيون فلهم أن يقولوا إن هذا الحديث ليس يدل على استثناء الصلوات المفروضة من عموم اسم الصلاة التي تعلق النهي بها في تلك الأيام لأن عصر اليوم ليس في معنى سائر الصلوات المفروضة، وكذلك كان لهم أن يقولوا في الصبح لو سلموا أنه يقضى في الوقت المنهي عنه، فإذا الخلاف بينهم آيل إلى أن المستثنى الذي ورد به اللفظ هل هو من باب الخاص أريد به الخاص أم من باب الخاص أريد به العام؟ وذلك أن من رأى أن المفهوم من ذلك هي صلاة العصر والصبح فقط المنصوص عليهما فهو عنده من باب الخاص أريد به الخاص، ومن رأى أن المفهوم من ذلك ليس هو صلاة العصر فقط ولا الصبح بل هي جميع الصلاة المفروضة، فهو عنده من باب الخاص أريد به العام، وإذا كان ذلك كذلك فليس ها هنا دليل قاطع على أن الصلوات المفروضة هي المستثناة من اسم الصلاة الفائتة، كما أنه ليس ههنا دليل أصلا لا قاطع ولا غير قاطع على استثناء الزمان الخاص الوارد في أحاديث النهي من الزمان العام الوارد في أحاديث الأمر دون استثناء الصلاة الخاصة المنطوق بها في أحاديث الأمر من الصلاة العامة المنطوق بها في أحاديث النهي، وهذا بين، فإنه إذا تعارض حديثان في كل واحد منهما عام وخاص لم يجب أن يصار إلى تغليب أحدهما إلا بدليل: أعني استثناء خاص هذا من عام ذاك أو خاص ذاك من عام هذا، وذلك بين والله أعلم. 3*الباب الثاني في معرفة الأذان والإقامة.

@-هذا الباب ينقسم أيضا إلى فصلين: الأول في الأذان. والثاني في الإقامة. 4*الفصل الأول.

@-هذا الفصل ينحصر الكلام فيه في خمسة أقسام: الأول: صفته. الثاني: في حكمه. الثالث: في وقته. الرابع: في شروطه. الخامس: فيما يقوله السامع له. @-القسم الأول من الفصل الأول من الباب الثاني في صفة الأذان. اختلف العلماء في الأذان على أربع صفات مشهورة: إحداها تثنية التكبير فيه وتربيع الشهادتين وباقيه مثنى، وهو مذهب أهل المدينة مالك وغيره، واختار المتأخرون من أصحاب مالك الترجيع، وهو أن يثني الشهادتين أولا خفيا ثم يثنيهما مرة ثانية مرفوع الصوت. والصفة الثانية أذان المكيين، وبه قال الشافعي، وهو تربيع التكبير الأول والشهادتين وتثنية باقي الأذان، والصفة الثالثة أذان الكوفيين، وهو تربيع التكبير الأول وتثنية باقي الأذان، وبه قال أبو حنيفة. والصفة الرابعة أذان البصريين وهو تربيع التكبير الأول وتثليث الشهادتين وحي على الصلاة وحي على الفلاح، ويبدأ بأشهد أن لا إله إلا الله حتى يصل إلى حي على الفلاح، ثم يعيد كذلك مرة ثانية: أعني الأربع كلمات تبعا، ثم يعيدهن ثالثة، وبه قال الحسن البصري وابن سيرين. والسبب في اختلاف كل واحد من هؤلاء الأربع فرق اختلاف الآثار في ذلك واختلاف اتصال العمل عند كل واحد منهم، وذلك أن المدنيين يحتجون لمذهبهم بالعمل المتصل بذلك في المدينة، والمكيون كذلك أيضا يحتجون بالعمل المتصل عندهم بذلك وكذلك الكوفيون والبصريون ولكل واحد منهم آثار تشهد لقوله. أما تثنية التكبير في أوله على مذهب أهل الحجاز فروي من طرق صحاح عن أبي محذورة وعبد الله بن زيد الأنصاري، وتربيعه أيضا مروي عن أبي محذورة من طرق أخر وعن عبد الله بن زيد. قال الشافعي: وهي زيادات يجب قبولها مع اتصال العمل بذلك بمكة. وأما الترجيع الذي اختاره المتأخرون من أصحاب مالك فروي من طريق أبي قدامة: قال أبو عمر: وأبو قدامة عندهم ضعيف. وأما الكوفيون فبحديث أبي ليلى وفيه "أن عبد الله بن زيد رأى في المنام رجلا قام على خرم حائط وعليه بردان أخضران، فأذن مثنى وأقام مثنى وأنه أخبر بذلك رسول الله ﷺ، فقام بلال فأذن مثنى وأقام مثنى" والذي خرجه البخاري في هذا الباب إنما هو من حديث أنس فقط وهو "أن بلالا أمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة إلا قد قامت الصلاة، فإنه يثنيها" وخرج مسلم عن أبي محذورة على صفة أذان الحجازين ولمكان هذا التعارض الذي ورد في الأذان رأى أحمد بن حنبل وداود أن هذه الصفات المختلفة إنما وردت على التخيير لا على إيجاب واحدة منها، وأن الإنسان مخير فيها، واختلفوا في قول المؤذن في صلاة الصبح الصلاة خير من النوم هل يقال فيها أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه يقال ذلك فيها. وقال آخرون: إنه لا يقال لأنه ليس من الأذان المسنون، وبه قال الشافعي. وسبب اختلافهم اختلافهم هل قيل ذلك في زمان النبي ﷺ؟ أو إنما قيل في زمان عمر؟. @-القسم الثاني من الفصل الأول من الباب الثاني. اختلف العلماء في حكم الأذان هل هو واحب أو سنة مؤكدة، وإن كان واجبا فهل هو من فروض الأعيان أو من فروض الكفاية؟ فقيل عن مالك إن الأذان هو فرض على مساجد الجماعات، وقيل سنة مؤكدة، ولم يره على المنفرد لا فرضا ولا سنة. وقال بعض أهل الظاهر هو واجب على الأعيان. وقال بعضهم: على الجماعة كانت في سفر أو في حضر. وقال بعضهم: في السفر. واتفق الشافعي وأبو حنيفة على أنه سنة للمنفرد والجماعة إلا أنه آكد في حق الجماعة. قال أبو عمر: واتفق الكل على أنه سنة مؤكدة أو فرض على المصري لما ثبت "أن رسول الله ﷺ كان إذا سمع النداء لم يغر، وإذا لم يسمعه أغار". والسبب في اختلافهم معارضة المفهوم من ذلك لظواهر الآثار، وذلك أنه ثبت أن رسول الله ﷺ قال لمالك بن الحويرث ولصاحبه "إذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما" وكذلك ما روي من اتصال عمله به ﷺ في الجماعة، فمن فهم من هذا الوجوب مطلقا قال إنه فرض على الأعيان أو على الجماعة، وهو الذي حكاه ابن المغلس عن داود، ومن فهم منه الدعاء إلى الاجتماع للصلاة قال إنه سنة المساجد أو فرض في المواضع التي يجتمع إليها الجماعة. فسبب الخلاف هو تردده بين أن يكون قولا من أقاويل الصلاة المختصة بها أو يكون المقصود به هو الاجتماع. @-القسم الثالث من الفصل الأول في وقته. وأما وقت الأذان فاتفق الجميع على أنه لا يؤذن للصلاة قبل وقتها، ما عدا الصبح فإنه اختلفوا فيها، فذهب مالك والشافعي إلى أنه يجوز أن يؤذن لها قبل الفجر، ومنع ذلك أبو حنيفة، وقال قوم: لا بد للصبح إذا أذن لها قبل الفجر من أذان بعد الفجر، لأن الواجب عندهم هو الأذان بعد الفجر. وقال أبو محمد بن حزم: لا بد لها من أذان بعد الوقت، وإن أذن قبل الوقت جاز إذا كان بينهما زمان يسير قدر ما يهبط الأول ويصعد الثاني. والسبب في اختلافهم أنه ورد في ذلك حديثان متعارضان: أحدهما الحديث المشهور الثابت، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "إن بلالا ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم، وكان ابن مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت. والثاني ما روي عن ابن عمر "أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي ﷺ أن يرجع فينادي: ألا إن العبد قد نام" وحديث الحجازين أثبت، وحديث الكوفيين أيضا خرجه أبو داود وصححه كثير من أهل العلم، فذهب الناس في هذين الحديثين إما مذهب الجمع، وإما مذهب الترجيح، فأما من ذهب مذهب الترجيح فالحجازيون، فإنهم قالوا: حديث بلال أثبت والمصير إليه أوجب. وأما من ذهب مذهب الجمع فالكوفيون، وذلك أنهم قالوا: يحتمل أن يكون نداء بلال في وقت يشك فيه في طلوع الفجر، لأنه كان في بصره ضعف، ويكون نداء ابن أم مكتوم في وقت يتيقن فيه طلوع الفجر، ويدل على ذلك ما روي عن عائشة أنها قالت "لم يكن بين أذانيهما إلا بقدر ما يهبط هذا ويصعد هذا" وأما من قال إنه يجمع بينهما: أعني أن يؤذن قبل الفجر وبعده فعلى ظاهر ماروي من ذلك في صلاة الصبح خاصة أعني أنه كان يؤذن لها في عهد رسول الله ﷺ مؤذنان بلال وابن أم مكتوم. @-القسم الرابع من الفصل الأول من الشروط. وفي هذا القسم مسائل ثمانية: إحداها هل من شروط من أذن أن يكون هو الذي يقيم أم لا؟ والثانية هل من شرط الأذان أن لا يتكلم في أثنائه أم لا؟ والثالثة هل من شرطه أن يكون على طهارة أم لا؟ والرابعة هل من شرطه أن يكون متوجها إلى القبلة أم لا؟ والخامسة هل من شرطه أن يكون قائما أم لا؟ والسادسة هل يكره أذان الراكب أم ليس يكره؟ والسابعة هل من شرطه البلوغ أم لا؟ والثامنة هل من شرطه أن لا يأخذ على الأذان أجرا أم يجوز له أن يأخذه؟. فأما اختلافهم في الرجلين يؤذن أحدهما ويقيم الآخر، فأكثر فقهاء الأمصار على إجازة ذلك، وذهب بعضهم إلى أن ذلك لا يجوز، والسبب في ذلك أنه ورد في هذا حديثان متعارضان: أحدهما حديث الصدائي قال "أتيت رسول الله ﷺ فلما كان أوان الصبح أمرني فأذنت ثم قام إلى الصلاة، فجاء بلال ليقيم، فقال رسول الله ﷺ إن أخا صداء أذن، ومن أذن فهو يقيم". والحديث الثاني ما روي أن عبد الله بن زيد حين أري الأذان رسول الله ﷺ بلالا فأذن، ثم أمر عبد الله فأقام. فمن ذهب مذهب النسخ قال: حديث عبد الله بن زيد متقدم وحديث الصدائي متأخر. ومن ذهب مذهب الترجيح قال: حديث عبد الله بن زيد أثبت، لأن حديث الصدائي انفرد به عبد الرحمن بن زياد الإفريقي وليس بحجة عندهم. وأما اختلافهم في الأجرة على الأذان فلمكان اختلافهم في تصحيح الخبر الوارد في ذلك: أعني حديث عثمان بن أبي العاص أنه قال "إن من آخر ما عهد إلي رسول الله ﷺ أن أتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا" ومن منعه قاس الأذان في ذلك على الصلاة. وأما سائر الشروط الأخر فسبب الخلاف فيها هو قياسها على الصلاة، فمن قاسها على الصلاة أوجب تلك الشروط الموجودة في الصلاة، ومن لم يقسها لم يوجب ذلك. قال أبو عمر بن عبد البر: قد روينا عن أبي وائل بن حجر قال: حق وسنة مسنونة أن لا يؤذن إلا وهو قائم، ولا يؤذن إلا على طهر، قال: وأبو وائل هو من الصحابة، وقوله سنة يدخل في المسند وهو أولى من القياس. قال القاضي: وقد خرج الترمذي عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال "لا يؤذن إلا متوضئ". @-القسم الخامس. اختلف العلماء فيما يقوله السامع للمؤذن، فذهب قوم إلى أنه يقول ما يقول المؤذن كلمة بكلمة إلى آخر النداء، وذهب آخرون إلى أنه يقول مثل ما يقول المؤذن إلا إذا قال حي على الصلاة حي على الفلاح، فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. والسبب في الاختلاف في ذلك تعارض الآثار، وذلك أنه قد روي من حديث أبي سعيد الخدري أنه عليه الصلاة والسلام قال "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول" وجاء من طريق عمر بن الخطاب وحديث معاوية أن السامع يقول عند حي على الفلاح لا حول ولا قوة إلا بالله. فمن ذهب مذهب الترجيح أخذ بعموم حديث أبي سعيد الخدري، ومن بنى العام في ذلك على الخاص جمع بين الحديثين، وهو مذهب مالك بن أنس. 4*الفصل الثاني من الباب الثاني من الجملة الثانية في الإقامة.

@-اختلفوا في الإقامة في موضعين في حكمها وفي صفتها. أما حكمها فإنها عند فقهاء الأمصار في حق الأعيان، والجماعات سنة مؤكدة أكثر من الأذان، وهي عند أهل الظاهر فرض ولا أدري هل هي فرض عندهم على الإطلاق أو فرض من فروض الصلاة؟ والفرق بينهما أن على القول الأول لا تبطل الصلاة بتركها. وعلى الثاني تبطل. وقال ابن كنانة من أصحاب مالك: من تركها عامدا بطلت صلاته. وسبب هذا الاختلاف اختلافهم هل هي من الأفعال التي وردت بيانا لمجمل الأمر بالصلاة فيحمل على الوجوب لقوله عليه الصلاة والسلام "صلوا كما رأيتموني أصلي" أم هي من الأفعال التي تحمل على الندب؟ وظاهر حديث مالك بن الحويرث يوجب كونها فرضا إما في الجماعة وإما على المنفرد. وأما صفة الإقامة فإنها عند مالك والشافعي. إما التكبير الذي في أولها فمثنى. وأما ما بعد ذلك فمرة واحدة إلا قوله قد قامت الصلاة، فإنها عند مالك مرة واحدة، وعند الشافعي مرتين. وأما الحنفية فإن الإقامة عندهم مثنى مثنى، وخير أحمد بن حنبل بين الإفراد والتثنية على رأيه في التخيير في النداء. وسبب الاختلاف تعارض حديث أنس في هذا المعنى وحديث أبي ليلى المتقدم، وذلك أن في حديث أنس الثابت أمر بلال أن يشفع الأذان ويفرد الإقامة إلا قد قامت الصلاة. وفي حديث أبي ليلى أنه عليه الصلاة والسلام أمر بلالا فأذن مثنى وأقام مثنى. والجمهور أنه ليس على النساء أذان ولا إقامة. وقال مالك: إن أقمن فحسن، وقال الشافعي: إن أذن وأقمن فحسن، وقال إسحاق: إن عليهن الأذان والإقامة. وروي عن عائشة أنها كانت تؤذن وتقيم فيما ذكره ابن المنذر، والخلاف آيل إلى هل تؤم المرأة أو لا تؤم؟ وقيل الأصل أنها في معنى الرجل في كل عبادة، إلا أن يقوم الدليل على تخصيصها، أم في بعضها هي كذلك وفي بعضها يطلب الدليل؟. 3*الباب الثالث من الجملة الثانية في القبلة.

@-اتفق المسلمون على أن التوجه نحو البيت شرط من شروط صحة الصلاة لقوله تعالى {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام} أما إذا أبصر البيت، فالفرض عندهم هو التوجه إلى عين البيت، ولا خلاف في ذلك. وأما إذا غابت الكعبة عن الأبصار فاختلفوا من ذلك في موضعين: أحدهما هل الفرض هو العين أو الجهة؟ والثاني هل فرضه الإصابة أو الاجتهاد: أعني إصابة الجهة أو العين عند من أوجب العين؟ فذهب قوم إلى أن الفرض هو العين، وذهب آخرون إلى أنه الجهة. والسبب في اختلافهم هل في قوله تعالى {فول وجهك شطر المسجد الحرام} محذوف حتى يكون تقديره: ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام أم ليس ههنا محذوف أصلا وأن الكلام على حقيقته؟ فمن قدر هنالك محذوفا قال: الفرض الجهة، ومن لم يقدر هنالك محذوفا قال: الفرض العين، والواجب حمل الكلام على الحقيقة حتى يدل الدليل على حمله على المجاز، وقد يقال إن الدليل على تقدير هذا المحذوف قوله عليه الصلاة والسلام "ما بين المشرق والمغرب قبلة إذا توجه نحو البيت" قالوا: واتفاق المسلمين على الصف الطويل خارج الكعبة يدل على أن الفرض ليس هو العين أعني إذا لم تكن الكعبة مبصرة. والذي أوله إنه لو كان واجبا قصد العين لكان حرجا، قد قال تعالى {وما جعل عليكم في الدين من حرج} فإن إصابة العين شيء لا يدرك إلا بتقريب وتسامح بطريق الهندسة واستعمال الأرصاد في ذلك، فكيف بغير ذلك من طرق الاجتهاد ونحن لم نكلف الاجتهاد فيه بطريق الهندسة المبني على الأرصاد المستنبط منها طول البلاد وعرضها. @-(وأما المسألة الثانية) فهي هل فرض المجتهد في القبلة الإصابة أو الاجتهاد فقط حتى يكون إذا قلنا إن فرضه الإصابة متى تبين له أنه أخطأ أعاد الصلاة. ومتى قلنا إن فرضه الاجتهاد لم يجب أن يعيد إذا تبين له الخطأ، وقد كان صلى قبل اجتهاده. أما الشافعي فزعم أن فرضه الإصابة وأنه إذا تبين له أنه أخطأ أعاد أبدا. وقال قوم: لا يعيد وقد مضت صلاته ما لم يتعمد أو صلى بغير اجتهاد، وبه قال مالك وأبو حنيفة، إلا أن مالكا استحب له الإعادة في الوقت. وسبب الخلاف في ذلك معارضة الأثر للقياس مع الاختلاف أيضا في تصحيح الأثر الوارد في ذلك. أما القياس فهو تشبيه الجهة بالوقت: أعني بوقت الصلاة، وذلك أنهم أجمعوا على أن الفرض فيه هو الإصابة، وأنه إن انكشف للمكلف أنه صلى قبل الوقت أعاد أبدا إلا خلافا شاذا في ذلك عن ابن عباس وعن الشعبي، وما روي عن مالك من أن المسافر إذا جهل فصلى العشاء قبل غيبوية الشفق ثم انكشف له أنه صلاها قبل غيبوبة الشفق أنه قد مضت صلاته، ووجه الشبه بينهما أن هذا ميقات وقت، وهذا ميقات جهة. وأما الأثر فحديث عامر بن ربيعة قال "كنا مع رسول الله ﷺ في ليلة ظلماء في سفر، فخفيت علينا القبلة، فصلى كل واحد منا إلى وجه وعلَّمنا، فلما أصبحنا فإذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة، فسألنا رسول الله ﷺ فقال: مضت صلاتكم، ونزلت {ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} وعلى هذا فتكون هذه الآية محكمة، وتكون فيمن صلى فانكشف له أنه صلى لغير القبلة، والجمهور على أنها منسوخة بقوله تعالى {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام} فمن لم يصح عنده هذا الأثر قاس ميقات الجهة على ميقات الزمان، ومن ذهب مذهب الأثر لم تبطل صلاته. وفي هذا الباب مسألة مشهورة، وهي جواز الصلاة في داخل الكعبة. وقد اختلفوا في ذلك، فمنهم من منعه على الإطلاق، ومنهم من أجازه على الإطلاق، ومنهم من فرق بين النفل في ذلك والفرض. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك، والاحتمال المتطرق لمن استقبل أحد حيطانها من داخل هل يسمى مستقبلا للبيت كما يسمى من استقبله من خارج أم لا؟ أما الأثر فإنه ورد في ذلك حديثان متعارضان كلاهما ثابت: أحدهما حديث ابن عباس قال "لما دخل رسول الله ﷺ البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال: هذه القبلة" والثاني حديث عبد الله بن عمر "أن رسول الله ﷺ دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة وبلال بن رباح، فأغلقها عليه ومكث فيها، فسألت بلالا حين خرج ماذا صنع رسول الله ﷺ؟ فقال: جعل عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه ثم صلى" فمن ذهب مذهب الترجيح أو النسخ قال إما بمنع الصلاة مطلقا إن رجح حديث ابن عباس، وإما بإجازتها مطلقا إن رجح حديث ابن عمر، ومن ذهب مذهب الجمع بينهما حمل حديث ابن عباس على الفرض وحديث ابن عمر على النفل، والجمع بينهما فيه عسر، فإن الركعتين اللتين صلاهما عليه الصلاة والسلام خارج الكعبة وقال "هذه القبلة" هي نفل، ومن ذهب مذهب سقوط الأثر عند التعارض، فإن كان ممن يقول باستصحاب حكم الإجماع والاتفاق لم يجز الصلاة داخل البيت أصلا، وإن كان ممن لا يرى استصحاب حكم الإجماع عاد النظر في انطلاق اسم المستقبل للبيت على من صلى داخل الكعبة، فمن جوزه أجاز الصلاة، ومن لم يجوزه، وهو الأظهر، لم يجز الصلاة في البيت، واتفق العلماء بأجمعهم على استحباب السترة بين المصلي والقبلة إذا صلى، منفردا كان أو إماما، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام "إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل" واختلفوا في الخط إذا لم يجد سترة، فقال الجمهور: ليس عليه أن يخط. وقال أحمد بن حنبل: يخط خطا بين يديه. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح الأثر الوارد في الخط، والأثر رواه أبو هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال "إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يكن فلينصب عصا، فإن لم تكن معه عصا فليخط خطا ولا يضره من مر بين يديه" خرجه أبو داود وكان أحمد بن حنبل يصححه والشافعي لا يصححه وقد روي "أنه ﷺ صلى لغير سترة" والحديث الثابت أنه كان يخرج له العنزة، فهذه جملة قواعد هذا الباب وهي أربع مسائل. 3*الباب الرابع من الجملة الثانية.

@-وهذا الباب ينقسم إلى فصلين: أحدهما في ستر العورة والثاني فيما يجزئ من اللباس في الصلاة. 4*الفصل الأول.

@-اتفق العلماء على أن ستر العورة فرض بإطلاق، واختلفوا هل هو شرط من شروط صحة الصلاة أم لا؟ وكذلك اختلفوا في حد العورة من الرجل والمرأة، وظاهر مذهب مالك أنها من سنن الصلاة، وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنها من فروض الصلاة وسبب الخلاف في ذلك تعارض الآثار واختلافهم في مفهوم قوله تعالى {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} هل الأمر بذلك على الوجوب أو على الندب؟ فمن حمله على الوجوب قال: المراد به ستر العورة، واحتج لذلك بأن سبب نزول هذه الآية كان أن المرأة كانت تطوف بالبيت عريانة وتقول: اليوم يبدو بعضه أو كله * وما بدا منه فلا أحله فأنزلت هذه الآية "وأمر رسول الله ﷺ أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان" ومن حمله على الندب قال: المراد بذلك الزينة الظاهرة من الرداء وغير ذلك من الملابس التي هي زينة، واحتج لذلك بما جاء في الحديث من أنه كان رجال يصلون مع النبي عليه الصلاة والسلام عاقدي أزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان، ويقال للنساء لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوسا قالوا: ولذلك من لم يجد ما به يستر عورته لم يختلف في أنه يصلي، واختلف فيمن عدم الطهارة هل يصلي أم لا يصلي؟. @-(وأما المسألة الثانية) وهي حد العورة من الرجل فذهب مالك والشافعي إلى أن حد العورة منه ما بين السرة إلى الركبة، وكذلك قال أبو حنيفة وقال قوم: العورة هما السوأتان فقط من الرجل. وسبب الخلاف في ذلك أثران متعارضان كلاهما ثابت: أحدهما حديث جرهد أن النبي ﷺ قال "الفخذ عورة". والثاني حديث أنس "أن النبي ﷺ حسر عن فخذه وهو جالس مع أصحابه" قال البخاري وحديث أنس أسند وحديث جرهد أحوط، وقد قال بعضهم العورة الدبر والفرج والفخذ. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي حد العورة في المرأة، فأكثر العلماء على أن بدنها كله عورة ما خلى الوجه والكفين، وذهب أبو حنيفة إلى أن قدمها ليست بعورة، وذهب أبو بكر بن عبد الرحمن وأحمد إلى أن المرأة كلها عورة. وسبب الخلاف في ذلك احتمال قوله تعالى {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} هل هذا المستثنى المقصود منه أعضاء محدودة، أم إنما المقصود به ما لا يملك ظهوره؟ فمن ذهب إلى أن المقصود من ذلك ما لا يملك ظهوره عند الحركة قال: بدنها كله عورة حتى ظهرها، واحتج لذلك بعموم قوله تعالى {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين} الآية، ومن رأى أن المقصود من ذلك ما جرت به العادة بأنه لا يستر وهو الوجه والكفان ذهب إلى أنهما ليسا بعورة واحتج لذلك بأن المرأة ليست تستر وجهها في الحج. 4*الفصل الثاني من الباب الرابع فيما يجزئ في اللباس في الصلاة.

@-أما اللباس فالأصل فيه قوله تعالى {خذوا زينتكم عند كل مسجد} والنهي الوارد عن هيئات بعض الملابس في الصلاة، وذلك أنهم اتفقوا فيما أحسب على أن الهيئات من اللباس التي نهي عن الصلاة فيها مثل اشتمال الصماء، وهو أن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء، وأن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء، وسائر ما ورد من ذلك أن ذلك كله سد ذريعة ألا تنكشف عورته، ولا أعلم أن أحدا قال لا تجوز صلاة على إحدى هذه الهيئات إن لم تنكشف عورته، وقد كان على أصول أهل الظاهر يجب ذلك واتفقوا على أنه يجزئ الرجل من اللباس في الصلاة الثوب الواحد لقول النبي ﷺ وقد سئل أيصلي الرجل في الثوب الواحد؟ فقال "أو لكلكم ثوبان؟" واختلفوا في الرجل يصلي مكشوف الظهر والبطن، فالجمهور على جواز صلاته لكون الظهر والبطن من الرجل ليسا بعورة، وشذ قوم فقالوا: لا تجوز صلاته لنهيه ﷺ أن يصلي الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء، وتمسك بوجوب قوله تعالى {خذوا زينتكم عند كل مسجد} واتفق الجمهور على أن اللباس المجزئ للمرأة في الصلاة هو درع وخمار، لما روي عن أم سلمة "أنها سألت رسول الله ﷺ: ماذا تصلي فيه المرأة؟ فقال: في الخمار والدرع السابغ إذا غيبت ظهور قدميها" ولما روي أيضا عن عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار" وهو مروي عن عائشة وميمونة وأم سلمة أنهم كانوا يفتون بذلك وكل هؤلاء يقولون إنها إن صلت مكشوفة أعادت في الوقت وبعده، إلا مالكا فإنه قال: إنها تعيد في الوقت فقط. والجمهور على أن الخادم لها أن تصلي مكشوفة الرأس والقدمين، وكان الحسن البصري يوجب عليها الخمار واستحبه عطاء. وسبب الخلاف الخطاب المتوجه إلى الجنس الواحد هل يتناول الأحرار والعبيد معا أم الأحرار فقط دون العبيد؟ واختلفوا في صلاة الرجل في الثوب الحرير فقال قوم: تجوز صلاته فيه. وقال قوم: لا تجوز. وقوم استحبوا له الإعادة في الوقت. وسبب اختلافهم في ذلك هل الشيء المنهي عنه مطلقا اجتنابه شرط في صحة الصلاة أم لا؟ فمن ذهب إلى أنه شرط: قال إن الصلاة لا تجوز به، ومن ذهب إلى أنه يكون بلباسه مأثوما والصلاة جائزة قال: ليس شرطا في صحة الصلاة كالطهارة التي هي شرط، وهذه المسألة هي من نوع الصلاة في الدار المغصوبة والخلاف فيها مشهور. 3*الباب الخامس.

@-وأما الطهارة من النجس فمن قال إنها سنة مؤكدة فيبعد أن يقول إنها فرض في الصلاة أي من شروط صحتها. ومن قال إنها فرض بإطلاق فيجوز أن يقول إنها فرض في الصلاة، ويجوز أن لا يقول ذلك؛ وحكى عبد الوهاب عن المذهب في ذلك قولين: أحدهما إن إزالة النجاسة شرط في صحة الصلاة في حال القدرة والذكر، والقول الآخر إنها ليست شرطا. والذي حكاه من أنها شرط لا يتخرج على مشهور المذهب من أن غسل النجاسة سنة مؤكدة، وإنما يتخرج على القول بأنها فرض مع الذكر والقدرة، وقد مضت هذه المسألة في كتاب الطهارة، وعرف هنالك أسباب الخلاف فيها، وإنما الذي يتعلق به ههنا الكلام من ذلك: هل ما هو فرض مطلق مما يقع في الصلاة يجب أن يكون فرضا في الصلاة أم لا؟ والحق أن الشيء المأمور به على الإطلاق لا يجب أن يكون شرطا في صحة شيء ما (آخر مأمور به، وإن وقع فيه إلا بأمر آخر، وكذلك الأمر في الشيء المنهي عنه على الإطلاق لا يجب أن يكون شرطا في صحة شيء ما) (ما بين القوسين غير موجود بالنسخة المصرية، لكنه مثبت في النسخة الفاسية اهـ) إلا بأمر آخر. 3*الباب السادس.

@-وأما المواضع التي يصلي فيها، فإن من الناس من أجاز الصلاة في كل موضع لا تكون فيه نجاسة، ومنهم من استثنى من ذلك سبعة مواضع: المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، والحمام، ومعاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله، ومنهم من استثنى من ذلك المقبرة فقط، ومنهم من استثنى المقبرة والحمام، ومنهم من كره الصلاة في هذه المواضع المنهي عنها ولم يبطلها وهو أحد ما روي عن مالك، وقد روي عنه الجواز، وهذه رواية ابن القاسم. وسبب اختلافهم تعارض ظواهر الآثار في هذا الباب، وذلك أن ههنا حديثين متفق على صحتهما وحديثين مختلف فيهما. فأما المتفق عليهما فقوله عليه الصلاة والسلام "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، وذكر فيها: وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأينما أدركتني الصلاة صليت" وقوله عليه الصلاة والسلام "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا" وأما الغير المتفق عليهما فأحدهما ما روي "أنه عليه الصلاة والسلام نهى أن يصلي في سبعة مواطن: في المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمام وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت الله" خرجه الترمذي. والثاني ما روي أنه قال عليه الصلاة والسلام "صلوا في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل" فذهب الناس في هذه الأحاديث ثلاثة مذاهب: أحدهما مذهب الترجيح والنسخ، والثاني مذهب البناء: أعني بناء الخاص على العام، والثالث مذهب الجمع. فأما من ذهب مذهب الترجيح والنسخ فأخذ بالحديث المشهور، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" وقال هذا ناسخ لغيره، لأن هذه هي فضائل له عليه الصلاة والسلام ، وذلك مما لا يجوز نسخه. وأما من ذهب مذهب بناء الخاص على العام فقال: حديث الإباحة عام، وحديث النهي خاص، فيجب أن يبني الخاص على العام. فمن هؤلاء من استثنى السبعة مواضع، ومنهم من استثنى الحمام والمقبرة وقال: هذا هو الثابت عنه عليه الصلاة والسلام لأنه قد روي أيضا النهي عنهما مفردين. ومنهم من استثنى المقبرة فقط للحديث المتقدم. وأما من ذهب مذهب الجمع ولم يستثن خاصا من عام فقال أحاديث النهي محمولة على الكراهة، والأول على الجواز. واختلفوا في الصلاة في البيع والكنائس، فكرهها قوم، وأجازها قوم، وفرق قوم بين أن يكون فيها صور أو لا يكون، وهو مذهب ابن عباس لقول عمر: لا تدخل كنائسهم من أجل التماثيل، والعلة فيمن كرهها لا من أجل التصاوير، حملها على النجاسة، واتفقوا على الصلاة على الأرض، واختلفوا في الصلاة على الطنافس وغير ذلك مما يقعد عليه على الأرض، والجمهور على إباحة السجود على الحصير وما يشبهه مما تنبت الأرض، والكراهية بعد ذلك، وهو مذهب مالك بن أنس (لا يخفى ما في هذه العبارة فتدبر). 3*الباب السابع. في معرفة الشروط التي هي شروط في صحة الصلاة.

@-وأما التروك المشترطة في الصلاة، فاتفق المسلمون على أن منها قولا، ومنها فعلا. فأما الأفعال فجميع الأفعال المباحة التي ليست من أفعال الصلاة، إلا قتل العقرب والحية في الصلاة، فإنهم اختلفوا في ذلك لمعارضة الأثر في ذلك للقياس، واتفقوا فيما أحسب على جواز الفعل الخفيف. وأما الأقوال فهي أيضا الأقوال التي ليست من أقاويل الصلاة، وهذه أيضا لم يختلفوا أنها تفسد الصلاة عمدا لقوله تعالى {وقوموا لله قانتين} ولما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام "إن الله يحدث من أمره ما يشاء" ومما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة، وهو حديث ابن مسعود وحديث زيد بن أرقم أنه قال "كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت {وقوموا لله قانتين} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام" وحديث معاوية بن الحكم السلمي: سمعت رسول الله ﷺ يقول "إن صلاتنا لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتهليل والتحميد وقراءة القرآن" إلا أنهم اختلفوا من ذلك في موضعين: أحدهما إذا تكلم ساهيا، والآخر إذا تكلم عامدا لإصلاح الصلاة. وشذ الأوزاعي فقال: من تكلم في الصلاة لإحياء نفس أو لأمر كبير، فإنه يبنى. والمشهور من مذهب مالك أن التكلم عمدا على جهة الإصلاح لا يفسدها. وقال الشافعي: يفسدها التكلم كيف كان إلا مع النسيان. وقال أبو حنيفة: يفسدها التكلم كيف كان. والسبب في اختلافهم تعارض ظواهر الأحاديث في ذلك، وذلك أن الأحاديث المتقدمة تقتضي تحريم الكلام على العموم، وحديث أبي هريرة المشهور "أن رسول الله ﷺ انصرف من اثنتين، فقال له ذو اليدين: اقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله ﷺ: أصدق ذو اليدين؟ فقالوا: نعم، فقام رسول الله ﷺ فصلى ركعتين أخريين ثم سلم" ظاهره أن النبي ﷺ تكلم والناس معه، وأنهم بنوا بعد التكلم، ولم يقطع ذلك التكلم صلاتهم، فمن أخذ بهذا الظاهر، ورأى أن هذا شيء يخص الكلام لإصلاح الصلاة استثنى هذا من ذلك العموم، وهو مذهب مالك بن أنس، ومن ذهب إلى أنه ليس في الحديث دليل على أنهم تكلموا عمدا في الصلاة وإنما يظهر منهم أنهم تكلموا وهم يظنون أن الصلاة قد قصرت، وتكلم النبي عليه الصلاة والسلام وهو يظن أن الصلاة قد تمت، ولم يصح عنده أن الناس قد تكلموا بعد قول رسول الله ﷺ: "ما قصرت الصلاة وما نسيت" قال: إن المفهوم من الحديث إنما هو إجازة الكلام لغير العامد، فإذا السبب في اختلاف مالك والشافعي في المستثنى من ذلك العموم هو اختلافهم في مفهوم هذا الحديث مع أن الشافعي اعتمد أيضا في ذلك أصلا عاما، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" وأما أبو حنيفة فحمل أحاديث النهي على عمومها، ورأى أنها ناسخة لحديث ذي اليدين وأنه متقدم عليها. 3*الباب الثامن. في معرفة النية وكيفية اشتراطها في الصلاة.

@-وأما النية فاتفق العلماء على كونها شرطا في صحة الصلاة لكون الصلاة هي رأس العبادات التي وردت في الشرع لغير مصلحة معقولة: أعني من المصالح المحسوسة، واختلفوا هل من شرط نية المأموم أن توافق نية الإمام في تعيين الصلاة وفي الوجوب حتى لا يجوز أن يصلي المأموم ظهرا بإمام يصلي عصرا؟ ولا يجوز أن يصلي الإمام ظهرا يكون في حقة نفلا، وفي حق المأموم فرضا؟ فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه يجب أن توافق نية المأموم نية الإمام، وذهب الشافعي إلى أنه ليس يجب. والسبب في اختلافهم معارضة مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "إنما جعل الإمام ليؤتم به" لما جاء في حديث معاذ من أنه كان يصلي مع النبي ﷺ ثم يصلي بقومه، فمن رأى ذلك خاصا لمعاذ، وأن عموم قوله عليه الصلاة والسلام "إنما جعل الإمام ليؤتم به" يتناول النية اشترط موافقة الإمام للمأموم. ومن رأى أن الإباحة لمعاذ في ذلك هي إباحة لغيره من سائر المكلفين وهو الأصل قال: لا يخلو الأمر في ذلك الحديث الثاني من أحد أمرين: إما أن يكون ذلك العموم الذي فيه لا يتناول النية لأن ظاهره إنما هو في الأفعال، فلا يكون بهذا الوجه معارضا لحديث معاذ، وإما أن يكون يتناولها فيكون حديث معاذ قد خصص في ذلك العموم. وفي النية مسائل ليس لها تعلق بالمنطوق به من الشرع رأينا تركها إذ كان غرضنا على القصد الأول إنما هو الكلام في المسائل التي تتعلق بالمنطوق به من الشرع. 3*(الجملة الثالثة من كتاب الصلاة) وهي معرفة ما تشتمل عليه من الأقوال والأفعال، وهي الأركان والصلوات المفروضة تختلف في هذين بالزيادة والنقصان، إما من قبل الانفراد والجماعة، وإما من قبل الزمان، مثل مخالفة ظهر الجمعة لظهر سائر الأيام، وإما من قبل الحضر والسفر، وإما من قبل الأمن والخوف، وإما من قبل الصحة والمرض، فإذا أريد أن يكون القول في هذه صناعيا وجاريا على نظام فيجب أن يقال أولا فيما تشترك فيه هذه كلها ثم يقال فيما يخص واحدة واحدة منها، أو يقال في واحدة واحدة منها وهو الأسهل وإن كان هذا النوع من التعليم يعرض منه تكرار ما، وهو الذي سلكه الفقهاء ونحن نتبعهم في ذلك، فنجعل هذه الجملة منقسمة إلى ستة أبواب. الباب الأول: في صلاة المنفرد الحاضر الآمن الصحيح. الباب الثاني: في صلاة الجماعة: أعني في أحكام الإمام والمأموم في الصلاة. الباب الثالث: في صلاة الجمعة. الباب الرابع: في صلاة السفر. الباب الخامس: في صلاة الخوف. الباب السادس: في صلاة المريض.

3*الباب الأول في صلاة المنفرد الحاضر الآمن الصحيح.

@-وهذا الباب فيه فصلان: الفصل الأول: في أقوال الصلاة. والفصل الثاني: في أفعال الصلاة. 4*الفصل الأول في أقوال الصلاة. وفي هذا الفصل من قواعد المسائل تسع مسائل:

@-(المسألة الأولى) اختلف العلماء في التكبير على ثلاثة مذاهب: فقوم قالوا: إن التكبير كله واجب في الصلاة. وقوم قالوا: إنه كله ليس بواجب وهو شاذ. وقوم أوجبوا تكبيرة الإحرام فقط، وهم الجمهور، وسبب اختلاف من أوجبه كله ومن أوجب منه تكبيرة الإحرام فقط: معارضة ما نقل من قوله لما نقل من فعله عليه الصلاة والسلام، فأما ما نقل من قوله فحديث أبي هريرة المشهور أن النبي عليه الصلاة والسلام قال للرجل الذي علمه الصلاة "إذا أردت الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم كبر ثم اقرأ" فمفهوم هذا هو أن التكبيرة الأولى هي الفرض فقط، ولو كان ما عدا ذلك من التكبير فرضا لذكره له كما ذكر سائر فروض الصلاة. وأما ما نقل من فعله فمنها حديث أبي هريرة "أنه كان يصلي فيكبر كلما حفض ورفع، ثم يقول: إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله ﷺ" ومنها حديث مطرف بن عبد الله بن الشخير قال "صليت أنا وعمران بن الحصين خلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فكان إذا سجد كبر، وإذا رفع رأسه من الركوع كبر، فلما قضى صلاته وانصرفنا أخذ عمران بيده، فقال: أذكرني هذا صلاة محمد ﷺ "فالقائلون بإيجابه تمسكوا بهذا العمل المنقول في هذه الأحاديث وقالوا: الأصل أن تكون كل أفعاله التي أتت بيانا لواجب، محمولة على الوجوب كما قال ﷺ صلوا كما رأيتموني أصلي" و"خذوا عني مناسككم" وقالت الفرقة الأولى ما في هذه الآثار يدل على أن العمل عند الصحابة إنما كان على إتمام التكبير ولذلك كان أبو هريرة يقول: إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله ﷺ. وقال عمران: أذكرني هذا بصلاته صلاة محمد ﷺ. وأما من جعل التكبير كله نفلا فضعيف، ولعله قاسه على سائر الأذكار التي في الصلاة مما ليست بواجب، إذ قاس تكبيرة الإحرام على سائر التكبيرات. قال أبو عمر بن عبد البر: ومما يؤيد مذهب الجمهور ما رواه شعبة بن الحجاج عن الحسن بن عمران عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه قال: صليت مع النبي ﷺ فلم يتم التكبير، وصليت مع عمر بن عبد العزيز فلم يتم التكبير. وما رواه أحمد بن حنبل عن عمر رضي الله عنه أنه كان لا يكبر إذا صلى وحده، وكأن هؤلاء رأوا أن التكبير إنما هو لمكان إشعار الإمام للمأمومين بقيامه وقعوده، ويشبه أن يكون إلى هذا ذهب من رآه نفلا. @-(المسألة الثانية) قال مالك: لا يجزئ من لفظ التكبير إلا الله أكبر. وقال الشافعي: الله أكبر والله الأكبر اللفظان كلاهما يجزئ. وقال أبو حنيفة: يجزئ من لفظ التكبير كل لفظ في معناه مثل: الله الأعظم، والله الأجل. وسبب اختلافهم: هل اللفظ هو المتعبد به في الافتتاح أو المعنى، وقد استدل المالكيون والشافعيون بقوله عليه الصلاة والسلام "مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم" قالوا: والألف واللام ههنا للحصر، والحصر يدل على أن الحكم خاص بالمنطوق به، وأنه لا يجوز بغيره، وليس يوافقهم أبو حنيفة على هذا الأصل، فإن هذا المفهوم هو عنده من باب دليل الخطاب، وهو أن يحكم للمسكوت عنه بضد حكم المنطوق به، ودليل الخطاب عند أبي حنيفة غير معمول به. @-(المسألة الثالثة) ذهب قوم إلى أن التوجيه في الصلاة واجب، وهو أن يقول بعد التكبير: إما {وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض} وهو مذهب الشافعي، وإما أن يسبح وهو مذهب أبي حنيفة، وإما أن يجمع بينهما وهو مذهب أبي يوسف وصاحبه. وقال مالك ليس التوجيه بواجب في الصلاة ولا بسنة. وسبب الاختلاف معارضة الآثار الواردة بالتوجيه للعمل عند مالك، أو الاختلاف في صحة الآثار الواردة بذلك. قال القاضي: قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة "أن رسول الله ﷺ كان يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة، قال: فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي: إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب (1) الأبيض من الدنس، اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد" وقد ذهب قوم إلى استحسان سكتات كثيرة في الصلاة، منها حين يكبر، ومنها حين يفرغ من قراءة أم القرآن وإذا فرغ من القراءة قبل الركوع، وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو ثور والأوزاعي، وأنكر ذلك مالك وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث أبي هريرة أنه قال "كانت له عليه الصلاة والسلام في صلاته حين يكبر ويفتتح الصلاة وحين يقرأ فاتحة الكتاب، وإذا فرغ من القراءة قبل الركوع.

(1) [في نسختنا "البرب" بدل "الثوب" وهو خطأ مطبعي!. وتصحيحنا موافق للروايات المشهورة لهذا الدعاء. دار الحديث]

@-(المسألة الرابعة) اختلفوا في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في افتتاح القراءة في الصلاة، فمنع ذلك مالك في الصلاة المكتوبة جهرا كانت أو سرا، لا في استفتاح أم القرآن ولا في غيرها من السور، وأجاز ذلك في النافلة. وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد يقرؤها مع أم القرآن في كل ركعة سرا، وقال الشافعي: يقرؤها ولا بد في الجهر جهرا وفي السر سرا، وهي عنده آية من فاتحة الكتاب، وبه قال أحمد وأبو ثور وأبو عبيد. واختلف قول الشافعي هل هي آية من كل سورة؟ أم إنما هي آية من سورة النمل فقط، ومن فاتحة الكتاب؟ فروي عنه القولان جميعا. وسبب الخلاف في هذا آيل إلى شيئين: أحدهما اختلاف الآثار في هذا الباب، والثاني اختلافهم: هل بسم الله الرحمن الرحيم آية من فاتحة الكتاب أم لا؟ فأما الآثار التي احتج بها من أسقط ذلك فمنها حديث ابن مغفل قال "سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: يا بني إياك والحدث، فإني صليت مع رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر فلم أسمع رجلا منهم يقرؤها "قال أبو عمر بن عبد البر: ابن مغفل رجل مجهول. ومنها ما رواه مالك من حديث أنس أنه قال: "قمت وراء أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فكلهم كان لا يقرأ بسم الله إذا افتتحوا الصلاة" قال أبو عمر: وفي بعض الروايات أنه قال: "خلف النبي ﷺ فكان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم" فقال أبو عمر: إلا أن أهل الحديث قالوا في حديث أنس هذا: إن النقل فيه مضطرب اضطرابا لا تقوم به حجة، وذلك أن مرة روي عنه مرفوعا إلى النبي ﷺ ومرة لم يرفع، ومنهم من يذكر عثمان ومن لا يذكره، ومنهم من يقول: فكانوا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم، ومنهم من يقول: فكانوا لا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم. ومنهم من يقول: فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. وأما الأحاديث المعارضة لهذا، فمنها حديث نعيم بن عبد الله المجمر قال: صليت خلف أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم قبل أم القرآن وقبل السورة وكبر في الخفض والرفع وقال: أنا أشبهكم بصلاة رسول الله ﷺ. ومنها حديث ابن عباس "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم" ومنها حديث أم سلمة أنها قالت: "كان رسول الله ﷺ يقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين" فاختلاف هذه الآثار أحد ما أوجب اختلافهم في قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة. والسبب الثاني كما قلنا هو: هل بسم الله الرحمن الرحيم آية من أم الكتاب وحدها أو من كل سورة أم ليست آية لا أم الكتاب ولا من كل سورة؟ فمن رأى أنها آية من أم الكتاب أوجب قراءتها بوجوب قراءة أم الكتاب عنده في الصلاة، ومن رأى أنها آية من أول كل سورة وجب عنده أن يقرأها مع السورة. وهذه المسألة قد كثر الاختلاف فيها والمسألة محتملة، ولكن من أعجب ما وقع في هذه المسألة أنهم يقولون: ربما اختلف فيه هل بسم الله الرحمن الرحيم آية من القرآن في غير سورة النمل؟ أم إنما هي آية من القرآن في سورة النمل فقط؟ ويحكون على جهة الرد على الشافعي أنها لو كانت من القرآن في غير سورة النمل لبينه رسول الله ﷺ لأن القرآن نقل تواترا، هذا الذي قاله القاضي في الرد على الشافعي وظن أنه قاطع وأما أبو حامد فانتصر لهذا بأن قال إنه أيضا لو كانت من غير القرآن لوجب على رسول الله ﷺ أن يبين ذلك، وهذا كله تخبط وشيء غير مفهوم، فإنه كيف يجوز في الآية الواحدة بعينها أن يقال فيها إنها من القرآن في موضع وإنها ليست من القرآن في موضع آخر، بل يقال إن بسم الله الرحمن الرحيم قد ثبت أنها من القرآن حيثما ذكرت، وأنها آية من سورة النمل، وهل هي آية من سورة أم القرآن ومن كل سورة يستفتح بها، مختلف فيه، والمسألة محتملة، وذلك أنها في سائر السور فاتحة، وهي جزء من سورة النمل، فتأمل هذا فإنه بين، والله أعلم. @-(المسألة الخامسة) اتفق العلماء على أنه لا تجوز صلاة بغير قراءة لا عمدا ولا سهوا، إلا شيئا روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى فنسي القراءة، فقيل له في ذلك، فقال: كيف كان الركوع والسجود؟ فقيل حسن، فقال: لا بأس إذا، وهو حديث غريب عندهم، أدخله مالك في موطئه في بعض الروايات وإلا شيئا روي عن ابن عباس أنه لا يقرأ في صلاة السر وأنه قال "قرأ رسول الله ﷺ في صلوات وسكت في أخرى" فنقرأ فيما قرأ ونسكت فيما سكت. وسئل هل في الظهر والعصر قراءة؟ فقال: لا، وأخذ الجمهور بحديث خباب "أنه ﷺ كان يقرأ في الظهر والعصر، قيل فبأي شيء كنتم تعرفون ذلك؟ قال: باضطراب لحيته" وتعلق الكوفيون بحديث ابن عباس في ترك وجوب القراءة في الركعتين الأخيرتين من الصلاة لاستواء صلاة الجهر والسر في سكوت النبي ﷺ في هاتين الركعتين. واختلفوا في القراءة الواجبة في الصلاة، فرأى بعضهم أن الواجب من ذلك أم القرآن لمن حفظها، وأن ما عداها ليس فيه توقيت، ومن هؤلاء من أوجبها في كل ركعة، ومنهم من أوجبها في أكثر الصلاة، ومنهم من أوجبها في نصف الصلاة، ومنهم من أوجبها في ركعة من الصلاة، وبالأول قال الشافعي، وهي أشهر الروايات عن مالك، وقد روي عنه أنه إن قرأها في ركعتين من الرباعية أجزأته. وأما من رأى أنها تجزئ في ركعة، فمنهم الحسن البصري وكثير من فقهاء البصرة. وأما أبو حنيفة فالواجب عنده إنما هو قراءة القرآن أي آية اتفقت أن تقرأ، وحد أصحابه في ذلك ثلاث آيات قصار أو آية طويلة مثل آية الدين، وهذا في الركعتين الأوليين. وأما في الأخيرتين فيستحب عنده التسبيح فيهما دون القراءة، وبه قال الكوفيون. والجمهور يستحبون القراءة فيها كلها. والسبب في هذا الاختلاف تعارض الآثار في هذا الباب، ومعارضة ظاهر الكتاب للأثر. أما الآثار المتعارضة في ذلك، فأحدها حديث أبي هريرة الثابت "ان رجلا دخل المسجد فصلى ثم جاء فسلم على النبي ﷺ، فرد عليه النبي ﷺ السلام وقال: ارجع فصل فإنك لم تصل، فصلى ثم أمره بالرجوع، فعل ذلك ثلاث مرات، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره، فقال عليه الصلاة والسلام : إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تستوي قائما، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها" وأما المعارض لهذا فحديثان ثابتان متفق عليهما: أحدهما حديث عبادة بن الصامت أنه عليه الصلاة والسلام قال "لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب" وحديث أبي هريرة أيضا أن رسول الله ﷺ قال "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، فهي خداج، فهي خداج ثلاثا" وحديث أبي هريرة المتقدم ظاهره أنه يجزئ من القراءة في الصلاة ما تيسر من القرآن، وحديث عبادة وحديث أبي هريرة الثاني يقتضيان أن أم القرآن شرط في الصلاة، وظاهر قوله تعالى {فاقرءوا ما تيسر منه} يعضد حديث أبي هريرة المتقدم:، والعلماء المختلفون في هذه المسألة إما أن يكونوا ذهبوا في تأويل هذه الأحاديث مذهب الجمع، وإما أن يكونوا ذهبوا مذهب الترجيح، وعلى كلا القولين يتصور هذا المعنى، وذلك أنه من ذهب مذهب من أوجب قراءة ما تيسر من القرآن له أن يقول هذا أرجح، لأن ظاهر الكتاب يوافقه، وله أن يقول على طريق الجمع أنه يمكن أن يكون حديث عبادة المقصود به نفي الكمال لا نفي الإجزاء، وحديث أبي هريرة المقصود منه الإعلام بالمجزئ من القراءة، إذا كان المقصود منه تعليم فرائض الصلاة، ولأولئك أيضا أن يذهبوا هذين المذهبين بأن يقولوا هذه الأحاديث أوضح لأنها أكثر، وأيضا فإن حديث أبي هريرة المشهور يعضده، وهو الحديث الذي فيه يقول تعالى "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين: نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، يقول العبد الحمد لله رب العالمين، يقول الله حمدني عبدي" الحديث، ولهم أن يقولوا أيضا إن قوله عليه الصلاة والسلام "ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن" مبهم والأحاديث الأخر معينة، والمعين يقضي على المبهم، وهذا فيه عسر، فإن معنى حرف "ما" ههنا إنما هو معنى أي شيء تيسر، وإنما يسوغ هذا إن دلت "ما" في كلام العرب على ما تدل عليه لام العهد، فكان يكون تقدير الكلام: اقرأ الذي تيسر معك من القرآن ويكون المفهوم منه أم الكتاب، إذا كانت الألف واللام في الذي تدل على العهد، فينبغي أن يتأمل هذا في كلام العرب، فإن وجدت العرب تفعل هذا أعني تتجوز في موطن ما، فتدل بما على شيء معين فليسغ هذا التأويل، وإلا فلا وجه له، فالمسألة كما ترى محتملة، وإنما كان يرتفع الاحتمال لو ثبت النسخ. وأما الاختلاف من أوجب أم الكتاب في الصلاة في كل ركعة أو في بعض الصلاة فسببه احتمال عودة الضمير الذي في قوله عليه الصلاة والسلام "لم يقرأ فيها بأم القرآن" على كل أجزاء الصلاة أو على بعضها، وذلك أن من قرأ في الكل منها أو في الجزء: أعني في ركعة أو ركعتين لم يدخل تحت قوله عليه الصلاة والسلام "لم يقرأ فيها" وهذا الاحتمال بعينه هو الذي أصار أبا حنيفة إلى أن يترك القراءة أيضا في بعض الصلاة: أعني في الركعتين الأخرتين، واختار مالك أن يقرأ في الركعتين الأوليين من الرباعية بالحمد وسورة، وفي الأخرتين بالحمد فقط، فاختار الشافعي أن تقرأ في الأربع من الظهر بالحمد وسورة إلا أن السورة التي تكون في الأوليين تكون أطول، فذهب مالك إلى حديث أبي قتادة الثابت "أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ في الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين منها بفاتحة الكتاب فقط. وذهب الشافعي إلى ظاهر حديث ابي سعيد الثابت أيضا أنه كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمسة عشر آية، ولم يختلفوا في العصر لاتفاق الحديثين فيها، وذلك أن في حديث أبي سعيد هذا "أنه كان يقرأ في الأوليين من العصر قدر خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر النصف من ذلك". @-(المسألة السادسة) اتفق الجمهور على منع قراءة القرآن في الركوع والسجود لحديث علي في ذلك قال "نهاني جبريل ﷺ أن أقرأ القرآن راكعا وساجدا" قال الطبري: وهو حديث صحيح، وبه أخذ فقهاء الأمصار، وصار قوم من التابعين إلى جواز ذلك، وهو مذهب البخاري لأنه لم يصح الحديث عنده، والله أعلم. واختلفوا: هل الركوع والسجود قول محدود يقوله المصلي أم لا؟ فقال مالك: ليس في ذلك قول محدود. وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وجماعة غيرهم إلى أن المصلي يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثا، وفي السجود سبحان ربي الأعلى ثلاثا على ما جاء في حديث عقبة بن عامر. وقال الثوري: أحب إلى أن يقولها الإمام خمسا في صلاته حتى يدرك الذي خلفه ثلاثة تسبيحات. والسبب في هذا الاختلاف معارضة حديث ابن عباس في هذا الباب لحديث عقبة بن عامر، وذلك أن في حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام قال "ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا أو ساجدا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم" وفي حديث عقبة بن عامر أنه قال "لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال لنا رسول الله ﷺ: اجعلوها في ركوعكم، ولما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال: اجعلوها في سجودكم" وكذلك اختلفوا في الدعاء في الركوع بعد اتفاقهم على جواز الثناء على الله، فكره ذلك مالك لحديث علي أنه قال عليه الصلاة والسلام: "أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء" وقالت طائفة يجوز الدعاء في الركوع، واحتجوا بأحاديث جاء فيها أنه عليه الصلاة والسلام دعا في الركوع وهو مذهب البخاري، واحتج بحديث عائشة قالت "كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" وأبو حنيفة لا يجيز الدعاء في الصلاة بغير ألفاظ القرآن (وكذا ما ورد من السنة ا هـ مصححه)، ومالك والشافعي يجيزان ذلك. والسبب في ذلك اختلافهم فيه، هل هو كلام أم لا؟. @-(المسألة السابعة) اختلفوا في وجوب التشهد وفي المختار منه، فذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة إلى أن التشهد ليس بواجب، وذهبت طائفة إلى وجوبه، وبه قال الشافعي وأحمد وداود. وسبب اختلافهم معارضة القياس لظاهر الآثار، وذلك أن القياس يقتضي إلحاقه بسائر الأركان التي ليست بواجبة في الصلاة، لاتفاقهم على وجوب القرآن، وأن التشهد ليس بقرآن فيجب. وحديث ابن عباس أنه قال "كان رسول الله ﷺ يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن" يقتضي وجوبه مع أن الأصل عند هؤلاء أن أفعاله وأقواله في الصلاة يجب أن تكون محمولة على الوجوب حتى يدل الدليل على خلاف ذلك، والأصل عند غيرهم على خلاف هذا، وهو أن ما ثبت وجوبه في الصلاة مما اتفق عليه أو صرح بوجوبه فلا يجب أن يلحق به إلا ما صرح به ونص عليه، فهما كما ترى أصلان متعارضان. وأما المختار من التشهد، فإن مالكا رحمه الله اختار تشهد عمر رضي الله عنه الذي كان يعلمه الناس على المنبر، وهو: التحيات لله الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله، السلام عليك أيها النبي، ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. واختار أهل الكوفة أبو حنيفة وغيره تشهد عبد الله بن مسعود. قال أبو عمر: وبه قال أحمد وأكثر أهل الحديث، لثبوت نقله عن رسول الله ﷺ وهو: "التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله" واختار الشافعي وأصحابه تشهد عبد الله بن عباس الذي رواه عن النبي ﷺ قال "كان رسول الله ﷺ يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، فكان يقول "التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" وسبب اختلافهم اختلاف ظنونهم في الأرجح منها، فمن غلب على ظنه رجحان حديث ما من هذه الأحاديث الثلاثة مال إليه، وقد ذهب كثير من الفقهاء إلى أن هذا كله على التخيير كالأذان والتكبير على الجنائز وفي العيدين وفي غير ذلك مما تواتر نقله، وهو الصواب والله أعلم. وقد اشترط الشافعي الصلاة على النبي ﷺ في التشهد وقال: إنها فرض لقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} ذهب إلى أن هذا التسليم هو التسليم من الصلاة، وذهب الجمهور إلى أنه التسليم الذي يؤتى به عقب الصلاة عليه، وذهب قوم من أهل الظاهر إلى أنه واجب أن يتعوذ المتشهد من الأربع التي جاءت في الحديث من عذاب القبر ومن عذاب جهنم ومن فتنة المسيح الدجال ومن فتنة المحيا والممات، لأنه ثبت "أن رسول الله ﷺ كان يتعوذ منها في آخر تشهده" وفي بعض طرقه "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ من أربع" الحديث خرجه مسلم. @-(المسألة الثامنة) اختلفوا في التسليم من الصلاة، فقال الجمهور بوجوبه، وقال أبو حنيفة وأصحابه: ليس بواجب، والذين أوجبوه منهم من قال الواجب على المنفرد والإمام تسليمة واحدة، ومنهم من قال اثنتان، فذهب الجمهور مذهب ظاهر حديث علي، وهو قوله عليه الصلاة والسلام فيه "وتحليلها التسليم" ومن ذهب إلى أن الواجب من ذلك تسليمتان، فلما ثبت من "أنه عليه الصلاة والسلام كان يسلم تسليمتين" وذلك عند من حمل فعله على الوجوب. واختار مالك للمأموم تسليمتين والإمام واحدة، وقد قيل عنه إن المأموم يسلم ثلاثا: الواحدة للتحليل، والثانية للإمام، والثالثة لمن هو عن يساره. وأما أبو حنيفة فذهب إلى ما رواه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي أن عبد الرحمن بن رافع وبكر بن سوادة حدثاه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله ﷺ "إذا جلس الرجل في آخر صلاته فأحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته" قال أبو عمر بن عبد البر: وحديث علي المتقدم أثبت عند أهل النقل، لأن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص انفرد به الإفريقي، وهو عند أهل النقل ضعيف. قال القاضي: إن كان أثبت من طريق النقل فإنه محتمل من طريق اللفظ، وذلك أنه ليس يدل على أن الخروج من الصلاة لا يكون بغير التسليم إلا بضرب من دليل الخطاب وهو مفهوم ضعيف عند الأكثر، ولكن للجمهور أن يقولوا إن الألف واللام التي للحصر أقوى من دليل الخطاب في كون حكم المسكوت عنه بضد حكم المنطوق به. @-(المسألة التاسعة) اختلفوا في القنوت، فذهب مالك إلى أن القنوت في صلاة الصبح مستحب. وذهب الشافعي إلى أنه سنة، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يجوز القنوت في صلاة الصبح، وأن القنوت إنما موضعه الوتر. وقال قوم: بل يقنت في كل صلاة. وقال قوم: لا قنوت إلا في رمضان. وقال قوم: بل في النصف الأخير منه. وقال قوم: بل في النصف الأول منه. والسبب في ذلك اختلاف الآثار المنقولة في ذلك عن النبي ﷺ، وقياس بعض الصلوات في ذلك على بعض: أعني التي قنت فيها على التي لم يقنت فيها. قال أبو عمر بن عبد البر: والقنوت بلعن الكفرة في رمضان مستفيض في الصدر الأول اقتداء برسول الله ﷺ في دعائه على رعل وذكوان، والنفر الذين قتلوا أصحاب بئر معونة. وقال الليث بن سعد: ما قنت منذ أربعين عاما أو خمسة وأربعين عاما إلا وراء إمام يقنت. قال الليث: وأخذت في ذلك بالحديث الذي جاء عن النبي ﷺ أنه قنت شهرا أو أربعين يدعو لقوم ويدعو على آخرين، حتى أنزل الله تبارك وتعالى معاتبا {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} فترك رسول الله ﷺ القنوت فما قنت بعدها حتى لقي الله، قال: فمنذ حملت هذا الحديث لم أقنت، وهو مذهب يحيى بن يحيى. قال القاضي: ولقد حدثني الأشياخ أنه كان العمل عليه بمسجده عندنا بقرطبة، وأنه استمر إلى زماننا أو قريب من زماننا. وخرج مسلم عن أبي هريرة "أن النبي عليه الصلاة والسلام قنت في صلاة الصبح، ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت {ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم} وخرج عن أبي هريرة أنه قنت في الظهر والعشاء الأخيرة وصلاة الصبح. وخرج عنه عليه الصلاة والسلام "أنه قنت شهرا في صلاة الصبح يدعو على بني عصية" واختلفوا فيما يقنت به، فاستحب مالك القنوت بـ "اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونستهديك ونؤمن بك ونخنع لك ونخلع ونترك من يكفرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك إن عذابك بالكافرين ملحق" ويسميها أهل العراق السورتين، ويروى أنها في مصحف أبي بن كعب. وقال الشافعي وإسحاق بل يقنت "باللهم اهدنا فيمن هديت وعافينا فيمن عافيت، وقنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، تباركت ربنا وتعاليت" وهذا يرويه الحسن بن علي من طرق ثابتة أن النبي عليه الصلاة والسلام علمه هذا الدعاء يقنت به في الصلاة. وقال عبد الله بن داود: من لم يقنت بالسورتين فلا يصلي خلفه. وقال قوم: ليس في القنوت شيء موقوت. 4*الفصل الثاني في الأفعال التي هي أركان وفي هذا الفصل من قواعد المسائل ثماني مسائل

@-(المسألة الأولى) اختلف العلماء في رفع اليدين في الصلاة في ثلاثة مواضع: أحدها في حكمه. والثاني في المواضع التي يرفع فيها من الصلاة. والثالث إلى أن ينتهي برفعها. فأما الحكم، فذهب الجمهور إلى أنه سنة في الصلاة، وذهب داود وجماعة من أصحابه إلى أن ذلك فرض، وهؤلاء انقسموا أقساما فمنهم من أوجب ذلك في تكبيرة الإحرام فقط. ومنهم من أوجب ذلك في الاستفتاح وعند الركوع: أعني عند الانحطاط فيه وعند الارتفاع منه، ومنهم من أوجب ذلك في هذين الموضعين وعند السجود، وذلك بحسب اختلافهم في المواضع التي يرفع فيها. وسبب اختلافهم معارضة ظاهر حديث أبي هريرة الذي فيه تعليم فرائض الصلاة لفعله عليه الصلاة والسلام، وذلك أن حديث أبي هريرة إنما فيه أنه قال له وكبر ولم يأمره برفع يديه، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عمر وغيره "أنه كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة" وأما اختلافهم في المواضع التي ترفع فيها فذهب أهل الكوفة أبو حنيفة وسفيان الثوري وسائر فقهائهم إلى أنه لا يرفع المصلي يديه إلا عند تكبيرة الإحرام فقط، وهي رواية ابن القاسم عن مالك، وذهب الشافعي وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور، وجمهور أهل الحديث وأهل الظاهر إلى الرفع عند تكبيرة الإحرام وعند الركوع، وعند الرفع من الركوع وهو مروى عن مالك إلا أنه عند بعض أولئك فرض وعند مالك سنة. وذهب بعض أهل الحديث إلى رفعها عند السجود وعند الرفع منه. والسبب في هذا الاختلاف كله اختلاف الآثار الواردة في ذلك ومخالفة العمل بالمدينة لبعضها، وذلك أن في ذلك أحاديث أحدها حديث عبد الله بن مسعود، وحديث البراء بن عازب "أنه كان عليه الصلاة والسلام يرفع يديه عند الإحرام مرة واحدة لا يزيد عليها، والحديث الثاني حديث ابن عمر عن أبيه أن رسول الله ﷺ كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما أيضا كذلك وقال "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" كان لا يفعل ذلك في السجود، وهو حديث متفق على صحته وزعموا أنه روى ذلك عن النبي ﷺ ثلاثة عشر رجلا من أصحابه. والحديث الثالث حديث وائل بن حجر، وفيه زيادة على ما في حديث عبد الله بن عمر "أنه كان يرفع يديه عند السجود" فمن حمل الرفع ههنا على أنه ندب أو فريضة، فمنهم من اقتصر به على الإحرام فقط ترجيحا لحديث عبد الله بن مسعود وحديث البراء بن عازب وهو مذهب مالك لموافقة العمل به، ومنهم من رجح حديث عبد الله بن عمر، فرأى الرفع في الموضعين أعني في الركوع وفي الافتتاح لشهرته، واتفق الجميع عليه ومن كان رأيه من هؤلاء أن الرفع فريضة حمل ذلك على الفريضة، ومن كان رأيه أنه ندب حمل ذلك على الندب، ومنهم من ذهب مذهب الجمع وقال: إنه يجب أن تجمع هذه الزيادات بعضها إلى بعض على ما في حديث وائل بن حجر، فإذا العلماء ذهبوا في هذه الآثار مذهبين: إما مذهب الترجيح، وإما مذهب الجمع. والسبب في اختلافهم في حمل رفع اليدين في الصلاة: هل هو على الندب أو على الفرض؟ هو السبب الذي قلناه قبل من أن بعض الناس يرى أن الأصل في أفعاله ﷺ أن تحمل على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك، ومنهم من يرى أن الأصل لا يزاد فيما صح بدليل واضح من قول ثابت أو إجماع أنه من فرائض الصلاة إلا بدليل واضح، وقد تقدم هذا من قولنا، ولا معنى لتكرير الشيء الواحد مرات كثيرة، وأما الحد الذي ترفع إليه اليدان، فذهب بعضهم إلى أنه المنكبان، وبه قال مالك والشافعي وجماعة، وذهب بعضهم إلى رفعهما إلى الأذنين، وبه قال أبو حنيفة، وذهب بعضهم إلى رفعهما إلى الصدر، وكل ذلك مروي عن النبي ﷺ، إلا أن أثبت ما في ذلك أنه كان يرفعهما حذو منكبيه وعليه الجمهور، والرفع إلى الأذنين أثبت من الرفع إلى الصدر وأشهر. @-(المسألة الثانية) ذهب أبو حنيفة إلى أن الاعتدال من الركوع وفي الركوع غير واجب. وقال الشافعي: هو واجب. واختلف أصحاب مالك: هل ظاهر مذهبه يقتضي أن يكون سنة أو واجبا إذ لم ينقل عنه نص في ذلك: والسبب في اختلافهم: هل الواجب الأخذ ببعض ما ينطلق عليه الاسم أم بكل ذلك الشيء الذي ينطلق عليه الاسم، فمن كان الواجب عنده الأخذ ببعض ما ينطلق عليه الاسم لم يشترط الاعتدال في الركوع، ومن كان الواجب عنده الأخذ بالكل اشترط الاعتدال، وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال في الحديث المتقدم للرجل الذي علمه فروض الصلاة "اركع حتى تطمئن راكعا، وارفع حتى تطمئن رافعا" فالواجب اعتقاد كونه فرضا، وعلى هذا الحديث عول كل من رأى أن الأصل لا تحمل أفعاله عليه الصلاة والسلام في سائر أفعال الصلاة مما لم ينص عليها في هذا الحديث على الوجوب حتى يدل الدليل على ذلك، ومن قبل هذا لم يروا رفع اليدين فرضا ولا ما عدا تكبيرة الإحرام والقراءة من الأقاويل التي في الصلاة فتأمل هذا، فإنه أصل مناقض للأصل الأول وهو سبب الخلاف في أكثر هذه المسائل. @-(المسألة الثالثة) اختلف الفقهاء في هيئة الجلوس، فقال مالك وأصحابه يقضي بأليتيه إلى الأرض وينصب رجله اليمنى ويثني اليسرى، وجلوس المرأة عنده كجلوس الرجل. وقال أبو حنيفة وأصحابه: ينصب الرجل اليمنى ويقعد على اليسرى. وفرق الشافعي بين الجلسة الوسطى والأخيرة، فقال في الوسطى بمثل قول أبي حنيفة، وفي الأخيرة بمثل قول مالك. وسبب اختلافهم في ذلك تعارض الآثار، وذلك أن في ذلك ثلاثة آثار: أحدها وهو ثابت باتفاق حديث أبي حميد الساعدي الوارد في وصف صلاته عليه الصلاة والسلام، وفيه "وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب اليمنى وقعد على مقعدته". والثاني حديث وائل بن حجر، وفيه "أنه كان إذا قعد في الصلاة نصب اليمنى وقعد على اليسرى". والثالث ما رواه مالك عن عبد الله بن عمر أنه قال "إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى، وهو يدخل في المسند لقوله فيه: إنما سنة الصلاة. وفي روايته عن القاسم بن محمد أنه أراهم الجلوس في التشهد ، فنصب رجله اليمنى وثنى اليسرى وجلس على وركه الأيسر ولم يجلس على قدمه، ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر، وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك، فذهب مالك مذهب الترجيح لهذا الحديث، وذهب أبو حنيفة مذهب الترجيح لحديث وائل. وذهب الشافعي مذهب الجمع على حديث أبي حميد. وذهب الطبري مذهب التخيير. وقال: هذه الهيئات كلها جائزة وحسن فعلها لثبوتها عن رسول الله ﷺ، وهو قول حسن، فإن الأفعال المختلفة أولى أن تحمل على التخيير منها على التعارض، وإنما يتصور ذلك التعارض أكثر ذلك في الفعل مع القول أو في القول مع القول. @-(المسألة الرابعة) اختلف العلماء في الجلسة الوسطى والأخيرة، فذهب الأكثر في الوسطى إلى أنها سنة وليست بفرض، وشذ قوم وقالوا: إنها فرض، وكذلك ذهب الجمهور في الجلسة الأخرى إلى أنها فرض وشذ قوم فقالوا: إنها ليست بفرض. والسبب في اختلافهم هو تعارض مفهوم الأحاديث، وقياس إحدى الجلستين على الثانية، وذلك أن في حديث أبي هريرة المتقدم "اجلس حتى تطمئن جالسا" فوجب الجلوس على ظاهر هذا الحديث في الصلاة كلها، فمن أخذ بهذا قال: إن الجلوس كله فرض، ولما جاء في حديث ابن بحينة الثابت "أنه عليه الصلاة والسلام أسقط الجلسة الوسطى ولم يجبرها وسجد لها" وثبت عنه أنه أسقط ركعتين فجبرهما، وكذلك ركعة. فهم الفقهاء من هذا الفرق بين حكم الجلسة الوسطى وحكم الركعة، وكانت عندهم الركعة فرضا بإجماع، فوجب أن لا تكون الجلسة الوسطى فرضا، فهذا هو الذي أوجب أن فرق الفقهاء بين الجلستين، ورأوا أن سجود السهو إنما يكون للسنن دون الفروض، ومن رأى أنها فرض قال: السجود للجلسة الوسطى شيء يخصها دون سائر الفرائض، وليس في ذلك دليل على أنها ليست بفرض، وأما من ذهب إلى أنهما كليهما سنة فقاس الجلسة الأخيرة على الوسطى بعد أن اعتقد في الوسطى بالدليل الذي اعتقد به الجمهور أنها سنة، فإذا السبب في اختلافهم هو في الحقيقة آيل إلى معارضة الاستدلال لظاهر القول أو ظاهر الفعل، فإن من الناس أيضا من اعتقد أن الجلستين كليهما فرض من جهة أن أفعاله عليه الصلاة عنده الأصل فيها أن تكون في الصلاة محمولة على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك على ما تقدم، فإذاً الأصلان جميعا يقتضيان ههنا أن الجلوس الأخير فرض، ولذلك عليه أكثر الجمهور من غير أن يكون له معارض إلا القياس، وأعني بالأصلين القول والعمل، ولذلك أضعف الأقاويل من رأى أن الجلستين سنة والله أعلم. وثبت عنه عليه الصلاة والسلام "أنه كان يضع كفه اليمنى على ركبته اليمنى وكفه اليسرى على ركبته اليسرى ويشير بإصبعه" واتفق العلماء على أن هذه الهيئة من هيئة الجلوس المستحسنة في الصلاة، واختلفوا في تحريك الأصابع لاختلاف الأثر في ذلك، والثابت أنه كان يشير فقط. @-(المسألة الخامسة) اختلف العلماء في وضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة، فكره ذلك مالك في الفرض، وأجازه في النفل. ورأى قوم أن هذا الفعل من سنن الصلاة وهم الجمهور. والسبب في اختلافهم أنه قد جاءت آثار ثابتة نقلت فيها صفة صلاته عليه الصلاة والسلام، ولم ينقل فيها أنه كان يضع يده اليمنى على اليسرى، وثبت أيضا أن الناس كانوا يؤمرون بذلك. وورد ذلك أيضا من صفة صلاته عليه الصلاة والسلام في حديث أبي حميد فرأى قوم أن الآثار التي أثبتت ذلك اقتضت زيادة على الآثار التي لم تنقل فيها هذه الزيادة وأن الزيادة يجب أن يصار إليها. ورأى قوم أن الأوجب المصير إلى الآثار التي ليس فيها هذه الزيادة، لأنها أكثر، ولكون هذه ليست مناسبة لأفعال الصلاة، وإنما هي من باب الاستعانة، ولذلك أجازها مالك في النفل ولم يجزها في الفرض، وقد يظهر من أمرها أنها هيئة تقتضي الخضوع، وهو الأولى بها. @-(المسألة السادسة) اختار قوم إذا كان الرجل في وتر من صلاته أن لا ينهض حتى يستوي قاعدا، واختار آخرون أن ينهض من سجوده نفسه، وبالأول قال الشافعي وجماعة، وبالثاني قال مالك وجماعة. وسبب الخلاف أن في ذلك حديثين مختلفين: أحدهما حديث مالك بن الحويرث الثابت "أنه رأى رسول الله ﷺ يصلي" فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا وفي حديث أبي حميد في صفة صلاته عليه الصلاة والسلام أنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى قام ولم يتورك" فأخذ بالحديث الأول الشافعي، وأخذ بالثاني مالك، وكذلك اختلفوا إذا سجد، هل يضع يديه قبل ركبتيه، أو ركبتيه قبل يديه؟ ومذهب مالك وضع الركبتين قبل اليدين. وسبب اختلافهم أن في حديث ابن حجر قال "رأيت رسول الله ﷺ إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفع يديه قبل ركبتيه" وعن أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه" وكان عبد الله بن عمر يضع يديه قبل ركبتيه. وقال بعض أهل الحديث: حديث وائل بن حجر أثبت من حديث أبي هريرة. @-(المسألة السابعة) اتفق العلماء على أن السجود يكون على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين وأطراف القدمين، لقوله عليه الصلاة والسلام "أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء" واختلفوا فيمن سجد على وجهه ونقصه السجود على عضو من تلك الأعضاء هل تبطل صلاته أم لا؟ فقال قوم: لا تبطل صلاته لأن اسم السجود إنما يتناول الوجه فقط. وقال قوم: تبطل إن لم يسجد على السبعة الأعضاء للحديث الثابت، ولم يختلفوا أن من سجد على جبهته وأنفه فقد سجد على وجهه، واختلفوا فيمن سجد على أحدهما، فقال مالك: إن سجد على جبهته دون أنفه جاز، وإن سجد على أنفه دون جبهته لم يجز. وقال أبو حنيفة: بل يجوز ذلك. وقال الشافعي: لا يجوز إلا أن يسجد عليهما جميعا. وسبب اختلافهم: هل الواجب هو امتثال بعض ما ينطلق عليه الاسم أم كله، وذلك أن في حديث النبي عليه الصلاة والسلام الثابت عن ابن عباس "أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء" فذكر منها الوجه، فمن رأى أن الواجب هو بعض ما ينطلق عليه الاسم، قال: إن سجد على الجبهة أو الأنف أجزأه. ومن رأى أن اسم السجود يتناول من سجد على الجبهة ولا يتناول من سجد على الأنف أجاز السجود على الجبهة دون الأنف، وهذا كأنه تحديد للبعض الذي هو امتثاله، هو الواجب مما ينطلق عليه الاسم، وكان هذا على مذهب من يفرق بين أبعاض الشيء، فرأى أن بعضها يقوم في امتثاله مقام الوجوب وبعضها لا يقوم مقامه فتأمل هذا فإنه أصل في هذا الباب، وإلا جاز لقائل أن يقول: إنه إن مس من أنفه الأرض مثقال خردلة تم سجوده، وأما من رأى أن الواجب هو امتثال كل ما ينطلق عليه الاسم، فالواجب عنده أن يسجد على الجبهة والأنف. والشافعي يقول: إن هذا الاحتمال الذي من قبل اللفظ قد أزاله فعله عليه الصلاة والسلام وبينه، فإنه كان يسجد على الأنف والجبهة لما جاء من أنه انصرف من صلاة من الصلوات وعلى جبهته وأنفه أثر الطين والماء، فوجب أن يكون فعله مفسرا للحديث المجمل. قال أبو عمر بن عبد البر: وقد ذكر جماعة من الحفاظ حديث ابن عباس فذكروا فيه الأنف والجبهة. قال القاضي أبو الوليد: وذكر بعضهم الجبهة فقط، وكلا الروايتين في كتاب مسلم، وذلك حجة لمالك. واختلفوا أيضا هل من شرط السجود أن تكون يد الساجد بارزة وموضوعة على الذي يوضع عليها الوجه أم ليس ذلك من شروطه؟ فقال مالك: ذلك من شرط السجود أحسبه شرط تمامه. وقالت جماعة: ليس ذلك من شرط السجود. ومن هذا الباب اختلافهم في السجود على طاقات العمامة، وللناس فيه ثلاثة مذاهب: قول بالمنع، وقول بالجواز، وقول بالفرق بين أن يسجد على طاقات يسيرة من العمامة أو كثيرة، وقول بالفرق بين أن يمس من جبهته الأرض شيء أو لا يمس منها شيء، وهذا الاختلاف كله موجود في المذهب وعند فقهاء الأمصار، وفي البخاري وكانوا يسجدون على القلانس والعمائم. واحتج من لم ير إبراز اليدين في السجود بقول ابن عباس "أمر النبي ﷺ أن نسجد على سبعة أعضاء ولا نكفت ثوبا ولا شعرا" وقياسا على الركبتين وعلى الصلاة في الخفين يمكن أن يحتج بهذا العموم في السجود على العمامة. @-(المسألة الثامنة) اتفق العلماء على كراهية الإقعاء في الصلاة لما جاء في الحديث من النهي أن يقعي الرجل في صلاته كما يقعي الكلب إلا أنهم اختلفوا فيما يدل عليه الاسم، فبعضهم رأى أن الإقعاء المنهي عنه هو جلوس الرجل على أليتيه في الصلاة ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع ولا خلاف بينهم أن هذه الهيئة ليست من هيئات الصلاة. وقوم رأوا أن معنى الإقعاء الذي نهي عنه هو أن يجعل أليته على عقيبه بين السجدتين وأن يجلس على صدور قدميه، وهو مذهب مالك لما روي عن ابن عمر أنه ذكر أنه إنما كان يفعل ذلك لأنه كان يشتكي قدميه. وأما ابن عباس فكان يقول: الإقعاء على القدمين في السجود على هذه الصفة هو سنة نبيكم، خرجه مسلم. وسبب اختلافهم هو تردد اسم الإقعاء المنهي عنه في الصلاة بين أن يدل على المعنى اللغوي أو يدل على معنى شرعي: أعني على هيئة خصها الشرع بهذا الاسم، فمن رأى أنه يدل على المعنى اللغوي قال: هو إقعاء الكلب. ومن رأى أنه يدل على معنى شرعي قال: إنما أريد بذلك إحدى هيئات الصلاة المنهي عنها، ولما ثبت عن ابن عمر أن قعود الرجل على صدور قدميه ليس من سنة الصلاة، سبق إلى اعتقاده أن هذه الهيئة هي التي أريد بالإقعاء المنهي عنه، وهذا ضعيف، فإن الأسماء التي لم تثبت لها معان شرعية يجب أن تحمل على المعنى اللغوي حتى يثبت لها معنى شرعي، بخلاف الأمر في الأسماء التي ثبت لها معان شرعية: أعني أنه يجب أن يحمل على المعاني الشرعية حتى يدل الدليل على المعنى اللغوي، مع أنه قد عارض حديث ابن عمر في ذلك حديث ابن عباس. 3*الباب الثاني من الجملة الثالثة.

@-وهذا الباب الكلام المحيط بقواعده فيه فصول سبعة: أحدها: في معرفة حكم صلاة الجماعة. والثاني في معرفة شروط الإمامة، ومن أولى بالتقديم وأحكام الإمام الخاصة به. الثالث: في مقام المأموم من الإمام والأحكام الخاصة بالمأمومين. الرابع: في معرفة ما يتبع فيه المأموم الإمام مما ليس يتبعه. الخامس: في صفة الاتباع. السادس: فيما يحمله الإمام عن المأمومين. السابع: في الأشياء التي إذا فسدت لها صلاة الإمام يتعدى الفساد إلى المأمومين. 4*الفصل الأول في معرفة حكم صلاة الجماعة.

@-في هذا الفصل مسئلتان: إحداهما: هل صلاة الجماعة واجبة على من سمع النداء أم ليست بواجبة. المسألة الثانية إذا دخل الرجل المسجد وقد صلى، هل يجب عليه أن يصلي مع الجماعة الصلاة التي قد صلاها أم لا؟. @-(أما المسألة الأولى) فإن العلماء اختلفوا فيها، فذهب الجمهور إلى أنها سنة أو فرض على الكفاية. وذهبت الظاهرية إلى أن صلاة الجماعة فرض متعين على كل مكلف. والسبب في اختلافهم تعارض مفهومات الآثار في ذلك وذلك أن ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة أو بسبع وعشرين درجة" يعني أن الصلاة في الجماعات من جنس المندوب إليه، وكأنها كمال زائد على الصلاة الواجبة، فكأنه قال عليه الصلاة والسلام: صلاة الجماعة أكمل من صلاة المنفرد. والكمال إنما هو شيء زائد على الإجزاء، وحديث الأعمى المشهور حين استأذنه في التخلف عن صلاة الجماعة لأنه لا قائد له، فرخص له في ذلك، ثم قال له عليه الصلاة والسلام: أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: لا أجد لك رخصة" هو كالنص في وجوبها مع عدم العذر، خرجه مسلم. ومما يقوي هذا حديث أبي هريرة المتفق على صحته، وهو "أن رسول الله ﷺ قال: والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عظما سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء" وحديث ابن مسعود، وقال فيه "إن رسول الله ﷺ علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه" وفي بعض رواياته "ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم" فسلك كل واحد من هذين الفريقين مسلك الجمع بتأويل حديث مخالفه، وصرفه إلى ظاهر الحديث الذي تمسك به. فأما أهل الظاهر فإنهم قالوا: إن المفاضلة لا يمتنع أن تقع في الواجبات أنفسها: أي إن صلاة الجماعة في حق من فرضه صلاة الجماعة تفضل صلاة المنفرد في حق من سقط عنه وجوب صلاة الجماعة لمكان العذر بتلك الدرجات المذكورة. قالوا: وعلى هذا فلا تعارض بين الحديثين واحتجوا لذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم" وأما أولئك فزعموا أنه يمكن أن يحمل حديث الأعمى على نداء يوم الجمعة، إذ ذلك هو النداء الذي يجب على من سمعه الإتيان إليه باتفاق وهذا فيه بعد والله أعلم، لأن نص الحديث هو أن أبا هريرة قال "أتى النبي ﷺ رجل أعمى، فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه فقال: هل تسمع النداء بالصلاة. قال: نعم، قال: فأجب" وظاهر هذا يبعد أن يفهم منه نداء الجمعة، مع أن الإتيان إلى صلاة الجمعة واجب على كل من كان في المصر وإن لم يسمع النداء، ولا أعرف في ذلك خلافا. وعارض هذا الحديث أيضا حديث عتبان بن مالك المذكور في الموطأ، وفيه أن عتبان بن مالك كان يؤم وهو أعمى، وأنه قال لرسول الله ﷺ "إنه تكون الظلمة المطر والسيل وأنا رجل ضرير البصر فصل يا رسول الله في بيتي مكانا أتخذه مصلى، فجاءه رسول الله ﷺ فقال: أين تحب أن أصلي فأشار له إلى مكان من البيت فصلى فيه رسول الله ﷺ". @-(وأما المسألة الثانية) فإن الذي دخل المسجد وقد صلى لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون صلى منفردا، وإما أن يكون صلى في جماعة. فإن كان صلى منفردا فقال قوم: يعيد معهم كل الصلوات إلا المغرب فقط، وممن قال بهذا القول مالك وأصحابه. وقال أبو حنيفة: يعيد الصلوات كلها إلا المغرب والعصر. وقال الأوزاعي: إلا المغرب والصبح. وقال أبو ثور: إلا العصر والفجر. وقال الشافعي: يعيد الصلوات كلها، وإنما اتفقوا على إيجاب إعادة الصلاة عليه بالجملة لحديث بشر بن محمد عن أبيه "أن رسول الله ﷺ قال له حين دخل المسجد ولم يصل معه: مالك لم تصل مع الناس: ألست برجل مسلم؟ فقال بلى يا رسول الله، ولكني صليت في أهلي، فقال عليه الصلاة والسلام: إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت" فاختلف الناس لاحتمال تخصيص هذا العموم بالقياس أو بالدليل، فمن حمله على عمومه أوجب عليه إعادة الصلوات كلها وهو مذهب الشافعي. وأما من استثنى من ذلك صلاة المغرب فقط فإنه خصص العموم بقياس الشبه وهو مالك رحمه الله، وذلك أنه زعم أن صلاة المغرب هي وتر، فلو أعيدت لأشبهت صلاة الشفع التي ليست بوتر، لأنها كانت تكون بمجموع ذلك ست ركعات، فكأنها كانت تنتقل من جنسها إلى جنس صلاة أخرى وذلك مبطل لها، وهذا القياس فيه ضعف، لأن السلام قد فصل بين الأوتار والتمسك بالعموم أقوى من الاستثناء بهذا النوع من القياس، وأقوى من هذا ما قاله الكوفيون من أنه إذا أعادها يكون قد أوتر مرتين، وقد جاء في الأثر " لا وتران في ليلة" وأما أبو حنيفة فإنه قال: إن الصلاة الثانية تكون له نفلا، فإن أعاد العصر يكون قد تنفل بعد العصر، وقد جاء النهي عن ذلك، فخصص العصر بهذا القياس والمغرب بأنها وتر، والوتر لا يعاد، وهذا قياس جديد إن سلم لهم الشافعي أن الصلاة الأخيرة لهم نفل. وأما من فرق بين العصر والصبح في ذلك فلأنه لم تختلف الأثار في النهي عن الصلاة بعد الصبح، واختلف في الصلاة بعد العصر كما تقدم، وهو قول الأوزاعي. وأما إذا صلى في جماعة فهل يعيد في جماعة أخرى؟ فأكثر الفقهاء على أنه لا يعيد، منهم مالك وأبو حنيفة، وقال بعضهم: بل يعيد، وممن قال بهذا القول أحمد وداود وأهل الظاهر. والسبب في اختلافهم تعارض مفهوم الآثار في ذلك، وذلك أنه ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا تصلي صلاة في يوم مرتين" وروي عنه "أنه أمر الذين صلوا في جماعة أن يعيدوا مع الجماعة الثانية" وأيضا فإن ظاهر حديث بشر يوجب الإعادة على كل مصل إذا جاء المسجد، فإن قوته قوة العموم، والأكثر على أنه إذا ورد العام على سبب خاص لا يقتصر به على سببه، وصلاة معاذ مع النبي عليه الصلاة والسلام، ثم كان يؤم قومه في تلك الصلاة فيه دليل على جواز إعادة الصلاة في الجماعة، فذهب الناس في هذه الأثار مذهب الجمع ومذهب الترجيح. أما من ذهب مذهب الترجيح فإنه أخذ بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "لا تصلى صلاة واحدة في يوم مرتين" ولم يستثن من ذلك إلا صلاة المنفرد فقط لوقوع الاتفاق عليها. وأما من ذهب مذهب الجمع فقالوا إن معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تصلى صلاة واحدة في يوم مرتين" إنما ذلك أن لا يصلي الرجل الصلاة الواحدة بعينها مرتين، يعتقد في كل واحدة منهما أنها فرض، بل يعتقد في الثانية أنها زائدة على الفرض ولكنه مأمور بها. وقال قوم: بل معنى هذا الحديث إنما هو للمنفرد: أعني أن لا يصلي الرجل المنفرد صلاة واحدة بعينها مرتين. 4*الفصل الثاني. في معرفة شروط الإمامة، ومن أولى بالتقديم، وأحكام الإمام الخاصة به. وفي هذا الفصل مسائل أربع:

@-(المسألة الأولى) اختلفوا فيمن أولى بالإمامة، فقال مالك: يؤم القوم أفقههم لا أقرؤهم، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد: يؤم القوم أقرؤهم. والسبب في هذا الاختلاف اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم إسلاما، ولا يؤم الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه" وهو حديث متفق على صحته لكن اختلف العلماء في مفهومه، فمنهم من حمله على ظاهره وهو أبو حنيفة. ومنهم من فهم من الأقرأ ههنا الأفقه. لأنه زعم أن الحاجة إلى الفقه في الإمامة أمس من الحاجة إلى القراءة، وأيضا فإن الأقرأ من الصحابة كان هو الأفقه ضرورة، وذلك بخلاف ما عليه الناس اليوم. @-(المسألة الثانية) اختلف الناس في إمامة الصبي الذي لم يبلغ الحلم إذا كان قارئا، فأجاز ذلك لعموم (هذا الأثر) {ما بين القوسين زائدة في النسخة المصرية مع أنه لم يذكر أثرا، فلهذا نبهنا على زيادته} ولحديث عمرو بن سلمة أنه كان يؤم قومه وهو صبي. ومنع ذلك قوم مطلقا، وأجازه قوم في النفل، ولم يجيزوه في الفريضة، وهو مروي عن مالك. وسبب الخلاف في ذلك هل يؤم أحد في صلاة غير واجبة عليه من وجبت عليه؟، وذلك لاختلاف نية الإمام والمأموم؟. @-(المسألة الثالثة) اختلفوا في إمامة الفاسق، فردها قوم بإطلاق، وأجازها قوم بإطلاق، وفرق قوم بين أن يكون فسقه مقطوعا به أو غير مقطوع به، فقالوا: إن كان فسقه مقطوعا به أعاد الصلاة المصلي وراءه أبدا، وإن كان مظنونا استحبت له الإعادة في الوقت، وهذا الذي اختاره الأبهري تأولا على المذهب، ومنهم من فرق بين أن يكون فسقه بتأويل أو يكون بغير تأويل مثل الذي يشرب النبيذ ويتأول أقوال أهل العراق، فأجازوا الصلاة وراء المتأول ولم يجيزوها وراء غير المتأول. وسبب اختلافهم في هذا أنه شيء مسكوت عنه في الشرع، والقياس فيه متعارض. فمن رأى أن الفسق لما كان لا يبطل صحة الصلاة ولم يكن من يحتاج المأموم إمامه إلا صحة صلاته فقط على قول من يرى أن الإمام يحمل عن المأموم أجاز إمامة الفاسق، ومن قاس الإمامة على الشهادة واتهم الفاسق أن يكون يصلي صلاة فاسدة كما يتهم في الشهادة أن يكذب لم يجز إمامته، ولذلك فرق قوم بين أن يكون فسقه بتأويل أو بغير تأويل، وإلى قريب من هذا يرجع من فرق بين أن يكون فسقه مقطوعا به أو غير مقطوع به، لأنه إذا كان مقطوعا به فكأنه غير معذور في تأويله، وقد رام أهل الظاهر أن يجيزوا إمامة الفاسق بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "يؤم القوم أقرؤهم" قالوا: فلم يستثن من ذلك فاسقا من غير فاسق، والاحتجاج بالعموم في غير المقصود ضعيف، ومنهم من فرق بين أن يكون فسقه في شروط صحة الصلاة، أو في أمور خارجة عن الصلاة بناء على أن الإمام إنما يشترط فيه وقوع صلاته صحيحة. @-(المسألة الرابعة) اختلفوا في إمامة المرأة، فالجمهور على أنه لا يجوز أن تؤم الرجال واختلفوا في إمامتها النساء، فأجاز ذلك الشافعي، ومنع ذلك مالك وشذ أبو ثور والطبري، فأجازا إمامتها على الإطلاق، وإنما اتفق الجمهور على منعها أن تؤم الرجال، لأنه لو كان جائزا لنقل ذلك عن الصدر الأول، ولأنه أيضا لما كانت سنتهن في الصلاة التأخير عن الرجال علم أنه ليس يجوز لهن التقدم عليهم، لقوله عليه الصلاة والسلام "أخروهن حيث أخرهن الله" ولذلك أجاز بعضهم إمامتها النساء إذ كن متساويات في المرتبة في الصلاة، مع أنه أيضا نقل ذلك عن بعض الصدر الأول، ومن أجاز إمامتها فإنما ذهب إلى ما رواه أبو داود من حديث أم ورقة "أن رسول الله ﷺ كان يزورها في بيتها وجعل لها مؤذنا يؤذن لها، وأمرها أن تؤم أهل دارها" وفي هذا الباب مسائل كثيرة أعني من اختلافهم في الصفات المشترطة في الإمام تركنا ذكرها لكونها مسكوتا عنها في الشرع. قال القاضي: وقصدنا في هذا الكتاب إنما هو ذكر المسائل المسموعة أو ماله تعلق قريب بالمسموع. @-(وأما أحكام الإمام الخاصة به) فإن في ذلك أربعة مسائل متعلقة بالسمع: إحداها هل يؤمن الإمام إذا فرغ من قراءة أم القرآن؟ أم المأموم هو الذي يؤمن فقط. والثانية متى يكبر تكبيرة الإحرام؟ والثالثة إذا أرتج عليه هل يفتح عليه أم لا؟ والرابعة هل يجوز أن يكون موضعه أرفع من موضع المأمومين. فأما هل يؤمن الإمام إذا فرغ من قراءة أم الكتاب، فإن مالكا ذهب في رواية ابن القاسم عنه والمصريين أنه لا يؤمن، وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه يؤمن كالمأموم سواء، وهي رواية المدنيين عن مالك، وسبب اختلافهم أن في ذلك حديثين متعارضي الظاهر: أحدهما حديث أبي هريرة المتفق عليه في الصحيح أنه قال: قال رسول الله ﷺ "إذا أمن الإمام فأمنوا" والحديث الثاني ما خرجه مالك عن أبي هريرة أيضا أنه قال عليه الصلاة والسلام "إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا أمين" فأما الحديث الأول فهو نص في تأمين الإمام. وأما الحديث الثاني فيستدل منه على أن الإمام لا يؤمن، وذلك أنه لو كان يؤمن لما أمر المأموم بالتأمين عند الفراغ من أم الكتاب قبل أن يؤمن الإمام، لأن الإمام كما قال عليه الصلاة والسلام "إنما جعل الإمام ليؤتم به" إلا أن يخص هذا من أقوال الإمام: أعني أن يكون للمأموم أن يؤمن معه أو قبله، فلا يكون فيه دليل على حكم الإمام في التأمين، ويكون إنما تضمن حكم المأموم فقط، لكن الذي يظهر أن مالكا ذهب مذهب الترجيح للحديث الذي رواه لكون السامع هو المؤمن لا الداعي، وذهب الجمهور لترجيح الحديث الأول لكونه نصا، ولأنه ليس فيه شيء من حكم الإمام، وإنما الخلاف بينه وبين الحديث الآخر في موضع تأمين المأموم فقط لا في هل يؤمن الإمام أو لا يؤمن فتأمل هذا. ويمكن أيضا أن يتأول الحديث الأول بأن يقال: إن معنى قوله "فإذا أمن فأمنوا" أي إذا بلغ موضع التأمين، وقد قيل إن التأمين هو الدعاء وهذا عدول عن الظاهر لشيء غير مفهوم من الحديث إلا بقياس: أعني أن يفهم من قوله "فإذا قال غير المغضوب عليهم ولا الضالين فأمنوا" أنه لا يؤمن الإمام. وأما متى يكبر الإمام فإن قوما قالوا: لا يكبر إلا بعد تمام الإقامة واستواء الصفوف، وهو مذهب مالك والشافعي وجماعة. وقوم قالوا: إن موضع التكبير هو قبل أن يتم الإقامة، واستحسنوا تكبيره عند قول المؤذن قد قامت الصلاة، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وزفر. وسبب الخلاف في ذلك تعارض ظاهر حديث أنس وحديث بلال. أما حديث أنس فقال: "أقبل علينا رسول الله ﷺ قبل أن يكبر في الصلاة فقال: أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري" وظاهر هذا أن الكلام منه كان بعد الفراغ من الإقامة، مثل ما روي عن عمر أنه كان إذا تمت الإقامة واستوت الصفوف حينئذ يكبر. وأما حديث بلال فإنه روى "أنه كان يقيم للنبي ﷺ، فكان يقول له: يا رسول الله لا تسبقني بآمين" خرجه الطحاوي. قالوا: فهذا يدل على أن رسول الله ﷺ كان يكبر والإقامة لم تتم. وأما اختلافهم في الفتح على الإمام إذا أرتج عليه، فإن مالكا والشافعي وأكثر العلماء أجازوا الفتح عليه، ومنع ذلك الكوفيون. وسبب الخلاف في ذلك اختلاف الآثار، وذلك "أنه روي أن رسول الله ﷺ تردد في آية، فلما انصرف قال: أين أبي ألم يكن في القوم؟" أي يريد الفتح عليه. وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا يفتح على الإمام" والخلاف في ذلك في الصدر الأول، والمنع مشهور عن علي، والجواز عن ابن عمر مشهور. وأما موضع الإمام فإن قوما أجازوا أن يكون أرفع من موضع المأمومين، وقوم منعوا ذلك، وقوم استحبوا من ذلك اليسير، وهو مذهب مالك. وسبب الخلاف في ذلك حديثان متعارضان: أحدهما الحديث الثابت: "أنه عليه الصلاة والسلام أم الناس على المنبر ليعلمهم الصلاة، وأنه كان إذا أراد أن يسجد نزل من على المنبر"والثاني ما رواه أبو داود أن حذيفة أم الناس على دكان، فأخذ ابن مسعود بقميصه فجذبه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك، أو ينهى عن ذلك؟. وقد اختلفوا هل يجب على الإمام أن ينوي الإمامة أم لا؟ فذهب قوم إلى أنه ليس ذلك بواجب عليه لحديث ابن عباس أنه أقام إلى جنب رسول الله ﷺ بعد دخوله في الصلاة، ورأى قوم أن هذا محتمل، وأنه لابد من ذلك إذا كان يحمل بعض أفعال الصلاة عن المأمومين، وهذا على مذهب من يرى أن الإمام يحمل فرضا أو نفلا عن المأمومين. 4*الفصل الثالث. في مقام المأموم من الإمام، والأحكام الخاصة بالمأمومين. وفي هذا الباب خمس مسائل:

@-(المسألة الأولى) اتفق جمهور العلماء على أن سنة الواحد المنفرد أن يقوم عن يمين الإمام لثبوت ذلك من حديث ابن عباس وغيره، وأنهم إن كانوا ثلاثة سوى الإمام قاموا وراءه، واختلفوا إذا كانا اثنين سوى الإمام، فذهب مالك والشافعي إلى أنهما يقومان خلف الإمام. وقال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون: بل يقوم الإمام بينهما. والسبب في اختلافهم أن في ذلك حديثين متعارضين: أحدهما حديث جابر بن عبد الله قال: "قمت عن يسار رسول الله ﷺ، فأخذ بيدي فأدارني حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جابر بن صخر فتوضأ، ثم جاء فقام عن يسار رسول الله ﷺ فأخذ بأيدينا جميعا، فدفعنا حتى قمنا خلفه" والحديث الثاني حديث ابن مسعود أنه صلى بعلقمة والأسود فقام وسطهما، وأسنده إلى النبي ﷺ قال أبو عمر: واختلف رواة هذا الحديث، فبعضهم أوقفه وبعضهم أسنده، والصحيح أنه موقوف، وأما أن سنة المرأة أن تقف خلف الرجل أو الرجال إن كان هنالك رجل سوى الإمام، أو خلف الإمام إن كانت وحدها، فلا أعلم في ذلك خلافا لثبوت ذلك من حديث أنس الذي خرجه البخاري "أن النبي ﷺ صلى به وبأمه أو خالته، قال: فأقامني عن يمينه وأقام المرأة خلفنا" والذي خرجه عنه أيضا مالك أنه قال "فصففت أنا واليتيم وراءه عليه الصلاة والسلام، والعجوز من ورائنا" وسنة الواحد عند الجمهور أن يقف عن يمين الإمام لحديث ابن عباس حين بات عند ميمونة. وقال قوم: بل عن يساره، ولا خلاف في أن المرأة الواحدة تصلي خلف الإمام، وأنها إن كانت مع الرجل صلى الرجل إلى جانب الإمام والمرأة خلفه. @-(المسألة الثانية) أجمع العلماء على أن الصف الأول مرغب فيه، وكذلك تراص الصفوف وتسويتها لثبوت الأمر بذلك عن رسول الله ﷺ، واختلفوا إذا صلى إنسان خلف الصف وحده، فالجمهور على أن صلاته تجزئ. وقال أحمد وأبو ثور وجماعة صلاته فاسدة. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث وابصة ومخالفة العمل له، وحديث وابصة هو أنه قال عليه الصلاة والسلام "لا صلاة لقائم خلف الصف" وكان الشافعي يرى أن هذا يعارضه قيام العجوز وحدها خلف الصف في حديث أنس. وكان أحمد يقول: ليس في ذلك حجة، لأن سنة النساء هي القيام خلف الرجال. وكان أحمد كما قلنا يصحح حديث وابصة. وقال غيره: هو مضطرب الإسناد لا تقوم به حجة. واحتج الجمهور بحديث أبي بكرة أنه ركع دون الصف فلم يأمره رسول الله ﷺ بالإعادة وقال له "زادك الله حرصا ولا تعد" ولو حمل هذا على الندب لم يكن تعارض: أعني بين حديث وابصة وحديث أبي بكرة. @-(المسألة الثالثة) اختلف الصدر الأول في الرجل يريد الصلاة فيسمع الإقامة هل يسرع المشي إلى المسجد أم لا مخافة أن يفوته جزء من الصلاة؟ فروي عن عمرو وابن مسعود أنهم كانوا يسرعون المشي إذا سمعوا الإقامة. وروي عن زيد بن ثابت وأبي ذر وغيرهم من الصحابة أنهم كانوا لا يرون السعي، بل أن تؤتى الصلاة بوقار وسكينة، وبهذا القول قال فقهاء الأمصار لحديث أبي هريرة الثابت "إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة" ويشبه أن يكون سبب الخلاف في ذلك أنه لم يبلغهم هذا الحديث أو رأوا أن الكتاب يعارضه لقوله تعالى {فاستبقوا الخيرات} وقوله {السابقون السابقون أولئك المقربون} وقوله {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} . وبالجملة فأصول الشرع تشهد بالمبادرة إلى الخير، لكن إذا صح الحديث وجب أن تستثنى الصلاة من بين سائر أعمال القرب. @-(المسألة الرابعة) متى يستحب أن يقام إلى الصلاة، فبعض استحسن البدء في أول الإقامة على الأصل في الترغيب في المسارعة، وبعض عند قوله: قد قامت الصلاة، وبعضهم عند حي على الفلاح، وبعضهم قال: حتى يروا الإمام، وبعضهم لم يحد في ذلك حدا كمالك رضي الله عنه، فإنه وكل ذلك إلى قدر طاقة الناس، وليس في هذا شرع مسموع إلا حديث أبي قتادة أنه قال عليه الصلاة والسلام: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني" فإن صح هذا وجب العمل به، وإلا فالمسألة باقية على أصلها المعفو عنه: أعني أنه ليس فيها شرع، وأنه متى قام كل فحسن. @-(المسألة الخامسة) ذهب مالك وكثير من العلماء إلى أن الداخل وراء الإمام إذا خاف فوات الركعة بأن يرفع الإمام رأسه منها إن تمادى حتى يصل إلى الصف الأول أن له أن يركع دون الصف الأول ثم يدب راكعا، وكره ذلك الشافعي، وفرق أبو حنيفة بين الجماعة والواحد، فكرهه للواحد، وأجازه للجماعة. وما ذهب إليه مالك مروي عن زيد بن ثابت وابن مسعود. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث أبي بكرة، وهو "أنه دخل المسجد ورسول الله ﷺ يصلي بالناس وهم ركوع، فركع ثم سعى إلى الصف، فلما انصرف رسول الله ﷺ قال: من الساعي؟ قال أبو بكرة أنا، قال: زادك الله حرصا ولا تعد". 3*الفصل الرابع. في معرفة ما يجب على المأموم أن يتبع فيه الإمام.

@-وأجمع العلماء على أنه يجب على المأموم أن يتبع الإمام في جميع أقواله وأفعاله إلا في قوله: سمع الله لمن حمده، وفي جلوسه إذا صلى جالسا لمرض عند من أجاز إمامة الجالس. وأما اختلافهم في قوله سمع الله لمن حمده، فإن طائفة ذهبت إلى أن الإمام يقول إذا رفع رأسه من الركوع: سمع الله لمن حمده فقط، ويقول المأموم: ربنا ولك الحمد فقط، وممن قال بهذا القول مالك وأبو حنيفة وغيرهما. وذهبت طائفة أخرى إلى أن الإمام والمأموم يقولان جميعا سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد، وإن المأموم يتبع فيهما معا الإمام كسائر التكبير سواء. وقد روي عن أبي حنيفة أن المنفرد والإمام يقولانهما جميعا، ولا خلاف في المنفرد: أعني أنه يقولهما جميعا. وسبب الاختلاف في ذلك حديثان متعارضان: أحدهما حديث أنس أن النبي ﷺ قال "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد" والحديث الثاني حديث ابن عمر "أنه ﷺ كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما أيضا كذلك وقال: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" فمن رجح مفهوم حديث أنس قال: لا يقول المأموم سمع الله لمن حمده ولا الإمام ربنا ولك الحمد، وهو من باب دليل الخطاب، لأنه جعل حكم المسكوت عنه بخلاف حكم المنطوق به. ومن رجح حديث ابن عمر قال: يقول الإمام ربنا ولك الحمد، ويجب على المأموم أن يتبع الإمام في قوله سمع الله لمن حمده لعموم قوله "إنما جعل الإمام ليؤتم به" ومن جمع بين الحديثين فرق في ذلك بين الإمام والمأموم. والحق في ذلك أن حديث أنس يقتضي بدليل الخطاب أن الإمام لا يقول ربنا ولك الحمد، وأن المأموم لا يقول سمع الله لمن حمده. وحديث ابن عمر يقتضي نصا أن الإمام يقول ربنا ولك الحمد، فلا يجب أن يترك النص بدليل الخطاب فإن النص أقوى من دليل الخطاب. وحديث أنس يقتضي بعمومه أن المأموم يقول: سمع الله لمن حمده بعموم قوله "إنما جعل الإمام ليؤتم به" وبدليل خطابه أن لا يقولها، فوجب أن يرجح بين العموم ودليل الخطاب، ولا خلاف أن العموم أقوى من دليل الخطاب، لكن العموم يختلف أيضا في القوة والضعف، ولذلك ليس يبعد أن يكون بعض أدلة الخطاب أقوى من بعض أدلة العموم فالمسألة لعمري اجتهادية: أعني في المأموم. @-(وأما المسألة الثانية) وهي صلاة القائم خلف القاعد، فإن حاصل القول فيها أن العلماء اتفقوا على أنه ليس للصحيح أن يصلي فرضا قاعدا إذا كان منفردا أو إماما لقوله تعالى {وقوموا لله قانتين} واختلفوا إذا كان المأموم صحيحا فصلى خلف إمام مريض يصلي قاعدا على ثلاثة أقوال: أحدها أن المأموم يصلي خلفه قاعدا، وممن قال بهذا القول أحمد وإسحق، والقول الثاني أنهم يصلون خلفه قياما. قال أبو عمر بن عبد البر: وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار الشافعي وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر وأبو ثور وغيرهم، وزاد هؤلاء فقال يصلون وراءه قياما وإن كان لا يقوى على الركوع والسجود بل يؤمئ إيماء. وروى ابن القاسم أنه لا تجوز إمامة القاعد وأنه إن صلوا خلفه قياما أو قعودا بطلت صلاتهم، وقد روي عن مالك أنهم يعيدون الصلاة في الوقت، وهذا إنما بني على الكراهة لا على المنع، والأول هو المشهور عنه. وسبب الاختلاف تعارض الآثار في ذلك ومعارضة العمل للآثار: أعني عمل أهل المدينة عند مالك، وذلك أن في ذلك حديثين متعارضين: أحدهما حديث أنس، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا" وحديث عائشة في معناه، وهو "أنه صلى ﷺ وهو شاك جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا" والحديث الثاني حديث عائشة "أن رسول الله ﷺ خرج في مرضه الذي توفي منه، فأتى المسجد فوجد أبا بكر وهو قائم يصلي بالناس، فاستأخر أبو بكر فأشار إليه رسول الله ﷺ أن كما أنت، فجلس رسول الله ﷺ إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله ﷺ، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر" فذهب الناس في هذين الحديثين مذهبين: مذهب النسخ، ومذهب الترجيح. فأما من ذهب مذهب النسخ فإنهم قالوا: إن ظاهر حديث عائشة وهو "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يؤم الناس، وأن أبا بكر كان مسمعا" لأنه لا يجوز أن يكون إمامان في صلاة واحدة، وإن الناس كانوا قياما، وإن النبي عليه الصلاة والسلام كان جالسا، فوجب أن يكون هذا من فعله عليه الصلاة والسلام، إذ كان آخر ما فعله ناسخا لقوله وفعله المتقدم. وأما من ذهب مذهب الترجيح فإنهم رجحوا حديث أنس بأن قالوا إن هذا الحديث قد اضطربت الرواية عن عائشة فيه فيمن كان الإمام، هل رسول الله ﷺ أو أبو بكر؟. وأما مالك فليس له مستند من السماع، لأن كلا الحديثين اتفقا على جواز إمامة القاعد، وإنما اختلفا في قيام المأموم أو قعوده، حتى إنه لقد قال أبو محمد بن حزم إنه ليس في حديث عائشة أن الناس صلوا لا قياما ولا قعودا، وليس يجب أن يترك المنصوص عليه لشيء لم ينص عليه. قال أبو عمر: وقد ذكر أبو المصعب في مختصره عن مالك أنه قال: لا يؤم الناس أحد قاعدا، فإن أمهم قاعدا فسدت صلاتهم وصلاته لأن النبي ﷺ قال "لا يؤمن أحد بعدي قاعدا" قال أبو عمر وهذا حديث لا يصح عند أهل العلم بالحديث، لأنه يرويه جابر الجعفي مرسلا، وليس بحجة فيما أسند فكيف فيما أرسل؟ وقد روى ابن القاسم عن مالك أنه كان يحتج بما رواه ربيعة بن أبي عبد الرحمن "أن رسول الله ﷺ خرج وهو مريض، فكان أبو بكر هو الإمام، وكان رسول الله ﷺ يصلي بصلاة أبي بكر وقال: ما مات نبي حتى يؤمه رجل من أمته" وهذا ليس فيه حجة إلا أن يتوهم أنه ائتم بأبي بكر لأنه لا تجوز صلاة الإمام القاعد، وهذا ظن لا يجب أن يترك له النص مع ضعف هذا الحديث. 4*الفصل الخامس في صفة الاتباع.

@-وفيه مسئلتان: إحداهما في وقت تكبيرة الإحرام للمأموم، والثانية في حكم من رفع رأسه قبل الإمام. أما اختلافهم في وقت تكبير المأموم، فإن مالكا استحسن أن يكبر بعد فراغ الإمام من تكبيرة الإحرام، قال: وإن كبر معه أجزأه، وقد قيل إنه لا يجزئه، وأما إن كبر قبله فلا يجزئه. وقال أبو حنيفة: وغيره يكبر مع تكبيرة الإمام، فإن فرغ قبله لم يجزه. وأما الشافعي فعنه في ذلك روايتان: إحداهما مثل قول مالك وهو الأشهر. والثانية أن المأموم إن كبر قبل الإمام أجزأه. وسبب الخلاف أن في ذلك حديثين متعارضين: أحدهما قوله عليه الصلاة والسلام "فإذا كبر فكبروا" والثاني ما روي "أنه عليه الصلاة والسلام كبر في صلاة من الصلوات، ثم أشار إليهم أن امكثوا فذهب ثم رجع وعلى رأسه أثر الماء" فظاهر هذا أن تكبيره وقع بعد تكبيرهم لأنه لم يكن له تكبير أولا لمكان عدم الطهارة، وهو أيضا مبني على أصله أن صلاة المأموم غير مرتبطة بصلاة الإمام، والحديث ليس فيه ذكر هل استأنفوا التكبير أو لم يستأنفوه، فليس ينبغي أن يحمل على أحدهما إلا بتوقيف، والأصل هو الاتباع وذلك لا يكون إلا بعد أن يتقدم الإمام إما بالتكبير وإما بافتتاحه. وأما من رفع رأسه قبل الإمام فإن الجمهور يرون أنه أساء ولكن صلاته جائزة، وأنه يجب عليه أن يرجع فيتبع الإمام. وذهب قوم إلى أن صلاته تبطل للوعيد الذي جاء في ذلك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "أما يخاف الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار"؟. 4*الفصل السادس فيما حمله الإمام عن المأمومين.

@-واتفقوا على أنه لا يحمل الإمام عن المأموم شيئا من فرائض الصلاة ما عدا القراءة، فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها أن المأموم يقرأ مع الإمام فيما أسر فيه ولا يقرأ معه فيما جهر به. والثاني أنه لا يقرأ معه أصلا. والثالث أنه يقرأ فيما أسر أم الكتاب وغيرها، وفيما جهر أم الكتاب فقط، وبعضهم فرق في الجهر بين أن يسمع قراءة الإمام أو لا يسمع، فأوجب عليه القراءة إذا لم يسمع، ونهاه عنها إذا سمع، وبالأول قال مالك، إلا أنه يستحسن له القراءة فيما أسر فيه الإمام. وبالثاني قال أبو حنيفة، وبالثالث قال الشافعي، والتفرقة بين أن يسمع أو لا يسمع هو قول أحمد بن حنبل. والسبب في اختلافهم اختلاف الأحاديث في هذا الباب وبناء بعضها على بعض، وذلك أن في ذلك أربعة أحاديث: أحدها قوله عليه الصلاة والسلام "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وما ورد من الأحاديث في هذا المعنى مما ذكرناه في باب وجوب القراءة. والثاني ما روى مالك عن أبي هريرة؟ أن رسول الله ﷺ انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: هل قرأ معي منكم أحد آنفا، فقال رجل: نعم أنا يا رسول الله، فقال رسول الله: إني أقول مالي أنازع القرآن" فانتهى الناس عن القراءة فيما جهر فيه رسول الله ﷺ. والثالث حديث عبادة بن الصامت قال "صلى بنا رسول الله صلاة الغداة فثقلت عليه القراءة. فلما انصرف قال: إني لأراكم تقرءون وراء الإمام، قلنا: نعم، قال: فلا تفعلوا إلا بأم القرآن" قال أبو عمر، وحديث عبادة بن الصامت هنا من رواية مكحول وغيره متصل السند صحيح. والحديث الرابع حديث جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام قال "من كان له إمام فقراءته له قراءة" وفي هذا أيضا حديث خامس صححه أحمد بن حنبل، وهو ما روي أنه قال عليه الصلاة والسلام "إذا قرأ الإمام فأنصتوا" فاختلف الناس في وجه جمع هذه الأحاديث. فمن الناس من استثنى من النهي عن القراءة فيما جهر فيه الإمام قراءة أم القرآن فقط على حديث عبادة بن الصامت. ومنهم من استثنى من عموم قوله عليه الصلاة والسلام "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" المأموم فقط في صلاة الجهر لمكان النهي الوارد عن القراءة فيما جهر فيه الإمام في حديث أبي هريرة، وأكد ذلك بظاهر قوله تعالى {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} قالوا: وهذا إنما ورد في الصلاة. ومنهم من استثنى القراءة الواجبة على المصلي المأموم فقط سرا كانت الصلاة أو جهرا، وجعل الوجوب الوارد في القراءة في حق الإمام والمنفرد فقط مصيرا إلى حديث جابر، وهو مذهب أبي حنيفة، فصار عنده حديث جابر مخصصا لقوله عليه الصلاة والسلام "واقرأ ما تيسر معك فقط" لأنه لا يرى وجوب قراءة أم القرآن في الصلاة، وإنما يرى وجوب القراءة مطلقا على ما تقدم، وحديث جابر لم يروه مرفوعا إلا جابر الجعفي، ولا حجة في شيء مما ينفرد به. قال أبو عمر: وهو حديث لا يصح إلا مرفوعا عن جابر. 4*الفصل السابع. في الأشياء التي إذا فسدت لها صلاة الإمام يتعدى الفساد إلى المأمومين.

@-واتفقوا على أنه إذا طرأ عليه الحدث في الصلاة فقطع أن صلاة المأمومين ليست تفسد. واختلفوا إذا صلى بهم وهو جنب وعلموا بذلك بعد الصلاة، فقال قوم: صلاتهم صحيحة، وقال قوم: صلاتهم فاسدة، وفرق قوم بين أن يكون الإمام عالما بجنابته أو ناسيا لها، فقالوا إن كان عالما فسدت صلاتهم، وإن كان ناسيا لم تفسد صلاتهم، وبالأول قال الشافعي، وبالثاني قال أبو حنيفة، وبالثالث قال مالك. وسبب اختلافهم هل صحة انعقاد صلاة المأموم مرتبطة بصحة صلاة الإمام أم ليست مرتبطة؟ فمن لم يرها مرتبطة قال: صلاتهم جائزة، ومن رآها مرتبطة قال: صلاتهم فاسدة، ومن فرق بين السهو والعمد قصد إلى ظاهر الأثر المتقدم وهو "أنه عليه الصلاة والسلام كبر في صلاة من الصلوات، ثم أشار إليهم أن امكثوا، فذهب ثم رجع وعلى جسمه أثر الماء" فإن ظاهر هذا أنهم بنوا على صلاتهم والشافعي يرى أنه لو كانت الصلاة مرتبطة للزم أن يبدءوا بالصلاة مرة ثانية. 3*الباب الثالث من الجملة الثالثة.

@-والكلام المحيط بقواعد هذا الباب منحصر في أربعة فصول: الفصل الأول: في وجوب الجمعة وعلى من تجب. الثاني: في شروط الجمعة. الثالث: في أركان الجمعة. الرابع: في أحكام الجمعة. 4*الفصل الأول في وجوب الجمعة ومن تجب عليه.

@-أما وجوب صلاة الجمعة على الأعيان فهو الذي عليه الجمهور لكونها بدلا من واجب وهو الظهر، ولظاهر قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} والأمر على الوجوب، ولقوله عليه الصلاة والسلام "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم" وذهب قوم إلى أنها من فروض الكفايات. وعن مالك رواية شاذة أنها سنة. والسبب في هذا الاختلاف تشبيهها بصلاة العيد لقوله عليه الصلاة والسلام "إن هذا يوم جعله الله عيدا" وأما على من تجب فعلى من وجدت فيه شروط وجوب الصلاة المتقدمة ووجد فيها زائدا عليها أربعة شروط اثنان باتفاق واثنان مختلف فيهما. أما المتفق عليهما فالذكورة والصحة، فلا تجب على امرأة ولا على مريض باتفاق، ولكن إن حضروا كانوا من أهل الجمعة. وأما المختلف فيهما فهما المسافر والعبد، فالجمهور على أنه لا تجب عليهما الجمعة، وداود وأصحابه على أنه تجب عليهما الجمعة. وسبب اختلافهم اختلافهم في صحة الأثر الوارد في ذلك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك. أو امرأة. أو صبي أو مريض" وفي أخرى "إلا خمسة"وفيه "أو مسافر" والحديث لم يصح عند أكثر العلماء. 4*الفصل الثاني في شروط الجمعة.

@-وأما شروط الجمعة فاتفقوا على أنها شروط الصلاة المفروضة بعينها: أعني الثمانية المتقدمة ما عدا الوقت والأذان، فإنهم اختلفوا فيهما، وكذلك اختلفوا في شروطها المختصة بها. أما الوقت فإن الجمهور على أن وقتها وقت الظهر بعينه: أعني وقت الزوال، وأنها لا تجوز قبل الزوال، وذهب قوم إلى أنه يجوز أن تصلى قبل الزوال وهو قول أحمد بن حنبل. والسبب في هذا الاختلاف في مفهوم الآثار الواردة في تعجيل الجمعة مثل ما خرجه البخاري عن سهل بن سعد أنه قال ما كنا نتغدى على عهد رسول الله ﷺ ولا نقيل إلا بعد الجمعة. ومثل ما روي أنهم كانوا يصلون وينصرفون وما للجدران أظلال، فمن فهم من هذه الآثار الصلاة قبل الزوال أجاز ذلك، ومن لم يفهم منها إلا التكبير فقط لم يجز ذلك لئلا تتعارض الأصول في هذا الباب، وذلك أنه قد ثبت من حديث أنس بن مالك "أن النبي ﷺ كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس" وأيضا فإنها لما كانت بدلا من الظهر وجب أن يكون وقتها وقت الظهر، فوجب من طريق الجمع بين هذه الآثار أن تحمل تلك على التبكير، إذ ليست نصا في الصلاة قبل الزوال، وهو الذي عليه الجمهور. وأما الأذان فإن جمهور الفقهاء اتفقوا على أن وقته هو إذا جلس الإمام على المنبر واختلفوا هل يؤذن بين يدي الإمام مؤذن واحد فقط أو أكثر من واحد؟ فذهب بعضهم إلى أنه إنما يؤذن بين يدي الإمام مؤذن واحد فقط، وهو الذي يحرم به البيع والشراء. وقال آخرون: بل يؤذن اثنان فقط. وقال قوم: بل إنما يؤذن ثلاثة. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أنه روى البخاري عن السائب ابن يزيد أنه قال "كان النداء يوم الجمعة إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر، فلما كان زمان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء" وروي أيضا عن السائب بن يزيد أنه قال "لم يكن يوم الجمعة لرسول الله ﷺ إلا مؤذن واحد" وروي أيضا عن سعيد بن المسيب أنه قال "كان الأذان يوم الجمعة على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر أذانا واحدا حين يخرج الإمام فلما كان زمان عثمان وكثر الناس فزاد الأذان الأول ليتهيأ الناس للجمعة" ورى ابن حبيب "أن المؤذنين كانوا يوم الجمعة على عهد رسول الله ﷺ ثلاثة" فذهب قوم إلى ظاهر ما رواه البخاري، وقالوا: يؤذن يوم الجمعة مؤذنان. وذهب آخرون إلى أن المؤذن واحد فقالوا: إن معنى قوله: فلما كان زمان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث أن النداء الثاني هو الإقامة. وأخذ آخرون بما رواه ابن حبيب، وأحاديث ابن حبيب عند أهل الحديث ضعيفة ولا سيما بما انفرد به. وأما شروط الوجوب والصحة المختصة ليوم الجمعة فاتفق الكل على أن من شرطها الجماعة، واختلفوا في مقدار الجماعة، فمنهم من قال: واحد مع الإمام وهو الطبري. ومنهم من قال اثنان سوى الإمام. ومنهم من قال: ثلاثة دون الإمام، وهو قول أبي حنيفة. ومنهم من اشترط أربعين، وهو قول الشافعي وأحمد. وقال قوم ثلاثين. ومنهم من لم يشترط عددا، ولكن رأى أنه يجوز بما دون الأربعين ولا يجوز بالثلاثة والأربعة، وهو مذهب مالك، وحدهم بأنهم الذين يمكن أن تتقرى بهم قرية. وسبب اختلافهم في هذا اختلافهم في أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع هل ذلك ثلاثة أو أربعة أو اثنان، وهل الإمام داخل فيهم أم ليس بداخل فيهم؟ وهل الجمع المشترط في هذه الصلاة هو أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع في غالب الأحوال، وذلك هو أكثر من الثلاثة والأربعة، فمن ذهب إلى أن الشرط في ذلك هو أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع وكان عنده أن أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع اثنان، فإن كان ممن يعد الإمام في الجمع المشترط في ذلك قال تقوم الجمعة باثنين الإمام وواحد ثان، وإن كان ممن لا يرى أن يعد الإمام في الجمع قال تقوم باثنين سوى الإمام، ومن كان أيضا عنده أن أقل الجمع ثلاثة، فإن كان لا يعد الإمام في جملتهم قال بثلاثة سوى الإمام، وإن كان ممن يعد الإمام في جملتهم وافق قول من قال أقل الجمع اثنان ولم يعد الإمام في جملتهم. وأما من راعى ما ينطلق عليه في الأكثر والعرف المستعمل اسم الجمع قال لا تنعقد بالاثنين ولا بالأربعة ولم يحد في ذلك حدا، ولما كان من شرط الجمعة الاستيطان عنده حد هذا الجمع بالقدر من الناس الذين يمكنهم أن يسكنوا على حدة من الناس وهو مالك رحمه الله. وأما من اشترط الأربعين فمصيرا إلى ما روي أن هذا العدد كان في أول جمعة صليت بالناس، فهذا هو أحد شروط صلاة الجمعة: أعني شروط الوجوب وشروط الصحة فإن من الشروط ما هي شروط وجوب فقط، ومنها ما يجمع الأمرين جميعا: أعني أنها شروط وجوب وشروط صحة. وأما الشرط الثاني وهو الاستيطان، فإن فقهاء الأمصار اتفقوا عليه لاتفاقهم على أن الجمعة لا تجب على مسافر، وخالف في ذلك أهل الظاهر لإيجابهم الجمعة على المسافر. واشترط أبو حنيفة المصر والسلطان مع هذا، ولم يشترط العدد. وسبب اختلافهم في هذا الباب هو الاحتمال المتطرق إلى الأحوال الراتبة التي اقترنت بهذه الصلاة عند فعله إياها ﷺ هل هي شرط في صحتها أو وجوبها أم ليست بشرط؟ وذلك أنه لم يصلها ﷺ إلا في جماعة ومصر ومسجد جامع، فمن رأى أن اقتران هذه الأشياء بصلاته مما يوجب كونها شرطا في صلاة الجمعة اشترطها، ومن رأى بعضها دون بعض اشترط ذلك البعض دون غيره كاشتراط مالك المسجد وتركه اشتراط المصر والسلطان، ومن هذا الوضع اختلفوا في مسائل كثيرة من هذا الباب مثل اختلافهم هل تقام جمعتان في مصر واحد أو لا تقام؟ والسبب في اختلافهم في اشتراط الأحوال والأفعال المقترنة بها هو كون بعض تلك الأحوال أشد مناسبة لأفعال الصلاة من بعض، ولذلك اتفقوا على اشتراط الجماعة، إذ كان معلوما من الشرع أنها حال من الأحوال الموجودة في الصلاة، ولم ير مالك المصر ولا السلطان شرطا في ذلك لكونه غير مناسب لأحوال الصلاة ورأى أن المسجد شرطا لكونه أقرب مناسبة، حتى لقد اختلف المتأخرون من أصحابه هل من شرط المسجد السقف أم لا؟ وهل من شرطه أن تكون الجمعة راتبة فيه أم لا؟ وهذا كله لعله تعمق في هذا الباب ودين الله يسر. ولقائل أن يقول: إن هذه لو كانت شروطا في صحة الصلاة لما جاز أن يسكت عنها عليه الصلاة والسلام، ولا أن يترك بيانها لقوله تعالى {لتبين للناس ما نزل إليهم} ولقوله تعالى {لتبين لهم الذي اختلفوا فيه} والله المرشد للصواب. 4*الفصل الثالث في الأركان. اتفق المسلمون على أنها خطبة وركعتان بعد الخطبة، واختلفوا في ذلك في خمس مسائل هي قواعد هذا الباب.

@-(المسألة الأولى) في الخطبة، هل هي شرط في صحة الصلاة وركن من أركانها أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنها شرط وركن. وقال قوم: إنها ليست بفرض، وجمهور أصحاب مالك على أنها فرض إلا ابن الماجشون. وسبب اختلافهم هو هل الأصل المتقدم من احتمال كل ما اقترن بهذه الصلاة أن يكون من شروطها أو لا يكون. فمن رأى أن الخطبة حال من الأحوال المختصة بهذه الصلاة، وبخاصة إذا توهم أنها عوض من الركعتين اللتين نقصتا من هذه الصلاة قال: إنها ركن من أركان هذه الصلاة وشرط في صحتها، ومن رأى أن المقصود منها هو الموعظة المقصودة من سائر الخطب رأى أنها ليست شرطا من شروط الصلاة، وإنما وقع خلاف في هذه الخطبة هل هي فرض أم لا؟ لكونها راتبة من سائر الخطب، وقد احتج قوم لوجوبها بقوله تعالى {فاسعوا إلى ذكر الله} وقالوا هو الخطبة. @-(المسألة الثانية) واختلف الذين قالوا بوجوبها في القدر المجزئ منها فقال ابن القاسم: هو أقل ما ينطلق اسم خطبة في كلام العرب من الكلام المؤلف المبتدأ بحمد الله. وقال الشافعي: أقل ما يجزئ من ذلك خطبتان اثنتان يكون في كل واحدة منهما قائما يفصل إحداهما من الأخرى بجلسة خفيفة يحمد الله في كل واحدة منهما في أولها ويصلي على النبي ويوصي بتقوى الله ويقرأ شيئا من القرآن في الأولى ويدعو في الآخرة والسبب في اختلافهم هو هل يجزئ من ذلك أقل ما ينطلق عليه الاسم اللغوي أو الاسم الشرعي، فمن رأى أن المجزئ أقل ما ينطلق عليه الاسم اللغوي لم يشترط فيها شيئا من الأقوال التي نقلت عنه ﷺ فيها. ومن رأى أن المجزئ من ذلك أقل ما ينطلق عليه الاسم الشرعي اشترط فيها أصول الأقوال التي نقلت من خطبه ﷺ: أعني الأقوال الراتبة الغير مبتذلة. والسبب في هذا الاختلاف أن الخطبة التي نقلت عنه فيها أقوال راتبة وغير راتبة، فمن اعتبر الأقوال الغير راتبة وغلب حكمها قال: يكفي من ذلك أقل ما ينطلق عليه الاسم اللغوي: أعني اسم خطبة عند العرب. ومن اعتبر الأقوال الراتبة وغلب حكمها قال: لا يجزئ من ذلك إلا أقل ما ينطلق عليه اسم الخطبة في عرف الشرع واستعماله، وليس من شرط الخطبة عند مالك الجلوس، وهو شرط كما قلنا عند الشافعي، وذلك أنه من اعتبر المعنى المعقول منه من كونه استراحة للخطيب لم يجعله شرطا، ومن جعل ذلك عبادة جعله شرطا. @-(المسألة الثالثة) اختلفوا في الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب على ثلاثة أقوال: فمنهم من رأى أن الإنصات واجب على كل حال وأنه حكم لازم من أحكام الخطبة، وهم الجمهور ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وجميع فقهاء الأمصار، وهؤلاء انقسموا ثلاثة أقسام، فبعضهم أجاز التشميت ورد السلام في وقت الخطبة، وبه قال الثوري والأوزاعي وغيرهم وبعضهم لم يجز رد السلام ولا التشميت، وبعض فرق بين السلام والتشميت فقالوا يرد السلام ولا يشمت، والقول الثاني مقابل القول الأول، وهو أن الكلام في حال الخطبة جائز إلا في حين قراءة القرآن فيها، وهو مروي عن الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي، والقول الثالث الفرق بين أن يسمع الخطبة أو لا يسمعها، فإن سمعها أنصت وإن لم يسمع جاز له أن يسبح أو يتكلم في مسألة من العلم، وبه قال أحمد وعطاء وجماعة، والجمهور على أنه إن تكلم لم تفسد صلاته. وروي عن ابن وهب أنه قال: من لغا فصلاته ظهر أربع وإنما صار الجمهور لوجوب الإنصات لحديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت" وأما من لم يوجبه فلا أعلم لهم شبهة إلا أن يكونوا يرون أن هذا الأمر قد عارضه دليل الخطاب في قوله تعالى {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} أي أن ما عدا القرآن فليس يجب له الإنصات، وهذا فيه ضعف والله أعلم. والأشبه أن يكون هذا الحديث لم يصلهم. وأما اختلافهم في رد السلام وتشميث العاطس، فالسبب فيه تعارض عموم الأمر بذلك لعموم الأمر بالإنصات، واحتمال أن يكون كل واحد منهما مستثنى من صاحبه، فمن استثنى من عموم الأمر بالصمت يوم الجمعة الأمر بالسلام وتشميت العاطس أجازهما، ومن استثنى من عموم الأمر برد السلام والتشميت الأمر بالصمت في حين الخطبة لم يجز ذلك، ومن فرق فإنه استثنى رد السلام من النهي عن التكلم في الخطبة، واستثنى من عموم الأمر التشميت وقت الخطبة، وإنما ذهب واحد واحد من هؤلاء إلى واحد واحد من المستثنيات لما غلب على ظنه من قوة العموم في أحدها وضعفه في الآخر، وذلك أن الأمر بالصمت هو عام في الكلام خاص في الوقت، والأمر برد السلام والتشميت هو عام في الوقت خاص في الكلام، فمن استثنى الزمان الخاص من الكلام العام لم يجز رد السلام ولا التشميت في وقت الخطبة، ومن استثنى الكلام الخاص من النهي عن الكلام العام أجاز ذلك. والصواب أن لا يصار لاستثناء أحد العمومين بأحد الخصوصين إلا بدليل، فإن عسر ذلك فبالنظر في ترجيح العمومات والخصوصات، وترجيح تأكيد الأوامر بها والقول في تفصيل ذلك يطول، ولكن معرفة ذلك بإيجاز أنه إن كانت الأوامر قوتها واحدة والعمومات والخصوصات قوتها واحدة ولم يكن هنالك دليل على أي يستثنى من أي وقع التمانع ضرورة، وهذا يقل وجوده، وإن لم يكن فوجه الترجيح في العمومات والخصوصات الواقعة في أمثال هذه المواضع هو النظر إلى جميع أقسام النسب الواقعة بين الخصوصين والعمومين، وهي أربع: عمومان في مرتبة واحدة من القوة، وخصوصان في مرتبة واحدة من القوة، فهذا لا يصار لإستثناء أحدهما إلا بدليل، والثاني مقابل هذا، وهو خصوص في نهاية القوة وعموم في نهاية الضعف، فهذا يجب أن يصار إليه ولا بد أعني أن يستثنى من العموم الخصوص، الثالث خصوصان في مرتبة واحدة، وأحد العمومين أضعف من الثاني، فهذا ينبغي أن يخصص فيه العموم الضعيف، الرابع عمومان في مرتبة واحدة وأحد الخصوصين أقوى من الثاني، فهذا يجب أن يكون الحكم فيه للخصوص القوي، وهذا كله إذا تساوت الأوامر فيها في مفهوم التأكيد، فإن اختلفت حدثت من ذلك تراكيب مختلفة ووجبت المقايسة أيضا بين قوة الألفاظ وقوة الأوامر، ولعسر انضباط هذه الأشياء قيل إن كل مجتهد مصيب أو أقل ذلك غير مأثوم. @-(المسألة الرابعة) اختلفوا فيمن جاء يوم الجمعة والإمام على المنبر: هل يركع أم لا؟ فذهب بعض إلى أنه لا يركع وهو مذهب مالك، وذهب بعضهم إلى أنه يركع. والسبب في اختلافهم معارضة القياس لعموم الأثر، وذلك أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام "إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين" يوجب أن يركع الداخل في المسجد يوم الجمعة وإن كان الإمام يخطب، والأمر بالإنصات إلى الخطيب يوجب دليله أن لا يشتغل بشيء مما يشغل عن الإنصات وإن كان عبادة، ويؤيد عموم هذا الأثر ما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام "إذا جاء أحدكم المسجد والإمام يخطب فليركع ركعتين خفيفتين" خرجه مسلم في بعض رواياته، وأكثر رواياته "أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر الرجل الداخل أن يركع، ولم يقل إذا جاء أحدكم" الحديث. فيتطرق إلى هذا الخلاف في هل تقبل زيادة الراوي الواحد إذا خالفه أصحابه عن الشيخ الأول الذي اجتمعوا في الرواية عنه أم لا؟ فإن صحت الزيادة وجب العمل بها، فإنها نص في موضع الخلاف والنص لا يجب أن يعارض بالقياس، لكن يشبه أن يكون الذي راعاه مالك في هذا هو العمل. @-(المسألة الخامسة) أكثر الفقهاء على أن من سنة القراءة في صلاة الجمعة قراءة سورة الجمعة في الركعة الأولى لما تكرر ذلك من فعله عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه خرج مسلم عن أبي هريرة "أن رسول الله ﷺ كان يقرأ في الركعة الأولى بالجمعة، وفي الثانية بإذا جاءك المنافقون" وروى مالك أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير ماذا كان يقرأ به رسول الله ﷺ يوم الجمعة على أثر سورة الجمعة قال "كان يقرأ بهل أتاك حديث الغاشية" واستحب مالك العمل على هذا الحديث وإن قرأ عنده بسبح اسم ربك الأعلى كان حسنا، لأنه مروي عن عمر بن عبد العزيز وأما أبو حنيفة فلم يقف فيها شيئا. والسبب في اختلافهم معارضة حال الفعل للقياس، وذلك أن القياس يوجب أن لا يكون لها سورة راتبة كالحال في سائر الصلوات، ودليل الفعل يقتضي أن يكون لها سورة راتبة. وقال القاضي: خرج مسلم عن النعمان ابن بشير "أن رسول الله ﷺ كان يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية" قال فإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد قرأ بهما في الصلاتين، وهذا يدل على أنه ليس هناك سورة راتبة وأن الجمعة ليس كان يقرأ بها دائما. 4*الفصل الرابع في أحكام الجمعة.

@-وفي هذا الباب أربع مسائل. الأولى: في حكم طهر الجمعة. الثانية: على من تجب ممن خارج المصر. الثالثة: في وقت الرواح المرغب فيه إلى الجمعة. الرابعة: في جواز البيع يوم الجمعة بعد النداء. @-(المسألة الأولى) اختلفوا في طهر الجمعة؛ فذهب الجمهور إلى أنه سنة، وذهب أهل الظاهر إلى أنه فرض ولا خلاف فيما أعلم أنه ليس شرطا في صحة الصلاة، والسبب في اختلافهم تعارض الآثار وذلك أن في هذا الباب حديث أبي سعيد الخدري، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "طهر يوم الجمعة واجب على كل محتلم كطهر الجنابة" وفيه حديث عائشة قالت: "كان الناس عمال أنفسهم فيروحون إلى الجمعة بهيئتهم، فقيل لو اغتسلتم؟ والأول صحيح باتفاق، والثاني خرجه أبو داود ومسلم. وظاهر حديث أبي سعيد يقتضي وجوب الغسل، وظاهر حديث عاشة أن ذلك كان لموضع النظافة وأنه ليس عبادة، وقد روي "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل" وهو نص في سقوط فرضيته إلا أنه حديث ضعيف. وأما وجوب الجمعة على من هو خارج المصر، فإن قوما قالوا: لا تجب على من خارج المصر، وقوم قالوا: بل تجب، وهؤلاء اختلفوا اختلافا كثيرا، فمنهم من قال: من كان بينه وبين الجمعة مسيرة يوم وجب عليه الإتيان إليها وهو شاذ، ومنهم من قال يجب عليه الإتيان إليها على ثلاثة أميال، ومنهم من قال: يجب عليه الإتيان من حيث يسمع النداء في الأغلب، وذلك من ثلاثة أميال من موضع النداء، وهذان القولان عن مالك، وهذه المسألة ثبتت في شروط الوجوب. وسبب اختلافهم في هذا الباب اختلاف الآثار، وذلك أنه ورد أن الناس كانوا يأتون الجمعة من العوالي في زمان النبي ﷺ، وذلك ثلاثة أميال من المدينة. وروى أبو داود أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "الجمعة على من سمع النداء" وروي "الجمعة على من آواه الليل إلى أهله" وهو أثر ضعيف وأما اختلافهم في الساعات التي وردت في فضل الرواح، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة" فإن الشافعي وجماعة من العلماء اعتقدوا أن هذه الساعات هي ساعات النهار فندبوا إلى الرواح من أول النهار، وذهب مالك إلى أنها أجزاء ساعة واحدة قبل الزوال وبعده، وقال قوم: هي أجزاء ساعة قبل الزوال وهو الأظهر لوجوب السعي بعد الزوال إلا على مذهب من يرى أن الواجب يدخله الفضيلة. وأما اختلافهم في البيع والشراء وقت النداء فإن قوما قالوا: يفسخ البيع إذا وقع النداء، وقوما قالوا لا يفسخ. وسبب اختلافهم هل النهي عن الشيء الذي أصله مباح إذا تقيد النهي بصفة يعود بفساد المنهي عنه أم لا؟. وآداب الجمعة ثلاث الطيب والسواك واللباس الحسن، ولا خلاف فيه لورود الآثار بذلك. 3*الباب الرابع في صلاة السفر.

@-وهذا الباب فيه فصلان: الفصل الأول في القصر. الفصل الثاني في الجمع. 4*الفصل الأول في القصر.

@-والسفر له تأثير في القصر باتفاق، وفي الجمع باختلاف. أما القصر فإنه اتفق العلماء على جواز قصر الصلاة للمسافر إلا قول شاذ، وهو قول عائشة وهو أن القصر لا يجوز إلا للخائف لقوله تعالى {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} وقالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام إنما قصر لأنه كان خائفا، واختلفوا من ذلك في خمسة مواضع: أحدها في حكم القصر، والثاني في المسافة التي يجب فيها القصر، والثالث في السفر الذي يجب فيه القصر، والرابع في الموضع الذي يبدأ منه المسافر بالتقصير، والخامس في مقدار الزمان الذي يجوز للمسافر فيه إذا أقام في موضع أن يقصر الصلاة. فأما حكم القصر فإنهم اختلفوا فيه على أربعة أقوال: فمنهم من رأى أن القصر هو فرض المسافر المتعين عليه. ومنهم من رأى أن القصر والإتمام كلاهما فرض مخير له كالخيار في واجب الكفارة. ومنهم من رأى أن القصر سنة. ومنهم من رأى أنه رخصة وأن الإتمام أفضل، وبالقول الأول قال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون بأسرهم: أعني أنه فرض متعين، وبالثاني قال بعض أصحاب الشافعي وبالثالث "أعني أنه سنة" قال مالك في أشهر الروايات عنه. وبالرابع "أعني أنه رخصة" قال الشافعي في أشهر الروايات عنه، وهو المنصور عند أصحابه. والسبب في اختلافهم معارضة المعنى المعقول لصيغة اللفظ المنقول ومعارضة دليل الفعل أيضا للمعنى المعقول ولصيغة اللفظ المنقول، وذلك أن المفهوم من قصر الصلاة للمسافر إنما هو الرخصة لموضع المشقة كما رخص له في الفطر وفي أشياء كثيرة ويؤيد هذا حديث يعلى بن أمية قال "قلت لعمر: إنما قال الله {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} يريد في قصر الصلاة في السفر، فقال عمر "عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله ﷺ عما سألتني عنه فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" فمفهوم هذا الرخصة. وحديث أبي قلابة عن رجل من بني عامر أنه أتى النبي ﷺ فقال له النبي ﷺ "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة" وهما في الصحيح، وهذا كله يدل على التخفيف والرخصة ورفع الحرج، لا أن القصر هو الواجب ولا أنه سنة. وأما الأثر الذي يعارض بصيغته المعنى المعقول ومفهوم هذه الآثار فحديث عائشة الثابت باتفاق قالت "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر" وأما دليل الفعل الذي يعارض المعنى المعقول ومفهوم الأثر المنقول فإنه ما نقل عنه عليه الصلاة والسلام من قصر الصلاة في كل أسفاره، وأنه لم يصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه أتم الصلاة قط فمن ذهب إلى أنه سنة أو واجب مخير فإنما حمله على ذلك أنه لم يصح عنده "أن النبي عليه الصلاة والسلام أتم الصلاة وما هذا شأنه" فقد يجب أن يكون أحد الوجهين: أعني إما واجبا مخيرا، وإما أن يكون سنة، وإما أن يكون فرضا معينا، لكن كونه فرضا معينا يعارضه المعنى المعقول، وكونه رخصة يعارضه اللفظ المنقول، فوجب أن يكون واجبا مخيرا أو سنة، وكان هذا نوعا من طريق الجمع، وقد اعتلوا لحديث عائشة بالمشهور عنها من أنها كانت تتم، وروى عطاء "أن النبي ﷺ كان يتم الصلاة في السفر ويقصر ويصوم ويفطر ويؤخر الظهر ويعجل العصر ويؤخر المغرب ويعجل العشاء" ومما يعارضه أيضا حديث أنس وأبي نجيح المكي قال: اصطحبت أصحاب محمد ﷺ، فكان بعضهم يتم وبعضهم يقصر وبعضهم يصوم وبعضهم يفطر، فلا يعيب هؤلاء على هؤلاء، ولا هؤلاء على هؤلاء، ولم يختلف في إتمام الصلاة عن عثمان وعائشة، فهذا هو اختلافهم في الموضع الأول. وأما اختلافهم في الموضع الثاني وهي المسافة التي يجوز فيها القصر، فإن العلماء اختلفوا في ذلك أيضا اختلافا كثيرا، فذهب مالك والشافعي وأحمد وجماعة كثيرة إلى أن الصلاة تقصر في أربعة برد، وذلك مسيرة يوم بالسير الوسط. وقال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون: أقل ما تقصر فيه الصلاة ثلاثة أيام، وإن القصر إنما هو لمن سار من أفق إلى أفق. وقال أهل الظاهر: القصر في كل سفر قريبا كان أو بعيدا. والسبب في اختلافهم معارضة المعنى المعقول من ذلك اللفظ، وذلك أن المعقول من تأثير السفر في القصر أنه لمكان المشقة الموجودة فيه مثل تأثيره في الصوم، وإذا كان الأمر على ذلك فيجب القصر حيث المشقة. وأما من لا يراعي في ذلك إلا اللفظ فقط، فقالوا: قد قال النبي عليه الصلاة والسلام "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة" فكل من انطلق عليه اسم مسافر جاز له القصر والفطر، وأيدوا ذلك بما رواه مسلم عن عمر بن الخطاب "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقصر في نحو السبعة عشر ميلا" وذهب قوم إلى خامس كما قلنا وهو أن القصر لا يجوز إلا للخائف لقوله تعالى {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا} وقد قيل إنه مذهب عائشة وقالوا: إن النبي ﷺ إنما قصر لأنه كان خائفا. وأما اختلاف أولئك الذين اعتبروا المشقة فسببه اختلاف الصحابة في ذلك، وذلك أن مذهب الأربعة برد مروي عن ابن عمر وابن عباس، ورواه مالك، ومذهب الثلاثة أيام مروي أيضا عن ابن مسعود وعثمان وغيرهما. وأما الموضع الثالث وهو اختلافهم في نوع السفر الذي تقتصر فيه الصلاة، فرأى بعضهم أن ذلك مقصور على السفر المتقرب به كالحج والعمرة والجهاد، وممن قال بهذا القول أحمد. ومنهم من أجازه في السفر المباح دون سفر المعصية، وبهذا القول قال مالك والشافعي. ومنهم من أجازه في كل سفر قربة كان أو مباحا أو معصية وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري وأبو ثور. والسبب في اختلافهم معارضة المعنى المعقول أو ظاهر اللفظ لدليل الفعل، وذلك أن من اعتبر المشقة أو ظاهر لفظ السفر لم يفرق بين سفر وسفر. وأما من اعتبر دليل الفعل قال: إنه لا يجوز إلا في السفر المتقرب به لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقصر قط إلا في سفر متقرب به. وأما من فرق بين المباح والمعصية فعلى جهة التغليظ، والأصل فيه: هل تجوز الرخص للعصاة أم لا؟ وهذه مسألة عارض فيها اللفظ المعنى، فاختلف الناس فيها لذلك. وأما الموضع الرابع وهو اختلافهم في الموضع الذي منه يبدأ المسافر بقصر الصلاة، فإن مالكا قال في الموطأ: لا يقصر الصلاة الذي يريد السفر حتى يخرج من بيوت القرية ولا يتم حتى يدخل أول بيوتها. وقد روي عنه أنه لا يقصر إذا كانت قرية جامعة حتى يكون منها بنحو ثلاثة أميال، وذلك عنده أقصى ما تجب فيه الجمعة على من كان خارج المصر في إحدى الروايتين عنه، وبالقول الأول قال الجمهور. والسبب في هذا الاختلاف معارضة مفهوم الاسم لدليل الفعل، وذلك أنه إذا شرع في السفر فقد انطلق عليه اسم مسافر فمن راعى مفهوم الاسم قال: إذل خرج من بيوت القرية قصر. ومن راعى دليل الفعل: أعني فعله عليه الصلاة والسلام قال: لا يقصر إلا إذا خرج من بيوت القرية بثلاثة أميال لما صح من حديث أنس قال "كان النبي ﷺ إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ {شعبة الشاك} صلى ركعتين" وأما اختلافهم في الزمان الذي يجوز للمسافر إذا قام فيه في بلد أن يقصر فاختلاف كثير حكى فيه أبو عمر نحوا من أحد عشر قولا، إلا أن الأشهر منها هو ما عليه فقهاء الأمصار ولهم في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها مذهب مالك والشافعي إنه إذا أزمع المسافر على إقامة أربعة أيام أتم. والثاني مذهب أبي حنيفة وسفيان الثوري أنه إذا أزمع على إقامة خمسة عشر يوما أتم. والثالث مذهب أحمد وداود أنه إذا أزمع على أكثر من أربعة أيام أتم. وسبب الخلاف أنه أمر مسكوت عنه في الشرع والقياس على التحديد ضعيف عند الجميع، ولذلك رام هؤلاء كلهم أن يستدلوا لمذهبهم من الأحوال التي نقلت عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيها مقصرا، أو أنه جعل لها حكم المسافر. فالفريق الأول احتجوا لمذهبهم بما روى "أنه عليه الصلاة والسلام أقام بمكة ثلاثا يقصر في عمرته" وهذا ليس فيه حجة على أنه النهاية للتقصير، وإنما فيه حجة على أنه يقصر في الثلاثة فما دونها. والفريق الثاني احتجوا لمذهبهم بما روي أنه أقام بمكة مقصرا وذلك نحوا من خمسة عشر يوما في بعض الروايات وقد روي سبعة عشر يوما وثمانية عشر يوما وتسعة عشر يوما، رواه البخاري عن ابن عباس، وبكل قال فريق. والفريق الثالث احتجوا بمقامه في حجة بمكة مقصرا أربعة أيام، وقد احتجت المالكية لمذهبها "أن رسول الله ﷺ جعل للمهاجر ثلاثة أيام بمكة مقام بعد قضاء نسكه" فدل هذا عندهم على أن إقامة ثلاثة أيام ليست تسلب عن المقيم فيها اسم السفر، وهي النكتة التي ذهب الجميع إليها، وراموا استنباطها من فعله عليه الصلاة والسلام: أعني متى يرتفع عنه بقصد الإقامة اسم السفر، ولذلك اتفقوا على أنه إن كانت الإقامة مدة لا يرتفع فيها عنه اسم السفر بحسب رأي واحد منهم في تلك المدة وعاقه عائق عن السفر أنه يقصر أبدا، وإن أقام ما شاء الله. ومن راعى الزمان الأقل من مقامه تأول مقامه في الزمان الأكثر مما ادعاه خصمه على هذه الجهة؛ فقالت المالكية مثلا إن الخمسة عشر يوما التي أقامها عليه الصلاة والسلام عام الفتح إنما أقامها وهو أبدا ينوي أنه لا يقيم أربعة أيام، وهذا بعينه يلزمهم في الزمان الذي حدوه، والأشبه في المجتهد في هذا أن يسلك أحد أمرين: إما أن يجعل الحكم لأكثر الزمان الذي روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه أقام فيه مقصرا، ويجعل ذلك حدا من جهة الأصل هو الإتمام فوجب ألا يزاد على هذا الزمان إلا بدليل، أو يقول إن الأصل في هذا هو أقل الزمان الذي وقع عليه الإجماع، وما ورد من أنه عليه الصلاة والسلام أقام مقصرا أكثر من ذلك الزمان، فيحتمل أن يكون أقامه لأنه جائز للمسافر، ويحتمل أن يكون أقامه بنية الزمان الذي تجوز إقامته فيه مقصرا باتفاق، فعرض له أن قام أكثر من ذلك، وإذا كان الاحتمال وجب التمسك بالأصل، وأقل ما قيل في ذلك يوم وليلة، وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن. وروي عن الحسن البصري أن المسافر يقصر أبدا إلا أن يقدم مصرا من الأمصار، وهذا بناء على أن اسم السفر واقع عليه حتى يقدم مصرا من الأمصار، فهذه أمهات المسائل التي تتعلق بالقصر. 4*الفصل الثاني في الجمع.

@-وأما الجمع فإنه يتعلق به ثلاث مسائل: إحداها جوازه. والثانية في صفة الجمع. والثالثة في مبيحات الجمع. أما جوازه فإنهم أجمعوا على أن الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة سنة، وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة أيضا في وقت العشاء سنة أيضا. واختلفوا في الجمع في غير هذين المكانين، فأجازه الجمهور على اختلاف بينهم في المواضع التي يجوز فيها من التي لا يجوز، ومنعه أبو حنيفة وأصحابه بإطلاق. وسبب اختلافهم أولا اختلافهم في تأويل الآثار التي رويت في الجمع والاستدلال منها على جواز الجمع لأنها كلها أفعال وليست أقوالا، والأفعال يتطرق إليها الاحتمال كثيرا أكثر من تطرقه إلى اللفظ. وثانيا اختلافهم أيضا في تصحيح بعضها، وثالثا اختلافهم في إجازة القياس في ذلك فهي ثلاثة أسباب كما ترى. أما الآثار التي اختلفوا في تأويلها، فمنها حديث أنس الثابت باتفاق أخرجه البخاري ومسلم قال "كان رسول الله ﷺ إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب" ومنها حديث ابن عمر أخرجه الشيخان أيضا قال "رأيت رسول الله ﷺ إذا عجل به السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء" والحديث الثالث حديث ابن عباس خرجه مالك ومسلم قال "صلى رسول الله ﷺ الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا في غير خوف ولا سفر" فذهب القائلون بجواز الجمع في تأويل هذه الأحاديث إلى أنه أخر الظهر إلى وقت العصر المختص بها وجمع بينهما. وذهب الكوفيون إلى أنه إنما أوقع صلاة الظهر في آخر وقتها وصلاة العصر في أول وقتها على ما جاء في حديث إمامة جبريل قالوا: وعلى هذا يصح حمل حديث ابن عباس لأنه قد انعقد الإجماع أنه لا يجوز هذا في الحضر لغير عذر: أعني أن تصلى الصلاتان معا في وقت إحداهما، واحتجوا لتأويلهم أيضا بحديث ابن مسعود قال "والذي لا إله غيره ما صلى رسول الله ﷺ صلاة قط إلا في وقتها إلا صلاتين جمع بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بجمع" قالوا: وأيضا فهذه الآثار محتملة أن تكون على ما تأولناه نحن أو ما تأولتموه أنتم. وقد صح توقيت الصلاة وتبيانها في الأوقات، فلا يجوز أن تنتقل عن أصل ثابت بأمر محتمل. وأما الأثر الذي اختلفوا في تصحيحه، فما رواه مالك من حديث معاذ بن جبل "أنهم أخرجوا مع رسول الله ﷺ عام تبوك، فكان رسول الله ﷺ يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قال: فأخر الصلاة يوما، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا" وهذا الحديث لو صح لكان أظهر من تلك الأحاديث في إجازة الجمع لأن ظاهره أنه قدم العشاء إلى وقت المغرب، وإن كان لهم أن يقولوا إنه أخر المغرب إلى آخر وقتها وصلى العشاء في أول وقتها لأنه ليس في الحديث أمر مقطوع به على ذلك، بل لفظ الراوي محتمل. وأما اختلافهم في إجازة القياس في ذلك فهو أن يلحق سائر الصلوات في السفر بصلاة عرفة والمزدلفة، أعني أن يجاز الجمع قياسا على تلك، فيقال مثلا: صلاة وجبت في سفر، فجاز أن تجمع أصله جمع الناس بعرفة والمزدلفة، وهو مذهب سالم بن عبد الله: أعني جواز هذا القياس، لكن القياس في العبادات يضعف، فهذه هي أسباب الخلاف الواقع في جواز الجمع. @-(وأما المسألة الثانية) وهي صورة الجمع فاختلف فيه أيضا القائلون بالجمع أعني في السفر. فمنهم من رأى الاختيار أن تؤخر الصلاة الأولى وتصلى مع الثانية وإن جمعتا معا في أول وقت الأولى جاز، وهي إحدى الروايتين عن مالك، ومنهم من سوى بين الأمرين: أعني أن يقدم الآخرة إلى وقت الأولى أو يعكس الأمر وهو مذهب الشافعي وهي رواية أهل المدينة عن مالك، والأولى رواية ابن القاسم عنه، وإنما كان الاختيار عند مالك هذا النوع من الجمع لأنه الثابت من حديث أنس، ومن سوى بينهما فمصيرا إلى أنه لا يرجح بالعدالة: أعني أنه لا تفضل عدالة عدالة في وجوب العمل بها، ومعنى هذا أنه إذا صح حديث معاذ وجب العمل به كما وجب بحديث أنس إذا كان رواة الحديثين عدولا، وإن كان رواة أحد الحديثين أعدل. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي الأسباب المبيحة للجمع، فاتفق القائلون بجواز الجمع على أن السفر منها، واختلفوا في الجمع في الحضر وفي شروط السفر المبيح له، وذلك أن السفر منهم من جعله سببا مبيحا للجمع أي سفر كان وبأي صفة كان، ومنهم من اشترط فيه ضربا من السير، ونوعا من أنواع السفر، فأما الذي اشترط فيه ضربا من السير فهو مالك في رواية ابن القاسم عنه، وذلك أنه قال: لا يجمع المسافر إلا أن يجد به السير، ومنهم من لم يشترط ذلك وهو الشافعي، وهي إحدى الروايتين عن مالك، ومن ذهب هذا المذهب فإنما راعى قول ابن عمر "كان رسول الله ﷺ إذا عجل به السير" الحديث. ومن لم يذهب هذا المذهب فإنما راعى ظاهر حديث أنس وغيره، وكذلك اختلفوا كما قلنا في نوع السفر الذي يجوز فيه الجمع. فمنهم من قال: هو سفر القربة كالحج والغزو، وهو ظاهر رواية ابن القاسم. ومنهم من قال: هو السفر المباح دون سفر المعصية، وهو قول الشافعي وظاهر رواية المدنيين عن مالك. والسبب في اختلافهم في هذا هو السبب في اختلافهم في السفر الذي تقصر فيه الصلاة، وإن كان هنالك التعميم، لأن القصر نقل قولا وفعلا، والجمع إنما نقل فعلا فقط، فمن اقتصر به على نوع السفر الذي جمع فيه رسول الله ﷺ لم يجزه في غيره، ومن فهم منه الرخصة للمسافر عداه إلى غيره من الأسفار. وأما الجمع في الحضر لغير عذر، فإن مالكا وأكثر الفقهاء لا يجيزونه. وأجاز ذلك جماعة من أهل الظاهر وأشهب من أصحاب مالك. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم حديث ابن عباس، فمنهم من تأوله على أنه كان في مطر كما قال مالك. ومنهم من أخذ بعمومه مطلقا. وقد خرج مسلم زيادة في حديثه، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "في غير خوف ولا سفر ولا مطر" وبهذا تمسك أهل الظاهر. وأما الجمع في الحضر لعذر المطر فأجازه الشافعي ليلا كان أو نهارا ومنعه مالك في النهار وأجازه في الليل، وأجازه أيضا في الطين دون المطر في الليل، وقد عدل الشافعي مالكا في تفريقه من صلاة النهار في ذلك وصلاة الليل، لأنه روى الحديث وتأوله: أعني خصص عمومه من جهة القياس، وذلك أنه قال في قول ابن عباس "جمع رسول الله ﷺ بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر" أرى ذلك كان في مطر قال: فلم يأخذ بعموم الحديث ولا بتأويله: أعني تخصيصه، بل رد بعضه وتأول بعضه، وذلك شيء لا يجوز بإجماع، وذلك أنه لم يأخذ بقوله فيه "جمع بين الظهر والعصر" وأخذ بقوله "والمغرب والعشاء" وتأوله وأحسب أن مالكا رحمه الله إنما رد بعض هذا الحديث لأنه عارضه العمل، فأخذ منه بالبعض الذي لم يعارضه العمل، وهو الجمع في الحضر بين المغرب والعشاء على ما روى أن ابن عمر كان إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء جمع معهم لكن النظر في هذا الأصل الذي هو العمل كيف يكون دليلا شرعيا فيه نظر، فإن متقدمي شيوخ المالكية كانوا يقولون إنه من باب الإجماع، وذلك لا وجه له، فإن إجماع البعض لا يحتج به، وكان متأخروهم يقولون إنه من باب نقل التواتر، ويحتجون في ذلك بالصاع وغيره مما نقله أهل المدينة خلفا عن سلف، والعمل إنما هو فعل والفعل لا يفيد التواتر إلا أن يقترن بالقول فإن التواتر طريقة الخبر لا العمل، وبأن جعل الأفعال تفيد التواتر عسير بل لعله ممنوع، والأشبه عندي أن يكون من باب عموم البلوي الذي يذهب إليه أبو حنيفة، وذلك أنه لا يجوز أن يكون أمثال هذه السنن مع تكررها وتكرر وقوع أسبابها غير منسوخة، ويذهب العمل بها على أهل المدينة الذين تلقوا العمل بالسنن خلفا عن سلف، وهو أقوى من عموم البلوي الذي يذهب إليه أبو حنيفة، لأن أهل المدينة أحرى أن لا يذهب عليهم ذلك من غيرهم من الناس الذين يعتبرهم أبو حنيفة في طريق النقل، وبالجملة العمل لا يشك أنه قرينة إذا اقترنت بالشيء المنقول إن وافقته أفادت به غلبة ظن وإن خالفته أفادت به ضعف ظن، فأما هل تبلغ هذه القرينة مبلغا ترد بها أخبار الآحاد الثابتة ففيه نظر، وعسى أنها تبلغ في بعض ولا تبلغ في بعض لتفاضل الأشياء في شدة عموم البلوى بها، وذلك أنه كلما كانت السنة الحاجة إليها أمس وهي كثيرة التكرار على المكلفين كان نقلها من طريق الآحاد من غير أن ينتشر قولا أو عملا فيه ضعف، وذلك أنه يوجب ذلك أحد أمرين: إما أنها منسوخة، وإما أن النقل فيه اختلال، وقد بين ذلك المتكلمون كأبي المعالي وغيره. وأما الجمع في الحضر للمريض فإن مالكا أباحه له إذا خاف أن يغمى عليه أو كان به بطن ومنع ذلك الشافعي. والسبب في اختلافهم هو اختلافهم في تعدي علة الجمع في السفر: أعني المشقة، فمن طرد العلة رأى أن هذا من باب الأولى والأحرى، وذلك أن المشقة على المريض في إفراد الصلوات أشد منها على المسافر، ومن لم يعد هذه العلة وجعلها كما يقولون قاصرة: أي خاصة بذلك الحكم دون غيره لم يجز ذلك. 3*الباب الخامس من الجملة الثالثة، وهو القول في صلاة الخوف.

@-اختلف العلماء في جواز صلاة الخوف بعد النبي عليه الصلاة والسلام وفي صفتها، فأكثر العلماء على أن صلاة الخوف جائزة لعموم قوله تعالى {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا} الآية. ولما ثبت ذلك من فعله عليه الصلاة والسلام وعمل الأئمة والخلفاء بعده بذلك، وشذ أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة فقال: لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي ﷺ بإمام واحد، وإنما تصلى بعده بإمامين يصلي واحد منهما بطائفة ركعتين ثم يصلي الآخر بطائفة أخرى وهي الحارسة ركعتين أيضا وتحرس التي قد صلت. والسبب في اختلافهم هل صلاة النبي بأصحابه صلاة الخوف هي عبادة أو هي لمكان فضل النبي ﷺ فمن رأى أنها عبادة لم ير أنها خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام، ومن رآها لمكان فضل النبي عليه الصلاة والسلام رآها خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام، وإلا فقد كان يمكننا أن ينقسم الناس على إمامين، وإنما كان ضرورة اجتماعهم على إمام واحد خاصة من خواص النبي عليه الصلاة والسلام وتأيد عنده هذا التأويل بدليل الخطاب المفهوم من قوله تعالى {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} الآية. ومفهوم الخطاب أنه إذا لم يكن فيهم فالحكم غير هذا الحكم، وقد ذهبت طائفة من فقهاء الشام إلى أن صلاة الخوف تؤخر عن وقت الخوف إلى وقت الأمن كما فعل رسول الله ﷺ يوم الخندق. والجمهور على أن ذلك الفعل يوم الخندق كان قبل نزول صلاة الخوف وأنه منسوخ بها. وأما صفة صلاة الخوف فإن العلماء اختلفوا فيها اختلافا كثيرا لاختلاف الآثار في هذا الباب: أعني المنقولة من فعله ﷺ في صلاة الخوف، والمشهور من ذلك سبع صفات. فمن ذلك ما أخرجه مالك ومسلم من حديث صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله ﷺ يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه وصفت طائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاتهم، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم، وبهذا الحديث قال الشافعي، وروى مالك هذا الحديث بعينه عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات موقوفا كمثل حديث يزيد بن رومان أنه لما قضى الركعة بالطائفة الثانية سلم ولم ينتظرهم حتى يفرغوا من الصلاة، واختار مالك هذه الصفة، فالشافعي آثر المسند على الموقوف، ومالك آثر الموقوف لأنه أشبه بالأصول: أعني أنه لا يجلس (قوله يجلس لعله يسلم كما يظهر من سابقه اهـ مصححه) الإمام حتى تفرغ الطائفة الثانية من صلاتها لأن الإمام متبوع لا متبع وغير مختلف عليه. والصفة الثالثة ما ورد في حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه، رواه الثوري وجماعة وخرجه أبو داود قال: صلى رسول الله ﷺ صلاة الخوف بطائفة وطائفة مستقبلوا العدو، فصلى بالذين معه ركعة وسجدتين وانصرفوا ولم يسلموا فوقفوا بإزاء العدو، ثم جاء الأخرون فقاموا معه فصلى بهم ركعة ثم سلم فقام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا وذهبوا، فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو، ورجع أولئك إلى مراتبهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا "وبهذه الصفة قال أبو حنيفة وأصحابه ما خلا أبا يوسف على ما تقدم". والصفة الرابعة الواردة في حديث أبي عياش الزرقي قال "كنا مع رسول الله ﷺ بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غفلة لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فأنزل الله آية القصر بين الظهر والعصر، فلما حضرت العصر قام رسول الله ﷺ مستقبل القبلة والمشركون أمامه فصلى خلف رسول الله ﷺ صف واحد وصف بعد ذلك صف آخر، فركع رسول الله ﷺ وركعوا جميعا ثم سجد وسجد الصف الذي يليه وقام الآخر يحرسونهم فلما صلى هؤلاء سجدتين وقاموا سجد الآخرون الذين كانوا خلفه ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول ثم ركع رسول الله ﷺ وركعوا جميعا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول الله ﷺ والصف الذي يليه سجد الآخرون ثم جلسوا جميعا فسلم بهم جميعا" وهذه الصلاة صلاها بعسفان وصلاها يوم بني سليم. قال أبو داود: وروي هذا عن جابر وعن ابن عباس وعن مجاهد، وعن أبي موسى وعن هشام ابن عروة عن أبيه عن النبي ﷺ، قال: وهو قول الثوري وهو أحوطها يريد أنه ليس في هذه الصفة كبير عمل مخالف لأفعال الصلاة المعروفة، وقال بهذه الصفة جملة من أصحاب مالك وأصحاب الشافعي، وخرجها مسلم عن جابر، وقال جابر: كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائكم. والصفة الخامسة الواردة في حديث حذيفة قال ثعلبة بن زهدم قال كنا مع سعيد بن العاصي بطبرستان، فقام فقال: أيكم صلى مع رسول الله ﷺ صلاة الخوف؟ قال حذيفة: أنا، فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا شيئا" وهذا مخالف للأصل مخالفة كثيرة. وخرج أيضا عن ابن عباس في معناه أنه قال "الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع وفي السفر ركعتان وفي الخوف ركعة واحدة" وأجاز هذه الصفة الثوري. والصفة السادسة الواردة في حديث أبي بكرة وحديث جابر عن النبي ﷺ أنه صلى بكل طائفة من الطائفتين ركعتين ركعتين، وبه كان يفتي الحسن، وفيه دليل على اختلاف نية الإمام والمأموم لكونه متما، وهم مقصرون، خرجه مسلم عن جابر. والصفة السابعة الواردة في حديث ابن عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال: يتقدم الإمام وطائفة من الناس فيصلي بهم ركعة. وتكون طائفة منهم بينه وبين العدو لم يصلوا، فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا معه ولا يسلمون، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون معه ركعة، ثم ينصرف الإمام وقد صلى ركعتين تتقدم كل واحدة من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة ركعة بعد أن ينصرف الإمام فتكون كل واحدة من الطائفتين قد صلت ركعتين، فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم، أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها، وممن قال بهذه الصفة أشهب عن مالك وجماعة. وقال أبو عمر: الحجة لمن قال بحديث ابن عمر هذا أنه ورد بنقل الأئمة أهل المدينة وهم الحجة في النقل على من خالفهم، وهي أيضا مع هذا أشبه بالأصول، لأن الطائفة الأولى والثانية لم يقضوا الركعة إلا بعد خروج رسول الله ﷺ من الصلاة وهو المعروف من سنة القضاء المجتمع عليها في سائر الصلوات، وأكثر العلماء على ما جاء في هذا الحديث من أنه إذا اشتد الخوف جاز أن يصلوا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، وإيماء من غير ركوع ولا سجود. وخالف في ذلك أبو حنيفة فقال: لا يصلي الخائف إلا إلى القبلة، ولا يصلي أحد في حال المسايفة. وسبب الخلاف في ذلك مخالفة هذا الفعل للأصول، وقد رأى قوم أن هذه الصفات كلها جائزة، وأن للمكلف أن يصلي أيتها أحب، وقد قيل: إن هذا الاختلاف إنما كان بحسب اختلاف المواطن. 3*الباب السادس من الجملة الثالثة في صلاة المريض.

@-أجمع العلماء على أن المريض مخاطب بأداء الصلاة، وأنه يسقط عنه فرض القيام إذا لم يستطعه ويصلي جالسا، وكذلك يسقط عنه فرض الركوع والسجود إذا لم يستطعهما أو أحدهما ويومئ مكانهما. واختلفوا فيمن له أن يصلي جالسا وفي هيئة الجلوس وفي هيئة الذي لا يقدر على الجلوس ولا على القيام، فأما من له أن يصلي جالسا فإن قوما قالوا: هذا الذي لا يستطيع القيام أصلا، وقوم قالوا هو الذي يشق عليه القيام من المرض، وهو مذهب مالك. وسبب اختلافهم هو: هل يسقط فرض القيام مع المشقة أو مع عدم القدرة؟ وليس في ذلك نص. وأما صفة الجلوس فإن قوما قالوا: يجلس متربعا: أعني الجلوس الذي هو بدل من القيام، وكره ابن مسعود الجلوس متربعا، فمن ذهب إلى التربيع فلا فرق بينه وبين جلوس التشهد، ومن كره فلأنه ليس من جلوس الصلاة. وأما صفة صلاة الذي لا يقدر على القيام ولا على الجلوس، فإن قوما قالوا يصلي مضطجعا، وقوم قالوا: يصلي كيفما تيسر له، وقوم قالوا: يصلي مستقبلا رجلاه إلى الكعبة، وقوم قالوا: إن لم يستطع الجلوس صلى على جنبه، فإن لم يستطع على جنبه صلى مستلقيا ورجلاه إلى القبلة على قدر طاقته، وهو الذي اختاره ابن المنذر. 3*(الجملة الرابعة) وهذه الجملة تشمل من أفعال الصلاة على التي ليست أداء، وهذه هي إما إعادة وإما قضاء وإما جبر لما زاد أو نقص بالسجود ففي هذه الجملة إذا ثلاثة أبواب. الباب الأول: في الإعادة. الباب الثاني: في القضاء. الباب الثالث: في الجبران الذي يكون بالسجود.

3*الباب الأول في الإعادة.

@-وهذا الباب الكلام فيه في الأسباب التي تقتضي الإعادة، وهي مفسدات الصلاة. واتفقوا على أن من صلى بغير طهارة أنه يجب عليه الإعادة عمدا أو نسيانا، وكذلك من صلى لغير القبلة عمدا كان ذلك أو نسيانا. وبالجملة فكل من أخل بشرط من شروط صحة الصلاة وجبت عليه الإعادة وإنما يختلفون من أجل اختلافهم في الشروط المصححة. (وها هنا مسائل تتعلق بهذا الباب خارجة عما ذكر من فروض الصلاة اختلفوا فيها) فمنها أنهم اتفقوا على أن الحدث يقطع الصلاة، واختلفوا هل يقتضي الإعادة من أولها إذا كان قد ذهب منها ركعة أو ركعتان قبل طرو الحدث أم يبني على ما قد مضى من الصلاة، فذهب الجمهور إلى أنه لا يبني لا في حدث ولا في غيره مما يقطع الصلاة إلا في الرعاف فقط. ومنهم من رأى أنه لا يبني لا في الحدث ولا في الرعاف، وهو الشافعي، وذهب الكوفيون إلى أنه يبني في الأحداث كلها. وسبب اختلافهم أنه لم يرد في جواز ذلك أثر عن النبي عليه الصلاة والسلام، وإنما صح عن ابن عمر أنه رعف في الصلاة فبنى ولم يتوضأ، فمن رأى أن هذا الفعل من الصحابي يجري مجرى التوقيف إذ ليس يمكن أن يفعل مثل هذا بقياس أجاز هذا الفعل، ومن كان عنده من هؤلاء أن الرعاف ليس بحدث أجاز البناء في الرعاف فقط ولم يعده لغيره، وهو مذهب مالك، ومن كان عنده أنه حدث أجاز البناء في سائر الأحداث قياسا على الرعاف، ومن رأى أن مثل هذا لا يجب أن يصار إليه إلا بتوقيف من النبي عليه الصلاة والسلام إذ قد انعقد الإجماع على أن المصلي إذا انصرف إلى غير القبلة أنه قد خرج من الصلاة، وكذلك إذا فعل فيها فعلا كثيرا لم يجز البناء لا في الحدث ولا في في الرعاف. @-(المسألة الثانية) اختلف العلماء هل يقطع الصلاة مرور شيء بين يدي المصلي إذا صلى لغير سترة أو مر بينه وبين السترة؟ فذهب الجمهور إلى أنه لا يقطع الصلاة شيء، وأنه ليس عليه الإعادة، وذهبت طائفة إلى أنه يقطع الصلاة: المرأة والحمار والكلب الأسود. وسبب هذا الخلاف معارضة القول للفعل، وذلك أنه خرج مسلم عن أبي ذر أنه عليه الصلاة والسلام قال "يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود" وخرج مسلم والبخاري عن عائشة أنها قالت "لقد رأيتني بين يدي رسول الله ﷺ معترضة كاعتراض الجنازة وهو يصلي" وروي مثل قول الجمهور عن علي وعن أبي، ولا خلاف بينهم في كراهية المرور بين يدي المنفرد والإمام إذا صلى لغير سترة أو مر بينه وبين السترة، ولم يروا بأسا أن يمر خلف السترة وكذلك لم يروا بأسا أن يمر بين يدي المأموم لثبوت حديث ابن عباس وغيره قال "لقد أقبلت راكبا على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ورسول الله ﷺ يصلي بالناس، فمررت بين يدي بعض الصفوف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف، فلم ينكر علي ذلك أحد" وهذا عندهم يجري مجرى المسند، وفيه نظر، وإنما اتفق الجمهور على كراهية المرور بين يدي المصلي، لما جاء فيه من الوعيد في ذلك، ولقوله عليه الصلاة والسلام فيه "فليقاتله فإنما هو شيطان". @-(المسألة الثالثة) اختلفوا في النفخ في الصلاة على ثلاثة أقوال: فقوم كرهوه ولم يروا الإعادة على من فعله، وقوم أوجبوا الإعادة على من نفخ، وقوم فرقوا بين أن يسمع أو لا يسمع. وسبب اختلافهم تردد النفخ بين أن يكون كلاما أو لا يكون كلاما. @-(المسألة الرابعة) اتفقوا على أن الضحك يقطع الصلاة، واختلفوا في التبسم وسبب اختلافهم تردد التبسم بين أن يلحق بالضحك أو لا يلحق به. @-(المسألة الخامسة) اختلفوا في صلاة الحاقن، فأكثر العلماء يكرهون أن يصلي الرجل وهو حاقن، لما روي من حديث زيد بن أرقم قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول "إذا أراد أحدكم الغائط فليبدأ به قبل الصلاة" ولما روي عن عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام ولا وهو يدافع الأخبثان" يعني الغائط والبول. ولما ورد من النهي عن ذلك عن عمر أيضا، وذهب قوم إلى أن صلاته فاسدة، وأنه يعيد. وروى ابن القاسم عن مالك ما يدل على أن صلاة الحاقن فاسدة، وذلك أنه روي عنه أنه أمره بالإعادة في الوقت وبعد الوقت. والسبب في اختلافهم اختلافهم في النهي، هل يدل على فساد المنهى عنه أم ليس يدل على فساده؟ وإنما يدل على تأثيم من فعله فقط إذا كان أصل الفعل الذي تعلق النهي به واجبا أو جائزا، وقد تمسك القائلون بفساد صلاته بحديث رواه الشاميون، منهم من يجعله عن ثوبان، ومنهم من يجعله عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال "لا يحل لمؤمن أن يصلي وهو حاقن جدا" قال أبو عمر بن عبد البر: هو حديث ضعيف السند لا حجة فيه. @-(المسألة السادسة) اختلفوا في رد سلام المصلي على من سلم عليه، فرخصت فيه طائفة منهم سعيد بن المسيب والحسن بن أبي الحسن البصري وقتادة. ومنع ذلك قوم بالقول وأجازوا الرد بالإشارة، وهو مذهب مالك والشافعي، ومنع آخرون رده بالقول والإشارة، وهو مذهب النعمان، وأجاز قوم الرد في نفسه، وقوم قالوا يرد إذا فرغ من الصلاة. والسبب في اختلافهم: هل رد السلام نوع من التكلم في الصلاة المنهى عنه أم لا؟ فمن رأى أنه من نوع الكلام المنهى عنه، وخصص الأمر برد السلام في قوله تعالى {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها} الآية بأحاديث النهي عن الكلام في الصلاة قال: لا يجوز الرد في الصلاة، ومن رأى أنه ليس داخلا في الكلام المنهى عنه، أو خصص أحاديث النهي بالأمر برد السلام أجازه في الصلاة. قال أبو بكر بن المنذر، ومن قال لا يرد ولا يصير فقد خالف السنة، فإنه قد أخبر حبيب أن النبي عليه الصلاة والسلام رد على الذين سلموا عليه وهو في الصلاة بإشارة. 3*الباب الثاني في القضاء.

@-والكلام في هذا الباب على من يجب القضاء، وفي صفة أنواع القضاء وفي شروطه، فأما على من يجب القضاء؟ فاتفق المسلمون على أنه يجب على الناسي والنائم، واختلفوا في العامد والمغمى عليه، وإنما اتفق المسلمون على وجوب القضاء على الناسي والنائم لثبوت قوله عليه الصلاة والسلام وفعله: وأعني بقوله عليه الصلاة والسلام "رفع القلم عن ثلاث" فذكر النائم وقوله "إذا نام أحدكم عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" وما روي أنه نام عن الصلاة حتى خرج وقتها فقضاها. وأما تاركها عمدا حتى يخرج الوقت، فإن الجمهور على أنه آثم، وأن القضاء عليه واجب وذهب بعض أهل الظاهر إلى أنه لا يقضي وأنه آثم، وأحد من ذهب إلى ذلك أبو محمد بن حزم. وسبب اختلافهم اختلافهم في شيئين: أحدهما في جواز القياس في الشرع. والثاني في قياس العامد على الناسي إذا سلم جواز القياس. فمن رأى أنه إذا وجب القضاء على الناسي الذي قد عذره الشرع في أشياء كثيرة، فالمتعمد أحرى أن يجب عليه لأنه غير معذور أوجب القضاء عليه، ومن رأى أن الناسي والعامد ضدان: والأضداد لا يقاس بعضها على بعض إذ أحكامها مختلفة، وإنما تقاس الأشباه، لم يجز قياس العامد على الناسي، والحق في هذا أنه إذا جعل الوجوب من باب التغليظ كان القياس سائغا. وأما إن جعل من باب الرفق بالناسي والعذر له وأن لا يفوته ذلك الخير، فالعامد في هذا ضد الناسي، والقياس غير سائغ لأن الناسي معذور والعامد غير معذور، الأصل أن القضاء لا يجب بأمر الأداء، وإنما يجب بأمر مجدد على ما قال المتكلمون، لأن القاضي قد فاته أحد شروط التمكن من وقوع الفعل على صحته، وهو الوقت إذ كان شرطا من شروط الصحة والتأخير عن الوقت في قياس التقديم عليه، لكن قد ورد الأثر بالناسي والنائم وتردد العامد بين أن يكون شبيها أو غير شبيه، والله الموفق للحق. وأما المغمى عليه، فإن قوما أسقطوا عنه القضاء فيما ذهب وقته، وقوم أوجبوا عليه القضاء. ومن هؤلاء من اشترط القضاء في عدد معلوم، وقالوا: يقضي في الخمس فما دونها. والسبب في اختلافهم تردده بين النائم والمجنون، فمن شبهه بالنائم أوجب عليه القضاء، ومن شبهه بالمجنون أسقط عنه الوجوب. وأما صفة القضاء، فإن القضاء نوعان: قضاء لجملة الصلاة، وقضاء لبعضها. أما قضاء الجملة فالنظر فيه في صفة القضاء وشروطه ووقته. فأما صفة القضاء فهي بعينها صفة الأداء إذا كانت الصلاتان في صفة واحدة من الفرضية وأما إذا كانت في أحوال مختلفة مثل أن يذكر صلاة حضرية في سفر أو صلاة سفرية في حضر، فاختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: فقوم قالوا: إنما يقضي مثل الذي عليه ولم يراعوا الوقت الحاضر، وهو مذهب مالك وأصحابه، وقوم قالوا: إنما يقضي أبدا أربعا سفرية كانت منسية أو حضرية، فعلى رأي هؤلاء إن ذكر في السفر حضرية صلاها حضرية، وإن ذكر في الحضر سفرية صلاها حضرية وهو مذهب الشافعي. وقال قوم: إنما يقضي أبدا فرض الحال التي هو فيها فيقضي الحضرية في السفر سفرية، والسفرية في الحضر حضرية، فمن شبه القضاء بالأداء راعى الحال الحاضرة وجعل الحكم لها قياسا على المريض يتذكر صلاة نسيها في الصحة أو الصحيح يتذكر صلاة نسيها في المرض: أعني أن فرضه هو فرض الصلاة في الحال الحاضرة، ومن شبه القضاء بالديون أوجب للمقضية صفة المنسية. وأما من أوجب أن يقضي أبدا حضرية، فراعى الصفة في إحداهما والحال في الأخرى، أعني أنه إذا ذكر الحضرية في السفر راعى صفة المقضية، وإذا ذكر السفرية في الحضر راعى الحال؛ وذلك اضطراب جار على غير قياس إلا أن يذهب مذهب الاحتياط، وذلك بتصور فيمن يرى القصر رخصة. @-(وأما شروط القضاء ووقته) فإن من شروطه الذي اختلفوا فيه الترتيب وذلك أنهم اختلفوا في وجوب الترتيب في قضاء المنسيات: أعني بوجوب ترتيب المنسيات مع الصلاة الحاضرة الوقت، وترتيب المنسيات بعضها مع بعض إذا كانت أكثر من صلاة واحدة، فذهب مالك إلى أن الترتيب واجب فيها في الخمس صلوات فما دونها، وأنه يبدأ بالمنسية وإن فات وقت الحاضرة حتى أنه قال: إن ذكر المنسية وهو في الحاضرة فسدت الحاضرة عليه، وبمثل ذلك قال أبو حنيفة والثوري إلا أنهم رأوا الترتيب واجبا مع اتساع وقت الحاضرة، واتفق هؤلاء على سقوط وجوب الترتيب مع النسيان. وقال الشافعي لا يجب الترتيب، وإن فعل ذلك إذا كان في الوقت متسع فحسن يعني في وقت الحاضرة. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب واختلافهم في تشبيه القضاء بالأداء. فأما الآثار فإنه ورد في ذلك حديثان متعارضان: أحدهما ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "من نسي صلاة وهو مع الإمام في أخرى فليصل مع الإمام، فإذا فرغ من صلاته فليعد الصلاة التي نسي ثم ليعد الصلاة التي صلى مع الإمام" وأصحاب الشافعي يضعفون هذا الحديث ويصححون حديث ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "إذا نسي أحدكم صلاة فذكرها وهو في صلاة مكتوبة فليتم التي هو فيها، فإذا فرغ منها قضى التي نسي" والحديث الصحيح في هذا الباب هو ما تقدم من قوله عليه الصلاة والسلام، إذا نام أحدكم عن الصلاة أو نسيها" الحديث. وأما اختلافهم في جهة تشبيه القضاء بالأداء فإن من رأى أن الترتيب في الأداء إنما لزم من أجل أن أوقاتها المختصة بصلاة منها هي مرتبة في نفسها إذ كان الزمان لا يعقل إلا مرتبا لم يلحق بها القضاء، لأنه ليس للقضاء وقت مخصوص ومن رأى أن الترتيب في الصلوات المؤداة هو في الفعل وإن كان الزمان واحدا مثل الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما، شبه القضاء بالأداء: وقد رأت المالكية أن توجب الترتيب للمقضية من جهة الوقت لا من جهة الفعل لقوله عليه الصلاة والسلام: "فليصلها إذا ذكرها" قالوا: فوقت المنسية وهو وقت الذكر، ولذلك وجب أن تفسد عليه الصلاة التي هو فيها في ذلك الوقت، وهذا لا معنى له لأنه إن كان وقت الذكر وقتا للمنسية فهو بعينه أيضا وقت للحاضرة أو وقت للمنسيات إذا كانت أكثر من صلاة واحدة، وإذا كان الوقت واحدا فلم يبق أن يكون الفساد الواقع فيها إلا من قبل الترتيب بينها كالترتيب الذي يوجد في أجزاء الصلاة الواحدة فإنه ليس إحدى الصلاتين أحق بالوقت من صاحبتها إذ كان وقتا لكليهما إلا أن يقوم دليل الترتيب، وليس ههنا عندي شيء يمكن أن يجعل أصلا في هذا الباب لترتيب المنسيات إلا الجمع عند من سلمه، فإن الصلوات المؤداة أوقاتها مختلفة والترتيب في القضاء إنما يتصور في الوقت الواحد بعينه للصلاتين معا، فافهم هذا فإن فيه غموضا، وأظن مالكا رحمه الله إنما قاس ذلك على الجمع وإنما صار الجميع إلى استحسان الترتيب في المنسيات إذا لم يخف فوات الحاضرة لصلاته عليه الصلاة والسلام الصلوات الخمس يوم الخندق مرتبة، وقد احتج بهذا من أوجب القضاء على العامد، ولا معنى لهذا، فإن هذا منسوخ، وأيضا فإنه كان تركا لعذر وأما التحديد في الخمس فما دونها فليس له وجه إلا أن يقال: إنه إجماع، فهذا حكم القضاء الذي يكون في فوات جملة الصلاة، وأما القضاء الذي يكون في فوات بعض الصلوات، فمنه ما يكون سببه النسيان، ومنه ما يكون سببه سبق الإمام للمأموم: أعني أن يفوت المأموم بعض صلاة الإمام، فأما إذا فات المأموم بعض الصلاة، فإن فيه مسائل ثلاثا قواعد: إحداها متى تفوت الركعة. والثانية هل إتيانه بما فاته بعد صلاة الإمام أداء أو قضاء. والثالثة متى يلزمه حكم صلاة الإمام ومتى لا يلزمه ذلك. أما متى تفوته الركعة، فإن في ذلك مسألتين: إحداهما إذا دخل والإمام قد أهوى إلى الركوع، والثانية إذا كان مع الإمام في الصلاة فسها أن يتبعه في الركوع أو منعه ذلك ما وقع من زحام أو غيره. @-(وأما المسألة الأولى) فإن فيها ثلاثة أقوال: أحدها وهو الذي عليه الجمهور أنه إذا أدرك الإمام قبل أن يرفع رأسه من الركوع وركع معه فهو مدرك للركعة وليس عليه قضاؤها، وهؤلاء اختلفوا: هل من شرط هذا الداخل أن يكبر تكبيرتين تكبيرة للإحرام وتكبيرة للركوع أو يجزيه تكبيرة الركوع؟. وإن كانت تجزيه فهل من شرطها أن ينوي بها تكبيرة الإحرام أم ليس ذلك من شرطها؟ فقال بعضهم: بل تكبيرة واحدة تجزيه إذا نوى بها تكبيرة الافتتاح، وهو مذهب مالك والشافعي، والاختيار عندهم تكبيرتان، وقال قوم: لا بد من تكبيرتين، وقال قوم: تجزى واحدة وإن لم ينو بها تكبيرة الافتتاح. والقول الثاني أنه إذا ركع الإمام فقد فاتته الركعة، وأنه لا يدركها ما لم يدركه قائما وهو منسوب إلى أبي هريرة. والقول الثالث أنه إذا انتهى إلى الصف الآخر وقد رفع الإمام رأسه ولم يرفع بعضهم، فأدرك ذلك أنه يجزيه لأن بعضهم أئمة لبعض، وبه قال الشعبي. وسبب هذا الاختلاف تردد اسم الركعة بين أن يدل على الفعل نفسه الذي هو الانحناء فقط، أو على الانحناء والوقوف معا، وذلك أنه قال عليه الصلاة والسلام: "من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة" قال ابن المنذر: ثبت ذلك عن رسول الله ﷺ، فمن كان اسم الركعة ينطلق عنده على القيام والانحناء معا قال: إذا فاته قيام الإمام فقد فاتته الركعة، ومن كان اسم الركعة ينطلق عنده على الانحناء نفسه جعل إدراك الانحناء إدراكا للركعة، والاشتراك الذي عرض لهذا الاسم إنما هو من قبل تردده بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي، وذلك أن اسم الركعة ينطلق لغة على الانحناء، وينطلق شرعا على القيام والركوع والسجود فمن رأى أن اسم الركعة ينطلق في قوله عليه الصلاة والسلام "من أدرك ركعة" على الركعة الشرعية ولم يذهب مذهب الآخذ ببعض ما تدل عليه الأسماء قال: لابد أن يدرك مع الإمام الثلاثة الأحوال أعني: القيام، والانحناء، والسجود، ويحتمل أن يكون من ذهب إلى اعتبار الانحناء فقط أن يكون اعتبر أكثر ما يدل عليه الاسم ههنا لأن من أدرك الانحناء فقد أدرك منها جزأين، ومن فاته الانحناء إنما هو أدرك منها جزءا واحدا فقط، فعلى هذا يكون الخلاف آيلا إلى اختلافهم في الأخذ ببعض دلالة الأسماء أو بكلها، فالخلاف يتصور فيها من الوجهين جميعا. وأما من اعتبر الركوع من في الصف من المأمومين فلأن الركعة من الصلاة قد تضاف إلى الإمام فقط، وقد تضاف إلى الإمام والمأمومين. فسبب الاختلاف هو الاحتمال في هذه الإضافة: أعني قوله عليه الصلاة والسلام "من أدرك ركعة من الصلاة" وما عليه الجمهور أظهر. وأما اختلافهم في: هل تجزيه تكبيرة واحدة أو تكبيرتان؟ أعني المأموم إذا دخل في الصلاة والإمام راكع. فسببه هل من شرط تكبيرة الإحرام أن يأتي بها واقفا أم لا؟ فمن رأى أن من شرطها الموضع الذي تفعل فيه تعلقا بالفعل أعني فعله عليه الصلاة والسلام، وكان يرى أن التكبير كله فرض قال: لابد من تكبيرتين. ومن رأى أنه ليس من شرطها الموضع تعلقا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "وتحريمها التكبير" وكان عنده أن تكبيرة الإحرام هي فقط الفرض قال: يجزيه أن يأتي بها وحدها. وأما من أجاز أن يأتي بتكبيرة واحدة ولم ينوبها تكبيرة الإحرام، فقيل يبني على مذهب من يرى أن تكبيرة الإحرام ليست بفرض، وقيل إنما يبني على مذهب من يجوز تأخير نية الصلاة عن تكبيرة الإحرام، لأنه ليس معنى أن ينوي تكبيرة الإحرام إلا مقارنة النية للدخول في الصلاة، لأن تكبيرة الإحرام لها وصفان: النية المقارنة، والأولية: أعني وقوعها في أول الصلاة، فمن اشترط الوصفين قال: لابد من النية المقارنة، ومن اكتفى بالصفة الواحدة اكتفى بتكبيرة واحدة، وإن لم تقارنها النية. @-(وأما المسألة الثانية) وهي إذا سها عن اتباع الإمام في الركوع حتى سجد الإمام، فإن قوما قالوا: إذا فاته إدراك الركوع معه، فقد فاتته الركعة ووجب عليه قضاؤها، وقوم قالوا: يعتد بالركعة إذا أمكنه أن يتم من الركوع قبل أن يقوم الإمام إلى الركعة الثانية، وقوم قالوا: يتبعه ويعتد بالركعة ما لم يرفع الإمام رأسه من الانحناء في الركعة الثانية، وهذا الاختلاف موجود لأصحاب مالك، وفيه تفصيل واختلاف بينهم بين أن يكون عن نسيان أو أن يكون عن زحام، وبين أن يكون في جمعة أو في غير جمعة، وبين اعتبار أن يكون المأموم عرض له في هذا الركعة الأولى أو في الركعة الثانية، وليس قصدنا تفصيل المذهب ولا تخريجه، وإنما الغرض الإشارة إلى قواعد المسائل وأصولها، فنقول: إن سبب الاختلاف في هذه المسألة هو: هل من شرط فعل المأموم أن يقارن فعل الإمام، أو ليس من شرطه ذلك؟ وهل هذا الشرط هو في جميع أجزاء الركعة الثلاثة؟ أعني القيام والانحناء والسجود أم إنما هو شرط في بعضها؟ ومتى يكون إذا لم يقارن فعله فعل الإمام اختلافا عليه: أعني أن يفعل هو فعلا والإمام فعلا ثانيا، فمن رأى أنه شرط في كل جزء من أجزاء الركعة الواحدة: أعني أن يقارن فعل المأموم فعل الإمام، وإلا كان اختلافا عليه، وقد قال عليه الصلاة والسلام "فلا تختلفوا عليه" قال: متى لم يدرك معه من الركوع ولو جزأ يسيرا لم يعتد بالركعة، ومن اعتبره في بعضها قال: هو مدرك للركعة إذا أدرك فعل الركعة قبل أن يقوم إلى الركعة الثانية، وليس ذلك اختلافا عليه، فإذا قام إلى الركعة الثانية فإن اتبعه فقد اختلف عليه في الركعه الأولى وأما من قال إنه يتبعه ما لم ينحن في الركعه الثانية فإنه رأى أنه ليس من شرط فعل المأموم أن يقارن بعضه بعض فعل الإمام ولا كله، وإنما من شرطه أن يكون بعده فقط، وإنما اتفقوا على أنه إذا قام من الانحناء في الركعة الثانية أنه لا يعتد بتلك الركعة إن اتبعه فيها، لأنه يكون في حكم الأولى والإمام في حكم الثانية، وذلك غاية الاختلاف عليه. @-(وأما المسألة الثانية) من المسائل الثلاث الأول التي هي أصول هذا الباب وهي: هل إتيان المأموم بما فاته من الصلاة مع الإمام أداء أو قضاء؟ فإن في ذلك ثلاثة مذاهب، قوم قالوا: إن ما يأتي به بعد سلام الإمام هو قضاء وإن ما أدرك ليس هو أول صلاته. وقوم قالوا: إن الذي يأتي به بعد سلام الإمام هو أداء، وإن ما أدرك هو أول صلاته. وقوم فرقوا بين الأقوال والأفعال فقالوا: يقضي في الأقوال يعنون في القراءة، ويبني في الأفعال يعنون الأداء، فمن أدرك ركعة من صلاة المغرب على المذهب الأول: أعني مذهب القضاء قام إذا سلم الإمام إلى ركعتين يقرأ فيهما بأم القرآن وسورة من غير أن يجلس بينهما، وعلى المذهب الثاني: أعني على البناء قام إلى ركعة واحدة يقرأ فيها بأم القرآن وسورة ويجلس، ثم يقوم إلى ركعة يقرأ فيها بأم القرآن فقط، وعلى المذهب الثالث يقوم إلى ركعة فيقرأ فيها بأم القرآن وسورة، ثم يجلس ثم يقوم إلى ركعة ثانية يقرأ فيها أيضا بأم القرآن وسورة، وقد نسبت الأقاويل الثلاثة إلى المذهب، والصحيح عن مالك أنه يقضي في الأقوال ويبني في الأفعال لأنه لم يختلف قوله في المغرب إنه إذا أدرك منها ركعة أنه يقوم إلى الركعة الثانية ثم يجلس، ولا اختلاف في قوله إنه يقضي بأم القرآن وسورة وسبب اختلافهم أنه ورد في بعض روايات الحديث المشهور "فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" والإتمام يقتضي أن يكون ما أدرك هو أول صلاته وفي بعض رواياته "فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا" والقضاء يوجب أن ما أدرك هو آخر صلاته؛ فمن ذهب مذهب الإتمام قال: ما أدرك هو أول صلاته؛ ومن ذهب مذهب القضاء قال: ما أدرك هو آخر صلاته، ومن ذهب مذهب الجمع جعل القضاء في الأقوال والأداء في الأفعال، وهو ضعيف: أعني أن يكون بعض الصلاة أداء وبعضها قضاء، واتفاقهم على وجوب الترتيب في أجزاء الصلاة، وعلى أن موضع تكبيرة الإحرام هو افتتاح الصلاة، ففيه دليل واضح على أن ما أدرك هو أول صلاته لكن تختلف نية المأموم والإمام في الترتيب فتأمل هذا، ويشبه أن يكون هذا هو أحد ما راعاه من قال: ما أدرك فهو آخر صلاته. @-(وأما المسألة الثالثة) من المسائل الأول، وهي متى يلزم المأموم حكم صلاة الإمام في الاتباع؟ فإن فيها مسائل: إحداها متى يكون مدركا لصلاة الجمعة. والثانية: متى يكون مدركا معه لحكم سجود السهو: أعني سهو الإمام. والثالثة: متى يلزم المسافر الداخل وراء إمام يتم الإتمام إذا أدرك من صلاة الإمام بعضها. @-(فأما المسألة الأولى) فإن قوما قالوا: إذا أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة، ويقضي ركعة ثانية، وهو مذهب مالك والشافعي، فإن أدرك أقل صلى ظهرا أربعا. وقوم قالوا: بل يقضي ركعتين أدرك منها ما أدرك، وهو مذهب أبي حنيفة، وسبب الخلاف في هذا هو ما يظن من التعارض بين عموم قوله عليه الصلاة والسلام: "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" وبين مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" فإنه من صار إلى عموم قوله عليه الصلاة والسلام "وما فاتكم فأتموا" أوجب أن يقضي ركعتين وإن أدرك منها أقل من ركعتين ومن كان المحذوف عنده في قوله عليه الصلاة والسلام "فقد أدرك الصلاة" أي فقد أدرك حكم الصلاة وقال: دليل الخطاب يقتضي أن من أدرك أقل من ركعة فلم يدرك حكم الصلاة والمحذوف في هذا القول محتمل، فإنه يمكن أن يراد به فضل الصلاة، ويمكن أن يراد به وقت الصلاة، ويمكن أن يراد به حكم الصلاة ولعله ليس هذا المجاز في أحدهما أظهر منه في الثاني، فإن كان الأمر كذلك كان من باب المجمل الذي لا يقتضي حكما، وكان الآخر بالعموم أولى، وإن سلمنا أنه أظهر في أحد هذه المحذوفات وهو مثلا الحكم على قول من يرى ذلك لم يكن هذا الظاهر معارضا للعموم، إلا من باب دليل الخطاب، والعموم أقوى من دليل الخطاب عند الجميع، ولاسيما الدليل المبني على المحتمل أو الظاهر. وأما من يرى أن قوله عليه الصلاة والسلام "فقد أدرك الصلاة" أنه يتضمن جميع هذه المحذوفات فضعيف وغير معلوم من لغة العرب، إلا أن يتقرر أن هنالك اصطلاحا عرفيا أو شرعيا. وأما مسألة اتباع المأموم للإمام في السجود: أعني في سجود السهو فإن قوما اعتبروا في ذلك الركعة: أعني أن يدرك من الصلاة معه ركعة، وقوم لم يعتبروا ذلك، فمن لم يعتبر ذلك فمصيرا إلى عموم قوله عليه الصلاة والسلام "إنما جعل الإمام ليؤتم به" ومن اعتبر ذلك فمصيرا إلى مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "فقد أدرك الصلاة" ولذلك اختلفوا في المسألة الثالثة فقال قوم: إن المسافر إذا أدرك من صلاة الإمام الحاضرة أقل من ركعة لم يتم، وإذا أدرك ركعة لزمه الإتمام، فهذا حكم القضاء الذي يكون لبعض الصلاة من قبل سبق الإمام له. وأما حكم القضاء لبعض الصلاة الذي يكون للإمام والمنفرد من قبل النسيان، فإنهم اتفقوا على أن ما كان منها ركنا فهو يقضي: أعني فريضة، وأنه ليس يجزي منه إلا الإتيان به، وفيه مسائل اختلفوا فيها، بعضهم أوجب فيها القضاء وبعضهم أوجب فيها الإعادة، مثل من نسي أربع سجدات من أربع ركعات سجدة من كل ركعة، فإن قوما قالوا: يصلح الرابعة بأن يسجد لها، ويبطل ما قبلها من الركعات ثم يأتي بها، وهو قول مالك. وقوم قالوا: تبطل الصلاة بأسرها ويلزمه الإعادة، وهي إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل. وقوم قالوا: يأتي بأربع سجدات متوالية وتكمل بها صلاته، وبه قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي. وقوم قالوا: يصلح الرابعة ويعتد بسجدتين، وهو مذهب الشافعي. وسبب الخلاف في هذا مراعاة الترتيب، فمن راعاه في الركعات والسجدات أبطل الصلاة، ومن راعاه في السجدات أبطل الركعات ما عدا الأخيرة قياسا على قضاء ما فات المأموم من صلاة الإمام، ومن لم يراع الترتيب أجاز سجودها معا في ركعة واحدة، ولا سيما إذا اعتقد أن الترتيب ليس هو واجبا في الفعل المكرر في كل ركعة: أعني السجود، وذلك أن كل ركعة تشتمل على قيام وانحناء وسجود، والسجود مكرر، فزعم أصحاب أبي حنيفة أن السجود لما كان مكررا لم يجب أن يراعي فيه التكرير في الترتيب، ومن هذا الجنس اختلاف أصحاب مالك فيمن نسي قراءة أم القرآن من الركعة الأولى فقيل لا يعتد بالركعة ويقضيها، وقيل يعيد الصلاة، وقيل يسجد للسهو وصلاته تامة، وفروع هذا الباب كثيرة، وكلها غير منطوق به، وليس قصدنا ههنا إلا ما يجري مجرى الأصول. 3*الباب الثالث من الجملة الرابعة في سجود السهو.

@-والسجود المنقول في الشريعة في أحد موضعين إما عند الزيادة أو النقصان اللذين يقعان في أفعال الصلاة وأقوالها من قبل النسيان لا من قبل العمد. وأما عند الشك في أفعال الصلاة، فأما السجود الذي يكون من قبل النسيان لا من قبل الشك فالكلام فيه ينحصر في ستة فصول: الفصل الأول: في معرفة حكم السجود. الثاني: في معرفة مواضعه من الصلاة. الثالث: في معرفة الجنس من الأفعال والأفعال التي يسجد لها. الرابع: في صفة سجود السهو. الخامس: في معرفة من يجب عليه سجود السهو. السادس: بماذا ينبه المأموم الإمام الساهي على سهوه. 4*الفصل الأول.

@-اختلفوا في سجود السهو هل هو فرض أو سنة، فذهب الشافعي إلى أنه سنة، وذهب أبو حنيفة إلى أنه فرض لكن من شروط صحة الصلاة. وفرق مالك بين السجود للسهو في الأفعال وبين السجود للسهو في الأقوال وبين الزيادة والنقصان فقال: سجود السهو الذي يكون للأفعال الناقصة واجب، وهو عنده من شروط صحة الصلاة، هذا في المشهور، وعنه أن سجود السهو للنقصان واجب وسجود الزيادة مندوب والسبب في اختلافهم اختلافهم في حمل أفعاله عليه الصلاة والسلام في ذلك على الوجوب أو على الندب فأما أبو حنيفة فحمل أفعاله عليه الصلاة والسلام في السجود على الوجوب إذ كان هو الأصل عندهم إذ جاء بيانا لواجب كما قال عليه الصلاة والسلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وأما الشافعي فحمل أفعاله في ذلك على الندب وأخرجها عن الأصل بالقياس، وذلك أنه لما كان السجود عند الجمهور ليس ينوب عن فرض وإنما ينوب عن ندب رأى أن البدل عما ليس بواجب ليس هو بواجب. وأما مالك فتأكدت عنده الأفعال أكثر من الأقوال، لكونها من صلب الصلاة أكثر من الأقوال، أعني أن الفروض التي هي أفعال هي أكثر من فروض الأقوال، فكأنه رأى أن الأفعال آكد من الأقوال، وإن كان ليس ينوب سجود السهو إلا عما كان منها ليس بفرض، وتفريقه أيضا بين سجود النقصان والزيادة على الرواية الثانية ليكون سجود النقصان شرع بدلا مما سقط من أجزاء الصلاة وسجود الزيادة كأنه استغفار لا بدل. 4*الفصل الثاني.

@-اختلفوا في مواضع سجود السهو على خمسة أقوال: فذهبت الشافعية إلى أن سجود السهو موضعه أبدا قبل السلام، وذهبت الحنفية إلى أن موضعه أبدا بعد السلام. وفرقت المالكية فقالت: إن كان السجود لنقصان كان قبل السلام وإن كان لزيادة كان بعد السلام. وقال أحمد بن حنبل: يسجد قبل السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله ﷺ قبل السلام، ويسجد بعد السلام في المواضع التي سجد فيها رسول الله ﷺ بعد السلام، فما كان من سجود في غير تلك المواضع يسجد له أبدا قبل السلام. وقال أهل الظاهر: لا يسجد للسهو إلا في المواضع الخمسة التي سجد فيها رسول الله ﷺ فقط، وغير ذلك إن كان فرضا أتى به، وإن كان ندبا فليس عليه شيء والسبب في اختلافهم أنه عليه الصلاة والسلام ثبت عنه أنه سجد قبل السلام وسجد بعد السلام، وذلك أنه ثبت من حديث ابن بحينة عنه أنه قال "صلى لنا رسول الله ﷺ ركعتين ثم قام فلم يجلس فقام الناس معه، فلما قضى صلاته سجد سجدتين وهو جالس" وثبت أيضا أنه سجد بعد السلام في حديث ذي اليدين المتقدم إذ سلم من اثنتين، فذهب الذين جوزوا القياس في سجود السهو: أعني الذين رأوا تعدية الحكم في المواضع التي سجد فيها عليه الصلاة والسلام إلى أشباهها في هذه الآثار الصحيحة ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب الترجيح. والثاني مذهب الجمع. والثالث الجمع بين الجمع والترجيح. فمن رجح حديث ابن بحينة قال: "السجود قبل السلام" واحتج لذلك بحديث أبي سعيد الخدري الثابت أنه عليه الصلاة والسلام قال "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فليصل ركعة وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم، فإن كانت الركعة التي صلاها خامسة شفعها بهاتين السجدتين، وإن كانت رابعة فالسجدتان ترغيم للشيطان" قالوا: ففيه السجود للزيادة قبل السلام لأنها ممكنة الوقوع خامسة، واحتجوا لذلك أيضا بما روي عن ابن شهاب أنه قال: "كان آخر الأمرين من رسول الله ﷺ السجود قبل السلام" وأما من رجح حديث ذي اليدين فقال: السجود بعد السلام، واحتجوا لترجيح هذا الحديث بأن حديث ابن بحينة قد عارضه حديث المغيرة ابن شعبة "أنه عليه الصلاة والسلام قام من اثنتين ولم يجلس ثم سجد بعد السلام" قال أبو عمر: ليس مثله في النقل فيعارض به، واحتجوا أيضا لذلك بحديث ابن مسعود الثابت "أن رسول الله ﷺ صلى خمسا ساهيا وسجد لسهوه بعد السلام". وأما من ذهب مذهب الجمع فإنهم قالوا: إن هذه الأحاديث لا تتناقض، وذلك أن السجود فيها بعد السلام إنما هو في الزيادة والسجود قبل السلام في النقصان، فوجب أن يكون حكم السجود في سائر المواضع كما هو في هذا الموضع، قالوا: وهو أولى من حمل الأحاديث على التعارض. وأما من ذهب مذهب الجمع والترجيح فقال: يسجد في المواضع التي سجد فيها رسول الله ﷺ على النحو الذي سجد فيها رسول الله ﷺ، فإن ذلك هو حكم تلك المواضع. وأما المواضع التي لم يسجد فيها رسول الله ﷺ، فالحكم فيها السجود قبل السلام فكأنه قاس على المواضع التي سجد فيها عليه الصلاة والسلام قبل السلام، ولم يقس على المواضع التي سجد فيها بعد السلام، وأبقى سجود المواضع التي سجد فيها على ما سجد فيها، فمن جهة أنه أبقى حكم هذه المواضع على ما وردت عليه وجعلها متغايرة الأحكام هو ضرب من الجمع ورفع للتعارض بين مفهومها ومن جهة أنه عدى مفهوم بعضها دون البعض، وألحق به المسكوت عنه فذلك ضرب من الترجيح: أعني أنه قال على السجود الذي قبل السلام ولم يقس على الذي بعده. وأما من لم يفهم من هذه الأفعال حكما خارجا عنها وقصر حكمها على أنفسها وهم أهل الظاهر فاقتصروا بالسجود على هذه المواضع فقط. وأما أحمد بن حنبل، فجاء نظره مختلطا من نظر أهل الظاهر ونظر أهل القياس، وذلك أنه اقتصر بالسجود كما قلنا بعد السلام على المواضع التي ورد فيها الأثر ولم يعده، وعدى السجود الذي ورد في المواضع التي قبل السلام، ولكل واحد من هؤلاء أدلة يرجح بها مذهبه من جهة القياس: أعني لأصحاب القياس وليس قصدنا في هذا الكتاب في الأكثر ذكر الخلاف الذي يوجبه القياس كما ليس قصدنا ذكر المسائل المسكوت عنها في الشرع إلا في الأقل، وذلك إما من حيث هي مشهورة، وأصل لغيرها، وإما من حيث هي كثيرة الوقوع. والمواضع الخمسة التي سها فيها رسول الله ﷺ: أحدها أنه قام من اثنتين على ما جاء في حديث ابن بحينة. والثاني أنه سلم من اثنتين على ما جاء في حديث ذي اليدين. والثالث أنه صلى خمسا على ما في حديث ابن عمر، خرجه مسلم والبخاري. والرابع أنه سلم من ثلاث على ما في حديث عمران بن الحصين. والخامس السجود عن الشك على ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري، وسيأتي بعد. واختلفوا لماذا يجب سجود السهو؟ فقيل يجب للزيادة والنقصان، وهو الأشهر؛ وقيل للسهو نفسه، وبه قال أهل الظاهر والشافعي. 4*الفصل الثالث.

@-وأما الأقوال والأفعال التي يسجد لها فإن القائلين بسجود السهو لكل نقصان أو زيادة وقعت في الصلاة على طريق السهو اتفقوا على أن السجود يكون عن سنن الصلاة دون الفرائض ودون الرغائب. فالرغائب لا شيء عندهم فيها: أعني إذا سها عنها في الصلاة ما لم يكن أكثر من رغيبة واحدة، مثل ما يرى مالك أنه لا يجب سجود من نسيان تكبيرة واحدة، ويجب من أكثر من واحدة. وأما الفرائض فلا يجزئ عنها الإتيان بها وجبرها إذا كان السهو عنها مما لا يوجب إعادة الصلاة بأسرها على ما تقدم فيما يوجب الإعادة وما يوجب القضاء، أعني على من ترك بعض أركان الصلاة (هكذا هذه بالعبارة بالأصول، وفيها من الغموض ما لا يخفى تأمل ا هـ)، وأما سجود السهو للزيادة فإنه يقع عند الزيادة في الفرائض والسنن جميعا، فهذه الجملة لا اختلاف بينهم فيها، وإنما يختلفون من قبل اختلافهم فيما هو منها فرض أو ليس بفرض، وفيما هو منها سنة أو ليس بسنة، وفيما هو منها سنة أو رغيبة؛ مثال ذلك أن عند مالك ليس يسجد لترك القنوت لأنه عنده مستحب، ويسجد له عند الشافعي لأنه عنده سنة، وليس يخفى عليك هذا مما تقدم القول فيه من اختلافهم بين ما هو سنة أو فريضة أو رغيبة، وعند مالك وأصحابه سجود السهو للزيادة اليسيرة في الصلاة وإن كانت من غير جنس الصلاة، وينبغي أن تعلم أن السنة والرغيبة هي عندهم من باب الندب، وإنما تختلفان عندهم بالأقل والأكثر: أعني في تأكيد الأمر بها، وذلك راجع إلى قرائن أحوال تلك العبادة، ولذلك يكثر اختلافهم في هذا الجنس كثيرا، حتى إن بعضهم يرى أن في بعض السنن ما إذا تركت عمدا إن كانت فعلا، أو فعلت عمدا إن كانت تركا أن حكمها حكم الواجب: أعني في تعلق الإثم بها، وهذا موجود كثيرا لأصحاب مالك، وكذلك تجدهم قد اتفقوا ما خلا أهل الظاهر على أن تارك السنن المتكررة بالجملة آثم، مثل ما لو ترك إنسان الوتر أو ركعتي الفجر دائما لكان مفسقا آثما، فكأن العبادات بحسب هذا النظر مثلها ما هي فرض بعينها وجنسها مثل الصلوات الخمس. ومنها ما هي سنة بعينها فرض بجنسها مثل الوتر وركعتي الفجر وما أشبه ذلك من السنن. وكذلك قد تكون عند بعضهم الرغائب رغائب بعينها سنن بجنسها مثل ما حكيناه عن مالك من إيجاب السجود لأكثر من تكبيرة واحدة: أعني للسهو عنها، ولا تكون فيما أحسب عند هؤلاء سنة بعينها وجنسها. وأما أهل الظاهر فالسنن عندهم هي سنن بعينها لقوله عليه الصلاة والسلام للأعرابي الذي سأله عن فروض الإسلام "أفلح إن صدق، دخل الجنة إن صدق" وذلك بعد أن قال له: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه: يعني الفرائض، وقد تقدم هذا الحديث. واتفقوا من هذا الباب على سجود السهو لترك الجلسة الوسطى واختلفوا فيها هل هي فرض أو سنة، وكذلك اختلفوا هل يرجع الإمام إذا سبح به إليها أو ليس يرجع؟ وإن رجع فمتى يرجع؟ قال الجمهور: يرجع ما لم يستو قائما. وقال قوم: يرجع ما لم يعقد الركعة الثالثة. وقال قوم: لا يرجع إن فارق الأرض قيد شبر، وإذا رجع عند الذين لا يرون رجوعه، فالجمهور على أن صلاته جائزة. وقال قوم: تبطل صلاته. 4*الفصل الرابع.

@-وأما صفة سجود السهو فإنهم اختلفوا في ذلك؛ فرأى مالك أن حكم سجدتي السهو إذا كانت بعد السلام أن يتشهد فيها ويسلم منها، وبه قال أبو حنيفة لأن السجود كله عنده بعد السلام، وإذا كانت قبل السلام أن يتشهد لها فقط، وأن السلام من الصلاة هو سلام منها، وبه قال الشافعي إذا كان السجود كله عنده قبل السلام، وقد روي عن مالك أنه لا يتشهد للتي قبل السلام، وبه قال جماعة. قال أبو عمر: أما السلام من التي بعد السلام فثابت عن النبي ﷺ. وأما التشهد فلا أحفظه من وجه ثابت. وسبب هذا الاختلاف هو اختلافهم في تصحيح ما ورد من ذلك في حديث ابن مسعود أعني من أنه عليه الصلاة والسلام "تشهد ثم سلم" وتشبيه سجدتي السهو بالسجدتين الأخيرتين من الصلاة، فمن شبهها بها لم يوجب لها التشهد، وبخاصة إذا كانت في نفس الصلاة. وقال أبو بكر بن المنذر: اختلف العلماء في هذه المسألة على ستة أقوال: فقالت طائفة: لا تشهد فيها ولا تسليم، وبه قال أنس بن مالك والحسن وعطاء. وقال قوم: مقابل هذا وهو أن فيها تشهدا وتسليما. وقال قوم: فيها تشهد فقط دون تسليم، وبه قال الحكم وحماد والنخعي، وقال قوم: مقابل هذا وهو أنه فيها تسليما وليس فيها تشهد وهو قول ابن سيرين. والقول الخامس إن شاء تشهد وسلم، وإن شاء لم يفعل، وروي ذلك عن عطاء. والسادس قول أحمد بن حنبل إنه إن سجد بعد السلام تشهد وإن سجد قبل السلام لم يتشهد، وهو الذي حكيناه نحن عن مالك. قال أبو بكر قد ثبت "أنه ﷺ كبر فيها أربع تكبيرات وأنه سلم" وفي ثبوت تشهده فيها نظر. 4*الفصل الخامس.

@-اتفقوا على أن سجود السهو من سنة المنفرد والإمام. واختلفوا في المأموم يسهو وراء الإمام هل عليه سجود أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أن الإمام يحمل عنه السهو، وشذ مكحول فألزمه السجود في خاصة نفسه. وسبب اختلافهم اختلافهم فيما يحمل الإمام من الأركان عن المأموم وما لا يحمله، واتفقوا على أن الإمام إذا سها أن المأموم يتبعه في سجود السهو وإن لم يتبعه في سهوه. واختلفوا متى يسجد المأموم إذا فاته مع الإمام بعض الصلاة وعلى الإمام سجود سهو، فقال قوم: يسجد مع الإمام ثم يقوم لقضاء ما عليه، وسواء كان سجوده قبل السلام أو بعده، وبه قال عطاء والحسن والنخعي والشعبي وأحمد وأبو ثور وأصحاب الرأي. وقال قوم: يقضي ثم يسجد، وبه قال ابن سيرين وإسحاق. وقال قوم: إذا سجد قبل التسليم سجدهما معه، وإن سجد بعد التسليم سجدهما بعد أن يقضي، وبه قال مالك والليث والأوزاعي. وقال قوم: يسجدهما مع الإمام ثم يسجدهما ثانية بعد القضاء، وبه قال الشافعي. وسبب اختلافهم اختلافهم أي أولى وأخلق أن يتبعه في السجود مصاحبا له أو في آخر صلاته، فكأنهم اتفقوا على أن الاتباع واجب لقوله عليه الصلاة والسلام "إنما جعل الإمام ليؤتم به" واختلفوا هل موضعها للمأموم هو موضع السجود أعني في آخر الصلاة؟ أو موضعها هو وقت سجود الإمام؟ فمن آثر مقارنة فعله لفعل الإمام على موضع السجود ورأى ذلك شرطا في الاتباع، أعني أن يكون فعلهما واحدا حقا قال: يسجد مع الإمام وإن لم يأت بها في موضع السجود، ومن آثر موضع السجود قال: يؤخرها إلى آخر الصلاة، ومن أوجب عليه الأمرين أوجب عليه السجود مرتين وهو ضعيف. 4*الفصل السادس.

@-واتفقوا على أن السنة لمن سها في صلاته أن يسبح له، وذلك للرجل لما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "مالي أراكم أكثرتم من التصفيق من نابه شيء في صلاته فليسبح فإنه إذا سبح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء" واختلفوا في النساء فقال مالك وجماعة: إن التسبيح للرجال والنساء. وقال الشافعي وجماعة: للرجال التسبيح وللنساء التصفيق. والسبب في اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "وإنما التصفيق للنساء" فمن ذهب إلى أن معنى ذلك أن التصفيق هو حكم النساء في السهو وهو الظاهر قال: النساء يصفقن ولا يسبحن، ومن فهم من ذلك الذم للتصفيق قال: الرجال والنساء في التسبيح سواء، وفيه ضعف لأنه خروج عن الظاهر بغير دليل، إلا أن تقاس المرأة في ذلك على الرجل، والمرأة كثيرا ما يخالف حكمها في الصلاة حكم الرجل، ولذلك يضعف القياس. وأما سجود السهو الذي هو لموضع الشك فإن الفقهاء اختلفوا فيمن شك في صلاته فلم يدر كم صلى أواحدة أو اثنتين أو ثلاثا أو أربعا على ثلاثة مذاهب. فقال قوم: يبني على اليقين وهو الأقل ولا يجزيه التحري ويسجد سجدتي السهو، وهو قول مالك والشافعي وداود. وقال أبو حنيفة: إن كان أول أمره فسدت صلاته، وإن تكرر ذلك منه تحرى وعمل على غلبة الظن ثم يسجد سجدتين بعد السلام. وقالت طائفة: إنه ليس عليه إذا شك لا رجوع إلى اليقين ولا تحر، وإنما عليه السجود فقط إذا شك. والسبب في اختلافهم تعارض ظواهر الآثار الواردة في هذا الباب، وذلك أن في هذا الباب ثلاثة آثار: أحدها حديث البناء على اليقين، وهو حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ "إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم، فإن صلى خمسا شفعن له صلاته، وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا ترغيما للشيطان" خرجه مسلم. والثاني حديث ابن مسعود أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "إذا سها أحدكم في صلاته فليتحر وليسجد سجدتين" وفي رواية أخرى عنه "فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب ثم ليسلم ثم ليسجد سجدتي السهو ويتشهد ويسلم" والثالث حديث أبي هريرة خرجه مالك والبخاري أن رسول الله ﷺ قال "إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى، فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد سجدتين وهو جالس" وفي هذا المعنى أيضا حديث عبد الله بن جعفر، خرجه أبو داود أن رسول الله ﷺ قال "من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعدها ويسلم" فذهب الناس في هذه الأحاديث مذهب الجمع ومذهب الترجيح، والذين ذهبوا مذهب الترجيح منهم من لم يلتفت إلى المعارض، ومنهم من رام تأويل المعارض وصرفه إلى الذي رجح، ومنهم من جمع الأمرين، أعني جمع بعضها ورجح بعضها، وأول غير المرجح إلى معنى المرجح، ومنهم من جمع بين بعضها وأسقط حكم البعض. فأما من ذهب مذهب الجمع في بعض والترجيح في بعض مع تأويل غير المرجح وصرفه إلى المرجح، فمالك بن أنس فإنه حمل حديث أبي سعيد الخدري على الذي لم يستنكحه الشك، وحمل حديث أبي هريرة على الذي يغلب عليه الشك ويستنكحه، وذلك من باب الجمع، وتأول حديث ابن مسعود على أن المراد بالتحري هنالك هو الرجوع إلى اليقين، فأثبت على مذهبه الأحاديث كلها. وأما من ذهب مذهب الجمع بين بعضها وإسقاط البعض وهو الترجيح من غير تأويل المرجح عليه فأبو حنيفة، فإنه قال: إن حديث أبي سعيد إنما هو حكم من لم يكن عنده ظن غالب يعمل عليه، وحديث ابن مسعود على الذي عنده ظن غالب، وأسقط حكم حديث أبي هريرة وذلك أنه قال: ما في حديث أبي سعيد وابن مسعود زيادة، والزيادة يجب قبولها والأخذ بها، وهذا أيضا كأنه ضرب من الجمع. وأما الذي رجح بعضها وأسقط حكم البعض فالذين قالوا إنما عليه السجود فقط، وذلك أن هؤلاء رجحوا حديث أبي هريرة وأسقطوا حديث أبي سعيد وابن مسعود، ولذلك كان أضعف الأقوال، فهذا ما رأينا أن نثبته في هذا القسم من قسمي كتاب الصلاة وهو القول في الصلاة المفروضة، فلنصر بعد إلى القول في القسم الثاني من الصلاة الشرعية، وهي الصلوات التي ليست فروض عين. 2*كتاب الصلاة الثاني.

@-ولأن الصلاة التي ليست بمفروضة على الأعيان منها ما هي سنة، ومنها ما هي نفل، ومنها ما هي فرض على الكفاية، وكانت هذه الأحكام منها ما هو متفق عليه، ومنها ما هو مختلف فيه، رأينا أن نفرد القول في واحدة واحدة من هذه الصلوات، وهي بالجملة عشر: ركعتا الفجر والوتر والنفل وركعتا دخول المسجد والقيام في رمضان والكسوف والاستسقاء والعيدان وسجود القرآن، فإنه صلاة ما يشتمل هذا الكتاب على عشرة أبواب، والصلاة على الميت نذكرها على حدة في باب أحكام الميت على ما جرت به عادة الفقهاء، وهو الذي يترجمونه بكتاب الجنائز. 3*الباب الأول القول في الوتر.

@-واختلفوا في الوتر في خمسة مواضع: منها في حكمه، ومنها في صفته، ومنها في وقته، ومنها في القنوت فيه، ومنها في صلاته على الراحلة. أما حكمه فقد تقدم القول فيه عند بيان عدد الصلوات المفروضة. وأما صفته فإن مالكا رحمه الله استحب أن يوتر بثلاث يفصل بينها بسلام. وقال أبو حنيفة: الوتر ثلاث ركعات من غير أن يفصل بينها بسلام. وقال الشافعي: الوتر ركعة واحدة. ولكل قول من هذه الأقاويل سلف من الصحابة والتابعين. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة "أنه كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة" وثبت عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا رأيت أن الصبح يدركك فأوتر بواحدة" وخرج مسلم عن عائشة "أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي ثلاث عشرة ركعة ويوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها" وخرج أبو داود عن أبي أيوب الأنصاري أنه عليه الصلاة والسلام قال "الوتر حق على كل مسلم فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل" وخرج أبو داود "أنه كان يوتر بسبع وتسع وخمس" وخرج عن عبد الله بن قيس قال "قلت لعائشة بكم كان رسول الله ﷺ يوتر؟ قالت: كان يوتر بأربع وثلاث وست وثلاث وثمان وثلاث عشر وثلاث، ولم يكن يوتر بأنقص من سبع ولا بأكثر من ثلاث عشرة" وحديث ابن عمر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "المغرب وتر صلاة النهار" فذهب العلماء في هذه الأحاديث مذهب الترجيح. فمن ذهب إلى أن الوتر ركعة واحدة فمصيرا إلى قوله عليه الصلاة والسلام "فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة" وإلى حديث عائشة "أنه كان يوتر بواحدة" ومن ذهب إلى أن الوتر ثلاث من غير أن يفصل بينها وقصر حكم الوتر على الثلاث فقط، فليس يصح له أن يحتج بشيء مما في هذا الباب، لأنها كلها تقتضي التخيير ما عدا حديث ابن عمر أنه قال عليه الصلاة والسلام "المغرب وتر صلاة النهار" فإن لأبي حنيفة أن يقول: إنه إذا شبه شيء بشيء وجعل حكمهما واحدا كان المشبه به أحرى أن يكون بتلك الصفة، ولما شبهت المغرب بوتر صلاة النهار وكانت ثلاثا وجب أن يكون وتر صلاة الليل ثلاثا. وأما مالك فإنه تمسك في هذا الباب بأنه عليه الصلاة والسلام لم يوتر قط إلا في أثر شفع، فرأى أن ذلك من سنة الوتر، وأن أقل ذلك ركعتان، فالوتر عنده على الحقيقة إما أن يكون ركعة واحدة، ولكن من شرطها أن يتقدمها شفع، وإما أن يرى أن الوتر المأمور به هو يشتمل على شفع ووتر، فإنه إذا زيد على الشفع وتر صار الكل وترا، ويشهد لهذا المذهب حديث عبد الله بن قيس المتقدم، فإنه سمي الوتر فيه العدد المركب من شفع ووتر ويشهد لاعتقاده أن الوتر هو الركعة الواحدة أنه كان يقول: كيف يوتر بواحدة ليس قبلها شيء، وأي شيء يوتر له؟ وقد قال رسول الله ﷺ "توتر له ما قد صلى" فإن ظاهر هذا القول أنه كان يرى أن الوتر الشرعي هو العدد الوتر بنفسه: أعني الغير مركب من الشفع والوتر وذلك أن هذا هو وتر لغيره، وهذا التأويل عليه أولى. والحق في هذا أن ظاهر هذه الأحاديث يقتضي التخيير في صفة الوتر من الواحدة إلى التسع على ما روي ذلك من فعل رسول الله ﷺ، والنظر إنما هو في هل من شرط الوتر أن يتقدمه شفع منفصل أم ليس ذلك من شرطه، فيشبه أن يقال ذلك من شرطه، لأنه هكذا كان وتر رسول الله ﷺ، ويشبه أن يقال ليس ذلك من شرطه لأن مسلما قد خرج "أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا انتهى إلى الوتر أيقظ عائشة فأوترت" وظاهره أنها كانت توتر دون أن تقدم على وترها شفعا، وأيضا فإنه قد خرج من طريق عائشة "أن رسول الله ﷺ كان يوتر بتسع ركعات يجلس في الثامنة والتاسعة ولا يسلم إلا في التاسعة ثم يصلي ركعتين وهو جالس فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أس وأخذ اللحم أوتر بسبع ركعات ولم يجلس إلا في السادسة والسابعة ولم يسلم إلا في السابعة، ثم يصلي ركعتين وهو جالس فتلك تسع ركعات" وهذا الحديث فيه الوتر متقدم على الشفع، ففيه حجة على أنه ليس من شرط الوتر أن يتقدمه شفع، وأن الوتر ينطلق على الثلاث ومن الحجة في ذلك ما روى أبو داود عن أبي بن كعب قال "كان رسول الله ﷺ يوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد" وعن عائشة مثله "وقالت في الثالثة بقل هو الله أحد والمعوذتين". وأما وقته فإن العلماء اتفقوا على أن وقته من بعد صلاة العشاء إلى طلوع الفجر لورود ذلك من طرق شتى عنه عليه الصلاة والسلام، ومن أثبت ما في ذلك ما خرجه مسلم عن أبي نضرة العوفي أن أبا سعيد أخبرهم أنهم سألوا النبي ﷺ عن الوتر فقال "الوتر قبل الصبح" واختلفوا في جواز صلاته بعد الفجر، فقوم منعوا ذلك وقوم أجازوه ما لم يصل الصبح، وبالقول الأول قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة وسفيان الثوري، وبالثاني قال الشافعي ومالك وأحمد. وسبب اختلافهم معارضة عمل الصحابة في ذلك بالآثار، وذلك أن ظاهر الآثار الواردة في ذلك أن لا يجوز أن يصلي بعد الصبح كحديث أبي نضرة المتقدم وحديث أبي حذيفة العدوي نص في هذا خرجه أبو داود وفيه "وجعلها لكم ما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر" ولا خلاف بين أهل الأصول أن ما بعد إلى بخلاف ما قبلها إذا كانت غاية، وإن هذا وإن كان من باب دليل الخطاب فهو من أنواعه المتفق عليها، مثل قوله {وأتموا الصيام إلى الليل} وقوله {إلى المرفقين} لا خلاف بين العلماء أن ما بعد الغاية بخلاف الغاية وأما العمل المخالف في ذلك للأثر فإنه روي عن ابن مسعود وابن عباس وعبادة بن الصامت وحذيفة وأبي الدرداء وعائشة أنهم كانوا يوترون بعد الفجر وقبل صلاة الصبح، ولم يرو عن غيرهم من الصحابة خلاف هذا؛ وقد رأى قوم أن مثل هذا هو داخل في باب الإجماع ولا معنى لهذا فإنه ليس ينسب إلى ساكت قول قائل: أعني أنه ليس ينسب إلى الإجماع من لم يعرف له قول في المسألة. وأما هذه المسألة فكيف يصح أن يقال إنه لم يرو في ذلك خلاف عن الصحابة، وأي خلاف أعظم من خلاف الصحابة الذين رووا هذه الأحاديث، أعني خلافهم لهؤلاء الذين أجازوا صلاة الوتر بعد الفجر، والذي عندي في هذا أن هذا من فعلهم ليس مخالفا للآثار الواردة في ذلك أعني في إجازتهم الوتر بعد الفجر، بل إجازتهم ذلك هو من باب القضاء لا من باب الأداء، وإنما يكون قولهم خلاف الآثار لو جعلوا صلاته بعد الفجر من باب الأداء فتأمل هذا، وإنما يتطرق الخلاف لهذه المسألة من باب اختلافهم في هل القضاء في العبادة المؤقتة يحتاج إلى أمر جديد أم لا؟ أعني غير أمر الأداء وهذا التأويل بهم أليق، فإن أكثر ما نقل عنهم هذا المذهب من أنهم أبصروا يقضون الوتر قبل الصلاة وبعد الفجر وإن كان الذي نقل عن ابن مسعود في ذلك قول، أعني أنه كان يقول: إن وقت الوتر من بعد العشاء الآخرة إلى صلاة الصبح، فليس يجب لمكان هذا أن يظن بجميع من ذكرناه من الصحابة أنه يذهب هذا المذهب من قبل أنه أبصر يصلي الوتر بعد الفجر، فينبغي أن تتأمل صفة النقل في ذلك عنهم. وقد حكى ابن المنذر في وقت الوتر عن الناس خمسة أقوال: منها القولان المشهوران اللذان ذكرتهما. والقول الثالث أنه يصلي الوتر وإن صلى الصبح، وهو قول طاوس. والرابع أنه يصليها وإن طلعت الشمس، وبه قال أبو ثور والأوزاعي. والخامس أنه يوتر من الليلة القابلة وهو قول سعيد بن جبير. وهذا الاختلاف إنما سببه اختلافهم في تأكيده وقربه من درجة الفرض، فمن رآه أقرب أوجب القضاء في زمان أبعد من الزمان المختص به، ومن رآه أبعد أوجب القضاء في زمان أقرب، ومن رآه سنة كسائر السنن ضعف عنده القضاء إذ القضاء إنما يجب في الواجبات، وعلى هذا يجيء اختلافهم في قضاء صلاة العيد لمن فاتته، وينبغي أن لا يفرق في هذا بين الندب والواجب أعني أن من رأى أن القضاء في الواجب يكون بأمر متجدد أن يعتقد مثل ذلك في الندب، ومن رأى أنه يجب بالأمر الأول أن يعتقد مثل ذلك في الندب وأما اختلافهم في القنوت فيه فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يقنت فيه ومنعه مالك وأجازه الشافعي في أحد قوليه في النصف الآخر من رمضان، وأجازه قوم في النصف الأول من رمضان، وقوم في رمضان كله. والسبب في اختلافهم في ذلك اختلاف الآثار، وذلك أنه روي عنه ﷺ القنوت مطلقا، وروي عنه القنوت شهرا، وروي عنه أنه آخر أمره لم يكن يقنت في شيء من الصلاة، وأنه نهى عن ذلك، وقد تقدمت هذه المسألة. وأما صلاة الوتر على الراحلة حيث توجهت به فإن الجمهور على جواز ذلك لثبوت ذلك من فعله عليه الصلاة والسلام، أعني أنه كان يوتر على الراحلة: وهو مما يعتمدونه في الحجة على أنها ليست بفرض إذا كان قد صح عنه عليه الصلاة والسلام "أنه كان يتنفل على الراحلة" ولم يصح عنه أنه صلى قط مفروضة على الراحلة. وأما الحنفية فلمكان اتفاقهم معهم على هذه المقدمة، وهو أن كل صلاة مفروضة لا تصلى على الراحلة، واعتقادهم أن الوتر فرض وجب عندهم من ذلك أن لا تصلى على الراحلة، وردوا الخبر بالقياس وذلك ضعيف. وذهب أكثر العلماء إلى أن المرء إذا أوتر ثم نام فقام يتنفل أنه لا يوتر ثانية، لقوله عليه الصلاة والسلام "لا وتران في ليلة" خرج ذلك أبو داود، وذهب بعضهم إلى أنه يشفع الوتر الأول بأن يضيف إليه ركعة ثانية ويوتر أخرى بعد التنفل شفعا، وهي المسألة التي يعرفونها بنقض الوتر وفيه ضعف من وجهين: أحدهما أن الوتر ليس ينقلب إلى النفل بتشفيعه، والثاني أن التنفل بواحدة غير معروف من الشرع. وتجويز هذا ولا تجويزه هو سبب الخلاف في ذلك، فمن راعى من الوتر المعقول وهو ضد الشفع قال ينقلب شفعا إذا أضيف إليه ركعة ثانيا، ومن راعى منه المعنى الشرعي قال: ليس ينقلب شفعا لأن الشفع نفل والوتر سنة مؤكدة أو واجبة. 3*الباب الثاني في ركعتي الفجر.

@-واتفقوا على أن ركعتي الفجر سنة لمعاهدته عليه الصلاة والسلام على فعلها أكثر منه على سائر النوافل والترغيبة فيها، ولأنه قضاها بعد طلوع الشمس حين نام عن الصلاة. واختلفوا من ذلك في مسائل إحداها في المستحب من القراءة فيهما؛ فعند مالك المستحب أن يقرأ فيهما بأم القرآن فقط، وقال الشافعي: لا بأس أن يقرأ فيهما بأم القرآن مع سورة قصيرة، وقال أبو حنيفة: لا توقيف فيهما في القراءة يستحب، وأنه يجوز أن يقرأ فيهما المرء حزبه من الليل. والسبب في اختلافهم اختلاف قراءته عليه الصلاة والسلام في هذه الصلاة واختلافهم في تعيين القراءة في الصلاة، وذلك أنه روي عنه عليه الصلاة والسلام "أنه كان يخفف ركعتي الفجر" على ما روته عائشة قالت "حتى أني أقول أقرأ فيهما بأم القرآن أم لا؟" فظاهر هذا أنه كان يقرأ فيهما بأم القرآن فقط. وروي عنه من طريق أبي هريرة خرجه أبو داود "أنه كان يقرأ فيهما بقل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون" فمن ذهب مذهب حديث عائشة اختار قراءة أم القرآن فقط، ومن ذهب مذهب الحديث الثاني اختار أم القرآن وسورة قصيرة، ومن كان على أصله في أنه لا تتعين للقراءة في الصلاة لقوله تعالى {فاقرءوا ما تيسر منه} قال يقرأ فيهما ما أحب. والثانية في صفة القراءة المستحبة فيهما، فذهب مالك والشافعي وأكثر العلماء إلى أن المستحب فيهما هو الإسرار، وذهب قوم إلى أن المستحب فيهما هو الجهر، وخير قوم في ذلك بين الإسرار والجهر. والسبب في ذلك تعارض مفهوم الآثار، وذلك أن حديث عائشة المتقدم المفهوم من ظاهره "أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ فيهما سرا" ولولا ذلك لم تشك عائشة هل قرأ فيهما بأم القرآن أم لا؟ وظاهر ما روى أبو هريرة أنه كان يقرأ فيهما بـ {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} أن قراءته عليه الصلاة والسلام فيهما جهرا" ولولا ذلك ما علم أبو هريرة ما كان يقرأ فيهما، فمن ذهب مذهب الترجيح بين هذين الأثرين قال: إما باختيار الجهر إن رحج حديث أبي هريرة، وإما باختيار الإسرار إن رجح حديث عائشة، ومن ذهب مذهب الجمع قال بالتخيير والثالثة في الذي لم يصل ركعتي الفجر وأدرك الإمام في الصلاة أو دخل المسجد ليصلهما، فأقيمت الصلاة فقال مالك: إذا كان قد دخل المسجد فأقيمت الصلاة فليدخل مع الإمام في الصلاة ولا يركعهما في المسجد والإمام يصلي الفرض، وإن كان لم يدخل المسجد فإن لم يخف أن يفوته الإمام بركعة فليركعها خارج المسجد، وإن خاف فوات الركعة فليدخل مع الإمام ثم يصليهما إذا طلعت الشمس؛ ووافق أبو حنيفة مالكا في الفرق بين أن يدخل المسجد أو لا يدخله، وخالفه في الحد في ذلك فقال: يركعهما خارج المسجد ما ظن أنه يدرك ركعة من الصبح مع الإمام. وقال الشافعي إذا أقيمت الصلاة المكتوبة فلا يركعهما أصلا لا داخل المسجد ولا خارجه، وحكى ابن المنذر أن قوما جوزوا ركوعهما في المسجد والإمام يصلي وهو شاذ. والسبب في اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" فمن حمل هذا على عمومه لم يجز صلاة ركعتي الفجر إذا أقيمت الصلاة المكتوبة لا خارج المسجد ولا داخله، ومن قصره على المسجد فقد أجاز ذلك خارج المسجد ما لم تفته الفريضة أو لم يفته منها جزء. ومن ذهب مذهب العموم فالعلة عنده في النهي إنما هو الاشتغال بالنفل عن الفريضة، ومن قصر ذلك على المسجد فالعلة عنده إنما هو أن تكون صلاتان معا في موضع واحد لمكان الاختلاف على الإمام كما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال "سمع قوم الإقامة فقاموا يصلون، فخرج عليهم رسول الله ﷺ فقال: أصلاتان معا؟ أصلاتان معا؟" قال: وذلك في صلاة الصبح والركعتين اللتين قبل الصبح. وإنما اختلف مالك وأبو حنيفة في القدر الذي يراعى من فوات صلاة الفريضة من قبل اختلافهم في القدر الذي به يفوت فضل صلاة الجماعة للمشتغل بركعتي الفجر إذا كان فضل صلاة الجماعة عندهم أفضل من ركعتي الفجر، فمن رأى أنه بفوات ركعة منها يفوته فضل صلاة الجماعة قال: يتشاغل بها ما لم تفته ركعة من الصلاة المفروضة، ومن رأى أنه يدرك الفضل إذا أدرك ركعة من الصلاة لقوله عليه الصلاة والسلام "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" أي قد أدرك فضلها وحمل ذلك على عمومه في تارك ذلك قصدا أو بغير اختيار قال: يتشاغل بها ما ظن أنه يدرك ركعة منها. ومالك إنما يحمل هذا الحديث والله أعلم على من فاتته الصلاة دون قصد منه لفواتها، ولذلك رأى أنه إذا فاتته منها ركعة فقد فاته فضلها. وأما من أجاز ركعتي الفجر في المسجد والصلاة تقام، فالسبب في ذلك أحد أمرين: إما أنه لم يصح عنده هذا الأثر أو لم يبلغه. قال أبو بكر بن المنذر: هو أثر ثابت: أعني قوله عليه الصلاة والسلام "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" وكذلك صححه أبو عمر بن عبد البر، وإجازة ذلك تروى عن ابن مسعود، والرابعة في وقت قضائها إذا فاتت حتى صلى الصبح، فإن طائفة قالت يقضيها بعد صلاة الصبح، وبه قال عطاء وابن جريج وقال قوم يقضيها بعد طلوع الشمس، ومن هؤلاء من جعل لها غير هذا الوقت غير المتسع، ومنهم من جعله لها متسعا فقال: يقضيها من لدن طلوع الشمس إلى وقت الزوال ولا يقضيها بعد الزوال، ومن هؤلاء الذين قالوا بالقضاء، ومنهم من استحب ذلك، ومنهم من خير فيه. والأصل في قضائها صلاته لها عليه الصلاة والسلام بعد طلوع الشمس حين نام عن الصلاة. 3*الباب الثالث في النوافل.

@-واختلفوا في النوافل هل تثنى أو تربع أو تثلث؟ فقال مالك والشافعي: صلاة التطوع بالليل والنهار مثنى مثنى يسلم في كل ركعتين. وقال أبو حنيفة: إن شاء ثنى أو ثلث أو ربع أو سدس أو ثمن دون أن يفصل بينهما بسلام؛ وفرق قوم بين صلاة الليل وصلاة النهار فقالوا: صلاة الليل مثنى مثنى، وصلاة النهار أربع. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار الواردة في هذا الباب، وذلك أنه ورد في هذا الباب من حديث ابن عمر أن رجلا سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن صلاة الليل فقال "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى" وثبت عنه عليه الصلاة والسلام "أنه كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد المغرب ركعتين وبعد الجمعة ركعتين وقبل العصر ركعتين" فمن أخذ بهذين الحديثين قال: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى. وثبت أيضا من حديث عائشة أنها قالت، وقد وصفت صلاة رسول الله ﷺ "كان يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا، قالت: فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال: يا عائشة إن عيني تنامان ولا ينام قلبي" وثبت عنه أيضا من طريق أبي هريرة أنه قال عليه الصلاة والسلام "من كان يصلي بعد الجمعة فليصلي أربعا" وروى الأسود عن عائشة "أن رسول الله ﷺ كان يصلي من الليل تسع ركعات فلما أسن صلى سبع ركعات" فمن أخذ أيضا بظاهر هذه الأحاديث جوز التنفل بالأربع والثلاث دون أن يفصل بينهما بسلام، والجمهور على أنه لا يتنفل بواحدة، وأحسب أن فيه خلافا شاذا. 3*الباب الرابع في ركعتي دخول المسجد.

@-والجمهور على أن ركعتي دخول المسجد مندوب إليها من غير إيجاب، وذهب أهل الظاهر إلى وجوبها. وسبب الخلاف في ذلك هل الأمر في قوله عليه الصلاة والسلام "إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين" محمول على الندب أو على الوجوب، فإن الحديث متفق على صحته، فمن تمسك في ذلك بما اتفق عليه الجمهور من أن الأصل هو حمل الأوامر المطلقة على الوجوب حتى يدل الدليل على الندب، ولم ينقدح عنده دليل ينقل الحكم من الوجوب إلى الندب قال: الركعتان واجبتان، ومن انقدح عنده دليل على حمل الأوامر ههنا على الندب أو كان الأصل عنده في الأوامر أن تحمل على الندب حتى يدل الدليل على الوجوب فإن هذا قد قال به قوم قال الركعتان غير واجبتين، لكن الجمهور إنما ذهبوا إلى حمل الأمر ههنا على الندب لمكان التعارض الذي بينه وبين الأحاديث التي تقتضي بظاهرها أو بنصها أن لا صلاة مفروضة إلا الصلوات الخمس التي ذكرناها في صدر هذا الكتاب مثل حديث الأعرابي وغيره، وذلك أنه إن حمل الأمر ههنا على الوجوب لزم أن تكون المفروضات أكثر من خمس، ولمن أوجبها أن الوجوب ههنا إنما هو متعلق بدخول المسجد لا مطلقا، كالأمر بالصلوات المفروضة، وللفقهاء أن تقييد وجوبها بالمكان شبيه وجوبها بالزمان، ولأهل الظاهر أن المكان المخصوص ليس من شرط صحة الصلاة، والزمان من شرط صحة الصلاة المفروضة. واختلف العلماء من هذا الباب فيمن جاء بالمسجد وقد ركع ركعتي الفجر في بيته، هل يركع عند دخوله المسجد أم لا؟ فقال الشافعي: يركع، وهي رواية أشهب عن مالك؛ وقال أبو حنيفة: لا يركع، وهي رواية ابن القاسم عن مالك. وسبب اختلافهم معارضة عموم قوله عليه الصلاة والسلام "إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين" وقوله عليه الصلاة والسلام "لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الصبح" فههنا عمومان وخصوصان: أحدهما في الزمان، والآخر في الصلاة، وذلك أن حديث الأمر بالصلاة عند دخول المسجد عام في الزمان خاص في الصلاة، والنهي عن الصلاة بعد الفجر إلا ركعتا الصبح خاص في الزمان عام في الصلاة، فمن استثنى خاص الصلاة من عامها رأى الركوع بعد ركعتي الفجر، ومن استثنى خاص الزمان من عامه لم يوجب ذلك، وقد قلنا: إن مثل هذا التعارض إذا وقع فليس يجب أن يصار إلى أحد التخصيصين إلا بدليل، وحديث النهي لا يعارض به حديث الأمر الثابت والله أعلم، فإن ثبت الحديث وجب طلب الدليل من موضع آخر. 3*الباب الخامس في قيام رمضان.

@-وأجمعوا على أن قيام شهر رمضان مرغب فيه أكثر من سائر الأشهر لقوله عليه الصلاة والسلام "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" وأن التراويح التي جمع عليها عمر بن الخطاب الناس مرغب فيها وإن كانوا اختلفوا أي أفضل أهي أو الصلاة آخر الليل؟ أعني التي كانت صلاة رسول الله ﷺ، لكن الجمهور على أن الصلاة آخر الليل أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام "أفضل الصلاة صلاتكم في بيوتكم إلا المكتوبة" ولقول عمر فيها: "والتي تنامون عنها أفضل" واختلفوا في المختار من عدد الركعات التي يقوم بها الناس في رمضان، فاختار مالك في أحد قوليه، وأبو حنيفة والشافعي وأحمد ودواد القيام بعشرين ركعة سوى الوتر، وذكر ابن القاسم عن مالك أنه كان يستحسن ستا وثلاثين ركعة والوتر ثلاث. وسبب اختلافهم اختلاف النقل في ذلك، وذلك أن مالكا روى عن يزيد بن رومان قال: كان الناس يقومون في زمان عمر بن الخطاب بثلاث وعشرين ركعة. وخرج ابن أبي شيبة عن داود بن قيس قال: أدركت الناس بالمدينة في زمان عمر بن عبد العزيز وأبان بن عثمان يصلون ستا وثلاثين ركعة ويوترون بثلاث، وذكر ابن القاسم عن مالك أنه الأمر القديم: يعني القيام بست وثلاثين ركعة. 3*الباب السادس في صلاة الكسوف.

@-اتفقوا على أن صلاة كسوف الشمس سنة وأنها في جماعة، واختلفوا في صفتها وفي صفة القراءة فيها وفي الأوقات التي تجوز فيها، وهل من شروطها الخطبة أم لا؟ وهل كسوف القمر في ذلك ككسوف الشمس؟ ففي ذلك خمس مسائل أصول في هذا الباب. @-(المسألة الأولى) ذهب مالك والشافعي وجمهور أهل الحجاز وأحمد أن صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان؛ وذهب أبو حنيفة والكوفيون إلى أن صلاة الكسوف ركعتان على هيئة صلاة العيد والجمعة. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار الواردة في هذا الباب ومخالفة القياس لبعضها، وذلك أنه ثبت من حديث عائشة أنها قالت: "خسفت الشمس في عهد رسول الله ﷺ فصلى بالناس فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فسجد، ثم رفع فسجد، ثم فعل في الركعة الآخرة مثل ذلك، ثم انصرف وقد تجلت الشمس" ولما ثبت أيضا من هذه الصفة في حديث ابن عباس: أعني من ركوعين في ركعة. قال أبو عمر: هذان الحديثان من أصح ما روي في هذا الباب، فمن أخذ بهذين الحديثين ورجحهما على غيرهما من قبل النقل قال: صلاة الكسوف ركعتان في ركعة. وورد أيضا من حديث أبي بكرة وسمرة بن جندب وعبد الله بن عمر والنعمان بن بشير أنه صلى في الكسوف ركعتين كصلاة العيد. قال أبو عمر بن عبد البر: وهي كلها آثار مشهورة صحاح، ومن أحسنها حديث أبي قلابة عن النعمان بن بشير قال: "صلى بنا رسول الله ﷺ في الكسوف نحو صلاتكم يركع ويسجد ركعتين ركعتين، ويسأل الله حتى تجلت الشمس" فمن رجح هذه الآثار لكثرتها وموافقتها للقياس: أعني موافقتها لسائر الصلوات قال: صلاة الكسوف ركعتان. قال القاضي: خرج مسلم حديث سمرة. قال أبو عمر: وبالجملة فإنما صار كل فريق منهم إلى ما ورد عن سلفه، ولذلك رأى بعض أهل العلم أن هذا كله على التخيير، وممن قال بذلك الطبري، قال القاضي: وهو الأولى، فإن الجمع أولى من الترجيح. قال أبو عمر: وقد روي في صلاة الكسوف عشر ركعات في ركعتين، وثمان ركعات في ركعتين وست ركعات في ركعتين، وأربع ركعات في ركعتين لكن من طرق ضعيفة. قال أبو بكر ابن المنذر، وقال إسحاق بن راهويه: كل ما ورد من ذلك فمؤتلف غير مختلف لأن الاعتبار في ذلك لتجلي الكسوف، فالزيادة في الركوع إنما تقع بحسب اختلاف التجلي في الكسوفات التي صلى فيها، وروي عن العلاء بن زياد أنه كان يرى أن المصلي ينظر إلى الشمس إذا رفع رأسه من الركوع، فإذا كانت قد تجلت سجد وأضاف إليها ركعة ثانية وإن كانت لم تنجل ركع في الركعة الواحدة ركعة ثانية، ثم نظر إلى الشمس؛ فإن كانت قد تجلت سجد وأضاف إليها ثانية، وإن كانت لم تنجل ركع ثالثة في الركعة الأولى وهكذا حتى تنجلي. وكان إسحاق بن راهويه يقول: لا يتعدى بذلك أربع ركعات في كل ركعة، لأنه لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أكثر من ذلك. وقال أبو بكر بن المنذر وكان بعض أصحابنا يقول: الاختيار في صلاة الكسوف ثابت، والخيار في ذلك للمصلي إن شاء في كل ركعة ركوعين، وإن شاء ثلاثة، وإن شاء أربعة، ولم يصح عنده ذلك. قال: وهذا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى في كسوفات كثيرة. قال القاضي: هذا الذي ذكره هو الذي خرجه مسلم، ولا أدري كيف قال أبو عمر فيها إنها وردت من طرق ضعيفة. وأما عشر ركعات في ركعتين فإنما أخرجه أبو داود فقط. @-(المسألة الثانية) واختلفوا في القراءة فيها، فذهب مالك والشافعي إلى أن القراءة فيها سر. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن وإسحاق بن راهويه: يجهر بالقراءة فيها. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك بمفهومها وبصيغها، وذلك أن مفهوم حديث ابن عباس الثابت أنه قرأ سرا لقوله فيه عنه عليه الصلاة والسلام "فقام قياما نحوا من سورة البقرة" وقد روي هذا المعنى نصا عنه أنه قال "قمت إلى جنب رسول الله ﷺ فما سمعت منه حرفا" وقد روي أيضا من طريق ابن إسحاق عن عائشة في صلاة الكسوف أنها قالت "تحريت قراءته فحزرت أنه قرأ سورة البقرة، فمن رجح هذه الأحاديث قال: القراءة فيها سر، ولمكان ما جاء في هذه الآثار استحب مالك والشافعي أن يقرأ في الأولى البقرة، وفي الثانية آل عمران، وفي الثالثة بقدر مائة وخمسين آية من البقرة، وفي الرابعة بقدر خمسين آية من البقرة، وفي كل واحدة أم القرآن؛ ورجحوا أيضا مذهبهم هذا بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "صلاة النهار عجماء" ووردت ههنا أيضا أحاديث مخالفة لهذه، فمنها أنه روى "أنه عليه الصلاة والسلام قرأ في إحدى الركعتين في صلاة الكسوف بالنجم" ومفهوم هذا أنه جهر، وكان أحمد وإسحاق يحتجان لهذا المذهب بحديث سفيان بن الحسن عن الزهري عن عروة عن عائشة "أن النبي عليه الصلاة والسلام جهر بالقراءة في كسوف الشمس" قال أبو عمر: سفيان بن الحسن ليس بالقوي. وقال: وقد تابعه على ذلك عن الزهري عن عبد الرحمن بن سليمان بن كثير، وكلهم ليس في حديث الزهري، مع أن حديث ابن إسحاق المتقدم عن عائشة يعارضه، واحتج هؤلاء أيضا لمذهبهم بالقياس الشبهي، فقالوا: صلاة سنة تفعل في جماعة نهارا، فوجب أن يجهر فيها أصله العيدان والاستسقاء، وخير في ذلك كله الطبري وهي طريقة الجمع، وقد قلنا إنها أولى من طريقة الترجيح إذا أمكنت، ولا خلاف في هذا أعلمه بين الأصوليين. @-(المسألة الثالثة) واختلفوا في الوقت الذي تصلى فيه، فقال الشافعي: تصلى في جميع الأوقات المنهى عن الصلاة فيها وغير المنهى. وقال أبو حنيفة: لا تصلى في الأوقات المنهى عن الصلاة فيها. وأما مالك فروى عنه ابن وهب أنه قال: لا يصلى لكسوف الشمس إلا في الوقت الذي تجوز فيه النافلة. وروى ابن القاسم أن سنتها أن تصلى ضحى إلى الزوال. وسبب اختلافهم في هذه المسألة اختلافهم في جنس الصلاة التي لا تصلى في الأوقات المنهى عنها، فمن رأى أن تلك الأوقات تختص بجميع أجناس الصلاة لم يجز فيها صلاة كسوف ولا غيرها، ومن رأى أن تلك الأحاديث تختص بالنوافل وكانت الصلاة عنده في الكسوف سنة أجاز ذلك، ومن رأى أيضا أنها من النفل لم يجزها في أوقات النهي. وأما رواية ابن القاسم عن مالك فليس لها وجه إلا تشبيهها بصلاة العيد. @-(المسألة الرابعة) واختلفوا أيضا هل من شرطها الخطبة بعد الصلاة؟ فذهب الشافعي إلى أن ذلك من شرطها. وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه لا خطبة في صلاة الكسوف. والسبب في اختلافهم اختلافهم في العلة التي من أجلها خطب رسول الله ﷺ الناس لما انصرف من صلاة الكسوف على ما في حديث عائشة وذلك أنها روت "أنه لما انصرف من الصلاة وقد تجلت الشمس حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته" الحديث، فزعم الشافعي أنه إنما خطب لأن من سنة هذه الصلاة الخطبة كالحال في صلاة العيدين والاستسقاء. وزعم بعض من قال بقول أؤلئك أن خطبة النبي عليه الصلاة والسلام إنما كانت يومئذ لأن الناس زعموا أن الشمس إنما كسفت لموت إبراهيم ابنه عليه السلام. @-(المسألة الخامسة) واختلفوا في كسوف القمر، فذهب الشافعي إلى أنه يصلى له في جماعة، وعلى نحو ما يصلى في كسوف الشمس، وبه قال أحمد وداود وجماعة؛ وذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه لا يصلى له في جماعة، واستحب أن يصلي الناس له أفذاذا ركعتين كسائر الصلوات النافلة. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتموهما فادعوا الله وصلوا حتى يكشف ما بكم وتصدقوا" خرجه البخاري ومسلم. فمن فهم ههنا من الأمر بالصلاة فيهما معنى واحدا وهي الصفة التي فعلها في كسوف الشمس رأى الصلاة فيها في جماعة. ومن فهم من ذلك معنى مختلفا لأنه لم يرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه صلى في كسوف القمر مع كثرة دورانه. قال: المفهوم من ذلك أقل ما لا ينطلق عليه اسم صلاة في الشرع، وهي النافلة فذا، وكأن قائل هذا يقول يرى أن الأصل هو أن يحمل اسم الصلاة في الشرع إذا ورد الأمر بها على أقل ما ينطلق عليه هذا الاسم في الشرع إلا أن يدل الدليل على غير ذلك، فلما دل فعله عليه الصلاة والسلام في كسوف الشمس على غير ذلك بقي المفهوم في كسوف القمر على أصله، والشافعي يحمل فعله في كسوف الشمس بيانا لمجمل ما أمر به من الصلاة فيهما، فوجب الوقوف عند ذلك. وزعم أبو عمر ابن عبد البر أنه روي عن ابن عباس وعثمان أنهما صليا في القمر في جماعة ركعتين في كل ركعة ركوعان مثل قول الشافعي. وقد استحب قوم الصلاة للزلزلة والريح والظلمة وغير ذلك من الآيات قياسا على كسوف القمر والشمس لنصه عليه الصلاة والسلام على العلة في ذلك، وهو كونها آية، وهو من أقوى أجناس القياس عندهم، لأنه قياس العلة التي نص عليها، لكن لم ير هذا مالك ولا الشافعي ولا جماعة من أهل العلم. وقال أبو حنيفة: إن صلى للزلزلة فقد أحسن وإلا فلا حرج، وروي عن ابن عباس أنه صلى لها مثل صلاة الكسوف. 3*الباب السابع في صلاة الاستسقاء.

@-أجمع العلماء على أن الخروج إلى الاستسقاء والبروز عن المصر والدعاء إلى الله تعالى والتضرع إليه في نزول المطر سنة سنها رسول الله ﷺ، واختلفوا في الصلاة في الاستسقاء، فالجمهور على أن ذلك من سنة الخروج إلى الاستسقاء إلا أبا حنيفة فإنه قال: ليس من سنته الصلاة. وسبب الخلاف أنه ورد في بعض الآثار أنه استسقى وصلى، وفي بعضها لم يذكر فيها صلاة، ومن أشهر ما ورد في أنه صلى وبه أخذ الجمهور حديث عباد بن تميم عن عمه "أن رسول الله ﷺ خرج بالناس يستسقي فصلى بهم ركعتين جهر فيها بالقراءة، ورفع يديه حذو منكبيه وحول رداءه واستقبل القبلة واستسقى" خرجه البخاري ومسلم. وأما الأحاديث التي ذكر فيها الاستسقاء وليس فيها ذكر للصلاة، فمنها حديث أنس بن مالك خرجه مسلم أنه قال "جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله هلكت المواشي وتقطعت السبل فادع الله، فدعا رسول الله ﷺ فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة" ومنها حديث عبد الله بن زيد المازني، وفيه أنه قال "خرج رسول الله ﷺ فاستسقى، وحول رداءه حين استقبل القبلة" ولم يذكر فيه صلاة، وزعم القائلون بظاهر هذا الأثر أن ذلك مروي عن عمر بن الخطاب، أعني أنه خرج إلى المصلى فاستسقى ولم يصل؛ والحجة للجمهور أنه لم يذكر شيئا، فليس هو بحجة على من ذكره، والذي يدل عليه اختلاف الآثار في ذلك ليس عندي فيه شيء أكثر من أن الصلاة ليست من شرط صحة الاستسقاء، إذ قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قد استسقى على المنبر، لا أنها ليست من سنته كما ذهب إليه أبو حنيفة. وأجمع القائلون بأن الصلاة من سنته على أن الخطبة أيضا من سنته لورود ذلك في الأثر. قال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله ﷺ صلى صلاة الاستسقاء وخطب واختلفوا هل هي قبل الصلاة أو بعدها؟ لاختلاف الآثار في ذلك، فرأى قوم أنها بعد الصلاة قياسا على العيدين، وبه قال الشافعي ومالك. وقال الليث بن سعد: الخطبة قبل الصلاة. قال ابن المنذر: "قد روي عن النبي ﷺ أنه استسقى فخطب قبل الصلاة" وروي عن عمر بن الخطاب مثل ذلك وبه نأخذ. قال القاضي: وقد خرج ذلك أبو داود من طرق، ومن ذكر الخطبة فإنما ذكرها في علمي قبل الصلاة، واتفقوا على أن القراءة فيها جهرا، واختلفوا هل يكبر فيها كما يكبر في العيدين؟ فذهب مالك إلى أنه يكبر فيها كما يكبر في سائر الصلوات، وذهب الشافعي إلى أنه يكبر فيها كما يكبر في العيدين. وسبب الخلاف اختلافهم في قياسها على صلاة العيدين. وقد احتج الشافعي لمذهبه في ذلك بما روي عن ابن عباس "أن رسول الله ﷺ صلى فيها ركعتين كما يصلي في العيدين" واتفقوا على أن من سنتها أن يستقبل الإمام القبلة واقفا ويدعو ويحول رداءه رافعا يديه على ما جاء في الآثار واختلفوا في كيفية ذلك، ومتى يفعل ذلك. فأما كيفية ذلك؟ فالجمهور على أنه يجعل ما على يمينه على شماله وما على شماله على يمينه. وقال الشافعي: بل يجعل أعلاه أسفله، وما على يمينه منه على يساره، وما على يساره على يمينه. وسبب الاختلاف اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أنه جاء في حديث عبد الله ابن زيد "أنه ﷺ خرج إلى المصلى يستسقي، فاستقبل القبلة وقلب رداءه وصلى ركعتين" وفي بعض رواياته قلت: أجعل الشمال على اليمين، واليمين على الشمال، أم أجعل أعلاه أسفله؟ قال: بل اجعل الشمال على اليمين واليمين على الشمال. وجاء أيضا في حديث عبد الله هذا أنه قال "استسقى رسول الله ﷺ وعليه خميصة له سوداء، فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه" وأما متى يفعل الإمام ذلك، فإن مالكا والشافعي قالا: يفعل ذلك عند الفراغ من الخطبة. وقال أبو يوسف: يحول رداءه إذا مضى صدر من الخطبة، وروي ذلك أيضا عن مالك، وكلهم يقول: إنه إذا حول الإمام رداءه قائما حول الناس أرديتهم جلوسا، لقوله عليه الصلاة والسلام "إنما جعل الإمام ليؤتم به" إلا محمد بن الحسن والليث ابن سعد وبعض أصحاب مالك، فإن الناس عندهم لا يحولون أرديتهم بتحويل الإمام، لأنه لم ينقل ذلك في صلاته عليه الصلاة والسلام بهم، وجماعة من العلماء على أن الخروج لها وقت الخروج إلى صلاة العيدين إلا أبا بكر بن محمد ابن عمرو بن حزم فإنه قال: إن الخروج إليها عند الزوال. وروى أبو داود عن عائشة "أن رسول الله ﷺ خرج إلى الاستسقاء حين بدا حاجب الشمس". 3*الباب الثامن في صلاة العيدين.

@-أجمع العلماء على استحسان الغسل لصلاة العيدين وأنهما بلا أذان ولا إقامة لثبوت ذلك عن رسول الله ﷺ إلا ما أحدث من ذلك معاوية في أصح الأقاويل قاله أبو عمر. وكذلك أجمعوا على أن السنة فيها تقديم الصلاة على الخطبة لثبوت ذلك أيضا عن رسول الله ﷺ، إلا ما روي عن عثمان بن عفان أنه أخر الصلاة وقدم الخطبة لئلا يفترق الناس قبل الخطبة، وأجمعوا أيضا على أنه لا توقيت في القراءة في العيدين، وأكثرهم استحب أن يقرأ في الأولى بسبح، وفي الثانية بالغاشية لتواتر ذلك عن رسول الله ﷺ واستحب الشافعي القراءة فيهما بـ "قّ والقرآن المجيد" و "اقتربت الساعة" لثبوت ذلك عنه عليه الصلاة والسلام. واختلفوا من ذلك في مسائل أشهرها اختلافهم في التكبير، وذلك أنه حكى في ذلك أبو بكر بن المنذر نحوا من اثني عشر قولا إلا أنا نذكر من ذلك المشهور الذي يستند إلى صحابي أو سماع فنقول: ذهب مالك إلى أن التكبير في الأولى من ركعتي العيدين سبع مع تكبيرة الإحرام قبل القراءة، وفي الثانية ست مع تكبيرة القيام من السجود. وقال الشافعي: في الأولى ثمانية (أي ومنها تكبيرة الإحرام ا هـ مصححه)، وفي الثانية ست مع تكبيرة القيام من السجود. وقال أبو حنيفة: يكبر في الأولى ثلاثا بعد تكبيرة الإحرام يرفع يديه فيها، ثم يقرأ أم القرآن وسورة، ثم يكبر راكعا ولا يرفع يديه، فإذا قام إلى الثانية وكبر ولم يرفع يديه وقرأ فاتحة الكتاب وسورة، ثم كبر ثلاث تكبيرات يرفع فيها يديه، ثم يكبر للركوع ولا يرفع فيها يديه. وقال قوم: فيها تسع في كل ركعة، وهو مروي عن ابن عباس والمغيرة بن شعبة وأنس بن مالك وسعيد بن المسيب، وبه قال النخعي وسبب اختلافهم اختلاف الآثار المنقولة في ذلك عن الصحابة؛ فذهب مالك رحمه الله إلى ما رواه عن ابن عمر أنه قال شهدت الأضحى والفطر مع أبي هريرة فكبر في الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة في الآخرة خمسا قبل القراءة، ولأن العمل عنده بالمدينة كان على هذا، وبهذا الأثر بعينه أخذ الشافعي، إلا أنه تأول في السبع أنه ليس فيها تكبيرة الإحرام كما ليس في الخمس تكبيرة القيام، ويشبه أن يكون مالك إنما أصاره أن يعد تكبيرة الإحرام في السبع، ويعد تكبيرة القيام زائدا على الخمس المروية أن العمل ألفاه على ذلك، فكأنه عنده وجه من الجمع بين الأثر والعمل، وقد خرج أبو داود معنى حديث أبي هريرة مرفوعا عن عائشة وعن عمرو بن العاص. وروى أنه سئل أبو موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان: كيف كان رسول الله ﷺ يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى كان "يكبر أربعا على الجنائز" فقال حذيفة: صدق، فقال أبو موسى: كذلك كنت أكبر في البصرة حين كنت عليهم، وقال قوم بهذا. وأما أبو حنيفة وسائر الكوفيين فإنهم اعتمدوا في ذلك على ابن مسعود، وذلك أنه ثبت عنه أنه كان يعلمهم صلاة العيدين على الصفة المتقدمة، وإنما صار الجميع إلى الأخذ بأقاويل الصحابة في هذه المسألة، لأنه لم يثبت فيها عن النبي عليه الصلاة والسلام شيء، ومعلوم أن فعل الصحابة في ذلك هو توقيف، إذ لا مدخل للقياس في ذلك. وكذلك اختلفوا في رفع اليدين عند كل تكبيرة، فمنهم من رأى ذلك وهو مذهب الشافعي؛ ومنهم من لم ير الرفع إلا في الاستفتاح فقط؛ ومنهم من خير. واختلفوا فيمن تجب عليه صلاة العيد: أعني وجوب السنة، فقالت طائفة: يصليها الحاضر والمسافر، وبه قال الشافعي والحسن البصري، وكذلك قال الشافعي إنه يصليها أهل البوادي، ومن لا يجمع حتى المرأة في بيتها وقال أبو حنيفة وأصحابه: إنما تجب صلاة الجمعة والعيدين على أهل الأمصار والمدائن. وروي عن علي أنه قال: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع. وروي عن الزهري أنه قال: لا صلاة فطر ولا أضحى على مسافر. والسبب في هذا الاختلاف اختلافهم في قياسها على الجمعة، فمن قاسها على الجمعة كان مذهبه فيها مذهبه في الجمعة، ومن لم يقسها رأى أن الأصل وهو أن كل مكلف مخاطب بها حتى يثبت استثناؤه من الخطاب. قال القاضي: قد فرقت السنة بين الحكم للنساء في العيدين والجمعة، وذلك أنه ثبت أنه عليه الصلاة والسلام أمر النساء بالخروج للعيدين ولم يأمر بذلك في الجمعة "وكذلك اختلفوا في الموضع الذي يجب منه المجيء إليها كاختلافهم في صلاة الجمعة من الثلاثة الأميال إلى مسيرة اليوم التام. واتفقوا على أن وقتها من شروق الشمس إلى الزوال. واختلفوا فيمن لم يأتهم علم بأنه العيد إلا بعد الزوال، فقالت طائفة: ليس عليهم أن يصلوا يومهم ولا من الغد وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور، وقال آخرون: يخرجون إلى الصلاة في غداة ثاني العيد، وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق. قال أبو بكر بن المنذر: وبه نقول لحديث رويناه عن النبي عليه الصلاة والسلام "أنه أمرهم أن يفطروا، فإذا أصبحوا أن يعودوا إلى مصلاهم" قال القاضي: خرجه أبو داود، إلا أنه عن صحابي مجهول، ولكن الأصل فيهم رضي الله عنهم حملهم على العدالة، واختلفوا إذا اجتمع في يوم واحد عيد وجمعة، هل يجزئ العيد عن الجمعة؟ فقال قوم: يجزئ العيد عن الجمعة وليس عليه في ذلك اليوم إلا العصر فقط، وبه قال عطاء، وروي ذلك عن ابن الزبير وعلي. وقال قوم: هذه رخصة لأهل البوادي الذين يردون الأمصار للعيد والجمعة خاصة كما روي عن عثمان أنه خطب في يوم عيد وجمعة فقال: من أحب من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظر، ومن أحب أن يرجع فليرجع، رواه مالك في الموطأ، وروى نحوه عن عمر بن عبد العزيز وبه قال الشافعي وقال مالك وأبو حنيفة: إذا اجتمع عيد وجمعة فالمكلف مخاطب بهما جميعا، العيد على أنه سنة، والجمعة على أنها فرض، ولا ينوب أحدهما عن الأخر، وهذا هو الأصل إلا أن يثبت في ذلك شرع يجب المصير إليه، ومن تمسك بقول عثمان، فلأنه رأى أن مثل ذلك ليس هو بالرأي وإنما هو توقيف، وليس هو بخارج عن الأصول كل الخروج. وأما إسقاط فرض الظهر والجمعة التي هي بدله لمكان صلاة العيد فخارج عن الأصول جدا، إلا أن يثبت في ذلك شرع يجب المصير إليه. واختلفوا فيمن تفوته صلاة العيد مع الإمام، فقال قوم: يصلي أربعا، وبه قال أحمد والثوري، وهو مروي عن ابن مسعود. وقال قوم: بل يقضيها على صفة صلاة الإمام ركعتين يكبر فيهما نحو تكبيره ويجهر كجهره، وبه قال الشافعي وأبو ثور. وقال قوم: بل ركعتين فقط لا يجهر فيهما ولا يكبر تكبيرة العيد. وقال قوم: إن صلى الإمام في المصلى صلى ركعتين، وإن صلى في غير المصلى صلى أربع ركعات. وقال قوم: لا قضاء عليه أصلا، وهو قول مالك وأصحابه. وحكى ابن المنذر عنه مثل قول الشافعي، فمن قال أربعا شبهها بصلاة الجمعة وهو تشبيه ضعيف، ومن قال ركعتين كما صلاهما الإمام فمصيرا إلى أن الأصل هو أن القضاء يجب أن يكون على صفة الأداء، ومن منع القضاء فلأنه رأى أنها صلاة من شرطها الجماعة والإمام كالجمعة، فلم يجب قضاؤها ركعتين ولا أربعا إذ ليست هي بدلا من شيء، وهذان القولان هما اللذان يتردد فيهما النظر: أعني قول الشافعي وقول مالك. وأما سائر الأقاويل في ذلك فضعيف لا معنى له، لأن صلاة الجمعة بدل من الظهر، وهذه ليست بدلا من شيء، فكيف يجب أن تقاس إحداهما على الأخرى في القضاء، وعلى الحقيقة فليس من فاتته الجمعة فصلاته للظهر قضاء بل هي أداء، لأنه إذا فاته البدل وجبت هي والله الموفق للصواب. واختلفوا في التنفل قبل صلاة العيد وبعدها، فالجمهور على أنه لا يتنفل لا قبلها ولا بعدها، وهو مروي عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وحذيفة وجابر، وبه قال أحمد. وقيل يتنفل قبلها وبعدها، وهو مذهب أنس وعروة، وبه قال الشافعي. وفيه قول ثالث وهو أن لا يتنفل بعدها ولا يتنفل قبلها، وقال به الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة، وهو مروي أيضا عن ابن مسعود، وفرق قوم بين أن تكون الصلاة في المصلى أو في المسجد، وهو مشهور مذهب مالك. وسبب اختلافهم أنه ثبت أن رسول الله ﷺ خرج يوم فطر أو يوم أضحى فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما" وقال عليه الصلاة والسلام "إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين" وترددها أيضا من حيث هي مشروعة بين أن يكون حكمها في استحباب التنفل قبلها وبعدها حكم المكتوبة أو لا يكون ذلك حكمها؟ فمن رأى أنه تركه الصلاة قبلها وبعدها هو من باب ترك الصلاة قبل السنن وبعدها ولم ينطلق اسم المسجد عنده على المصلى لم يستحب تنفلا قبلها ولا بعدها، ولذلك تردد المذهب في الصلاة قبلها إذا صليت في المسجد لكون دليل الفعل معارضا في ذلك القول، أعني أنه من حيث هو داخل في مسجد يستحب له الركوع، ومن حيث هو مصل صلاة العيد يستحب له أن لا يركع تشبها بفعله عليه الصلاة والسلام. ومن رأى أن ذلك من باب الرخصة ورآى أن اسم المسجد ينطلق على المصلى ندب إلى التنفل قبلها. ومن شبهها بالصلاة المفروضة استحب التنفل قبلها وبعدها كما قلنا. ورأى قوم أن التنفل قبلها وبعدها من باب المباح الجائز لا من باب المندوب ولا من باب المكروه، وهو أقل اشتباها إن لم يتناول اسم المسجد المصلى. واختلفوا في وقت التكبير في عيد الفطر بعد أن أجمع على استحبابه الجمهور لقوله تعالى {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم} فقال جمهور العلماء: يكبر عند الغدو إلى الصلاة، وهو مذهب ابن عمر وجماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال قوم يكبر من ليلة الفطر إذا رأوا الهلال حتى يغدو إلى المصلى وحتى يخرج الإمام، وكذلك في ليلة الأضحى عندهم إن لم يكن حاجا. وروي عن ابن عباس إنكار التكبير جملة إلا إذا كبر الإمام، واتفقوا أيضا على التكبير في أدبار الصلوات أيام الحج. واختلفوا في توقيت ذلك اختلافا كثيرا، فقال قوم: يكبر من صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، وبه قال سفيان وأحمد وأبو ثور. وقيل يكبر من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وهو قول مالك والشافعي. وقال الزهري مضت السنة أن يكبر الإمام في الأمصار دبر صلاة الظهر من يوم النحر إلى العصر من آخر أيام التشريق. وبالجملة فالخلاف في ذلك كثير حكى ابن المنذر فيها عشرة أقوال. وسبب اختلافهم في ذلك هو أنه نقلت بالعمل ولم ينقل في ذلك قول محدود، فلما اختلفت الصحابة في ذلك اختلف من بعدهم. والأصل في هذا الباب قوله تعالى {واذكروا الله في أيام معدودات} فهذا الخطاب وإن كان المقصود به أولا أهل الحج، فإن الجمهور رأوا أنه يعم أهل الحج وغيرهم وتلقى ذلك بالعمل وإن كانوا اختلفوا في التوقيت في ذلك، ولعل التوقيت في ذلك على التخيير لأنهم كلهم أجمعوا على التوقيت واختلفوا فيه. وقال قوم: التكبير دبر الصلاة في هذه الأيام إنما هو لمن صلى في جماعة، وكذلك اختلفوا في صفة التكبير في هذه الأيام، فقال مالك والشافعي: يكبر ثلاثا الله أكبر الله أكبر الله أكبر. وقيل يزيد بعد هذا لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وروي عن ابن عباس أنه يقول: الله أكبر كبيرا ثلاث مرات، ثم يقول الرابعة ولله الحمد. وقالت جماعة: ليس فيه شيء مؤقت. والسبب في هذا الاختلاف عدم التحديد في ذلك في الشرع مع فهمهم من الشرع في ذلك التوقيت: أعني فهم الأكثر. وهذا هو السبب في اختلافهم في توقيت زمان التكبير، أعني فهم التوقيت مع عدم النص في ذلك، وأجمعوا على أنه يستحب أن يفطر في عيد الفطر قبل الغدو إلى المصلى، وأن لا يفطر يوم الأضحى إلا بعد الانصراف من الصلاة، وأنه يستحب أن يرجع من غير الطريق التي مشى عليها لثبوت ذلك من فعله عليه الصلاة والسلام. 3*الباب التاسع في سجود القرآن.

@-والكلام في هذا الباب ينحصر في خمسة فصول: في حكم السجود. وفي عدد السجدات التي لها عزائم، أعني التي يسجد لها. وفي الأوقات التي يسجد لها. وعلى من يجب السجود. وفي صفة السجود. فأما حكم سجود التلاوة فإن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: هو واجب، وقال مالك والشافعي: هو مسنون وليس بواجب. وسبب الخلاف اختلافهم في مفهوم الأوامر بالسجود والأخبار التي معناها معنى الأوامر بالسجود مثل قوله تعالى {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا} هل هي محمولة على الوجوب أو على الندب فأبو حنيفة حملها على ظاهرها من الوجوب، ومالك والشافعي اتبعا في مفهومها الصحابة إذ كانوا هم أقعد بفهم الأوامر الشرعية، وذلك أنه لما ثبت أن عمر بن الخطاب قرأ السجدة يوم الجمعة فنزل وسجد وسجد الناس فلما كان في الجمعة الثانية وقرأها تهيأ الناس للسجود فقال: على رسلكم إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء قالوا وهذا بمحضر الصحابة، فلم ينقل عن أحد منهم خلاف وهم أفهم بمغزى الشرع، وهذا إنما يحتج به من يرى قول الصحابي إذا لم يكن له مخالف حجة، وقد احتج أصحاب الشافعي في ذلك بحديث زيد بن ثابت أنه قال "كنت أقرأ القرآن على رسول الله ﷺ فقرأت سورة الحج فلم يسجد ولم نسجد" وكذلك أيضا يحتج لهؤلاء بما روي عنه عليه الصلاة والسلام "أنه لم يسجد في المفصل" وبما روي أنه سجد فيها لأن وجه الجمع بين ذلك يقتضي أن لا يكون السجود واجبا، وذلك بأن يكون كل واحد منهم حدث بما رأى، ومن قال إنه سجد، ومن قال إنه لم يسجد. وأما أبو حنيفة فتمسك في ذلك بأن الأصل هو حمل الأوامر على الوجوب والأخبار التي تتنزل منزلة الأوامر وقد قال أبو المعالي: إن احتجاج أبي حنيفة بالأوامر الواردة بالسجود في ذلك لا معنى له، فإن إيجاب السجود مطلقا ليس يقتضي وجوبه مقيدا وهو عند القراءة: أعني قراءة آية السجود قال: ولو كان الأمر كما زعم أبو حنيفة لكانت الصلاة تجب عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالصلاة، وإذا لم يجب ذلك فليس يجب السجود عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالسجود من الأمر بالسجود. ولأبي حنيفة أن يقول، قد أجمع المسلمون على أن الأخبار الواردة في السجود عند تلاوة القرآن هي بمعنى الأمر وذلك في أكثر المواضع، وإذا كان ذلك كذلك فقد ورد الأمر بالسجود مقيدا بالتلاوة أعني عند التلاوة، وورد الأمر به مطلقا فوجب حمل المطلق على المقيد، وليس الأمر في ذلك بالسجود كالأمر بالصلاة، فإن الصلاة قيد وجوبها بقيود أخر، وأيضا فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد سجد فيها فبين لنا بذلك معنى الأمر بالسجود الوارد فيها: أعني أنه عند التلاوة، فوجب أن يحمل مقتضى الأمر في الوجوب عليه. وأما عدد عزائم سجود القرآن، فإن مالكا قال في الموطأ: الأمر عندنا أن عزائم سجود القرآن إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء وقال أصحابه: أولها خاتمة الأعراف، وثانيها في الرعد عند قوله تعالى {بالغدو والأصال} وثالثها في النحل عند قوله تعالى {ويفعلون ما يؤمرون} ورابعها في بني إسرائيل عند قوله تعالى {ويزيدهم خشوعا} وخامسها في مريم عند قوله تعالى {خروا سجدا وبكيا} وسادسها الأولى من الحج عند قوله تعالى {إن الله يفعل ما يشاء} وسابعها في الفرقان عند قوله تعالى {وزادهم نفورا} وثامنها في النمل عند قوله تعالى {رب العرش العظيم} وتاسعها في {المّ تنزيل} عند قوله تعالى {وهم لا يستكبرون} وعاشرها في {صّ} عند قوله تعالى {وخر راكعا وأناب} والحادية عشرة في {حمّ تنزيل} عند قوله تعالى {إن كنتم إياه تعبدون} وقيل عند قوله {وهم لا يسأمون} وقال الشافعي: أربع عشرة سجدة: ثلاث منها في المفصل: في الانشقاق وفي النجم وفي {اقرأ باسم ربك} ولم ير في {صّ} سجدة لأنها عنده من باب الشكر. وقال أحمد: هي خمسة عشرة سجدة أثبت فيها الثانية من الحج وسجدة {صّ} وقال أبو حنيفة: هي اثنتا عشرة سجدة. قال الطحاوي: وهي كل سجدة جاءت بلفظ الخبر. والسبب في اختلافهم اختلافهم في المذاهب التي اعتمدوها في تصحيح عددها وذلك أن منهم من اعتمد عمل أهل المدينة، ومنهم من اعتمد القياس، ومنهم من اعتمد السماع. أما الذين اعتمدوا العمل فمالك وأصحابه. وأما الذين اعتمدوا القياس فأبو حنيفة وأصحابه، وذلك أنهم قالوا: وجدنا السجدات التي أجمع عليها جاءت بصيغة الخبر، وهي سجدة الأعراف والنحل والرعد والإسراء ومريم وأول الحج والفرقان والنمل والمّ تنزيل، فوجب أن تلحق بها سائر السجدات التي جاءت بصيغة الخبر، وهي التي في صّ وفي الانشقاق، ويسقط ثلاثة جاءت بلفظ الأمر وهي التي في والنجم وفي الثانية من الحج وفي اقرأ باسم ربك وأما الذين اعتمدوا السماع فإنهم صاروا إلى ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من سجوده في الانشقاق وفي {اقرأ باسم ربك} وفي {والنجم} خرج ذلك مسلم. وقال الأثرم: سئل أحمد كم في الحج من سجدة؟ قال سجدتان. وصحح حديث عقبة بن عامر عن النبي ﷺ أنه قال "في الحج سجدتان" وهو قول عمر وعلي. قال القاضي: خرجه أبو داود. وأما الشافعي فإنه إنما صار إلى إسقاط سجدة صّ لما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري "أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ وهو على المنبر آية السجود من سورة {صّ} فنزل وسجد فلما كان يوم آخر قرأها فتهيأ الناس للسجود فقال: إنما هي توبة نبي، ولكن رأيتكم تشيرون للسجود فنزلت فسجدت" وفي هذا ضرب من الحجة لأبي حنيفة في قوله بوجوب السجود، لأنه علل ترك السجود في هذه السجدة بعلة انتفت في غيرها من السجدات، فوجب أن يكون حكم التي انتفت عنها العلة بخلاف التي ثبتت لها العلة، وهو نوع من الاستدلال وفيه اختلاف، لأنه من باب تجويز دليل الخطاب. وقد احتج بعض من لم ير السجود في المفصل بحديث عكرمة عن ابن عباس خرجه أبو داود "أن رسول الله ﷺ لم يسجد في شيء من المفصل منذ هاجر إلى المدينة" قال أبو عمر: وهو منكر لأن أبا هريرة الذي روى سجوده في المفصل لم يصحبه عليه الصلاة والسلام إلا بالمدينة. وقد روى الثقات عنه "أنه سجد عليه الصلاة والسلام في والنجم". وأما وقت السجود فإنهم اختلفوا فيه؛ فمنع قوم السجود في الأوقات المنهى عن الصلاة فيها، وهو مذهب أبي حنيفة على أصله في منع الصلوات المفروضة في هذه الأوقات، ومنع مالك أيضا ذلك في الموطأ لأنها عنده من النفل والنفل ممنوع في هذه الأوقات عنده. وروى ابن القاسم عنه أنه يسجد فيها بعد العصر مالم تصفر الشمس أو تتغير، وكذلك بعد الصبح وبه قال الشافعي وهذا بناء على أنها سنة وأن السنن تصلى في هذه الأوقات ما لم تدن الشمس من الغروب أو الطلوع. وأما على من يتوجه حكمها؟ فأجمعوا على أنه يتوجه على القارئ في صلاة كان أو في غير صلاة. واختلفوا في السامع هل عليه سجود أم لا؟ فقال أبو حنيفة: عليه السجود، ولم يفرق بين الرجل والمرأة. وقال مالك: يسجد السامع بشرطين: أحدهما إذا كان قعد ليسمع القرآن، والآخر أن يكون القارئ يسجد، وهو مع هذا ممن يصح أن يكون إماما للسامع. وروى ابن القاسم عن مالك أنه يسجد السامع، وإن كان القارئ ممن لا يصلح الإمامة إذا جلس إليه. وأما صفة السجود فإن جمهور الفقهاء قالوا: إذا سجد القارئ كبر إذا خفض وإذا رفع، واختلف قول مالك في ذلك إذا كان في غير صلاة. وأما إذا كان في الصلاة فإنه يكبر قولا واحدا. بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله

========

 

 

 

 

 

 

 

 

كتاب أحكام الميت @-والكلام في هذا الكتاب وهي حقوق الأموات على الأحياء. ينقسم إلى ست جمل: الجملة الأولى: فيما يستحب أن يفعل به عند الاحتضار، وبعده. الثانية: في غسله. الثالثة: في تكفينه. الرابعة: في حمله واتباعه. الخامسة: في الصلاة عليه. السادسة: في دفنه. 3*الباب الأول. فيما يستحب أن يفعل به عند الاحتضار وبعده.

@-ويستحب أن يلقن الميت عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله، لقوله عليه الصلاة والسلام "لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله" وقوله "من كان آخر قوله لا إله إلا الله دخل الجنة". واختلفوا في استحباب توجيهه إلى القبلة، فرأى ذلك قوم ولم يره آخرون. وروي عن مالك أنه قال في التوجيه: ما هو من الأمر القديم. وروي عن سعيد بن المسيب أنه أنكر ذلك ولم يرو ذلك عن أحد من الصحابة ولا من التابعين: أعني الأمر بالتوجيه، فإذا قضى الميت غمض عينيه، ويستحب تعجيل دفنه لورود الآثار بذلك، إلا الغريق، فإنه يستحب في المذهب تأخير دفنه مخافة أن يكون الماء قد غمره فلم تتبين حياته. قال القاضي: وإذا قيل هذا في الغريق فهو أولى في كثير من المرضى مثل الذين يصيبهم انطباق العروق وغير ذلك مما هو معروف عند الأطباء حتى قال الأطباء إن المسكوتين لا ينبغي أن يدفنوا إلا بعد ثلاث. 3*الباب الثاني في غسل الميت.

@-ويتعلق بهذا الباب فصول أربعة: منها في حكم الغسل. ومنها فيمن يجب غسله من الموتى. ومن يجوز أن يغسل، وما حكم الغاسل، ومنها في صفة الغسل. 4*الفصل الأول في حكم الغسل.

@-فأما حكم الغسل فإنه قيل فيه إنه فرض على الكفاية. وقيل سنة على الكفاية. والقولان كلاهما في المذهب. والسبب في ذلك أنه نقل بالعمل لا بالقول، والعمل ليس له صيغة تفهم الوجوب أو لا تفهمه. وقد احتج عبد الوهاب لوجوبه بقوله عليه الصلاة والسلام في ابنته "اغسلنها ثلاثا أو خمسا" وبقوله في المحرم "اغسلوه" فمن رأى أن هذا القول خرج مخرج تعليم لصفة الغسل لا مخرج الأمر به لم يقل بوجوبه، ومن رأى أنه يتضمن الأمر والصفة قال: بوجوبه. 4*الفصل الثاني فيمن يجب غسله من الموتى.

@-وأما الأموات الذين يجب غسلهم فإنهم اتفقوا من ذلك على غسل الميت المسلم الذي لم يقتل في معترك حرب الكفار. واختلفوا في غسل الشهيد وفي الصلاة عليه وفي غسل المشرك. فأما الشهيد: أعني الذي قتله في المعترك المشركون، فإن الجمهور على ترك غسله لما روي "أن رسول الله ﷺ أمر بقتلى أحد فدفنوا بثيابهم ولم يصل عليهم" وكان الحسن وسعيد ابن المسيب يقولان: يغسل كل مسلم فإن كل ميت يجنب، ولعلهم كانوا يرون إن ما فعل بقتلى أحد كان لموضع الضرورة: أعني المشقة في غسلهم، وقال بقولهم من فقهاء الأمصار عبيد الله بن الحسن العنبري. وسئل أبو عمر فيما حكى ابن المنذر عن غسل الشهيد فقال: قد غسل عمر وكفن وحنط وصلى عليه، وكان شهيدا يرحمه الله. واختلف الذين اتفقوا على أن الشهيد في حرب المشركين لا يغسل في الشهداء من قتل اللصوص أو غير أهل الشرك. فقال الأوزاعي وأحمد وجماعة حكمهم حكم من قتله أهل الشرك. وقال مالك والشافعي: يغسل. وسبب اختلافهم هو هل الموجب لرفع حكم الغسل هي الشهادة مطلقا أو الشهادة على أيدي الكفار، فمن رأى أن سبب ذلك هي الشهادة مطلقا قال: لا يغسل كل من نص عليه النبي عليه الصلاة والسلام أنه شهيد ممن قتل. ومن رأى أن سبب ذلك هي الشهادة من الكفار قصر ذلك عليهم. وأما غسل المسلم الكافر فكان مالك يقول: لا يغسل المسلم والده الكافر ولا يقبره، إلا أن يخاف ضياعه فيواريه. وقال الشافعي: لابأس بغسل المسلم قرابته من المشركين ودفنهم، وبه قال أبو ثور وأبو حنيفة وأصحابه قال أبو بكر بن المنذر: ليس في غسل الميت المشرك سنة تتبع، وقد روى "أن النبي عليه الصلاة والسلام. أمر بغسل عمه لما مات". وسبب الخلاف هل الغسل من باب العبادة، أو من باب النظافة؟ فإن كانت عبادة لم يجز غسل الكافر، وإن كانت نظافة جاز غسله. 4*الفصل الثالث فيمن يجوز أن يغسل الميت.

@-وأما من يجوز أن يغسل الميت، فإنهم اتفقوا على أن الرجال يغسلون الرجال والنساء يغسلون النساء. واختلفوا في المرأة تموت مع الرجال، أو الرجل يموت مع النساء ما لم يكونا زوجين على ثلاثة أقوال: فقال قوم: يغسل كل واحد منهما صاحبه من فوق الثياب. وقال قوم: ييمم كل واحد منهما صاحبه، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وجمهور العلماء. وقال قوم: لا يغسل واحد منهما صاحبه ولا ييممه، وبه قال الليث بن سعد، بل يدفن من غير غسل. وسبب اختلافهم هو الترجيح بين تغليب النهي على الأمر، أو الأمر على النهي، وذلك أن الغسل مأمور به، ونظر الرجل إلى بدن المرأة والمرأة إلى بدن الرجل منهي عنه. فمن غلب النهي تغليبا مطلقا، أعني لم يقس الميت على الحي في كون الطهارة التراب له بدلا من طهارة الماء عند تعذرها قال: لا يغسل واحد منهما صاحبه ولا ييممه. ومن غلب الأمر على النهي قال يغسل كل واحد منهما صاحبه: أعني غلب الأمر على النهي تغليبا مطلقا. ومن ذهب إلى التيمم فلأنه رأى أنه لا يلحق الأمر والنهي في ذلك تعارض، وذلك أن النظر إلى مواضع التيمم يجوز لكل الصنفين، ولذلك رأى مالك أن ييمم الرجل المرأة في يديها ووجهها فقط لكون ذلك منها ليسا بعورة، وأن تيمم المرأة الرجل إلى المرفقين لأنه ليس من الرجل عورة إلا من السرة إلى الركبة على مذهبه، فكأن الضرورة التي نقلت الميت من الغسل إلى التيمم عند من قال به هي تعارض الأمر والنهي، فكأنه شبه هذه الضرورة بالضرورة التي يجوز معها للحي التيمم، وهو تشبيه فيه بعد ولكن عليه الجمهور. فأما مالك فاختلف في قوله هذه المسألة فمرة قال: ييمم كل واحد منهما صاحبه قولا مطلقا، ومرة فرق في ذلك بين ذوي المحارم وغيرهم، ومرة فرق في ذوي المحارم بين الرجال والنساء، فيتحصل عنه أن له في ذوي المحارم ثلاثة أقوال: أشهرها أنه يغسل كل واحد منهما على الثياب. والثاني أنه لا يغسل أحدهما صاحبه لكن ييممه مثل قول الجمهور في غير ذوي المحارم. والثالث الفرق بين الرجال والنساء: أعني تغسل المرأة الرجل ولا يغسل الرجل المرأة. فسبب المنع أن كل واحد منهما لا يحل له أن ينظر إلى موضع الغسل من صاحبه كالأجانب سواء. وسبب الإباحة أنه موضع ضرورة وهم أعذر في ذلك من الأجنبي. وسبب الفرق أن نظر الرجال إلى النساء أغلظ من نظر النساء إلى الرجال، بدليل أن النساء حجبن عن نظر الرجال إليهن ولم يحجب الرجال عن النساء. وأجمعوا من هذا الباب على جواز غسل المرأة زوجها. واختلفوا في جواز غسله إياها، فالجمهور على جواز ذلك؛ وقال أبو حنيفة: لا يجوز غسل الرجل لزوجته. وسبب اختلافهم هو تشبيه الموت بالطلاق، فمن شبهه بالطلاق قال: لا يحل أن ينظر إليها بعد الموت، ومن لم يشبهه بالطلاق وهم الجمهور قال: إن ما يحل له من النظر إليها قبل الموت يحل له بعد الموت، وإنما دعا أبا حنيفة أن يشبه الموت بالطلاق لأنه رأى أنه إذا ماتت إحدى الأختين حل له نكاح الأخرى، كالحال فيها إذا طلقت، وهذا فيه بعد، فإن علة منع الجمع مرتفعة بين الحي والميت، ولذلك حلت إلا أن يقال إن علة منع الجمع غير معقوله، وإن منع الجمع بين الأختين عبادة محضة غير معقولة المعنى، فيقوى حينئذ مذهب أبي حنيفة، وكذلك أجمعوا على أن المطلقة المبتوتة لا تغسل زوجها، واختلفوا في الرجعية، فروي عن مالك أنها تغسله، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال ابن القاسم: لا تغسله وإن كان الطلاق رجعيا وهو قياس قول مالك، لأنه ليس يجوز عنده أن يراها، وبه قال الشافعي. وسبب اختلافهم هو هل يحل للزوج أن ينظر إلى الرجعية أو لا ينظر إليها؟ وأما حكم الغاسل فإنهم اختلفوا فيما يجب عليه، فقال قوم: من غسل ميتا وجب عليه الغسل. وقال قوم: لا غسل عليه. وسبب اختلافهم معارضة حديث أبي هريرة لحديث أسماء، وذلك أن أبا هريرة روى عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ" خرجه أبو داود. وأما حديث أسماء فإنها لما غسلت أبا بكر رضي الله عنه خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين والأنصار وقالت إني صائمة، وإن هذا يوم شديد البرد فهل علي من غسل؟ قالوا: لا، وحديث أسماء في هذا صحيح. وأما حديث أبي هريرة فهو عند أكثر أهل العلم فيما حكى أبو عمر غير صحيح، لكن حديث أسماء ليس فيه في الحقيقة معارضة له، فإن من أنكر الشيء يحتمل أن يكون ذلك لأنه لم تبلغه السنة في ذلك الشيء، وسؤال أسماء والله أعلم يدل على الخلاف في ذلك في الصدر الأول، ولهذا كله قال الشافعي رضي الله عنه على عادته في الاحتياط والالتفات إلى الأثر لا غسل على من غسل الميت إلا أن يثبت حديث أبي هريرة. 4*الفصل الرابع في صفة الغسل. وفي هذا الفصل مسائل:

@-(إحداها) هل ينزع عن الميت قميصه إذا غسل؟ أم يغسل في قميصه؟ اختلفوا في ذلك، فقال مالك: إذا غسل الميت تنزع ثيابه وتستر عورته، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: يغسل في قميصه. وسبب اختلافهم تردد غسله عليه الصلاة والسلام في قميصه بين أن يكون خاصا به وبين أن يكون سنة فمن رأى أنه خاص به أنه لا يحرم من النظر إلى الميت إلا ما يحرم منه وهو حي قال: يغسل عريانا إلا عورته فقط التي يحرم النظر إليها في حال الحياة. ومن رأى أن ذلك سنة يستند إلى باب الإجماع أو إلى الأمر الإلهي، لأنه روي في الحديث أنهم سمعوا صوتا يقول لهم: لا تنزعوا القميص، وقد ألقي عليهم النوم قال: الأفضل أن يغسل الميت في قميصه. @-(المسألة الثانية) قال أبو حنيفة: لا يوضأ الميت. وقال الشافعي: يوضأ. وقال مالك: إن وضئ فحسن. وسبب الخلاف في ذلك معارضة القياس للأثر. وذلك أن القياس يقتضي أن لا وضوء على الميت، لأن الوضوء طهارة مفروضة لموضع العبادة، وإذا أسقطت العبادة عن الميت سقط شرطها الذي هو الوضوء ولولا أن الغسل ورد في الآثار لما وجب غسله. وظاهر حديث أم عطية الثابت أن الوضوء شرط في غسل الميت لأن فيه أن رسول الله ﷺ قال في غسل ابنته "ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها" وهذه الزيادة ثابتة خرجها البخاري ومسلم، ولذلك يجب أن تعارض بالروايات التي فيها الغسل مطلقا، لأن المقيد يقضي على المطلق، إذ فيه زيادة على ما يراه كثير من الناس، ويشبه أيضا أن يكون من أسباب الخلاف في ذلك معارضة المطلق للمقيد، وذلك أنه وردت آثار كثيرة فيها الأمر بالغسل مطلقا من غير ذكر وضوء فيها، فهؤلاء رجحوا الإطلاق على التقييد لمعارضة القياس له في هذا الموضع. والشافعي جرى على الأصل من حمل المطلق على المقيد. @-(المسألة الثالثة) اختلفوا في التوقيت في الغسل، فمنهم من أوجبه، ومنهم من استحسنه واستحبه. والذين أوجبوا التوقيت منهم من أوجب الوتر، أي وتر كان، وبه قال ابن سيرين. ومنهم من أوجب الثلاثة فقط، وهو أبو حنيفة. ومنهم من حد أقل الوتر في ذلك فقال: لا ينقص عن الثلاثه ولم يحد الأكثر وهو الشافعي. ومنهم من حد الأكثر في ذلك فقال: لا يتجاوز به السبعة، وهو أحمد بن حنبل. وممن قال باستحباب الوتر ولم يحد فيه حدا مالك بن أنس وأصحابه. وسبب الخلاف بين من شرط التوقيت ومن لم يشترطه بل استحبه معارضة القياس للأثر، وذلك أن ظاهر حديث أم عطية يقتضي التوقيت، لأن فيه "اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن" وفي بعض رواياته "أو سبعا". وأما قياس الميت على الحي في الطهارة فيقتضي أن لا توقيت فيها كما ليس في طهارة الحي توقيت، فمن رجح الأثر على النظر قال بالتوقيت. ومن رأى الجمع بين الأثر والنظر حمل التوقيت على الاستحباب. وأما الذين اختلفوا في التوقيت، فسبب اختلافهم ألفاظ الروايات في ذلك عن أم عطية. فأما الشافعي فإنه رأى أن لا ينقص عن ثلاثة لأنه أقل وتر نطق به في حديث أم عطية، ورأى أن ما فوق ذلك مباح لقوله عليه الصلاة والسلام "أو أكثر من ذلك إن رأيتن". وأما أحمد فأخذ بأكثر وتر نطق به في بعض روايات الحديث، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "أو سبعا". وأما أبو حنيفة فصار في قصره الوتر على الثلاث لما روي أن محمد بن سيرين كان يأخذ الغسل عن أم عطية "ثلاثا يغسل بالسدر مرتين والثالثة بالماء والكافور" وأيضا فإن الوتر الشرعي عنده إنما ينطلق على الثلاث فقط. وكان مالك يستحب أن يغسل في الأولى بالماء القراح، وفي الثانية بالسدر، وفي الثالثة بالماء والكافور. واختلفوا إذا خرج من بطنه حدث هل يعاد غسله أم لا؟ فقيل لا يعاد، وبه قال مالك، وقيل يعاد. والذين رأوا أنه يعاد اختلفوا في العدد الذي تجب به الإعادة إن تكرر خروج الحدث، فقيل يعاد الغسل عليه واحدة، وبه قال الشافعي. وقيل يعاد ثلاثا. وقيل يعاد سبعا. وأجمعوا على أنه لا يزاد على السبع شيء. واختلفوا في تقليم أظفار الميت والأخذ من شعره، فقال قوم: تقلم أظفاره ويؤخذ منه. وقال قوم: لا تقلم أظفاره ولا يؤخذ من شعره وليس فيه أثر. وأما سبب الخلاف في ذلك، فالخلاف الواقع في ذلك في الصدر الأول، ويشبه أن يكون سبب الخلاف في ذلك قياس الميت على الحي، فمن قاسه أوجب تقليم الأظفار وحلق العانة لأنها من سنة الحي باتفاق، وكذلك اختلفوا في عصر بطنه قبل أن يغسل. فمنهم من رأى ذلك، ومنهم من لم يره. فمن رآه رأى أن فيه ضربا من الاستنقاء من الحدث عند ابتداء الطهارة، وهو مطلوب من الميت كما هو مطلوب من الحي. ومن لم ير ذلك رأى أنه من باب تكليف ما لم يشرع، وأن الحي في ذلك بخلاف الميت. 3*الباب الثالث في الأكفان.

@-والأصل في هذا الباب أن رسول الله ﷺ كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة "وخرج أبو داود عن ليلى بنت قائف الثقفية قالت "كنت فيمت غسل أم كلثوم بنت رسول الله ﷺ، فكان أول ما أعطاني رسول الله ﷺ الحقو ثم الدرع ثم الخمار ثم الملحفة ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله ﷺ جالس عند الباب معه أكفانها يناولناها ثوبا ثوبا" فمن العلماء من أخذ بظاهر هذين الأثرين فقال: يكفن الرجل في ثلاثة أثواب والمرأة في خمسة أثواب، وبه قال الشافعي وأحمد وجماعة. وقال أبو حنيفة: أقل ما تكفن فيه المرأة ثلاثة أثواب، والسنة خمسة أثواب، وأقل ما يكفن فيه الرجل ثوبان، والسنة فيه ثلاثة أثواب. ورأى مالك أنه لا حد في ذلك، وأنه يجزئ ثوب واحد فيهما إلا أنه يستحب الوتر. وسبب اختلافهم في التوقيت اختلافهم في مفهوم هذين الأثرين، فمن فهم منهما الإباحة لم يقل بالتوقيت إلا أنه استحب الوتر لاتفاقهما في الوتر، ولم يفرق في ذلك بين المرأة والرجل، وكأنه فهم منهما الإباحة إلا في التوقيت، فإنه فهم منه شرعا لمناسبته للشرع، ومن فهم من العدد أنه شرع الإباحة قال بالتوقيت، إما على جهة الوجوب، وإما على جهة الاستحباب، وكله واسع إن شاء الله وليس فيه شرع محدود، ولعله تكلف شرع فيما ليس فيه شرع، وقد كفن مصعب بن عمير يوم أحد بنمرة فكانوا إذا غطوا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطوا بها رجليه خرج رأسه فقال رسول الله ﷺ "غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر" واتفقوا على أن الميت يغطى رأسه ويطيب إلا المحرم إذا مات في إحرامه فإنهم اختلفوا فيه، فقال مالك وأبو حنيفة: المحرم بمنزلة غير المحرم. وقال الشافعي: لا يغطى رأس المحرم إذا مات ولا يمس طيبا. وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص. فأما الخصوص فهو حديث ابن عباس قال "أتى النبي ﷺ برجل وقصته راحلته فمات وهو محرم فقال: كفنوه في ثوبين واغسلوه بماء وسدر ولا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة يلبي" وأما العموم فهو ما ورد من الأمر بالغسل مطلقا فمن خص من الأموات المحرم بهذا الحديث كتخصيص الشهداء بقتلى أحد جعل الحكم منه عليه الصلاة والسلام على الواحد حكما على الجميع، وقال: لا يغطى رأس المحرم ولا يمس طيبا. ومن ذهب مذهب الجمع لا مذهب الاستثناء والتخصيص قال: حديث الأعرابي خاص به لا يعدى إلى غيره. 3*الباب الرابع في صفة المشي مع الجنازة.

@-واختلفوا في سنة المشي مع الجنازة. فذهب أهل المدينة إلى أن من سنتها المشي أمامها. وقال الكوفيون وأبو حنيفة وسائرهم: إن المشي خلفها أفضل. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار التي روى كل واحد من الفريقين عن سلفه وعمل به، فروى مالك عن النبي عليه الصلاة والسلام مرسلا، المشي أمام الجنازة، وعن أبي بكر وعمر وبه قال الشافعي. وأخذ أهل الكوفة بما رووا عن علي بن أبي طالب من طريق عبد الرحمن بن أبزي قال: كنت أمشي مع علي في جنازة وهو آخذ بيدي وهو يمشي خلفها وأبو بكر وعمر يمشيان أمامها، فقلت له في ذلك فقال: إن فضل الماشي خلفها على الماشي أمامها كفضل صلاة المكتوبة على صلاة النافلة، وإنهما ليعلمان ذلك، ولكنهما سهلان يسهلان على الناس. وروي عنه رضي الله عنه أنه قال: قدمها بين يديك واجعلها نصب عينيك فإنما هي موعظة وتذكرة وعبرة، وبما روي أيضا عن ابن مسعود أنه كان يقول: سألنا رسول الله ﷺ عن السير مع الجنازة فقال "الجنازة متبوعة وليست بتابعة، وليس معها من يقدمها" وحديث المغيرة بن شعبة عن النبي ﷺ قال "الراكب يمشي أمام الجنازة والماشي خلفها وأمامها وعن يمينها، ويسارها قريبا منها" وحديث أبي هريرة أيضا في هذا المعنى قال "امشوا خلف الجنازة"، وهذه الأحاديث صار إليها الكوفيون وهي أحاديث يصححونها ويضعفها غيرهم. وأكثر العلماء على أن القيام إلى الجنازة منسوخ بما روى مالك من حديث علي بن أبي طالب "أن رسول الله ﷺ كان يقوم في الجنائز ثم جلس" وذهب قوم إلى وجوب القيام، وتمسكوا في ذلك بما روي من أمره ﷺ بالقيام لها كحديث عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله ﷺ "إذا رأيتم الجنائز فقوموا إليها حتى تخلفكم أو توضع" واختلف الذين رأوا أن القيام منسوخ في القيام على القبر في وقت الدفن، فبعضهم رأى أنه لم يدخل تحت النهي، وبعضهم رأى أنه داخل تحت النهي على ظاهر اللفظ، ومن أخرجه من ذلك احتج بفعل علي في ذلك، وذلك أنه روى النسخ، وقام على قبر ابن المكفف فقيل له ألا تجلس يا أمير المؤمنين؟ فقال: قليل لأخينا قيامنا على قبره. 3*الباب الخامس في الصلاة على الجنازة.

@-وهذه الجملة يتعلق بها بعد معرفة وجوبها فصول: أحدها في صفة صلاة الجنازة. والثاني: على من يصلي، ومن أولى بالصلاة. والثالث: في وقت هذه الصلاة. والرابع: في موضع هذه الصلاة. والخامس: في شروط هذه الصلاة. 4*الفصل الأول في صفة صلاة الجنازة. فأما صفة الصلاة فإنها يتعلق بها مسائل:

@-(المسألة الأولى) اختلفوا في عدد التكبير في الصدر الأول اختلافا كثيرا من ثلاث إلى سبع: أعني الصحابة رضي الله عنهم، ولكن فقهاء الأمصار على أن التكبير في الجنازة أربع، إلا ابن أبي ليلى وجابر بن زيد فإنهما كانا يقولون إنهما خمس. وسبب الاختلاف اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أنه روي من حديث أبي هريرة "أن رسول الله ﷺ نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات" وهو حديث متفق على صحته، ولذلك أخذ به جمهور فقهاء الأمصار، وجاء في هذا المعنى أيضا من "أنه عليه الصلاة والسلام صلى على قبر مسكينة فكبر عليها أربعا" وروى مسلم أيضا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال "كان زيد بن أرقم يكبر على الجنائز أربعا، وأنه كبر على جنازة خمسا، فسألناه فقال: كان رسول الله ﷺ يكبرها" وروي عن أبي خيثمة عن أبيه قال "كان النبي ﷺ يكبر على الجنائز أربعا وخمسا وستا وسبعا وثمانيا حتى مات النجاشي، فصف الناس وراءه وكبر أربعا، ثم ثبت ﷺ على أربع حتى توفاه الله" وهذا فيه حجة لائحة للجمهور. وأجمع العلماء على رفع اليدين في أول التكبير على الجنازة، واختلفوا في سائر التكبير، فقال قوم: يرفع؛ وقال قوم: لا يرفع. وروى الترمذي عن أبي هريرة "أن رسول الله ﷺ كبر في جنازة فرفع يديه في أول التكبير ووضع يده اليمنى على اليسرى" فمن ذهب إلى ظاهر هذا الأثر وكان مذهبه في الصلاة أنه لا يرفع إلا في أول التكبير قال: الرفع في أول التكبير. ومن قال يرفع في كل تكبير شبه التكبير الثاني بالأول، لأنه كله يفعل في حال القيام والاستواء. @-(المسألة الثانية) اختلف الناس في القراءة في صلاة الجنازة، فقال مالك وأبو حنيفة: ليس فيها قراءة إنما هو الدعاء. وقال مالك: قراءة فاتحة الكتاب فيها ليس بعمول به في بلدنا بحال قال: وإنما يحمد الله ويثني عليه بعد التكبيرة الأولى ثم يكبر الثانية فيصلي على النبي ﷺ، ثم يكبر الثالثة فيشفع للميت ثم يكبر الرابعة ويسلم. وقال الشافعي: يقرأ بعد التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب، ثم يفعل في سائر التكبيرات مثل ذلك، وبه قال أحمد وداود. وسبب اختلافهم معارضة العمل للأثر وهل يتناول أيضا اسم الصلاة صلاة الجنائز أم لا؟ أما العمل فهو الذي حكاه مالك عن بلده، وأما الأثر فما رواه البخاري عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب فقال: تعلموا أنها السنة، فمن ذهب إلى ترجيح هذا الأثر على العمل وكان اسم الصلاة يتناول عنده صلاة الجنازة وقد قال ﷺ "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" رأى قراءة فاتحة الكتاب فيها. ويمكن أن يحتج لمذهب مالك بظواهر الآثار التي نقل فيها دعاؤه عليه الصلاة والسلام على الجنائز، ولم ينقل فيها أنه قرأ، وعلى هذا فتكون تلك الآثار كأنها معارضة لحديث ابن عباس ومخصصة لقوله "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وذكر الطحاوي عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال وكان من كبراء الصحابة وعلمائهم وأبناء الذين شهدوا بدرا: أن رجلا من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أخبره أن السنة في الصلاة على الجنائز أن يكبر الإمام ثم يقرأ فاتحة الكتاب سرا في نفسه، ثم يخلص الدعاء في التكبيرات الثلاث. قال ابن شهاب: فذكرت الذي أخبر به أبو أمامة من ذلك لمحمد بن سويد الفهري فقال: وأنا سمعت الضحاك بن قيس يحدث عن حبيب بن مسلمة في الصلاة على الجنائز بمثل ما حدثك به أبو أمامة. @-(المسألة الثالثة) واختلفوا في التسليم من الجنازة هل هو واحد أو اثنان؟ فالجمهور على أنه واحد؛ وقالت طائفة وأبو حنيفة: يسلم تسليمتين، واختاره المزني من أصحاب الشافعي، وهو أحد قولي الشافعي. وسبب اختلافهم اختلافهم في التسليم من الصلاة، وقياس صلاة الجنائز على الصلاة المفروضة، فمن كانت عنده التسليمة واحدة في الصلاة المكتوبة وقاس صلاة الجنازة عليها قال بواحدة. ومن كانت عنده تسليمتين في الصلاة المفروضة قال: هنا بتسليمتين إن كانت عنده تلك سنة فهذه سنة، وإن كانت فرضا فهذه فرض وكذلك اختلف المذهب هل يجهر فيها أو لا يجهر بالسلام؟. @-(المسألة الرابعة) واختلفوا أين يقوم الإمام من الجنازة، فقال جملة من العلماء: يقوم في وسطها ذكرا كان أو أنثى؛ وقال قوم آخرون: يقوم من الأنثى وسطها ومن الذكر عند رأسه؛ ومنهم من قال: يقوم من الذكر والأنثى عند صدرهما، وهو قول ابن القاسم وقول أبي حنيفة، وليس عند مالك والشافعي في ذلك حد؛ وقال قوم: يقوم منهما أين شاء. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه خرج البخاري ومسلم من حديث سمرة بن جندب قال "صليت خلف رسول الله ﷺ على أم كعب ماتت وهي نفساء، فقام رسول الله ﷺ للصلاة على وسطها" وخرج أبو داود من حديث همام بن غالب قال: "صليت مع أنس بن مالك على جنازة رجل فقام حيال رأسه، ثم جاءوا بجنازة امرأة فقالوا يا أبا حمزة صل عليها، فقام حيال وسط السرير، فقال العلاء بن زياد، هكذا رأيت رسول الله ﷺ يصلي على الجنائز كبر أربعا وقام على جنازة المرأة مقامك منها ومن الرجل مقامك منه، قال نعم، فاختلف الناس في المفهوم من هذه الأفعال، فمنهم من رأى أن قيامه عليه الصلاة والسلام في هذه المواضع المختلفة يدل على الإباحة وعلى عدم التحديد. ومنهم من رأى أن قيامه على أحد هذه الأوضاع أنه شرع وأنه يدل على التحديد، وهؤلاء انقسموا قسمين: فمنهم من أخذ بحديث سمرة بن جندب للاتفاق على صحته فقال: المرأة في ذلك والرجل سواء، لأن الأصل أن حكمهما واحد إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي؛ ومنهم من صحح حديث ابن غالب وقال فيه زيادة على حديث سمرة بن جندب فيجب المصير إليها، وليس بينهما تعارض أصلا. وأما مذهب ابن القاسم وأبي حنيفة فلا أعلم له من جهة السمع في ذلك مسندا إلا ما روي عن ابن مسعود من ذلك. @-(المسألة الخامسة) واختلفوا في ترتيب جنائز الرجال والنساء إذا اجتمعوا عند الصلاة، فقال الأكثر: يجعل الرجال مما يلي الإمام، والنساء مما يلي القبلة. وقال قوم بخلاف هذا: أي النساء مما يلي الإمام، والرجال مما يلي القبلة؛ وفيه قول ثالث أنه يصلي كل على حدة الرجال مفردون والنساء مفردات. وسبب الخلاف ما يغلب على الظن باعتبار أحوال الشرع من أنه يجب أن يكون في ذلك شرع محدود، مع أنه لم يرد في ذلك شرع يجب الوقوف عنده، ولذلك رأى كثير من الناس أنه ليس في أمثال هذه المواضع شرع أصلا. وأنه لو كان فيها شرع لبين للناس، وإنما ذهب الأكثر لما قلناه من تقديم الرجال على النساء لما رواه مالك في الموطأ من أن عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وأبا هريرة كانوا يصلون على الجنائز بالمدينة الرجال والنساء معا، فيجعلون الرجال مما يلي الإمام، ويجعلون النساء مما يلي القبلة. وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر أنه صلى كذلك على جنازة فيها ابن عباس وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وأبو قتادة والإمام يومئذ سعيد بن العاص، فسألهم عن ذلك، أو أمر من سألهم فقالوا: هي السنة، وهذا يدخل في المسند عندهم، ويشبه أن يكون من قال بتقديم الرجال شبههم أمام الإمام بحالهم خلف الإمام في الصلاة، ولقوله عليه الصلاة والسلام "أخروهن من حيث أخرهن الله". وأما من قال بتقديم النساء على الرجال فيشبه أن يكون اعتقد أن الأول هو المقدم ولم يجعل التقديم بالقرب من الإمام. وأما من فرق فاحتياطا من أن لا يجوز ممنوعا، لأنه لم ترد سنة بجواز الجمع، فيحتمل أن يكون على أصل الإباحة، ويحتمل أن يكون ممنوعا بالشرع، وإذا وجد الاحتمال وجب التوقف إذا وجد إليه سبيلا. @-(المسألة السادسة) واختلفوا في الذي يفوته بعض التكبير على الجنازة في مواضع: منها هل يدخل بتكبير أم لا؟ ومنها هل يقضي ما فاته أم لا؟ وإن قضى فهل يدعو بين التكبير أم لا؟ فروى أشهب عن مالك أنه يكبر أول دخوله، وهو أحد قولي الشافعي. وقال أبو حنيفة: ينتظر حتى يكبر الإمام وحينئذ يكبر، وهي رواية ابن القاسم عن مالك، والقياس التكبير قياسا على من دخل في المفروضة. واتفق مالك وأبو حنيفة والشافعي على أنه يقضي ما فاته من التكبير إلا أن أبا حنيفة يرى أن يدعو بين التكبير المقضي ومالك والشافعي يريان أن يقضيه نسقا، وإنما اتفقوا على القضاء لعموم قوله عليه الصلاة والسلام "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" فمن رأى أن هذا العموم يتناول التكبير والدعاء قال: يقتضي التكبير وما فاته من الدعاء، ومن أخرج الدعاء من ذلك إذ كان غير مؤقت قال: يقضي التكبير فقط إذ كان هو المؤقت، فكان تخصيص الدعاء من ذلك العموم هو من باب تخصيص العام بالقياس، فأبو حنيفة أخذ بالعموم وهؤلاء بالخصوص. @-(المسألة السابعة) واختلفوا في الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الجنازة فقال مالك: لا يصلى على القبر؛ وقال أبو حنيفة: لا يصلي على القبر إلا الولي فقط إذا فاتته الصلاة على الجنازة، وكان الذي صلى عليها غير وليها؛ وقال الشافعي وأحمد وداود وجماعة: يصلي على القبر من فاتته الصلاة على الجنازة؛ واتفق القائلون بإجازة الصلاة على القبر أن من شرط ذلك حدوث الدفن، وهؤلاء اختلفوا في هذه المدة وأكثرها شهر. وسبب اختلافهم معارضة العمل للأثر. أما مخالفة العمل فإن ابن القاسم قال: قلت لمالك فالحديث الذي جاء عن النبي ﷺ أنه صلى على قبر امرأة قال: قد جاء هذا الحديث وليس عليه العمل، والصلاة على القبر ثابتة باتفاق من أصحاب الحديث، قال أحمد بن حنبل: رويت الصلاة على القبر عن النبي عليه الصلاة والسلام من طرق ستة كلها حسان. وزاد بعض المحدثين ثلاثة طرق فذلك تسع. وأما البخاري ومسلم فرويا ذلك من طريق أبي هريرة. وأما مالك فخرجه مرسلا عن أبي أمامة بن سهل. وقد روى ابن وهب عن مالك مثل قول الشافعي، وأما أبو حنيفة فإنه جرى في ذلك على عادته فيما أحسب، أعني من رد أخبار الآحاد التي تعم بها البلوى إذا لم تنتشر ولا انتشر العمل بها، وذلك أن عدم الانتشار إذا كان خبرا شأنه شأن الانتشار قرينة توهن الخبر وتخرجه عن غلبة الظن بصدقه إلى الشك فيه أو إلى غلبة الظن بكذبه أو نسخه: قال القاضي: وقد تكلمنا فيما سلف من كتابنا هذا في وجه الاستدلال بالعمل، وفي هذا النوع من الاستدلال الذي يسميه الحنفية عموم البلوى، وقلنا: إنها من جنس واحد. 4*الفصل الثاني فيمن يصلي عليه ومن أولى بالتقديم.

@-وأجمع أكثر أهل العلم على إجازة الصلاة على كل من قال لا إله إلا الله، وفي ذلك أثر أنه قال عليه الصلاة والسلام "صلوا على من قال لا إله إلا الله" وسواء كان من أهل الكبائر أو من أهل البدع، إلا أن مالكا كره لأهل الفضل الصلاة على أهل البدع، ولم ير أن يصلي الإمام على من قتله حدا. واختلفوا فيمن قتل نفسه، فرأى قوم أنه لا يصلى عليه، وأجاز آخرون الصلاة عليه، ومن العلماء من لم يجز الصلاة على أهل الكبائر ولا على أهل البغي والبدع. والسبب في اختلافهم في الصلاة، أما في أهل البدع فلاختلافهم في تكفيرهم ببدعهم، فمن كفرهم بالتأويل البعيد لم يجز الصلاة عليهم، ومن لم يكفرهم إذ كان الكفر عنده إنما هو تكذيب الرسول لا تأويل أقواله عليه الصلاة والسلام قال: الصلاة عليهم جائزة، وإنما أجمع العلماء على ترك الصلاة على المنافقين مع تلفظهم بالشهادة لقوله تعالى {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} الآية. وأما اختلافهم في أهل الكبائر فليس يمكن أن يكون له سبب إلا من جهة اختلافهم في القول في التكفير بالذنوب لكن ليس هذا مذهب أهل السنة، فلذلك ليس ينبغي أن يمنع الفقهاء الصلاة على أهل الكبائر. وأما كراهية مالك الصلاة على أهل البدع فذلك لمكان الزجر والعقوبة لهم، وإنما لم ير مالك صلاة الإمام على من قتله حدا "لأن رسول الله ﷺ لم يصل على ما عز ولم ينه عن الصلاة عليه" خرجه أبو داود، وإنما اختلفوا في الصلاة على من قتل نفسه لحديث جابر بن سمرة "أن رسول الله ﷺ أبى أن يصلي على رجل قتل نفسه" فمن صحح هذا الأثر قال: لا يصلى على قاتل نفسه، ومن لم يصححه رأى أن حكمه حكم المسلمين وإن كان من أهل النار كما ورد به الأثر، لكن ليس هو من المخلدين لكونه من أهل الإيمان، وقد قال عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه "أخرجوا من النار من في قلبه مثقال حبة من الإيمان" واختلفوا أيضا في الصلاة على الشهداء المقتولين في المعركة، فقال مالك والشافعي لا يصلى على الشهيد المقتول في المعركة ولا يغسل، وقال أبو حنيفة: يصلى عليه ولا يغسل. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار الواردة في ذلك، وذلك أنه خرج أبو داود من طريق جابر "أنه ﷺ أمر بشهداء أحد فدفنوا بثيابهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا" وروى من طريق ابن عباس مسندا "أنه عليه الصلاة والسلام صلى على قتلى أحد وعلى حمزة ولم يغسل ولم يتيمم" وروى ذلك أيضا مرسلا من حديث أبي مالك الغفاري، وكذلك روى أيضا أن أعرابيا جاءه سهم فوقع في حلقه فمات، فصلى النبي ﷺ وقال: "إن هذا عبد خرج مجاهدا في سبيلك فقتل شهيدا وأنا شهيد عليه" وكلا الفريقين يرجح الأحاديث التي أخذ بها، وكانت الشافعية تعتل بحديث ابن عباس هذا وتقول: يرويه ابن أبي الزناد وكان قد اختل آخر عمره، وقد كان شعبة يطعن فيه؛ وأما المراسيل فليست عندهم بحجة واختلفوا متى يصلى على الطفل فقال مالك: لا يصلى على الطفل حتى يستهل صارخا، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة يصلي عليه إذا نفخ فيه الروح، وذلك أنه إذا كان له في بطن أمه أربعة أشهر فأكثر، وبه قال ابن أبي ليلى. وسبب اختلافهم في ذلك معارضة المطلق للمقيد، وذلك أنه روى الترمذي عن جابر بن عبد الله عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "الطفل لا يصلى عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل صارخا" وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث المغيرة بن شعبة أنه قال "الطفل يصلى عليه" فمن ذهب مذهب حديث جابر قال: ذلك عام وهذا مفسر، فالواجب أن يحمل ذلك العموم على هذا التفسير، فيكون معنى حديث المغيرة أن الطفل يصلى عليه إذا استهل صارخا، ومن ذهب مذهب حديث المغيرة قال: معلوم أن المعتبر في الصلاة وهو حكم الإسلام والحياة والطفل إذا تحرك فهو حي وحكمه حكم المسلمين، وكل مسلم حي إذا مات صلى عليه، فرجحوا هذا العموم على ذلك الخصوص لموضع موافقة القياس له ومن الناس من شذ وقال: لا يصلى على الأطفال أصلا. وروى أبو داود "أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصل على ابنه إبراهيم وهو ابن ثمانية أشهر" وروي فيه "أنه صلى عليه وهو ابن سبعين ليلة" واختلفوا في الصلاة على الأطفال المسبيين، فذهب مالك في رواية البصرين عنه أن الطفل من أولاد الحربيين لا يصلى عليه حتى يعقل الإسلام سواء سبى مع أبويه أو لم يسب معهما، وأن حكمه حكم أبويه إلا أن يسلم الأب فهو تابع له دون الأم، ووافقه الشافعي على هذا إلا أنه إن أسلم أحد أبويه فهو عنده تابع لمن أسلم منهما لا للأب وحده على ما ذهب إليه مالك. وقال أبو حنيفة: يصلى على الأطفال المسبيين، وحكمهم حكم من سباهم. وقال الأوزاعي: إذا ملكهم المسلمون صلى عليهم: يعني إذا بيعوا في السبي. قال: وبهذا جرى العمل في الثغر وبه الفتيا فيه. وأجمعوا على أنه إذا كانوا مع آبائهم ولم يملكهم مسلم ولا أسلم أحد أبويهم أن حكمهم حكم آبائهم. والسبب في اختلافهم اختلافهم في أطفال المشركين هل هم من أهل الجنة أو من أهل النار؟ وذلك أنه جاء في بعض الآثار أنهم من آبائهم: أي أن حكمهم حكم آبائهم ودليل قوله عليه الصلاة والسلام "كل مولود يولد على الفطرة" أن حكمهم حكم المؤمنين. وأما من أولى بالتقديم للصلاة على الجنازة فقيل الولي وقيل الوالي، فمن قال الوالي شبهه بصلاة الجمعة من حيث هي صلاة جماعة، ومن قال الولي شبهها بسائر الحقوق التي الولي أحق بها، مثل مواراته ودفنه، وأكثر أهل العلم على أن الوالي بها أحق. قال أبو بكر بن المنذر: وقدم الحسين بن علي سعيد بن العاص وهو والي المدينة ليصلي على الحسن بن علي وقال: لولا أنها سنة ما تقدمت، قال أبو بكر: وبه أقول وأكثر العلماء على أنه لا يصلى إلا على الحاضر. وقال بعضهم يصلى على الغائب لحديث النجاشي، والجمهور على أن ذلك خاص بالنجاشي وحده. واختلفوا هل يصلى على بعض الجسد والجمهور على أنه يصلى على أكثره لتناول اسم الميت له، ومن قال أنه يصلى على أقله قال: لأن حرمة البعض كحرمة الكل، لاسيما إن كان ذلك البعض محل الحياة، وكان ممن يجيز الصلاة على الغائب. 3*الفصل الثالث في وقت الصلاة على الجنازة:

@-واختلفوا في الوقت الذي تجوز فيه الصلاة على الجنازة، فقال قوم: لا يصلى عليها في الأوقات الثلاثة التي ورد النهي عن الصلاة فيها، وهي وقت الغروب والطلوع وزوال الشمس على ظاهر حديث عقبة بن عامر "ثلاث ساعات كان رسول الله ﷺ ينهانا أن نصلي فيها وأن نقبر موتانا" الحديث. وقال قوم: لا يصلى في الغروب والطلوع فقط، ويصلى بعد العصر ما لم تصفر الشمس، وبعد الصبح ما لم يكن الإسفار. وقال قوم: لا يصلى على الجنازة في الأوقات الخمسة التي ورد النهي عن الصلاة فيها، وبه قال عطاء والنخعي وغيرهم، وهو قياس قول أبي حنيفة. وقال الشافعي: يصلى على الجنازة في كل وقت لأن النهي عنده إنما هو خارج على النوافل لا على السنن على ما تقدم. 4*الفصل الرابع في مواضع الصلاة.

@-واختلفوا في الصلاة على الجنازة في المسجد فأجازها العلماء وكرهها بعضهم منهم أبو حنيفة وبعض أصحاب مالك، وقد روي كراهية ذلك عن مالك، وتحقيقه إذا كانت الجنازة خارج المسجد والناس في المسجد. وسبب الخلاف في ذلك حديث عائشة وحديث أبي هريرة. أما حديث عائشة فما رواه مالك من أنها أمرت أن يمر عليها بسعد بن أبي وقاص في المسجد حين مات لتدعو له، فأنكر الناس عليها ذلك، فقالت عائشة: ما أسرع ما نسي الناس، ما صلى رسول الله ﷺ على سهل بن بيضاء إلا في المسجد. وأما حديث أبي هريرة، فهو أن رسول الله ﷺ قال: "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له" وحديث عائشة ثابت وحديث أبي هريرة غير ثابت أو غير متفق على ثبوته، لكن إنكار الصحابة على عائشة يدل على اشتهار العمل بخلاف ذلك عندهم، ويشهد لذلك بروزه ﷺ للمصلى لصلاته على النجاشي، وقد زعم بعضهم أن سبب المنع في ذلك هو أن ميت بني آدم ميتة، وفيه ضعف، لأن حكم الميتة شرعي، ولا يثبت لابن آدم حكم الميتة إلا بدليل، وكره بعضهم الصلاة على الجنائز في المقابر للنهي الوارد عن الصلاة فيها، وأجازها الأكثر لعموم قوله عليه الصلاة والسلام "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا". 4*الفصل الخامس في شروط الصلاة على الجنازة.

@-واتفق الأكثر على أن من شرطها الطهارة كما اتفق جميعهم على أن من شرطها القبلة. واختلفوا في جواز التيمم لها إذا خيف فواتها، فقال قوم: يتيمم ويصلى لها إذا خاف الفوات، وبه قال أبو حنيفة وسفيان والأوزاعي وجماعة؛ وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يصلى عليها بتيمم. وسبب اختلافهم قياسها في ذلك على أن الصلاة المفروضة فمن شبهها بها أجاز التيمم، أعني من شبه ذهاب الوقت بفوات الصلاة على الجنازة، ومن لم يشبهها بها لم يجز التيمم لأنها عنده من فروض الكغاية أو من سنن الكفاية على اختلافهم في ذلك، وشذ قوم فقالوا: يجوز أن يصلى على الجنازة بغير طهارة، وهو قول الشعبي، وهؤلاء ظنوا أن اسم الصلاة لا يتناول صلاة الجنازة، وإنما يتناولها اسم الدعاء إذ كان ليس فيها ركوع ولا سجود. 3*الباب السادس في الدفن.

@-وأجمعوا على وجوب الدفن، والأصل فيه قوله تعالى {ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا} وقوله {فبعث الله غرابا يبحث في الأرض} وكره مالك والشافعي تجصيص القبور، وأجاز ذلك أبو حنيفة، وكذلك كره قوم القعود عليها، وقوم أجازوا ذلك وتأولوا النهي عن ذلك أنه القعود عليها لحاجة الإنسان والآثار الواردة في النهي عن ذلك، منها حديث جابر بن عبد الله قال "نهى رسول الله ﷺ عن تجصيص القبور والكتابة عليها والجلوس عليها والبناء عليها" ومنها حديث عمرو بن حزم قال "رآني رسول الله ﷺ على قبر فقال: انزل عن القبر ولا تؤذي صاحب القبر ولا يؤذيك" واحتج من أجاز القعود على القبر بما روي عن زيد بن ثابت أنه قال "إنما نهى رسول الله ﷺ عن الجلوس على القبور لحدث أو غائط أو بول" قالوا: ويؤيد ذلك ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ "من جلس على قبر يبول أو يتغوط فكأنما جلس على جمرة نار" وإلى هذا ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي.

=====

 

 

 

 

 

 

 

 

كتاب الزكاة @-والكلام المحيط بهذه العبادة بعد معرفة وجوبها ينحصر في خمس جمل: الجملة الأولى: في معرفة من تجب عليه. الثانية: في معرفة ما تجب فيه من الأموال. الثالثة: في معرفة كم تجب ومن كم تجب. الرابعة: في معرفة متى تجب ومتى لا تجب. الخامسة: معرفة لمن تجب وكم يجب له. @-(فأما معرفة وجوبها) فمعلوم من الكتاب والسنة والإجماع ولا خلاف في ذلك. 3*(الجملة الأولى)

@-وأما على من تجب فإنهم اتفقوا أنها على كل مسلم حر بالغ عاقل مالك النصاب ملكا تاما. واختلفوا في وجوبها على اليتيم والمجنون والعبيد وأهل الذمة والناقص الملك مثل الذي عليه دين أو له الدين، ومثال المال المحبس الأصل. فأما الصغار فإن قوما قالوا: تجب الزكاة في أموالهم، وبه قال علي وابن عمر وجابر وعائشة من الصحابة ومالك والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم من فقهاء الأمصار. وقال قوم: ليس في مال اليتيم صدقة أصلا، وبه قال النخعي والحسن وسعيد بن جبير من التابعين. وفرق قوم بين ما تخرج الأرض وبين ما لا تخرجه فقالوا: عليه الزكاة فيما تخرجه الأرض، وليس عليه زكاة فيما عدا ذلك من الماشية والناض والعروض وغير ذلك، وهو أبو حنيفة وأصحابه. وفرق آخرون بين الناض فقالوا: عليه الزكاة إلا في الناض. وسبب اختلافهم في إيجاب الزكاة عليه أو لا إيجابها هو اختلافهم في مفهوم الزكاة الشرعية هل هي عبادة كالصلاة والصيام؟ أم هي حق واجب للفقراء على الأغنياء؟ فمن قال أنها عبادة اشترط فيها البلوغ، ومن قال أنها حق واجب للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء لم يعتبر في ذلك بلوغا من غيره. وأما من فرق بين ما تخرجه الأرض أو لا تخرجه وبين الخفي والظاهر فلا أعلم له مستندا في هذا الوقت. وأما أهل الذمة فإن الأكثر على أن لا زكاة على جميعهم إلا ما روت طائفة من تضعيف الزكاة على نصارى بني تغلب، أعني أن يؤخذ منهم مثلا ما يؤخذ من المسلمين في كل شيء، وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري، وليس عن مالك في ذلك قول، وإنما صار هؤلاء لهذا لأنه أثبت أنه فعل عمر بن الخطاب بهم، وكأنهم رأوا أن مثل هذا هو توقيف ولكن الأصول تعارضه. وأما العبيد فإن الناس فيهم على ثلاثة مذاهب: فقوم قالوا: لا زكاة في أموالهم أصلا، وهو قول ابن عمر وجابر من الصحابة ومالك وأحمد وأبي عبيد من الفقهاء. وقال آخرون: بل زكاة مال العبد على سيده، وبه قال الشافعي فيما حكاه ابن المنذر والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، وأوجبت طائفة أخرى على العبد في ماله الزكاة، وهو مروي عن ابن عمر من الصحابة، وبه قال عطاء من التابعين وأبو ثور من الفقهاء وأهل الظاهر وبعضهم، وجمهور من قال لا زكاة في مال العبد هم على أن لا زكاة في مال المكاتب حتى يعتق. وقال أبو ثور: في مال المكاتب زكاة. وسبب اختلافهم في زكاة مال العبد اختلافهم في هل يملك العبد ملكا تاما أو غير تام؟ فمن رأى أنه لا يملك ملكا تاما وأن السيد هو المالك إذ كان لا يخلو مال من مالك قال: الزكاة على السيد، ومن رأى أنه لواحد منهما يملكه ملكا تاما لا السيد إذ كانت يد العبد هي التي عليه لا يد السيد ولا العبد أيضا، لأن للسيد انتزاعه منه قال: لا زكاة في ماله أصلا. ومن رأى أن اليد على المال توجب الزكاة فيه لمكان تصرفها فيه تشبيها بتصرف يد الحر قال: الزكاة عليه لا سيما من كان عنده أن الخطاب العام يتناول الأحرار والعبيد، وأن الزكاة عبادة تتعلق بالمكلف لتصرف اليد في المال. وأما المالكون الذين عليهم الديون التي تستغرق أموالهم، أو تستغرق ما تجب فيه الزكاة من أموالهم وبأيديهم أموال تجب فيها الزكاة، فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال قوم: لا زكاة في مال حيا كان أو غيره حتى تخرج منه الديون، فإن بقي ما تجب فيه الزكاة زكى وإلا فلا، وبه قال الثوري وأبو ثور وابن مبارك وجماعة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الدين لا يمنع زكاة الحبوب ويمنع ما سواها. وقال مالك: الدين يمنع الزكاة الناض فقط إلا أن يكون له عروض فيها وفاء من دينه فإنه لا يمنع. وقال قوم: بمقابل القول الأول، وهو أن الدين لا يمنع زكاة أصلا. والسبب في اختلافهم اختلافهم هل الزكاة عبادة أو حق مرتب في المال للمساكين؟ فمن رأى أنها حق لهم قال: لا زكاة في مال من عليه الدين، لأن حق صاحب الدين متقدم بالزمان على حق المساكين، وهو في الحقيقة مال صاحب الدين لا الذي المال بيده. ومن قال هي عبادة قال: تجب على من بيده مال لأن ذلك هو شرط التكليف، وعلامته المقتضية الوجوب على المكلف سواء كان عليه دين أو لم يكن؛ وأيضا فإنه تعارض هنالك حقان: حق لله، وحق للآدمي، وحق الله أحق أن يقضى، والأشبه بغرض الشرع إسقاط الزكاة عن المديان لقوله عليه الصلاة والسلام فيها "صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم" والمدين ليس بغني. وأما من فرق بين الحبوب وغير الحبوب وبين الناض وغير الناض فلا أعلم له شبهة بينة، وقد كان أبو عبيد يقول: إنه إن كان لا يعلم أن عليه دينا إلا بقوله لم يصدق، وإن علم أن عليه دينا لم يؤخذ منه، وهذا ليس خلافا لمن يقول بإسقاط الدين الزكاة، وإنما هو خلاف لمن يقول: يصدق في الدين كما يصدق في المال. وأما المال الذي هو في الذمة، أعني في ذمة الغير وليس هو بيد المالك وهو الدين فإنهم اختلفوا فيه أيضا، فقوم قالوا: لا زكاة فيه وإن قبض حتى يستكمل شرط الزكاة عند القابض له، وهو الحول، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال الليث، أو هو قياس قوله؛ وقوم قالوا: إذا قبضه زكاة لما مضى من السنين. وقال مالك: يزكيه لحول واحد وإن أقام عند المديان سنين إذا كان أصله عن عوض. وأما إذا كان عن غير عوض مثل الميراث فإنه يستقبل به الحول، وفي المذهب تفصيل في ذلك ومن هذا الباب اختلافهم في زكاة الثمار المحبوسة الأصول، وفي زكاة الأرض المستأجرة على من تجب زكاة ما يخرج منها؟ هل على صاحب الأرض أو صاحب الزرع؟ ومن ذلك اختلافهم في أرض الخراج إذا انتقلت من أهل الخراج إلى المسلمين وهم أهل العشر، وفي الأرض العشر وهي أرض المسلمين إذا انتقلت إلى الخراج، وأعني أهل الذمة، وذلك أنه يشبه أن يكون سبب الخلاف في هذا كله أنها أملاك ناقصة. @-(وأما المسألة الأولى) وهي زكاة الثمار المحبسة الأصول فإن مالكا والشافعي كانا يوجبان فيها الزكاة، وكان مكحول وطاوس يقولان لا زكاة فيها، وفرق قوم بين أن تكون محبسة على المساكين وبين أن تكون على قوم أعيانهم فأوجبوا فيها الصدقة إذا كانت على قوم بأعيانهم، ولم يوجبوا فيها الصدقة إذا كانت على المساكين، ولا معنى لمن أوجبها على المساكين لأنه يجتمع في ذلك شيئان اثنان: أحدهما أنها ملك ناقص، والثانية أنها على قوم غير معينين من الصنف الذين تصرف إليهم الصدقة لا من الذين تجب عليهم. @-(وأما المسألة الثانية) وهي الأرض المستأجرة على من تجب زكاة ما تخرجه فإن قوما قالوا: الزكاة على صاحب الزرع، وبه قال مالك والشافعي والثوري وابن مبارك وأبو ثور وجماعة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: الزكاة على رب الأرض وليس على المستأجر منه شيء. والسبب في اختلافهم هل العشر حق الأرض أو حق الزرع أو حق مجموعهما؟ إلا أنه لم يقل أحد إنه حق لمجموعهما وهو في الحقيقة حق مجموعهما، فلما كان عندهم أنه حق لأحد الأمرين اختلفوا في أيهما هو أولى أن ينسب إلى الموضع الذي فيه الاتفاق، وهو كون الزرع والأرض لمالك واحد، فذهب الجمهور إلى أنه للشيء الذي تجب فيه الزكاة وهو الحب. وذهب أبو حنيفة إلى أنه للشيء الذي هو أصل الوجوب وهو الأرض. وأما اختلافهم في أرض الخراج إذا انتقلت إلى المسلمين هل فيها عشر مع الخراج أم ليس فيها عشر؟ فإن الجمهور على أن فيها العشر: أعني الزكاة. قال أبو حنيفة وأصحابه: ليس فيها عشر. وسبب اختلافهم كما قلنا هل الزكاة حق الأرض، أو حق الحب؟ فإن قلنا إنه حق الأرض لم يجتمع فيها حقان: وهما العشر والخراج، وإن قلنا: الزكاة حق الحب كان الخراج حق الأرض، والزكاة حق الحب، وإنما يجيء هذا الخلاف فيها لأنها ملك ناقص كما قلنا ولذلك اختلف العلماء في جواز بيع أرض الخراج. وأما إذا انتقلت أرض العشر إلى الذمي يزرعها، فإن الجمهور على أنه ليس فيها شيء. وقال النعمان: إذا اشترى الذمي أرض عشر تحولت أرض خراج، فكأنه رأى أن العشر هو حق أرض المسلمين، والخراج هو حق أرض الذميين، لكن كان يجب على هذا الأصل إذا انتقلت أرض الخراج إلى المسلمين أن تعود أرض عشر كما أن عنده إذا انتقلت أرض العشر إلى الذمي عادت أرض خراج، ويتعلق بالمالك مسائل أليق المواضع بذكرها هو هذا الباب: أحدها إذا أخرج المرء الزكاة فضاعت. والثانية إذا أمكن إخراجها فهلك بعض المال قبل الإخراج. والثالثة إذا مات وعليه زكاة. والرابعة إذا باع الزرع أو الثمر وقد وجبت فيه الزكاة على من الزكاة، وكذلك إذا وهبه. @-(فأما المسألة الأولى) وهي إذا أخرج الزكاة فضاعت، فإن قوما قالوا: تجزى عنه؛ وقوم قالوا: هو لها ضامن حتى يضعها موضعها؛ وقوم فرقوا بين أن يخرجها بعد أن أمكنه إخراجها، وبين أن يخرجها أول زمان الوجوب والإمكان، فقال بعضهم: إن أخرجها بعد أيام من الإمكان والوجوب ضمن وإن أخرجها في أول الوجوب ولم يقع منه تفريط لم يضمن وهو مشهور مذهب مالك؛ وقوم قالوا: إن فرط ضمن وإن لم يفرط زكى ما بقي، وبه قال أبو ثور والشافعي، وقال قوم: بل يعد الذاهب من الجميع ويبقى المساكين ورب المال شريكين في الباقي بقدر حظهما من حظ رب المال، مثل الشريكين يذهب بعض المال المشترك بينهما ويبقيان شريكين على تلك النسبة في الباقي، فيتحصل في المسألة خمسة أقوال: قول إنه لا يضمن بإطلاق، وقول إنه يضمن بإطلاق، وقول إن فرط ضمن وإن لم يفرط لم يضمن، وقول إن فرط ضمن وإن لم يفرط زكى ما بقي، والقول الخامس يكونان شريكين في الباقي. @-(وأما المسألة الثانية) إذا ذهب بعض المال بعد الوجوب وقبل تمكن إخراج الزكاة؛ فقوم قالوا: يزكى ما بقي؛ وقوم قالوا: حال المساكين وحال رب المال حال الشريكين يضيع بعض مالهما. والسبب في اختلافهم تشبيه الزكاة بالديون، أعني أن يتعلق الحق فيها بالذمة لا بعين المال، أو تشبيهها بالحقوق التي تتعلق بعين المال لا بذمة الذي يده على المال كالأمناء وغيرهم. فمن شبه مالكي الزكاة بالأمناء قال: إذا اخرج فهلك المخرج فلا شيء عليه؛ ومن شبههم بالغرماء قال: يضمنون؛ ومن فرق بين التفريط ولا تفريط ألحقهم بالأمناء من جميع الوجوه إذا كان الأمين يضمن إذا فرط. وأما من قال: إذا لم يفرط زكى ما بقي فإنه شبه من هلك بعض ماله بعد الإخراج بمن ذهب بعض ماله قبل وجوب الزكاة فيه، كما أنه إذا وجبت الزكاة عليه فإنما يزكى الموجود فقط، وكذلك هذا إنما يزكى الموجود من ماله فقط. وسبب الاختلاف هو تردد شبه المالك بين الغريم والأمين والشريك ومن هلك بعض ماله قبل الوجوب. وأما إذا وجبت الزكاة وتمكن من الإخراج فلم يخرج حتى ذهب بعض المال فإنهم متفقون فيما أحسب أنه ضامن إلا في الماشية عند من رأى أن وجوبها إنما يتم بشرط خروج الساعي مع الحول وهو مذهب مالك. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي إذا مات بعد وجوب الزكاة عليه. فإن قوما قالوا: يخرج من رأس ماله، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقوم قالوا: إن أوصى بها أخرجت عنه من الثلث وإلا فلا شيء عليه، ومن هؤلاء من قال: يبدأ بها إن ضاق الثلث، ومنهم من قال: لا يبدأ بها، وعن مالك القولان جميعا، ولكن المشهور أنها بمنزلة الوصية. وأما اختلافهم في المال يباع بعد وجوب الصدقة فيه، فإن قوما قالوا: يأخذ المصدق الزكاة من المال نفسه ويرجع المشتري بقيمته على البائع، وبه قال أبو ثور. وقال قوم: البيع مفسوخ، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: المشتري بالخيار بين إنقاذ البيع ورده، والعشر مأخوذ من الثمرة أو من الحب الذي وجبت فيه الزكاة، وقال مالك: الزكاة على البائع. وسبب اختلافهم تشبيه بيع مال الزكاة بتفويته وإتلاف عينه، فمن شبهه بذلك قال: الزكاة مترتبة في ذمة المتلف والمفوت؛ ومن قال البيع ليس بإتلاف لعين المال ولا تفويت له وإنما هو بمنزلة من باع ما ليس له قال: الزكاة في عين المال، ثم هل البيع مفسوخ أو غير مفسوخ نظر آخر يذكر في باب البيوع إن شاء الله تعالى. ومن هذا النوع اختلافهم في زكاة المال الموهوب، وفي بعض هذه المسائل التي ذكرنا تفصيل في المذهب لم نر أن نتعرض له إذ كان غير موافق لغرضنا مع أنه يعسر فيها إعطاء أسباب تلك الفروق لأنها أكثرها استحسانية مثل تفصيلهم الديون التي تزكى من التي لا تزكى، والديون المسقطة للزكاة من التي لا تسقطها، فهذا ما رأينا أن نذكره في هذه الجملة وهي معرفة من تجب عليه الزكاة وشروط الملك التي تجب به وأحكام من تجب عليه. وقد بقي من أحكامه حكم مشهور، وهو ماذا حكم من منع الزكاة ولم يجحد وجوبها؟ فذهب أبو بكر رضي الله عنه إلى أن حكمه حكم المرتد، وبذلك حكم في مانع الزكاة من العرب وذلك أنه قاتلهم وسبى ذريتهم، وخالفه في ذلك عمر رضي الله عنه، وأطلق من كان استرق منهم، وبقول عمر قال الجمهور. وذهبت طائفة إلى تكفير من منع فريضة من الفرائض وإن لم يجحد وجوبها. وسبب اختلافهم هل اسم الإيمان الذي هو ضد الكفر ينطلق على الاعتقاد دون العمل فقط أو من شرطه وجود العمل معه؟ فمنهم من رأى أن من شرطه وجود العمل معه، ومنهم من لم يشترط ذلك حتى لو لم يلفظ بالشهادة إذا صدق بها فحكمه حكم المؤمن عند الله، والجمهور وهم أهل السنة على أنه ليس يشترط فيه، أعني في اعتقاد الإيمان الذي ضده الكفر من الأعمال إلا التلفظ بالشهادة فقط، لقوله ﷺ "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بي" فاشترط مع العلم القول، وهو عمل من الأعمال، فمن شبه سائر الأفعال الواجبة بالقول قال: جميع الأعمال المفروضة شرط في العلم الذي هو الإيمان، ومن شبه القول بسائر الأعمال التي اتفق الجمهور على أنها ليست شرطا في العلم الذي هو الإيمان قال: التصديق فقط هو شرط الإيمان، وبه يكون حكمه عند الله تعالى حكم المؤمن، والقولان شاذان، واستثناء التلفظ بالشهادتين من سائر الأعمال هو الذي عليه الجمهور. 3* (الجملة الثانية) وأما ما تجب فيه الزكاة من الأموال، فإنهم اتفقوا منها على أشياء واختلفوا في أشياء. وأما ما اتفقوا عليه فصنفان من المعدن الذهب والفضة اللتين ليستا بحلي، وثلاثة أصناف من الحيوان الإبل والبقر والغنم، وصنفان من الحبوب الحنطة والشعير، وصنفان من الثمر التمر والزبيب، وفي الزيت خلاف شاذ. واختلفوا أما من الذهب ففي الحلي فقط، وذلك أنه ذهب فقهاء الحجاز مالك والليث والشافعي إلى أنه لا زكاة فيه إذا أريد للزينة واللباس؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: فيه الزكاة. والسبب في اختلافهم تردد شبهه بين العروض وبين التبر والفضة اللتين المقصود منهما المعاملة في جميع الأشياء، فمن شبهه بالعروض التي المقصود منها المنافع أولا قال: ليس فيه زكاة، ومن شبهه بالتبر والفضة التي المقصود منها المعاملة بها أولا قال: فيه الزكاة. ولاختلافهم أيضا سبب آخر وهو اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أنه روى جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "ليس في الحلي زكاة" وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن امرأة أتت إلى رسول الله ﷺ ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسك من ذهب، فقال لها: أتؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا، قال: أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟ فخلعتهما وألقتهما إلى النبي ﷺ وقالت: هما لله ورسوله" والأثران ضعيفان، وبخاصة حديث جابر، ولكون السبب الأملك لاختلافهم تردد الحلي المتخذ للباس بين التبر والفضة اللذين المقصود منهما أولا المعاملة لا الانتفاع، وبين العروض المقصود منها التي بالوضع الأول خلاف المقصود من التبر والفضة، أعني الانتفاع بها لا المعاملة، وأعني بالمعاملة كونها ثمنا. واختلف قول مالك في الحلي المتخذ للكراء فمرة شبهه بالحلي المتخذ من اللباس، ومرة شبهه بالتبر المتخذ للمعاملة.

@-(وأما ما اختلفوا فيه من الحيوان) فمنه ما اختلفوا في نوعه، ومنه ما اختلفوا في صنفه. وأما ما اختلفوا في نوعه فالخيل، وذلك أن الجمهور على أن لا زكاة في الخيل، فذهب أبو حنيفة إلى أنها إذا كانت سائمة وقصد بها النسل أن فيها الزكاة، أعني إذا كانت ذكرانا وإناثا. والسبب في اختلافهم معارضة القياس للّفظ، وما يظن من معارضة اللفظ للّفظ فيها. أما اللفظ الذي يقتضي أن لا زكاة فيها فقوله عليه الصلاة والسلام "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" وأما القياس الذي عارض هذا العموم، فهو أن الخيل السائمة حيوان مقصود به النماء والنسل، فأشبه الأبل والبقر. وأما اللفظ الذي يظن أنه معارض لذلك العموم فهو قوله عليه الصلاة والسلام "وقد ذكر الخيل ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها" فذهب أبو حنيفة إلى أن حق الله هو الزكاة، وذلك السائمة منها. قال القاضي: وأن يكون هذا اللفظ مجملا أحرى منه أن يكون عاما، فيحتج به في الزكاة؛ وخالف أبا حنيفة في هذه المسألة صاحباه أبو يوسف ومحمد، وصح عن عمر رضي الله عنه أنه كان يأخذ منها الصدقة، فقيل إنه كان باختيار منهم. وأما ما اختلفوا في صنفه فهي السائمة من الإبل والبقر والغنم من غير السائمة منها، فإن قوما أوجبوا الزكاة في هذه الأصناف الثلاثة سائمة كانت أو غير سائمة، وبه قال الليث ومالك؛ وقال سائر فقهاء الأمصار: لا زكاة في غير السائمة من هذه الثلاثة الأنواع. وسبب اختلافهم معارضة المطلق للمقيد، ومعارضة القياس لعموم اللفظ. أما المطلق فقوله عليه الصلاة والسلام "في أربعين شاة شاة". أما المقيد فقوله عليه الصلاة والسلام "في سائمة الغنم الزكاة" فمن غلب المطلق على المقيد قال: الزكاة في السائمة وغير السائمة؛ ومن غلب المقيد قال: الزكاة في السائمة منها فقط، ويشبه أن يقال إن من سبب الخلاف في ذلك أيضا معارضة دليل الخطاب للعموم، وذلك أن دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام "في سائمة الغنم الزكاة" يقتضي أن لا زكاة في غير السائمة، وعموم قوله عليه الصلاة والسلام "في أربعين شاة شاة" يقتضي أن السائمة في هذا بمنزلة غير السائمة لكن العموم أقوى من دليل الخطاب، كما أن تغليب المقيد على المطلق أشهر من تغليب المطلق على المقيد. وذهب أبو محمد بن حزم إلى أن المطلق يقتضي على المقيد، وإن في الغنم سائمة وغير سائمة الزكاة، وكذلك في الإبل لقوله عليه الصلاة والسلام "ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقه" وأن البقر لما لم يثبت فيها أثر وجب أن يتمسك فيها بالإجماع، وهو أن الزكاة في السائمة منها فقط، فتكون التفرقة بين البقر وغيرها قول ثالث. وأما القياس المعارض لعموم قوله عليه الصلاة والسلام فيها "في أربعين شاة شاة" فهو أن السائمة هي التي المقصود منها النماء والربح، وهو الموجود فيها أكثر ذلك، والزكاة إنما هي فضلات الأموال، والفضلات إنما توجد أكثر ذلك في الأموال السائمة، ولذلك اشترط فيها الحول، فمن خصص بهذا القياس ذلك العموم لم يوجب الزكاة في غير السائمة، ومن لم يخصص ذلك ورأى أن العموم أقوى أوجب ذلك في الصنفين جميعا، فهذا هو ما اختلفوا فيه من الحيوان التي تجب فيه الزكاة، وأجمعوا على أنه ليس فيما يخرج من الحيوان زكاة إلا العسل، فإنهم اختلفوا فيه، فالجمهور على أنه لا زكاة فيه، وقال قوم: فيه الزكاة. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح الأثر الوارد في ذلك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "في كل عشرة أزق زق" خرجه الترمذي وغيره. وأما ما اختلفوا فيه من النبات بعد اتفاقهم على الأصناف الأربعة التي ذكرناها فهو جنس النبات الذي تجب فيه الزكاة، فمنهم من لم ير الزكاة إلا في تلك الأربع فقط، وبه قال ابن أبي ليلى وسفيان الثوري وابن المبارك؛ ومنهم من قال: الزكاة في جميع المدخر المقتات من النبات، وهو قول مالك والشافعي؛ ومنهم من قال: الزكاة في كل ما تخرجه الأرض ما عدا الحشيش والحطب والقصب. وهو أبو حنيفة. وسبب الخلاف إما بين من قصر الزكاة على الأصناف المجمع عليها، وبين من عداها إلى المدخر المقتات، فهو اختلافهم في تعلق الزكاة بهذه الأصناف الأربعة هل هو لعينها أو لعلة فيها، وهي الاقتيات فمن قال لعينها قصر الوجوب عليها، ومن قال لعلة الاقتيات عدى الوجوب لجميع المقتات. وسبب الخلاف بين من قصر الوجوب على المقتات وبين من عداه إلى جميع ما تخرجه الأرض إلا ما وقع عليه الإجماع من الحشيش والحطب والقصب هو معارضة القياس لعموم اللفظ، أما اللفظ الذي يقتضي العموم فهو قوله عليه الصلاة والسلام "فيما سقت السماء العشر، وفيما سقى بالنضج نصف العشر" وما بمعنى الذي، والذي من ألفاظ العموم وقوله تعالى {وهو الذي أنشأ جنات معروشات} الآية. إلى قوله {وآتوا حقه يوم حصاده} . وأما القياس، فهو أن الزكاة إنما المقصود منها سد الخلة، وذلك لا يكون غالبا إلا فيما هو قوت، فمن خصص العموم بهذا القياس أسقط الزكاة مما عدا المقتات، ومن غلب العموم أوجبها فيما عدا ذلك، إلا ما أخرجه الإجماع، والذين اتفقوا على المقتات اختلفوا في أشياء من قبل اختلافهم فيها، هل هي مقتاتة أم ليست بمقتاتة؟ وهل يقاس على ما اتفق عليه أو ليس يقاس؟ مثل اختلاف مالك والشافعي في الزيتون، فإن مالكا ذهب إلى وجوب الزكاة فيه، ومنع ذلك الشافعي في قوله الأخير بمصر. وسبب اختلافهم هل هو قوت أم ليس بقوت؟، ومن هذا الباب اختلاف أصحاب مالك في إيجاب الزكاة في التين أو لا إيجابها. وذهب بعضهم إلى أن الزكاة تجب في الثمار دون الخضر، وهو قول ابن حبيب لقوله سبحانه وتعالى {وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات} الآية، ومن فرق في الآية بين الثمار والزيتون فلا وجه لقوله إلا وجه ضعيف. واتفقوا على أن لا زكاة في العروض التي لم يقصد بها التجارة، واختلفوا في أتجب الزكاة فيما اتخذ منها للتجارة؟ فذهب فقهاء الأمصار إلى وجوب ذلك، ومنع ذلك أهل الظاهر. والسبب في اختلافهم اختلافهم في وجوب الزكاة بالقياس، واختلافهم في تصحيح حديث سمرة بن جندب أنه قال "كان رسول الله ﷺ يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع" وفيما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "أد زكاة البر". وأما القياس الذي اعتمده الجمهور فهو أن العروض المتخذة للتجارة مال مقصود به التنمية، فأشبه الأجناس الثلاثة التي فيها الزكاة باتفاق، أعني الحرث والماشية والذهب والفضة. وزعم الطحاوي أن زكاة العروض ثابتة عن عمر وابن عمر ولا مخالف لهما من الصحابة، وبعضهم يرى أن مثل هذا هو إجماع من الصحابة، أعني إذا نقل عن واحد منهم قول ولم ينقل عن غيره خلافه، وفيه ضعف. 3*(الجملة الثالثة) وأما معرفة النصاب في واحد واحد من هذه الأموال المزكاة، وهو المقدار الذي فيه تجب الزكاة فيما له منها نصاب، ومعرفة الواجب من ذلك، أعني في عينه وقدره، فإنا نذكر من ذلك ما اتفقوا عليه واختلفوا فيه في جنس جنس من هذه الأجناس المتفق عليها والمختلف فيها عند الذين اتفقوا عليه، ولنجعل الكلام في ذلك في فصول: الفصل الأول: في الذهب والفضة. الثاني: في الإبل. الثالث: في الغنم. الرابع: في البقر. الخامس: في النبات. السادس: في العروض.

4*الفصل الأول في الذهب والفضة.

@-أما المقدار الذي تجب فيه الزكاة من الفضة، فإنهم اتفقوا على أنه خمس أواق لقوله عليه الصلاة والسلام الثابت "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" ما عدا المعدن من الفضة، فإنهم اختلفوا في اشتراط النصاب منه وفي المقدار الواجب فيه، والأوقية عندهم أربعون درهما كيلا. وأما القدر الواجب فيه، فإنهم اتفقوا على أن الواجب في ذلك هو ربع العشر: أعني في الفضة والذهب معا ما لم يكونا خرجا من معدن. واختلفوا من هذا الباب في مواضع خمسة: أحدها: في نصاب الذهب. والثاني: هل فيهما أوقاص أم لا؟ أعني هل فوق النصاب قدر لا تزيد الزكاة بزيادته؟. والثالث: هل يضم بعضها إلى بعض في الزكاة فيعدان كصنف واحد؟ أعني عند إقامة النصاب أم هما صنفان مختلفان؟. والرابع: هل من شرط النصاب أن يكون المالك واحدا لا اثنين؟. الخامس: في اعتبار نصاب المعدن وحوله وقدر الواجب فيه. @-(وأما المسألة الأولى) وهي اختلافهم في نصاب الذهب، فإن أكثر العلماء على أن الزكاة تجب في عشرين دينارا وزنا كما تجب في مائتي درهم، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابهم وأحمد وجماعة فقهاء الأمصار وقالت طائفة منهم الحسن بن أبي الحسن البصري وأكثر أصحاب داود بن علي: ليس في الذهب شيء حتى يبلغ أربعين دينارا، ففيها ربع عشرها دينار واحد. وقالت طائفة ثالثة: ليس في الذهب زكاة حتى يبلغ صرفها مائتي درهم أو قيمتها فإذا بلغت ففيها ربع عشرها كان وزن ذلك من الذهب عشرين دينارا أو أقل أو أكثر، هذا فيما كان منها دون الأربعين دينارا. فإذا بلغت أربعين دينارا كان الاعتبار بها لنفسه لا بالدراهم لا صرفا ولا قيمة. وسبب اختلافهم في نصاب الذهب أنه لم يثبت في ذلك شيء عن النبي ﷺ كما ثبت ذلك في نصاب الفضة. وما روي عن الحسن بن عمارة من حديث علي أنه عليه الصلاة والسلام قال "هاتوا زكاة الذهب من كل عشرين دينارا نصف دينار" فليس عند الأكثر مما يجب العمل به لانفراد الحسن بن عمارة به، فمن لم يصح عنده هذا الحديث اعتمد في ذلك على الإجماع، وهو اتفاقهم على وجوبها في الأربعين. وأما مالك فاعتمد في ذلك على العمل، ولذلك قال في الموطأ: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا أن الزكاة تجب في عشرين دينارا كما تجب في مائتي درهم. وأما الذين جعلوا الزكاة فيما دون الأربعين تبعا للدراهم، فإنه لما كانا عندهم من جنس واحد جعلوا الفضة هي الأصل، إذ كان النص قد ثبت فيها، وجعلوا الذهب تابعا لها في القيمة لا في الوزن، وذلك فيما دون موضع الإجماع، ولما قيل أيضا إن الرقة اسم يتناول الذهب والفضة وجاء في بعض الآثار "ليس فيها دون خمس أواق من الرقة صدقة" @-(المسألة الثانية) وأما اختلافهم فيما زاد على النصاب فيها، فإن الجمهور قالوا: إن ما زاد على مائتي درهم من الوزن ففيه بحساب ذلك، أعني ربع العشر، وممن قال بهذا القول مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وأحمد بن حنبل وجماعة. وقالت طائفة من أهل العلم أكثرهم العراق: لا شيء فيما زاد على المائتي درهم حتى تبلغ الزيادة أربعين درهما، فإذا بلغتها كان فيها ربع عشرها وذلك درهم، وبهذا القول قال أبو حنيفة وزفر وطائفة من أصحابهما. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث الحسن ابن عمارة، ومعارضة دليل الخطاب له، وترددهما بين أصلين في هذا الباب مختلفين في هذا الحكم وهي الماشية والحبوب. أما حديث الحسن بن عمارة فإنه رواه عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي عن النبي ﷺ قال "قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا من الرقة ربع العشر من كل مائتي درهم خمسة دراهم، ومن كل عشرين دينارا نصف دينار، وليس في مائتي درهم شيء حتى يحول عليها الحول ففيها خمسة دراهم، فما زاد ففي كل أربعين درهما درهم، وفي كل أربعة دنانير تزيد على العشرين دينارا درهم حتى تبلغ أربعين دينارا، ففي كل أربعين دينار، وفي كل أربعة وعشرين نصف دينار ودرهم". وأما دليل الخطاب المعارض له، فقوله عليه الصلاة والسلام "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" ومفهومه أن فيما زاد على ذلك الصدقة قل أو كثر. وأما ترددهما بين الأصلين اللذين هما الماشية والحبوب، فإن النص على الأوقاص ورد في الماشية. وأجمعوا على أنه لا أوقاص في الحبوب، فمن شبه الفضة والذهب بالماشية قال فيهما الأوقاص، ومن شبههما بالحبوب قال لا وقص. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي ضم الذهب إلى الفضة في الزكاة، فإن عند مالك وأبي حنيفة وجماعة أنها تضم الدراهم إلى الدنانير، فإذا كمل من مجموعهما نصاب وجبت فيه الزكاة؛ وقال الشافعي وأبو ثور وداود: لا يضم ذهب إلى فضة ولا فضة إلى ذهب. وسبب اختلافهم هل كل واحد منهما يجب فيه الزكاة لعينه أم لسبب يعمهما، وهو كونهما كما يقول الفقهاء رءوس الأموال وقيم المتلفات؟ فمن رأى أن المعتبر في كل واحد منهما هو عينه ولذلك اختلف النصاب فيهما قال: هما جنسان لا يضم أحدهما إلى الثاني كالحال في البقر والغنم؛ ومن رأى أن المعتبر فيهما هو ذلك الأمر الجامع الذي قلناه أوجب ضم بعضهما إلى بعض، ويشبه أن يكون الأظهر اختلاف الأحكام حيث تختلف الأسماء وتختلف الموجودات أنفسها، وإن كان قد يوهم اتحادهما اتفاق المنافع، وهو الذي اعتمد مالك رحمه الله في هذا الباب وفي باب الربا، والذين أجازوا ضمهما اختلفوا في صفة الضم. فرأى مالك ضمهما بصرف محدود، وذلك بأن ينزل الدينار بعشرة دراهم على ما كانت عليه قديما، فمن كانت عنده عشرة دنانير ومائة درهم وجبت عليه فيهما الزكاة عنده، وجاز أن يخرج من الواحد عن الآخر. وقال من هؤلاء آخرون: تضم بالقيمة في وقت الزكاة، فمن كانت عنده مثلا مائة درهم وتسعة مثاقيل قيمتها مائة درهم وجبت عليه فيهما الزكاة، ومن كانت عنده مائة درهم تساوي أحد عشر مثقالا وتسعة مثاقيل وجبت عليه أيضا فيهما الزكاة، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة، وبمثل هذا القول قال الثوري إلا أنه يراعي الأحوط للمساكين في الضم: أعني القيمة أو الصرف المحدود: ومنهم من قال: يضم الأقل منها إلى الأكثر ولا يضم الأكثر إلى الأقل؛ وقال آخرون: تضم الدنانير بقيمتها أبدا كانت الدنانير أقل من الدراهم أو أكثر، ولا تضم الدراهم إلى الدنانير لأن الدراهم أصل والدنانير فرع، إذ كان لم يثبت في الدنانير حديث ولا إجماع حتى تبلغ أربعين، وقال بعضهم: إذا كان عنده نصاب من أحدهما ضم إليه قليل الآخر وكثيره، ولم ير الضم في تكميل النصاب إذا لم يكن في واحد منهما نصاب بل في مجموعهما. وسبب هذا الارتباك ما راموه من أن يجعلوا من شيئين نصابهما مختلف في الوزن نصابا واحدا، وهذا كله لا معنى له، ولعل من رام ضم أحدهما إلى الآخر فقد أحدث حكما في الشرع حيث لا حكم، لأنه قد قال بنصاب ليس هو بنصاب ذهب ولا فضة، ويستحيل في عادة التكليف والأمر بالبيان أن يكون في أمثال هذه الأشياء المحتملة حكم مخصوص، فيسكت عنه الشارع حتى يكون سكوته سببا لأن يعرض فيه من الاختلاف ما مقداره هذا المقدار، والشارع إنما بعث ﷺ لرفع الاختلاف. @-(وأما المسألة الرابعة) فإن عند مالك وأبي حنيفة أن الشريكين ليس يجب على أحدهما زكاة حتى يكون لكل واحد منهما نصاب؛ وعند الشافعي أن المال المشترك حكمه حكم مال رجل واحد. وسبب اختلافهم الإجماع الذي في قوله عليه الصلاة والسلام "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" فإن هذا القدر يمكن أن يفهم منه إنما يخصه هذا الحكم إذا كان لمالك واحد فقط، ويمكن منه أنه يخصه هذا الحكم كان لمالك واحد أو أكثر من مالك واحد، إلا أنه لما كان مفهوم اشتراط النصاب إنما هو الرفق فواجب أن يكون النصاب من شرطه أن يكون لمالك واحد، وهو الأظهر والله أعلم. والشافعي كأنه شبه الشركة بالخلطة، ولكن تأثير الخلطة في الزكاة غير متفق عليه على ما سيأتي بعد. @-(وأما المسألة الخامسة) وهي اختلافهم في اعتبار النصاب في المعدن وقدر الواجب فيه، فإن مالكا والشافعي راعيا النصاب في المعدن، وإنما الخلاف بينهما أن مالكا لم يشترط الحول واشترطه الشافعي على ما سنقول بعد في الجملة الرابعة، وكذلك لم يختلف قولهما إن الواجب فيما يخرج منه هو ربع العشر؛ وأما أبو حنيفة فلم ير فيه نصابا ولا حولا، وقال: الواجب هو الخمس. وسبب الخلاف في ذلك هل اسم الركاز يتناول المعدن أم لا يتناوله؟ لأنه قال عليه الصلاة والسلام "وفي الركاز الخمس" وروى أشهب عن مالك أن المعدن الذي يوجد بغير عمل أنه ركاز وفيه الخمس. فسبب اختلافهم في هذا هو اختلافهم في دلالة اللفظ، وهو أحد أسباب الاختلافات العامة التي ذكرناها. 4*الفصل الثاني في نصاب الإبل والواجب فيه.

@-وأجمع المسلمون على أن في كل خمس من الإبل شاة إلى أربع وعشرين، فإذا كانت خمسا وعشرين ففيها ابنة مخاض إلى خمس وثلاثين، فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر، فإذا كانت ستا وثلاثين ففيها بنت لبون إلى خمس وأربعين، فإذا كانت ستا وأربعين ففيها حقة إلى ستين، فإذا كانت واحدا وستين ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا كانت ستا وسبعين ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإذا كانت واحدا وتسعين ففيها حقتان إلى عشرين ومائة لثبوت هذا كله في كتاب الصدقة الذي أمر به رسول الله ﷺ، وعمل به بعده أبو بكر وعمر. واختلفوا منها في مواضع: منها فيما زاد على العشرين والمائة، ومنها إذا عدم السن الواجبة عليه وعنده السن الذي فوقه أو الذي تحته ما حكمه؟ ومنها هل تجب الزكاة في صغار الإبل وإن وجبت فما الواجب؟. @-(فأما المسألة الأولى) وهي اختلافهم فيما زاد على المائة وعشرين، فإن مالكا قال: إذا زادت على عشرين ومائة واحدة، فالمصدق بالخيار إن شاء أخذ ثلاث بنات لبون، وإن شاء أخذ حقتين إلى أن تبلغ ثلاثين ومائة فيكون فيها حقه وابنتا لبون. وقال ابن القاسم من أصحابه: بل يأخذ ثلاث بنات لبون من غير خيار إلى أن تبلغ ثمانين ومائة فتكون فيها حقة وابنتا لبون، وبهذا القول قال الشافعي. قال عبد الملك بن الماجشون من أصحاب مالك: بل يأخذ الساعي حقتين فقط من غير خيارإلى أن تبلغ مائة وثلاثين. وقال الكوفيون: أبو حنيفة وأصحابه والثوري: إذا زادت على عشرين ومائة عادت الفريضة على أولها، ومعنى عودتها أن يكون عندهم في كل خمس ذود شاة، فإذا كانت الإبل مائة وخمسة وعشرين كان فيها حقتان وشاة، الحقتان للمائة والعشرين، والشاة للخمس، فإذا بلغت ثلاثين ومائة ففيها حقتان وشاتان، فإذا كانت خمسا وثلاثين ففيها حقتان وثلاث شياه إلى خمس وأربعين ومائة، ففيها حقتان وأربع شياه إلى خمس وأربعين ومائة، فإذا بلغتها ففيها حقتان وابنة مخاض، الحقتان للمائة والعشرين، وابنة المخاض للخمس وعشرين كما كانت في الفرض الأول إلى خمسين ومائة، فإذا بلغتها ففيها ثلاث حقاق، فإذا زادت على الخمسين ومائة استقبل بها الفريضة الأولى إلى أن تبلغ مائتين، فيكون فيها أربع حقاق ثم يستقبل بها الفريضة. وأما ما عدا الكوفيين من الفقهاء، فإنهم اتفقوا على أن ما زاد على المائة والثلاثين، ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقه. وسبب اختلافهم في عودة الفرض أو لا عودته اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه ثبت في كتاب الصدقة أنه قال عليه الصلاة والسلام "فما زاد على العشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة" وروي من طريق أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كتب كتاب الصدقة وفيه "إذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة" فذهب الجمهور إلى ترجيح الحديث الأول إذ هو أثبت، وذهب الكوفيون إلى ترجيح حديث عمرو بن حزم لأنه ثبت عندهم هذا من قول علي وابن مسعود، قالوا: ولا يصح أن يكون مثل هذا إلا توقيفا إذ كان مثل هذا لا يقال بالقياس. وأما سبب اختلاف مالك وأصحابه والشافعي فيما زاد على المائة وعشرين إلى الثلاثين فلأنه لم يستقم لهم حساب الأربعينات ولا الخمسينات، فمن رأى أن ما بين المائة وعشرين إلى أن يستقيم الحساب وقص قال: ليس فيما زاد على ظاهر الحديث الثابت شيء ظاهر حتى يبلغ مائة وثلاثين وهو ظاهر الحديث. وأما الشافعي وابن القاسم فإنما ذهبا إلى أن فيها ثلاث بنات لبون، لأنه قد روي عن ابن شهاب في كتاب الصدقة أنها إذا بلغت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون، فإذا بلغت ثلاثين ومائة ففيها بنتا لبون وحقة. فسبب اختلاف ابن الماجشون وابن القاسم هو معارضة ظاهر الأثر الثابت للتفسير الذي في هذا الحديث فإن ابن الماجشون رجح ظاهر الأثر للاتفاق على ثبوته، وابن القاسم والشافعي حملا المجمل على المفصل المفسر. وأما تخيير مالك الساعي، فكأنه جمع بين الأثرين والله أعلم. @-(وأما المسألة الثانية) وهو إذا عدم السن الواجب من الإبل الواجبة وعنده السن الذي فوق هذا السن أو تحته، فإن مالكا قال: يكلف شراء ذلك السن. وقال قوم بل يعطي السن الذي عنده وزيادة عشرين درهما إن كان السن الذي عنده أحط أو شاتين، وإن كان أعلى دفع إليه المصدق عشرين درهما أو شاتين، وهذا ثابت في كتاب الصدقة فلا معنى للمنازعة فيه، ولعل مالكا لم يبلغه هذا الحديث، وبهذا الحديث قال الشافعي وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: الواجب عليه القيمة على أصله في إخراج القيم في الزكاة. وقال قوم: بل يعطي السن الذي عنده، وما بينهما من القيمة. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي هل تجب في صغار الإبل، وإن وجبت فماذا يكلف؟ فإن قوما قالوا: تجب فيها الزكاة، وقوم قالوا: لا تجب. وسبب اختلافهم هل يتناول اسم الجنس الصغار أو لا يتناوله. والذين قالوا: لا تجب فيها زكاة هو أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة، وقد احتجوا بحديث سويد ابن غفلة أنه قال: أتانا مصدق النبي عليه الصلاة والسلام، فأتيته فجلست إليه فسمعته يقول: إن في عهدي أن لا آخذ من راضع لبن، ولا أجمع بين مفترق ولا نفرق بين مجتمع، قال: وأتاه رجل بناقة كوماء فأبى أن يأخذها. والذين أوجبوا الزكاة فيها منهم من قال: يكلف شراء السن الواجبة عليه، ومنهم من قال: يأخذ منها وهو الأقيس، وبنحو هذا الاختلاف اختلفوا في صغار البقر وسخال الغنم. 4*الفصل الثالث في نصاب البقر وقدر الواجب في ذلك.

@-جمهور العلماء على أن في ثلاثين من البقر تبيعا وفي أربعين مسنة، وقالت طائفة: في كل عشر من البقر شاة إلى ثلاثين ففيها تبيع، وقيل إذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بقرة إلى خمس وسبعين ففيها بقرتان إذا جاوزت ذلك، فإذا بلغت مائة وعشرين ففي كل أربعين بقرة، وهذا عن سعيد بن المسيب. واختلف فقهاء الأمصار فيما بين الأربعين والستين؛ فذهب مالك والشافعي وأحمد والثوري وجماعة أن لا شيء فيما زاد على الأربعين حتى تبلغ الستين، فإذا بلغت ستين ففيها تبيعان إلى سبعين، ففيها مسنة وتبيع إلى ثمانين، ففيها مسنتان إلى تسعين، ففيها ثلاثة أتبعة إلى مائة، ففيها تبيعان ومسنة، ثم هكذا ما زاد، ففي كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة. وسبب اختلافهم في النصاب أن حديث معاذ غير متفق على صحته، ولذلك لم يخرجه الشيخان. وسبب اختلاف فقهاء الأمصار في الوقص في البقر أنه جاء في حديث معاذ هذا أنه توقف في الأوقاص وقال: حتى أسأل فيها النبي ﷺ، فلما قدم عليه وجده قد توفي ﷺ، فلما لم يرد في ذلك نص طلب حكمه من طريق القياس، فمن قاسها على الإبل والغنم لم ير في الأوقاص شيئا، ومن قال إن الأصل في الأوقاص الزكاة إلا ما استثناه الدليل من ذلك وجب أن لا يكون عنده في البقر وقص، إذ لا دليل هنالك من إجماع ولا غيره. 4*الفصل الرابع في نصاب الغنم وقدر الواجب من ذلك.

@-وأجمعوا من هذا الباب على أن في سائمة الغنم إذا بلغت أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت على العشرين ومائة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت على المائتين فثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فإذا زادت على الثلاثمائة ففي كل مائة شاة، وذلك عند الجمهور إلا الحسن بن صالح فإنه قال: إذا كانت الغنم ثلاثمائة شاة وشاة واحدة أن فيها أربع شياه، وإذا كانت أربعمائة شاة وشاة ففيها خمس شياه، وروى قوله هذا عن منصور عن إبراهيم، والآثار الثابتة المرفوعة في كتاب الصدقة على ما قال الجمهور. واتفقوا على أن المعز تضم مع الغنم، واختلفوا من أي صنف منها يأخذ المصدق، فقال مالك: يأخذ من الأكثر عددا، فإن استوت خير الساعي. وقال أبو حنيفة: بل الساعي يخير إذا اختلفت الأصناف. وقال الشافعي: يأخذ الوسط من الأصناف المختلفة لقول عمر رضي الله عنه: نعد عليهم السخلة يحملها الراعي ولا نأخذها ولا نأخذ الأكولة ولا الربى ولا الماخض ولا فحل الغنم، ونأخذ الجذعة والثنية، وذلك عدل بين خيار المال ووسطه. وكذلك اتفق جماعة فقهاء الأمصار على أنه لا يؤخذ في الصدقة تيس ولا هرمة ولا ذات عور لثبوت ذلك في كتاب الصدقة، إلا أنه يرى المصدق أن ذلك خير للمساكين. واختلفوا في العمياء وذات العلة هل تعد على صاحب المال أم لا؟ فرأى مالك والشافعي أن تعد، وروي عن أبي حنيفة أنها لا تعد. وسبب اختلافهم هل مطلق الاسم يتناول الأصحاء والمرضى أم لا يتناولهما؟. واختلفوا من هذا الباب في نسل الأمهات هل تعد مع الأمهات فيكمل النصاب بها إذا لم تبلغ نصابا؟ فقال مالك يعتد بها، وقال الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور: لا يعتد بالسخال إلا أن تكون الأمهات نصابا. وسبب اختلافهم احتمال قول عمر رضي الله عنه إذ أمر أن تعتد عليهم بالسخال ولا يؤخذ منها شيء، فإن قوما فهموا من هذا إذا كانت الأمهات نصابا، وقوم فهموا هذا مطلقا، وأحسب أن أهل الظاهر لا يوجبون في السخال شيئا، ولا يعدون بها لو كانت الأمهات نصابا ولو لم تكن لأن اسم الجنس لا ينطلق عليها عندهم، وأكثر الفقهاء على أن للخلطة تأثير في قدر الواجب من الزكاة. واختلف القائلون بذلك هل لها تأثير في قدر النصاب أم لا؟ وأما أبو حنيفة وأصحابه فلم يروا للخلطة تأثيرا، لا في قدر الواجب ولا في قدر النصاب، وتفسير ذلك أن مالكا والشافعي وأكثر فقهاء الأمصار اتفقوا على أن الخلطاء يزكون زكاة المالك الواحد. واختلفوا من ذلك في موضعين: أحدهما في نصاب الخلطاء هل يعد نصاب مالك واحد سواء كان لكل واحد منهم نصاب أو لم يكن؟ أم إنما يزكون زكاة الرجل الواحد إذا كان لكل واحد منهم نصاب؟. والثاني في صفة الخلطة التي لها تأثير في ذلك. وأما اختلافهم أولا في هل للخلطة تأثير في النصاب وفي الواجب أو ليس لها تأثير؟. فسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم ما ثبت في كتاب الصدقة من قوله عليه الصلاة والسلام "لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية، فإن كل واحد من الفريقين أنزل مفهوم هذا الحديث على اعتقاده، وذلك أن الذين رأوا للخلطة تأثير ما في النصاب والقدر الواجب أو في القدر الواجب فقط قالوا: إن قوله عليه الصلاة والسلام "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية" وقوله "لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع" يدل دلالة واضحة على أن ملك الخليطين كملك رجل واحد، فإن هذا الأثر مخصص لقوله عليه الصلاة والسلام "ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة" إما في الزكاة عند مالك وأصحابه: أعني في قدر الواجب، وإما في الزكاة والنصاب معا عند الشافعي وأصحابه. وأما الذين لم يقولوا بالخلطة فقالوا: إن الشريكين قد يقال لهما خليطان، ويحتمل أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام "لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع" إنما هو نهي للسعاة أن يقسم ملك الرجل الواحد قسمة توجب عليه كثرة الصدقة، مثل رجل يكون له مائة وعشرون شاة فيقسم عليه إلى أربعين ثلاث مرات، أو يجمع ملك رجل واحد إلى ملك رجل آخر حيث يوجب الجمع كثرة الصدقة قالوا: وإذا كان هذا الاحتمال في هذا الحديث وجب أن لا تخصص به الأصول الثابتة المجمع عليها أعني أن النصاب والحق الواجب في الزكاة يعتبر بملك الرجل الواحد. وأما الذين قالوا بالخلطة، فقالوا: إن لفظ الخلطة هو أظهر في الخلطة نفسها منه في الشركة، وإذا كان ذلك كذلك فقوله عليه الصلاة والسلام فيهما "إنهما يتراجعان بالسوية" مما يدل على أن الحق الواجب عليهما حكمه حكم رجل واحد، وأن قوله عليه الصلاة والسلام "إنهما يتراجعان بالسوية" يدل على أن الخليطين ليسا بشريكين، لأن الشريكين ليس يتصور بينهما تراجع إذ المأخوذ هو من مال الشركة، فمن اقتصر على هذا المفهوم ولم يقس عليه النصاب قال: الخليطان إنما يزكيان زكاة الرجل الواحد إذا كان لكل واحد منهما نصاب، ومن جعل حكم النصاب تابعا لحكم الحق الواجب قال: نصابهما نصاب الرجل الواحد، كما أن زكاتهما زكاة الرجل الواحد، وكل واحد من هؤلاء أنزل قوله عليه الصلاة والسلام "لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع" على ما ذهب إليه. فأما مالك رحمه الله تعالى فإنه قال: معنى قوله "لا يفرق بين مجتمع" أن الخليطين يكون لكل واحد منهما مائة شاة وشاة، فتكون عليهما فيهما ثلاثة شياه، فإذا افترقا كان على واحد منهما شاة، ومعنى قوله "لا يجمع بين مفترق" أن يكون النفر الثلاث لكل واحد منهم أربعون شاة، فإذا جمعوها كان عليهم شاة واحدة، فعلى مذهبه النهي إنما هو متجه نحو الخلطاء الذين لكل واحد منهم نصاب. وأما الشافعي فقال معنى قوله "ولا يفرق بين مجتمع" أن يكون رجلان لهما أربعون شاة، فإذا فرقا غنمهما لم يجب عليهما فيها زكاة، إذ كان نصاب الخلطاء عنده نصاب ملك واحد في الحكم. وأما القائلون بالخلطة فإنهم اختلفوا فيما هي الخلطة المؤثرة بالزكاة. فأما الشافعي فقال: إن من شرط الخلطة أن تختلط ماشيتهما وتراحا لواحد وتحلبا لواحد وتسرحا لواحد وتسقيا معا، وتكون فحولهما مختلطة ولا فرق عنده بالجملة والشركة ولذلك يعتبر كمال النصاب لكل واحد من الشريكين كما تقدم. وأما مالك فالخليطان عنده ما اشتركا في الدلو والحوض والمراح والراعي والفحل، واختلف أصحابه في مراعاة بعض هذه الأوصاف أو جميعها. وسبب اختلافهم اشتراك اسم الخلطة، ولذلك لم ير قوم تأثير الخلطة في الزكاة، وهو مذهب أبي محمد بن حزم الأندلسي. 4*الفصل الخامس. في نصاب الحبوب والثمار والقدر الواجب في ذلك.

@-وأجمعوا على أن الواجب في الحبوب، أما ما سقي بالسماء فالعشر، وأما ما سقي بالنضح فنصف العشر لثبوت ذلك عنه ﷺ. وأما النصاب فإنهم اختلفوا في وجوبه في هذا الجنس من مال الزكاة، فصار الجمهور إلى إيجاب النصاب فيه وهو خمسة أوسق، والوسق ستون صاعا بإجماع، والصاع أربعة أمداد بمد النبي عليه الصلاة والسلام، والجمهور على أن مده رطل وثلث وزيادة يسيرة بالبغدادي، وإليه رجع أبو يوسف حين ناظره مالك على مذهب أهل العراق لشهادة أهل المدينة بذلك، وكان أبو حنيفة يقول في المد إنه رطلان، وفي الصاع إنه ثمانية أرطال. وقال أبو حنيفة: ليس في الحبوب والثمار نصاب. وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص. أما العموم فقوله عليه الصلاة والسلام "فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر" وأما الخصوص فقوله عليه الصلاة والسلام "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" والحديثان ثابتان، فمن رأى الخصوص يبنى على العموم قال لا بد من النصاب وهو المشهور، ومن رأى أن العموم والخصوص متعارضان إذا جهل المتقدم فيهما والمتأخر إذ كان قد ينسخ الخصوص بالعموم عنده، وينسخ العموم بالخصوص، إذ كل ما وجب العمل به جاز نسخه، والنسخ قد يكون للبعض وقد يكون للكل، ومن رجح العموم قال لا نصاب، ولكن حمل الجمهور عندي الخصوص على العموم هو من باب ترجيح الخصوص على العموم في الجزء الذي تعارضا فيه فإن العموم فيه ظاهر والخصوص فيه نص، فتأمل هذا فإنه السبب الذي صير الجمهور إلى أن يقولوا بنى العام على الخاص وعلى الحقيقة ليس بنيانا، فإن التعارض بينهما موجود إلا أن يمكن الخصوص متصلا بالعموم فيكون استثناء، واحتجاج أبي حنيفة في النصاب بهذا العموم فيه ضعف، فإن الحديث إنما خرج مخرج تبين القدر الواجب منه. واختلفوا من هذا الباب في النصاب في ثلاث مسائل: المسألة الأولى: في ضم الحبوب بعضهما إلى بعض في النصاب. الثانية: في جواز تقدير النصاب في العنب والتمر بالخرص. الثالثة: هل يحسب على الرجل ما يأكله من ثمره وزرعه قبل الحصاد والجذاذ في النصاب أم لا؟. @-(أما المسألة الأولى) فإنهم أجمعوا على أن الصنف الواحد من الحبوب والثمر يجمع جيده إلى رديئه وتؤخذ الزكاة عن جميعه بحسب قدر كل واحد منهما: أعني من الجيد والردئ، فإن كان الثمر أصنافا أخذ من وسطه. واختلفوا في ضم القطاني بعضها إلى بعض، وفي ضم الحنطة والشعير والسلت فقال مالك: القطينة كلها صنف واحد الحنطة والشعير والسلت أيضا. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وجماعة: القطاني كلها أصناف كثيرة بحسب أسمائها، ولا يضم منها شيء إلى غيره في حساب النصاب، وكذلك الشعير والسلت والحنطة عندهم أصناف ثلاثة لا يضم واحد منها إلى الآخر لتكميل النصاب. وسبب الخلاف هل المراعاة في الصنف الواحد هو اتفاق المنافع أو اتفاق الأسماء؟ فمن قال اتفاق الأسماء قال: كلما اختلفت أسماؤها فهي أصناف كثيرة، ومن قال اتفاق المنافع قال: كلما اتفقت منافعها فهي صنف واحد وإن اختلفت أسماؤها، فكل واحد منهما يروم أن يقرر قاعدته باستقراء الشرع، أعني أن أحدهما يحتج لمذهبه بالأشياء التي اعتبر فيها الشرع الأسماء، والآخر بالأشياء التي اعتبر الشرع فيها المنافع، ويشبه أن يكون شهادة الشرع للأسماء في الزكاة أكثر من شهادته للمنافع وإن كان كلا الاعتبارين موجودا في الشرع، والله أعلم. @-(وأما المسألة الثانية) وهي تقدير النصاب بالخرص واعتباره به دون الكيل فإن جمهور العلماء على إجازة الخرص في النخيل والأعناب حين يبدو صلاحها لضرورة أن يخلى بينها وبين أهلها يأكلونها رطبا، وقال داود: لا خرص إلا في النخيل فقط. وقال أبو حنيفة وصاحباه: الخرص باطل وعلى رب المال أن يؤدي عشر ما تحصل بيده زاد على الخرص أو نقص منه. والسبب في اختلافهم في جواز الخرص معارضة الأصول للأثر الوارد في ذلك. أما الأثر الوارد في ذلك وهو الذي تمسك به الجمهور فهو ما روي "أن رسول الله ﷺ كان يرسل عبد الله بن رواحة إلى خيبر فيخرص عليهم النخل". وأما الأصول التي تعارضه فلأنه من باب المزابنة المنهي عنها، وهو بيع الثمر في رءوس النخل بالثمر كيلا، ولأنه أيضا من باب بيع الرطب بالتمر نسيئة فيدخله المنع من التفاضل ومن النسيئة وكلاهما من أصول الربا، فلما رأى الكوفيون هذا مع أن الخرص الذي كان يخرص على أهل خيبر لم يكن للزكاة إذ كانوا ليسوا بأهل زكاة قالوا: يحتمل أن يكون تخمينا ليعلم ما بأيدي كل قوم من الثمار. قال القاضي: أما بحسب خبر مالك، فالظاهر أنه كان في القسمة لما روي أن عبد الله بن رواحة كان إذا فرغ من الخرص قال: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي، أعني في قسمة الثمار لا في قسمة الحب. وأما بحسب حديث عائشة الذي رواه أبو داود فإنما الخرص لموضع النصيب الواجب عليهم في ذلك، والحديث هو أنها قالت وهي تذكر شأن خيبر "كان النبي ﷺ يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه" وخرص الثمار لم يخرجه الشيخان، وكيفما كان فالخرص مستثنى من تلك الأصول، هذا إن ثبت أنه كان منه عليه الصلاة والسلام حكما منه على المسلمين، فإن الحكم لو ثبت على أهل الذمة ليس يجب أن يكون حكما على المسلمين إلا بدليل والله أعلم. ولو صح حديث عتاب بن أسيد لكان جواز الخرص بينا والله أعلم، وحديث عتاب بن أسيد هو أنه قال "أمرني رسول الله ﷺ أن أخرص العنب وآخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ زكاة النخل تمرا" وحديث عتاب بن أسيد طعن فيه، لأن راويه عنه هو سعيد بن المسيب وهو لم يسمع منه، ولذلك لم يجز داود خرص العنب. واختلف من أوجب الزكاة في الزيتون في جواز خرصه. والسبب في اختلافهم اختلافهم في قياسه في ذلك على النخل والعنب؛ والمخرج عند الجميع من النخل في الزكاة هو التمر لا الرطب، وكذلك الزبيب من العنب لا العنب نفسه، وكذلك عند القائلين بوجوب الزكاة في الزيتون هو الزيت لا الحب قياسا على التمر والزبيب. وقال مالك في العنب الذي لا يتزبب والزيتون الذي لا ينعصر أرى أن يؤخذ منه حبا. @-(وأما المسألة الثالثة) فإن مالكا وأبو حنيفة قالا: يحسب على الرجل ما أكل من ثمره وزرعه قبل الحصاد في النصاب، وقال الشافعي: لا يحسب عليه ويترك الخارص لرب المال ما يأكل هو وأهله. والسبب في اختلافهم ما يعارض الآثار في ذلك من الكتاب والقياس. أما السنة في ذلك فما رواه سهل بن أبي حثمة "أن النبي ﷺ بعث أبا حثمة خارصا، فجاء رجل فقال: يا رسول الله إن أبا حثمة قد زاد علي، فقال رسول الله ﷺ: إن ابن عمك يزعم أنك زدت عليه، فقال: يا رسول الله لقد تركت له قدر عرية أهله وما يطعمه المساكين وما تسقطه الريح، فقال: قد زادك ابن عمك وأنصفك" وروي أن رسول الله ﷺ قال "إذا خرصتم فدعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" وروي عن جابر أن رسول الله ﷺ قال "خففوا في الخرص فإن في المال العرية والآكلة والوصية والعامل والنوائب وما وجب في الثمر من الحق" وأما الكتاب المعارض لهذه الآثار والقياس فقوله تعالى {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} . وأما القياس فلأنه مال فوجبت فيه الزكاة أصله سائر الأموال. فهذه هي المسائل المشهورة التي تتعلق بقدر الواجب في الزكاة والواجب منه في هذه الأجناس الثلاثة التي الزكاة مخرجة من أعيانها، لم يختلفوا أنها إذا خرجت من الأعيان أنفسها أنها مجزئة، واختلفوا هل يجوز فيها أن يخرج بدل العين القيمة أو لا يجوز؟ فقال مالك والشافعي: لا يجوز إخراج القيم في الزكوات بدل المنصوص عليه في الزكوات، وقال أبو حنيفة: يجوز سواء قدر على المنصوص عليه أو لم يقدر. وسبب اختلافهم هل الزكاة عبادة أو حق واجب للمساكين، فمن قال إنها عبادة: قال إن أخرج من غير تلك الأعيان لم يجز لأنه إذا أتى بالعبادة على غير الجهة المأمور بها فهي فاسدة، ومن قال هي حق للمساكين فلا فرق بين القيمة والعين عنده، وقد قالت الشافعية: لنا أن نقول وإن سلمنا أنها حق للمساكين أن الشارع إنما علق الحق بالعين قصدا منه لتشريك الفقراء مع الأغنياء في أعيان الأموال: والحنفية تقول: إنما خصت بالذكر أعيان الأموال تسهيلا على أرباب الأموال، لأن كل ذي مال إنما يسهل عليه الإخراج من نوع المال الذي بين يديه، ولذلك جاء في بعض الأثر أنه جعل في الدية على أهل الحلل حللا على ما سيأتي في كتاب الحدود. 4*الفصل السادس في نصاب العروض.

@-والنصاب في العروض على مذهب القائلين بذلك إنما هو فيما اتخذ منها للبيع خاصة على ما يقدر قبل، والنصاب فيها على مذهبهم هو النصاب في العين إذ كانت هذه هي قيم المتلفات ورءوس الأموال، وكذلك الحول في العروض عند الذين أوجبوا الزكاة في العروض، فإن مالكا قال، إذا باع العروض زكاة لسنة واحدة كالحال في الدين، وذلك عنده في التاجر الذي تضبط له أوقات شراء عروضه. وأما الذين لا ينضبط لهم وقت ما يبيعونه ولا يشترونه وهم الذين يخصون باسم المدير، فحكم هؤلاء عند مالك إذا حال عليهم الحول من يوم ابتداء تجارتهم إلى أن يقوم ما بيده من العروض، ثم يضم إلى ذلك ما بيده من العين وماله من الدين الذي يرتجى قبضه إن لم يكن عليه دين مثله: وذلك بخلاف قوله في دين غير المدير، فإذا بلغ ما اجتمع عنده من ذلك نصابا أدى زكاته، وسواء نض له في عامه شيء من العين أو لم ينض بلغ نصابا أو لم يبلغ نصابا، وهذه رواية ابن الماجشون عن مالك. وروى ابن القاسم عنه: إذا لم يكن له ناض وكان يتجر بالعروض لم يكن عليه في العروض شيء. فمنهم من لم يشترط وجود الناض عنده، ومنهم من شرطه. والذي شرطه، منهم من اعتبر فيه النصاب، ومنهم من لم يعتبر ذلك. وقال المازني: زكاة العروض تكون من أعيانها لا من أثمانها. وقال الجمهور، الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري والأوزاعي وغيرهم: المدير وغير المدير حكمه واحد، وأنه من اشترى عرضا للتجارة فحال عليه الحول قومه وزكاه. وقال قوم: بل يزكي ثمنه الذي ابتاعه به لا قيمته، وإنما لم يوجب الجمهور على المدير شيئا لأن الحول إنما يشترط في عين المال لا في نوعه. وأما مالك فشبه النوع ههنا بالعين لئلا تسقط الزكاة رأسا على المدير، وهذا هو بأن يكون شرعا زائدا أشبه منه بأن يكون شرعا مستنبطا من شرع ثابت، ومثل هذا هو الذي يعرفونه بالقياس المرسل، وهو الذي لا يستند إلى أصل منصوص عليه في الشرع إلا ما يعقل من المصلحة الشرعية فيه، ومالك رحمه الله يعتبر المصالح وإن لم يستند إلى أصول منصوص عليها. 3*(الجملة الرابعة في وقت الزكاة) وأما وقت الزكاة فإن جمهور الفقهاء يشترطون في وجوب الزكاة في الذهب والفضة والماشية الحول، لثبوت ذلك عن الخلفاء الأربعة، ولانتشاره في الصحابة رضي الله عنهم، ولانتشار العمل به، ولاعتقادهم أن مثل هذا الانتشار من غير خلاف لا يجوز أن يكون إلا عن توقيف. وقد روي مرفوعا من حديث ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" وهذا مجمع عليه عند فقهاء الأمصار، وليس فيه في الصدر الأول خلاف إلا ما روي عن ابن عباس ومعاوية. وسبب الاختلاف أنه لم يرد في ذلك حديث ثابت. واختلفوا من هذا الباب في مسائل ثمانية مشهورة: إحداها: هل يشترط الحول في المعدن إذا قلنا إن الواجب فيه ربع العشر؟. الثانية: في اعتبار حولي ربح المال. الثالثة: حول الفوائد الواردة على مال تجب فيه الزكاة. الرابعة: في اعتبار حول الدين إذا قلنا إن فيه الزكاة. الخامسة: في اعتبار حول العروض إذا قلنا إن فيها الزكاة. السادسة: في حول فائدة الماشية. السابعة: في حول نسل الغنم إذا قلنا إنها تضم إلى الأمهات، إما على رأي من يشترط أن تكون الأمهات نصابا وهو الشافعي وأبو حنيفة، وإما على مذهب من لا يشترط ذلك، وهو مذهب مالك. والثامنة: في جواز إخراج الزكاة قبل الحول.

@-(أما المسألة الأولى) وهي المعدن، فإن الشافعي راعى فيه الحول مع النصاب وأما مالك فراعى فيه النصاب دون الحول. وسبب اختلافهم تردد شبهة بين ما تخرجه الأرض مما تجب فيه الزكاة وبين التبر والفضة المقتنيين، فمن شبهه بما تخرجه الأرض لم يعتبر الحول فيه، ومن شبهه بالتبر والفضة المقتنيين أوجب الحول، وتشبيهه بالتبر والفضة أبين والله أعلم. @-(المسألة الثانية) وأما اعتبار حول ربح المال فإنهم اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: فرأى الشافعي أن حوله يعتبر من يوم استفيد سواء كان الأصل نصابا أو لم يكن، وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب أن لا يعرض لأرباح التجارة حتى يحول عليها الحول. وقال مالك: حول الربح هو حول الأصل: أي إذا كمل للأصول حول زكى الربح معه، سواء كان الأصل نصابا أو أقل من نصاب إذا بلغ الأصل مع ربحه نصابا، قال أبو عبيد: ولم يتابعه عليه أحد من الفقهاء إلا أصحابه. وفرق قوم بين أن يكون رأس المال الحائل عليه الحول نصابا أو لا يكون فقالوا: إن كان نصابا زكى الربح مع رأس ماله، وإن لم يك نصابا لم يزك وممن قال بهذا القول الأوزاعي وأبو ثور وأبو حنيفة. وسبب اختلافهم تردد الربح بين أن يكون حكمه حكم المال المستفاد أو حكم الأصل، فمن شبهه بالمال المستفاد ابتداء قال: يستقبل به الحول، ومن شبهه بالأصل وهو رأس المال قال: حكمه حكم رأس المال، إلا أن من شروط هذا التشبيه أن يكون رأس المال قد وجبت فيه الزكاة، وذلك لا يكون إلا إذا كان نصابا، ولذلك يضعف قياس الربح على الأصل في مذهب مالك، ويشبه أن يكون الذي اعتمده مالك رضي الله عنه في ذلك هو تشبيه ربح المال بنسل الغنم، لكن نسل الغنم مختلف أيضا فيه، وقد روي عن مالك مثل قول الجمهور. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي حول الفوائد، فإنهم أجمعوا على أن المال إذا كان أقل من نصاب واستفيد إليه مال من غير ربحه يكمل من مجموعهما نصاب أنه يستقل به الحول من يوم كمل. واختلفوا إذا استفاد مالا وعنده نصاب مال آخر قد حال عليه الحول، فقال مالك: يزكى المستفاد إن كان نصابا لحوله ولا يضم إلى المال الذي وجبت فيه الزكاة، وبهذا القول في الفوائد قال الشافعي، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: الفوائد كلها تزكى بحول الأصل إذا كان الأصل نصابا، وكذلك الربح عندهم. وسبب اختلافهم هل حكمه حكم المال الوارد عليه أم حكمه حكم مال لم يرد على مال آخر؟ فمن قال حكمه حكم مال لم يرد على مال آخر: أعني مالا فيه زكاة. قال: لا زكاة في الفائدة، ومن جعل حكمه حكم الوارد عليه وأنه مال واحد قال: إذا كان في الوارد عليه الزكاة بكونه نصابا اعتبر حوله بحول المال الوارد عليه، وعموم قوله عليه الصلاة والسلام "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" يقتضي أن لا يضاف مال إلى مال إلا بدليل وكأن أبا حنيفة اعتمد في هذا قياس الناض على الماشية، ومن أصله الذي يعتمده في هذا الباب أنه ليس من شرط الحول أن يوجد المال نصابا في جميع أجزائه بل أن يوجد نصابا في طرفيه فقط وبعضا منه في كله؛ فعنده أنه إذا كان مال في أول الحول نصابا ثم هلك بعضه فصار أقل من نصاب ثم استفاد مالا في آخر الحول صار به نصابا أنه تجب فيه الزكاة، وهذا عنده موجود في هذا المال لأنه لم يستكمل الحول، وهو في جميع أجزائه مال واحد بعينه، بل زاد ولكن ألفى في طرفي الحول نصابا، والظاهر أن الحول الذي اشترط في المال إنما هو في مال معين لا يزيد ولا ينقص لا بربح ولا بفائدة ولا بغير ذلك، إذ كان المقصود بالحول هو كون المال فضلة مستغنى عنه وذلك أن ما بقي حولا عند المالك لم يتغير عنده فليس به حاجة إليه فجعل فيه الزكاة فإن الزكاة إنما هي في فضول الأموال. وأما من رأى أن اشتراط الحول في المال إنما سببه النماء فواجب عليه أن يقول: تضم الفوائد فضلا عن الأرباح إلى الأصول وأن يعتبر النصاب في طرفي الحول فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم. ولذلك رأى مالك أن من كان عنده في أول الحول ماشية تجب فيها الزكاة ثم باعها وأبدلها في آخر الحول بماشية من نوعها أنها تجب فيها الزكاة، فكأنه اعتبر أيضا طرفي الحول على مذهب أبي حنيفة، وأخذ أيضا ما اعتمد أبو حنيفة في فائدة الناض القياس على فائدة الماشية على ما قلناه. @-(وأما المسألة الرابعة) وهي اعتبار حول الدين إذا قلنا إن فيه الزكاة فإن قوما قالوا: يعتبر ذلك فيه من أول ما كان دينا يزكيه لعدة ذلك إن كان حولا فحول، وإن كان أحوالا فأحوال، أعني أنه إن كان حولا تجب فيه زكاة واحدة، وإن أحوالا وجبت فيه الزكاة لعدة تلك الأحوال. وقوم قالوا: يزكيه لعام واحد، وإن أقام الدين أحوالا عند الذي عنده الدين. وقوم قالوا: يستقبل به الحول. وأما من قال يستقبل بالدين الحول من يوم قبض فلم يقل بإيجاب الزكاة في الدين. ومن قال فيه: الزكاة بعدد الأحوال التي أقام فمصيرا إلى تشبيه الدين بالمال الحاضر. وأما من قال: الزكاة فيه لحول واحد وإن أقام أحوالا، فلا أعرف له مستندا في وقتي هذا، لأنه لا يخلو ما دام دينا أن يقول إن فيه زكاة أو لا يقول ذلك، فإن لم يكن فيه زكاة فلا كلام بل يستأنف به، وإن كان فيه زكاة فلا يخلو أن يشترط فيها الحول أو لا يشترط ذلك، فإن اشترطنا وجب أن يعتبر عدد الأحوال إلا أن يقول كلما انقضى حول فلم يتمكن من أدائه سقط عنه ذلك الحق اللازم في ذلك الحول، فإن الزكاة وجبت بشرطين: حضور عين المال، وحلول الحول، فلم يبق إلا حق العام الأخير، وهذا يشبهه مالك بالعروض التي للتجارة، فإنها لا تجب عنده فيها زكاة إلا إذا باعها وإن أقامت عنده أحوالا كثيرة، وفيه ما شبه بالماشية التي لا يأتي الساعي أعواما إليها ثم يأتي فيجدها قد انقضت فإنه يزكي على مذهب مالك الذي وجد فقط لأنه لما أن حال عليها الحول فيما تقدم ولم يتمكن من إخراج الزكاة إذ كان مجيء الساعي شرطا عنده في إخراجها مع حلول الحول سقط عنه حق ذلك الحول الحاضر وحوسب به في الأعوام السالفة كان الواجب فيها أقل أو أكثر إذا كانت مما تجب فيه الزكاة، وهو شيء يجري على غير قياس، وإنما اعتبر مالك فيه العمل. وأما الشافعي فيراه ضامنا لأنه ليس مجيء الساعي شرطا عنده في الوجوب، وعلى هذا كل من رأى أنه لا يجوز أن يخرج زكاة ماله إلا بأن يدفعها إلى الإمام فعدم الإمام، أو عدم الإمام العادل إن كان ممن شرط العدالة في ذلك أنه إذا هلكت بعد انقضاء الحول وقبل التمكن من دفعها إلى الإمام فلا شيء عليه. ومالك تنقسم عنده زكاة الديون لهذه الأحوال الثلاثة، أعني أن من الديون عنده ما يزكى لعام واحد فقط مثل ديون التجارة، ومنها ما يستقبل بها الحول مثل ديون المواريث. والثالث دين المدبر وتحصيل قوله في الديون ليس بغرضنا. @-(المسألة الخامسة) وهي حول العروض، وقد تقدم القول فيها عند القول في نصاب العروض. @-(وأما المسألة السادسة) وهي فوائد الماشية، فإن مذهب مالك فيها بخلاف مذهبه في فوائد الناض، وذلك أنه يبني الفائدة على الأصل إذا كان الأصل نصابا كما يفعل أبو حنيفة في فائدة الدارهم وفي فائدة الماشية، فأبو حنيفة مذهبه في الفوائد حكم واحد، أعني أنها تبنى على الأصل إذا كانت نصابا كانت فائدة غنم أو فائدة ناض، والأرباح عنده والنسل كالفوائد. وأما مالك فالربح والنسل عنده حكمهما واحد، ويفرق بين فوائد الناض وفوائد الماشية. وأما الشافعي فالأرباح والفوائد عنده حكمهما واحد باعتبار حولهما بأنفسهما، وفوائد الماشية ونسلها واحد باعتبار حولهما بالأصل إذا كان نصابا، فهذا هو تحصيل مذاهب هؤلاء الفقهاء الثلاثة، وكأنه إنما فرق مالك بين الماشية والناض اتباعا لعمر، وإلا فالقياس فيهما واحد، أعني أن الربح شبيه بالنسل والفائدة بالفائدة، وحديث عمر هذا هو أنه أمر أن يعد عليهم بالسخال ولا يأخذ منها شيئا، وقد تقدم الحديث في باب النصاب. @-(المسألة السابعة) وهي اعتبار حول نسل الغنم، فإن مالكا قال: حول النسل هو حول الأمهات كانت الأمهات نصابا أو لم تكن كما قال في ربح الناض. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور: لا يكون حول النسل حول الأمهات إلا أن تكون الأمهات نصابا. وسبب اختلافهم هو بعينه سبب اختلافهم في ربح المال. @-(وأما المسألة الثامنة) وهي جواز إخراج الزكاة قبل الحول، فإن مالكا منع ذلك وجوزه أبو حنيفة والشافعي. وسبب الخلاف هل هي عبادة أو حق واجب للمساكين، فمن قال عبادة وشبهها بالصلاة لم يجز إخراجها قبل الوقت ومن شبهها بالحقوق الواجبة المؤجلة أجاز إخراجها قبل الأجل على جهة التطوع وقد احتج الشافعي لرأيه بحديث علي "أن النبي عليه الصلاة والسلام استسلف صدقة العباس قبل محلها". 3*(الجملة الخامسة فيمن تجب له الصدقة)

4*الفصل الأول في عدد الأصناف الذين تجب لهم الزكاة:

@-فأما عددهم فهم الثمانية الذين نص الله عليهم في قوله تعالى {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} الآية. واختلفوا من العدد في مسألتين: إحداهما هل يجوز أن تصرف جميع الصدقة إلى صنف واحد من هؤلاء الأصناف أم هم شركاء في الصدقة لا يجوز أن يخص منهم صنف دون صنف؟ فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه يجوز للإمام أن يصرفها في صنف واحد أو أكثر من صنف واحد إذا رأى ذلك بحسب الحاجة. وقال الشافعي: لا يجوز ذلك بل يقسم على الأصناف الثمانية كما سمى الله تعالى، وسبب اختلافهم معارضة اللفظ للمعنى، فإن اللفظ يقتضي القسمة بين جميعهم، والمعنى يقتضي أن يؤثر بها أهل الحاجة إذ كان المقصود به سد الخلة، فكان تعديدهم في الآية عند هؤلاء إنما ورد لتمييز الجنس أعني أهل الصدقات لا تشريكهم في الصدقة، فالأول أظهر من جهة اللفظ، وهذا أظهر من جهة المعنى. ومن الحجة للشافعي ما رواه أبو داود عن الصُّدائي أن رجلا سأل النبي ﷺ أن يعطيه من الصدقة، فقال له رسول الله ﷺ: "إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك". وأما (المسألة الثانية): فهل المؤلفة قلوبهم حقهم باق إلى اليوم أم لا؟ فقال مالك: لا مؤلفة اليوم. وقال الشافعي وأبو حنيفة: بل حق المؤلفة باق إلى اليوم إذا رأى الإمام ذلك، وهم الذين يتألفهم الإمام على الإسلام: وسبب اختلافهم هل ذلك خاص بالنبي ﷺ، أو عام له ولسائر الأمة؟ والأظهر أنه عام، وهل يجوز ذلك للإمام في كل أحواله أو في حال دون حال؟ أعني في حال الضعف لا في حال القوة، ولذلك قال مالك: لا حاجة إلى المؤلفة الآن لقوة الإسلام، وهذا كما قلنا التفات منه إلى المصالح. 4*الفصل الثاني في الصفة التي تقتضي صرفها إليهم:

@-وأما صفاتهم التي يستوجبون بها الصدقة ويمنعون منها بأضدادها: فأحدها الفقر الذي هو ضد الغنى لقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} واختلفوا في الغني الذي تجوز له الصدقة من الذي لا تجوز، وما مقدار الغنى المحرم للصدقة. فأما الغني الذي لا تجوز له الصدقة فإن الجمهور على أنه لا تجوز الصدقة للأغنياء بأجمعهم إلا للخمس الذين نص عليهم النبي عليه الصلاة والسلام في قوله "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغنى" وروي عن ابن القاسم أنه لا يجوز أخذ الصدقة لغني أصلا مجاهدا كان أو عاملا، والذين أجازوها للعامل وإن كان غنيا أجازوها للقضاة ومن في معناهم ممن المنفعة بهم عامة للمسلمين، ومن لم يجز ذلك فقياس ذلك عنده هو أن لا تجوز لغني أصلا. وسبب اختلافهم هو هل العلة في إيجاب الصدقة للأصناف المذكورين هو الحاجة فقط أو الحاجة والمنفعة العامة؟ فمن اعتبر ذلك بأهل الحاجة المنصوص عليهم في الآية قال: الحاجة فقط، ومن قال الحاجة والمنفعة العامة توجب أخذ الصدقة اعتبر المنفعة للعامل والحاجة بسائر الأصناف المنصوص عليهم. وأما حد الغنى الذي يمنع من الصدقة فذهب الشافعي إلى أن المانع من الصدقة هو أقل ما ينطلق عليه الإسم. وذهب أبو حنيفة إلى أن الغني هو مالك النصاب لأنهم الذين سماهم النبي عليه الصلاة والسلام أغنياء لقوله في حديث معاذ له فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم وإذا كان الأغنياء هم الذين هم أهل النصاب وجب أن يكون الفقراء ضدهم. وقال مالك: ليس في ذلك حد إنما هو راجع إلى الإجتهاد. وسبب اختلافهم هل الغنى المانع هو معنى شرعي أم معنى لغوي؟ فمن قال معنى شرعي قال: وجود النصاب هو الغنى، ومن قال معنى لغوي اعتبر في ذلك أقل ما ينطلق عليه الإسم، فمن رأى أن أقل ما ينطلق عليه الإسم هو محدود في كل وقت وفي كل شخص جعل حده هذا، ومن رأى أنه غير محدود وأن ذلك يختلف باختلاف الحالات والحاجات والأشخاص والأمكنة والأزمنة وغير ذلك قال: هو غير محدود، وأن ذلك راجع إلى الإجتهاد. وقد روى أبو داود في هذا حديث الغنى الذي يمنع الصدقة عن النبي ﷺ أنه ملك خمسين درهما، وفي أثر آخر أنه ملك أوقية وهي أربعون درهما، وأحسب أن قوما قالوا بهذه الآثار في حد الغنى. واختلفوا من هذا الباب في صفة الفقير والمسكين والفصل الذي بينهما، فقال قوم: الفقير أحسن حالا من المسكين، وبه قال البغداديون من أصحاب مالك، وقال آخرون: المسكين أحسن حالا من الفقير، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي في أحد قوليه وفي قوله الثاني أنهما إسمان دالان على معنى واحد، وإلى هذا ذهب ابن القاسم، وهذا النظر هو لغوي إن لم تكن له دلالة شرعية. والأشبه عند استقراء اللغة أن يكونا اسمين دالين على معنى واحد يختلف بالأقل والأكثر في كل واحد منهما لا أن هذا راتب من أحدهما على قدر غير القدر الذي الآخر راتب عليه، واختلفوا في قوله تعالى {وفي الرقاب} فقال مالك: هم العبيد يعتقهم الإمام ويكون ولاؤهم للمسلمين وقال الشافعي وأبو حنيفة: هم المكاتبون وابن السبيل هو عندهم المسافر في طاعة ينفذ زاده فلا يجد ما ينفقه. وبعضهم يشترط فيه أن يكون ابن السبيل جار الصدقة. وأما في سبيل الله فقال مالك: سبيل الله مواضع الجهاد والرباط وبه قال أبو حنيفة. وقال غيره: الحجاج والعمار. وقال الشافعي: هو الغازي جار الصدقة، وإنما اشترط جار الصدقة لأن عند أكثرهم أنه لا يجوز تنقيل الصدقة من بلد إلى بلد إلا من ضرورة. 4*الفصل الثالث كم يجب لهم؟

@-وأما قدر ما يعطى من ذلك، أما الغارم فبقدر ما عليه إذا كان دينه في طاعة وفي غير سرف بل في أمر ضروري، وكذلك ابن السبيل يعطى ما يحمله إلى بلده، ويشبه أن يكون ما يحمله إلى مغزاه عند من جعل ابن السبيل الغازي. واختلفوا في مقدار ما يعطى المسكين الواحد من الصدقة، فلم يحد مالك في ذلك حدا وصرفه إلى الإجتهاد، وبه قال الشافعي قال: وسواء كان ما يعطى من ذلك نصابا أو أقل من نصاب. وكره أبو حنيفة أن يعطى أحد من المساكين مقدار نصاب من الصدقة. وقال الثوري: لا يعطى أحد أكثر من خمسين درهما. وقال الليث: يعطى ما يبتاع به خادما إذا كان ذا عيال وكانت الزكاة كثيرة، وكان أكثرهم مجمعون على أنه لا يجب أن يعطى عطية يصير بها من الغنى في مرتبة من لا تجوز له الصدقة، لأن ما حصل له من ذلك المال فوق القدر الذي هو به من أهل الصدقة صار في أول مراتب الغنى فهو حرام عليه. وإنما اختلفوا في ذلك لاختلافهم في هذا القدر، فهذه المسألة كأنها تبنى على معرفة أول مراتب الغنى. وأما العامل عليها فلا خلاف عند الفقهاء أنه إنما يأخذ بقدر عمله، فهذا ما رأينا أن نثبته في هذا الكتاب، وإن تذكرنا شيئا مما يشاكل غرضنا ألحقناه به إن شاء الله تعالى. 2*كتاب زكاة الفطر:

@-والكلام في هذا الكتاب يتعلق بفصول: أحدها في معرفة حكمها، والثاني في معرفة من تجب عليه، والثالث كم تجب عليه، ومن ماذا تجب عليه، والرابع متى تجب عليه؟ ، والخامس من تجوز له؟ . 3*الفصل الأول في معرفة حكمها:

@-فأما زكاة الفطر، فإن الجمهور على أنها فرض، وذهب بعض المتأخرين من أصحاب مالك إلى أنها سنة، وبه قال أهل العراق. وقال قوم: هي منسوخة بالزكاة. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك، وذلك بأنه ثبت من حديث عبد الله بن عمر أنه قال: فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر على الناس من رمضان صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين. وظاهر هذا يقتضي الوجوب على مذهب من يقلد الصاحب في فهم الوجوب أو الندب من أمره عليه الصلاة والسلام إذا لم يحد لنا لفظه، وثبت أن رسول الله ﷺ قال في حديث الأعرابي المشهور وذكر رسول الله ﷺ الزكاة قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. فذهب الجمهور إلى أن هذه الزكاة داخلة تحت الزكاة المفروضة، وذهب الغير إلى أنها غير داخلة، واحتجوا في ذلك بما روي عن قيس بن سعد بن عبادة أنه قال: كان رسول الله ﷺ يأمرنا بها قبل نزول الزكاة، فلما نزلت آية الزكاة لم نؤمر بها ولم ننه عنها ونحن نفعله. 3*الفصل الثاني في من تجب عليه وعن من تجب؟

@-وأجمعوا على أن المسلمين مخاطبون بها ذكرانا كانوا أو إناثا، صغارا أو كبارا، عبيدا أو أحرارا لحديث عمر المتقدم إلا ما شذ فيه الليث فقال ليس على أهل العمود زكاة الفطر، وإنما هي على أهل القرى ولا حجة له، وما شذ أيضا من قول من لم يوجبها على اليتيم. وأما عن من تجب؟ فإنهم اتفقوا على أنها تجب على المرء في نفسه، وأنها زكاة بدن لا زكاة مال، وأنها تجب في ولده الصغار عليه إذا لم يكن لهم مال، وكذلك في عبيده إذا لم يكن لهم مال واختلفوا فيما سوى ذلك. وتلخيص مذهب مالك في ذلك: أنها تلزم الرجل عمن ألزمه الشرع النفقة عليه، ووافقه في ذلك الشافعي. وإنما يختلفان من قبل اختلافهم فيمن تلزم المرء نفقته إذا كان معسرا ومن ليس تلزمه، وخالفه أبو حنيفة في الزوجة وقال تؤدي عن نفسها، وخالفهم أبو ثور في العبد إذا كان له مال، فقال: إذا كان له مال زكى عن نفسه ولم يزك عنه سيده، وبه قال أهل الظاهر والجمهور على أنه لا تجب على المرء في أولاده الصغار إذا كان لهم مال زكاة فطر، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك، وقال الحسن هي على الأب وإن أعطاها من مال الإبن فهو ضامن، وليس من شرط هذه الزكاة الغنى عند أكثرهم ولا نصاب بل أن تكون فضلا عن قوته وقوت عياله. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تجب على من تجوز له الصدقة، لأنه لا يجتمع أن تجوز له وأن تجب عليه، وذلك بين والله أعلم، وإنما اتفق الجمهور على أن هذه الزكاة ليست بلازمة لمكلف، مكلف في ذاته فقط كالحال في سائر العبادات، بل ومن قبل غيره لإيجابها على الصغير والعبيد، فمن فهم من هذا أن علة الحكم الولاية قال: الولي يلزمه إخراج الصدقة على كل من يليه، ومن فهم من هذه النفقة قال: المنفق يجب أن يخرج الزكاة عن كل من ينفق عليه بالشرع. وإنما عرض هذا الاختلاف لأنه اتفق في الصغير والعبد، وهما اللذان نبها على أن هذه الزكاة ليست معلقة بذات المكلف فقط بل ومن قبل غيره إن وجدت الولاية فيها ووجوب النفقة، فذهب مالك إلى أن العلة في ذلك وجوب النفقة، وذهب أبو حنيفة إلى أن العلة في ذلك الولاية، ولذلك اختلفوا في الزوجة. وقد روي مرفوعا "أدوا زكاة الفطر عن كل من تمونون" ولكنه غير مشهور. واختلفوا من العبيد في مسائل: إحداها كما قلنا وجوب زكاته على السيد إذا كان له مال، وذلك مبني على أنه يملك أو لا يملك. والثانية في العبد الكافر هل يؤدي عنه زكاته أم لا؟ فقال مالك والشافعي وأحمد: ليس على السيد في العبد الكافر زكاة. وقال الكوفيون: عليه الزكاة فيه. والسبب في اختلافهم اختلافهم في الزيادة الواردة في ذلك في حديث ابن عمر، وهو قوله من المسلمين، فإنه قد خولف فيها نافع بكون ابن عمر أيضا الذي هو راوي الحديث من مذهبه إخراج الزكاة عن العبيد الكفار. وللخلاف أيضا سبب آخر، وهو كون الزكاة الواجبة على السيد في العبد هل هي لمكان أن العبد يكلف أو أنه مال؟ فمن قال لمكان أنه مكلف اشترط الإسلام، ومن قال لمكان أنه مال لم يشترطه، قالوا: ويدل على ذلك إجماع العلماء على أن العبد إذا أعتق ولم يخرج عنه مولاه زكاة الفطر أنه لا يلزمه إخراجها عن نفسه بخلاف الكفارات. والثالثة في المكاتب، فإن مالكا وأبا ثور قالا: يؤدي عنه سيده زكاة الفطر. وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد: لا زكاة عليه فيه. والسبب في اختلافهم تردد المكاتب بين الحر والعبد. والرابعة في عبيد التجارة، ذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أن على السيد فيهم زكاة الفطر، وقال أبو حنيفة وغيره: ليس في عبيد التجارة صدقة. وسبب الخلاف معارضة القياس للعموم وذلك أن عموم اسم العبد يقتضي وجوب الزكاة في عبيد التجارة وغيرهم، وعند أبي حنيفة أن هذا العموم مخصص بالقياس، وذلك هو اجتماع زكاتين في مال واحد، وكذلك اختلفوا في العبيد وفروع هذا الباب كثيرة. 3*الفصل الثالث مماذا تجب؟

@-وأما مماذا تجب؟ فإن قوما ذهبوا ظغلى أنها تجب إما من البر أو من التمر أو من الشعير أو من الأقط، وأن ذلك على التخيير للذي تجب عليه، وقوم ذهبوا إلى أن الواجب عليه هو غالب قوت البلد أو قوت المكلف إذا لم يقدر على قوت البلد، وهو الذي حكاه عبد الوهاب عن المذهب. والسبب في اختلافهم اختلافهم في مفهوم حديث أبي سعيد الخدري أنه قال "كنا نخرج زكاة الفطر في عهد رسول الله ﷺ صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط أو صاعا من تمر" فمن فهم من هذا الحديث التخيير قال أيّا أخرج من هذا أجزأ عنه، ومن فهم منه أن اختلاف المخرج ليس سببه الإباحة وإنما سببه اعتبار قوت المخرج أو قوت غالب البلد قال بالقول الثاني. وأما كم يجب؟ فإن العلماء اتفقوا على أنه لا يؤدي في زكاة الفطر من التمر والشعير أقل من صاع لثبوت ذلك في حديث ابن عمر، واختلفوا في قدر ما يؤدى من القمح، فقال مالك والشافعي: لا يجزئ منه أقل من صاع، وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجزئ من البر نصف صاع. والسبب في اختلافهم تعارض الآثار، وذلك أنه جاء في حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: "كنا نخرج زكاة الفطر في عهد رسول الله ﷺ صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من أقط أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب" وظاهره أنه أراد بالطعام القمح. وروى الزهري أيضا عن أبي سعيد عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال: "في صدقة الفطر صاعا من بر بين اثنين أو صاعا من شعير أو تمر عن كل واحد" خرجه أبو داود. وروي عن ابن المسيب أنه قال: "كانت صدقة الفطر على عهد رسول الله ﷺ نصف صاع من حنطة أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر". فمن أخذ بهذه الأحاديث قال: نصف صاع من البر، ومن أخذ بظاهر حديث أبي سعيد وقال البر في ذلك على الشعير سوَّى بينهما في الوجوب 3*الفصل الرابع متى تجب زكاة الفطر؟

@-وأما متى يجب إخراج زكاة الفطر؟ فإنهم اتفقوا على أنها تجب في آخر رمضان لحديث ابن عمر "فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر من رمضان" واختلفوا في تحديد الوقت، فقال مالك في رواية ابن القاسم عنه: تجب بطلوع الفجر من يوم الفطر. وروى عنه أشهب أنها تجب بغروب الشمس من آخر يوم رمضان، وبالأول قال أبو حنيفة، وبالثاني قال الشافعي. وسبب اختلافهم هل هي عبادة متعلقة بيوم العيد: أو بخروج شهر رمضان؟ لأن ليلة العيد ليست من شهر رمضان، وفائدة هذا الاختلاف في المولود يولد قبل الفجر من يوم العيد وبعد مغيب الشمس هل تجب عليه أم لا تجب؟. 3*الفصل الخامس في معرفتها:

@-وأما لمن تصرف فأجمعوا على أنه تصرف لفقراء المسلمين لقوله عليه الصلاة والسلام "أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم" واختلفوا هل تجوز لفقراء الذمة، والجمهور على أنها لا تجوز لهم، وقال أبو حنيفة: تجوز لهم. وسبب اختلافهم هل سبب جوازها هو الفقر فقط، أو الفقر والإسلام معا؟ فمن قال الفقر والإسلام لم يجزها للذميين، ومن قال الفقر فقط أجازها لهم، واشترط قوم في أهل الذمة الذين تجوز لهم أن يكونوا رهبانا، وأجمع المسلمون على أن زكاة الأموال لاتجوز لأهل الذمة لقوله عليه الصلاة والسلام: "صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم". بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما

===

 

 

 

 

 

 

 

 

كتاب الصيام @-وهذا الكتاب ينقسم أولا قسمين: أحدهما في الصوم الواجب، والآخر في المندوب إليه. والنظر في الصوم الواجب ينقسم إلى قسمين: أحدهما في الصوم والآخر في الفطر. أما القسم الأول وهو الصيام فإنه ينقسم أولا إلى جملتين: إحداهما معرفة أنواع الصيام الواجب، والأخرى معرفة أركانه. وأما القسم الذي يتضمن النظر في الفطر فإنه ينقسم إلى معرفة المفطرات وإلى معرفة المفطرين وأحكامهم. 3*[كتاب الصيام الأول]

3*(الجملة الأولى) وهي معرفة أنواع الصيام

@-فلنبدأ بالقسم الأول من هذا الكتاب، وبالجملة الأولى منه، وهي معرفة أنواع الصيام فنقول: إن الصوم الشرعي منه واجب، ومنه مندوب إليه. والواجب ثلاثة أقسام: منه ما يجب للزمان نفسه، وهو صوم شهر رمضان بعينه. ومنه ما يجب لعلة، وهو صيام الكفارات. ومنه ما يجب بإيجاب الإنسان ذلك على نفسه، وهو صيام النذر. والذي يتضمن هذا الكتاب القول فيه من أنواع هذه الواجبات هو صوم شهر رمضان فقط. وأما صوم الكفارات فيذكر عند ذكر المواضع التي تجب منها الكفارة، وكذلك صوم النذر ويذكر في كتاب النذر. فأما صوم شهر رمضان فهو واجب بالكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب فقوله تعالى {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} وأما السنة ففي قوله عليه الصلاة والسلام "بني الإسلام على خمس، وذكر فيها الصوم" وقوله للأعرابي "وصيام شهر رمضان" قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع. وأما الإجماع فإنه لم ينقل إلينا خلاف عن أحد من الأئمة في ذلك. وأما على من يجب وجوبا غير مخير فهو البالغ العاقل الحاضر الصحيح إذا لم تكن فيه الصفة المانعة من الصوم وهي الحيض للنساء، هذا لا خلاف فيه لقوله تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} . 3*الجملة الثانية: في الأركان

@-والأركان ثلاثة: اثنان متفق عليهما، وهما الزمان والإمساك عن المفطرات. والثالث مختلف فيه وهو النية. فأما الركن الأول الذي هو الزمان، فإنه ينقسم إلى قسمين: أحدهما زمان الوجوب، وهو شهر رمضان. والآخر زمان الإمساك عن المفطرات، وهو أيام هذا الشهر دون الليالي، ويتعلق بكل واحد من هذين الزمانين مسائل قواعد اختلفوا فيها، فلنبدأ بما يتعلق من ذلك بزمان الوجوب، وأول ذلك في تحديد طرفي هذا الزمان. وثانيا في معرفة الطريق التي بها يتوصل إلى معرفة العلامة المحدودة في حق شخص شخص وأفق أفق. فأما طرفا هذا الزمان، فإن العلماء أجمعوا على أن الشهر العربي يكون تسعا وعشرين ويكون ثلاثين وعلى أن الإعتبار في تحديد شهر رمضان إنما هو الرؤية، لقوله عليه الصلاة والسلام "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" وعني بالرؤية أول ظهور القمر بعد السؤال. واختلفوا في الحكم إذا غم الشهر ولم تمكن الرؤية وفي وقت الرؤية المعتبر، فأما اختلافهم إذا غم الهلال، فإن الجمهور يرون أن الحكم في ذلك أن تكمل العدة ثلاثين، فإن كان الذي غم هلال أول الشهر عد الشهر الذي قبله ثلاثين يوما، وكان أول رمضان الحادي والثلاثين، وإن كان الذي غم هلال آخر الشهر صام الناس ثلاثين يوما. وذهب ابن عمر إلى أنه إن كان المغمّى عليه هلال أول الشهر صيم اليوم الثاني وهو الذي يعرف بيوم الشك. وروى بعض السلف أنه إذا أغمى الهلال رجع إلى الحساب بمسير القمر والشمس، وهو مذهب مطرف بن الشخير وهو من كبار التابعين. وحكى ابن سريج عن الشافعي أنه قال: من كان مذهبه الاستدلال بالنجوم ومنازل القمر ثم تبين له من جهة الاستدلال أن الهلال مرئي وقد غم، فإن له أن يعقد الصوم ويجزيه. وسبب اختلافهم الإجمال الذي في قوله ﷺ "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له" فذهب الجمهور إلى أن تأويله أكملوا العدة ثلاثين. ومنهم من رأى أن معنى التقدير له هو عده بالحساب. ومنهم من رأى أن معنى ذلك أن يصبح المرء صائما، وهو مذهب ابن عمر كما ذكرنا وفيه بعد في اللفظ. وإنما صار الجمهور إلى هذا التأويل لحديث ابن عباس الثابت أنه قال عليه الصلاة والسلام "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" وذلك مجمل وهذا مفسر، فوجب أن يحمل المجمل على المفسر، وهي طريقة لا خلاف فيها بين الأصوليين، فإنهم ليس عندهم بين المجمل والمفسر تعارض أصلا، فمذهب الجمهور في هذا لائح والله أعلم. وأما اختلافهم في إعتبار وقت الرؤية فإنهم اتفقوا على أنه إذا رؤي من العشي أن الشهر من اليوم الثاني، واختلفوا إذا رؤي في سائر أوقات النهار أعني أول ما رؤي، فمذهب الجمهور أن القمر في أول وقت رؤي من النهار أنه لليوم المستقبل كحكم رؤيته بالعشي، وبهذا القول قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور أصحابهم. وقال أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة والثوري وابن حبيب من أصحاب مالك: إذا رؤي الهلال قبل الزوال فهو لليلة الماضية وإن رؤي بعد الزوال فهو للآتية. وسبب اختلافهم ترك اعتبار التجربة فيما سبيله التجربة والرجوع إلى الأخبار في ذلك، وليس في ذلك أثر عن النبي عليه الصلاة والسلام يرجع إليه، لكن روي عن عمر رضي الله عنه أثران: أحدهما عام والآخر مفسر، فذهب قوم إلى العام وذهب قوم إلى المفسر. فأما العام فما رواه الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: أتانا كتاب عمر ونحن بخانقين أن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس. وأما الخاص فما روى الثوري عنه أنه بلغ عمر بن الخطاب أن قوما رأوا الهلال بعد الزوال فأفطروا، فكتب إليهم يلومهم وقال: إذا رأيتم الهلال نهارا قبل الزوال فأفطروا، وإذا رأيتموه بعد الزوال فلا تفطروا. قال القاضي: الذي يقتضي القياس والتجربة أن القمر لا يرى والشمس بعد لم تغب إلا وهو بعيد منها، لأنه حينئذ يكون أكبر من قوس الرؤية، وإن كان يختلف في الكبر والصغر فبعيد والله أعلم أن يبلغ من الكبر أن يرى والشمس بعد لم تغب، ولكن المعتمد في ذلك التجربة كما قلنا ولا فرق في ذلك قبل الزوال ولا بعده، وإنما المعتبر في ذلك مغيب الشمس أو لا مغيبها. وأما اختلافهم في حصول العلم بالرؤية فإن له طريقين: أحدهما الحس والآخر الخبر، فأما طريق الحس فإن العلماء أجمعوا على أن من أبصر هلال الصوم وحده أن عليه أن يصوم، إلا عطاء بن أبي رباح فإنه قال: لا يصوم إلا برؤية غيره معه، واختلفوا هل يفطر برؤيته وحده؟ فذهب مالك وأبو حنيفة وأحمد إلى أنه لا يفطر. وقال الشافعي: يفطر، وبه قال أبو ثور، وهذا لا معنى له، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قد أوجب الصوم والفطر للرؤية. والرؤية إنما تكون بالحس، ولولا الإجماع على الصيام بالخبر عن الرؤية لبعد وجوب الصيام بالخبر لظاهر هذا الحديث، وإنما فرق من فرق بين هلال الصوم والفطر لمكان سد الذريعة أن لا يدعى الفساق أنهم رأوا الهلال فيفطرون وهم بعد لم يروه، ولذلك قال الشافعي: إن خاف التهمة أمسك عن الأكل والشرب واعتقد الفطر، وشذ مالك فقال: من أفطر وقد رأى الهلال وحده فعليه القضاء والكفارة. وقال أبو حنيفة: عليه القضاء فقط. وأما طريق الخبر فإنهم اختلفوا في عدد المخبرين الذين يجب قبول خبرهم عن الرؤية وفي صفتهم. فأما مالك فقال: إنه لا يجوز أن يصام ولا يفطر بأقل من شهادة رجلين عدلين. وقال الشافعي في رواية المزني: إنه يصام بشهادة رجل واحد على الرؤية، ولا يفطر بأقل من شهادة رجلين. وقال أبو حنيفة: إن كانت السماء مغيمة قبل واحد، وإن كانت صاحية بمصر كبير لم تقبل إلا شهادة الجم الغفير. وروي عنه أنه تقبل شهادة عدلين إذا كانت السماء مصحية وقد روي عن مالك أنه لا تقبل شهادة الشاهدين إلا إذا كانت السماء مغيمة، وأجمعوا على أنه لا يقبل في الفطر إلا إثنان، إلا أبا ثور فإنه لم يفرق في ذلك بين الصوم والفطر كما فرق الشافعي. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وتردد الخبر في ذلك بين أن يكون من باب الشهادة أو من باب العمل بالأحاديث التي لا يشترط فيها العدد. وتردد الخبر في ذلك بين أن يكون من باب الشهادة أو من باب العمل بالأحاديث التي لا يشترط فيها العدد. أما الآثار فمن ذلك ما خرجه أبو داود عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه فقال: إني جالست أصحاب رسول الله ﷺ وسألتهم وكلهم حدثوني أن رسول الله ﷺ قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين، فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا" ومنها حديث ابن عباس أنه قال "جاء أعرابي إلى النبي ﷺ فقال أبصرت الهلال الليلة، فقال أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا" خرجه الترمذي قال: وفي إسناده خلاف لأنه رواه جماعة مرسلا. ومنها حديث ربعي بن خراش خرجه أبو داود عن ربعي بن خراش عن رجل من أصحاب رسول الله ﷺ قال " كان الناس في آخر يوم من رمضان فقام أعرابيان فشهدا عند النبي ﷺ لأهل الهلال أمس عشية، فأمر رسول الله ﷺ الناس أن يفطروا وأن يعودوا إلى المصلى" فذهب الناس في هذه الآثار مذهب الترجيح ومذهب الجمع، فالشافعي جمع بين حديث ابن عباس وحديث ربعي بن خراش على ظاهرهما، فأوجب الصوم بشهادة واحد والفطر بإثنين، ومالك رجح حديث عبد الرحمن ابن زيد لمكان القياس: أعني تشبيه ذلك بالشهادة في الحقوق، ويشبه أن يكون أبو ثور لم ير تعارضا بين حديث ابن عباس وحديث ربعي بن خراش، وذلك أن الذي في حديث ربعي بن خراش أنه قضى بشهادة إثنين، وفي حديث ابن عباس أنه قضى بشهادة واحد، وذلك مما يدل على جواز الأمرين جميعا، لا أن ذلك تعارض، ولا أن القضاء الأول مختص بالصوم والثاني بالفطر، فإن القول بهذا إنما ينبني على توهم التعارض، وكذلك يشبه أن لا يكون تعارض بين حديث عبد الرحمن بن زيد وبين حديث ابن عباس إلا بدليل الخطاب، وهو ضعيف إذا عارضه النص، فقد نرى أن قول أبي ثور على شذوذه هو أبين، مع أن تشبيه الرائي بالراوي هو أمثل من تشبيهه بالشاهد، لأن الشهادة إما أن يقول إن اشتراط العدد فيها عبادة غير معللة فلا يجوز أن يقيس عليها، وإما أن يقول إن اشتراط العدد فيها هو لموضع التنازع الذي في الحقوق، والشبة التي تعرض من قبل قول أحد الخصمين فاشترط فيها العدد وليكون الظن أغلب والميل إلى حجة أحد الخصمين أقوى، ولم يتعد بذلك الأثنين لئلا يعسر قيام الشهادة فتبطل الحقوق، وليس في رؤية القمر شبهة من مخالف توجب الإستظهار بالعدد، ويشبه أن يكون الشافعي إنما فرق بين هلال الفطر وهلال الصوم للتهمة التي تعرض للناس في هلال الفطر ولا تعرض في هلال الصوم، ومذهب أبي بكر بن المنذر هو مذهب أبي ثور أحسبه هو مذهب أهل الظاهر وقد احتج أبو بكر بن المنذر لهذا الحديث بانعقاد الإجماع على وجوب الفطر والإمساك عن الأكل بقول واحد، فوجب أن يكون الأمر كذلك في دخول الشهر وخروجه، إذ كلاهما علامة تفصل زمان الفطر من زمان الصوم، وإذا قلنا إن الرؤية تثبت بالخبر في حق من لم يره فهل يتعدى ذلك من بلد إلى بلد؟ أعني هل يجب على أهل بلد ما إذا لم يروه أن يأخذوا في ذلك برؤية بلد آخر أم لكل بلد رؤية؟ فيه خلاف، فأما مالك فإن ابن القاسم والمصريين رووا عنه أنه إذا ثبت عند أهل بلد أن أهل بلد آخر رأوا الهلال أن عليهم قضاء ذلك اليوم الذي أفطروه وصامه غيرهم، وبه قال الشافعي وأحمد. وروى المدنيون عن مالك أن الرؤية لا تلزم بالخبر عند أهل البلد الذي وقعت فيه الرؤية، إلا أن يكون الإمام يحمل الناس على ذلك، وبه قال ابن الماجشون والمغيرة من أصحاب مالك، وأجمعوا أنه لا يراعى ذلك في البلدان النائية كالأندلس والحجاز. والسبب في هذا الخلاف تعارض الأثر والنظر. أما النظر فهو أن البلاد إذا لم تختلف مطالعها كل الإختلاف فيجب أن يحمل بعضها على بعض لأنها في قياس الأفق الواحد. وأما إذا اختلفت إختلافا كثيرا فليس يجب أن يحمل بعضها على بعض. وأما الأثر فما رواه مسلم عن كريب أن أم الفضل بنت الحرث بعثته إلى معاوية بالشام فقال: قدمت الشام فقضيت حاجتها، واستهل على رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فقلت: رأيته ليلة الجمعة، فقال: أنت رأيته؟ فقلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية قال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين يوما أو نراه، فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية؟ فقال لا، هكذا أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام، فظاهر هذا الأثر يقتضي أن لكل بلد رؤيته قرب أو بعد، والنظر يعطي الفرق بين البلاد النائية والقريبة، وبخاصة ما كان نأيه في الطول والعرض كثيرا، وإذا بلغ الخبر مبلغ التواتر لم يحتج فيه إلى شهادة، فهذه هي المسائل التي تتعلق بزمان الوجوب. وأما التي تتعلق بزمان الإمساك فإنهم اتفقوا على أن آخره غيبوبة الشمس لقوله تعالى -ثم أتموا الصيام إلى الليل- واختلفوا في أوله، فقال الجمهور هو طلوع الفجر الثاني المستطير الأبيض لثبوت ذلك عن رسول الله ﷺ، أعني حده بالمستطير ولظاهر قوله تعالى -حتى يتبين لكم الخيط الأبيض- الآية. وشذت فرقة فقالوا: هو الفجر الأحمر الذي يكون بعد الأبيض وهو نظير الشفق الأحمر، وهو مروي عن حذيفة وابن مسعود. وسبب هذا الخلاف هو إختلاف الآثار في ذلك واشتراك اسم الفجر، أعني أنه يقال على الأبيض والأحمر. وأما الآثار التي احتجوا بها فمنها حديث ذر عن حذيفة قال "تسحرت مع النبي ﷺ ولو أشاء أن أقول هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع" وخرج أبو داود عن قيس بن مطلق عن أبيه أنه عليه الصلاة والسلام قال: "كلوا واشربوا ولا يُهِيدَنَّكم (1) الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر" قال أبو داود: هذا ما تفرد به أهل اليمامة وهذا شذوذ، فإن قوله تعالى -حتى يتبين لكم الخيط الأبيض- نص في ذلك أو كالنص، والذين رأوا أنه الفجر الأبيض المستطير وهم الجمهور والمعتمد اختلفوا في الحد المحرم للأكل فقال قوم: هو طلوع الفجر نفسه. وقال قوم هو تبينه عند الناظر إليه ومن لم يتبينه، فالأكل مباح له حتى يتبينه وإن كان قد طلع، وفائدة الفرق أنه إذا انكشف أن ماظن من أنه لم يطلع، كان قد طلع. فمن كان الحد عنده هو الطلوع نفسه أوجب عليه القضاء، ومن قال: هو العلم الحاصل به لم يوجب عليه قضاء. وسبب الإختلاف في ذلك الإحتمال الذي في قوله تعالى -وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر- هل الإمساك بالتبيين نفسه أو بالشيء المتبين؟ لأن العرب تتجوز فتستعمل لاحق الشيء بدل الشيء على وجه الإستعارة فكأنه قال تعالى -وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود- لأنه إذا تبين في نفسه تبين لنا، فإذا إضافة التبيين لنا هي التي أوقعت الخلاف، لأنه قد يتبين في نفسه ويتميز ولا يتبين لنا، وظاهر اللفظ يوجب تعلق الإمساك بالعلم والقياس يوجب تعلقه بالطلوع نفسه، أعني قياسا على الغروب وعلى سائر حدود الأوقات الشرعية كالزوال وغيره فإن الإعتبار في جميعها في الشرع هو بالأمر نفسه لا بالعلم المتعلق به. والمشهور عن مالك وعليه الجمهور أن الأكل يجوز أن يتصل بالطلوع، وقيل بل يجب الإمساك قبل الطلوع. والحجة للقول الأول ما في كتاب البخاري أظنه في بعض رواياته قال النبي ﷺ: "وكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم فإنه لا ينادي حتى يطلع الفجر" وهو نص في موضع الخلاف أو كالنص والموافق لظاهر قوله تعالى -كلوا واشربوا- الآية. ومن ذهب إلى أنه يجب الإمساك قبل الفجر فجريا على الإحتياط وسدا للذريعة وهو أورع القولين والأول أقيس، والله أعلم.

(1) هكذا بالنسخة المصرية، وبالنسخة المغربية: "ولا يهمزنكم"، فتأمل.

@-الركن الثاني وهو الإمساك: وأجمعوا على أنه يجب على الصائم الإمساك زمان الصوم عن المطعوم والمشروب والجماع لقوله تعالى {فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} واختلفوا من ذلك في مسائل منها مسكوت عنها ومنها منطوق بها أما المسكوت عنها: إحداها فيما يرد الجوف مما ليس بمغذ وفيما يرد الجوف من غير منفذ الطعام والشراب مثل الحقنة، وفيما يرد باطن سائر الأعضاء ولا يرد الجوف مثل أن يرد الدماغ ولا يرد المعدة. وسبب اختلافهم في هذه هو قياس المغذي على غير المغذي، وذلك أن المنطوق به إنما هو المغذي، فمن رأى أن المقصود بالصوم معنى معقول لم يلحق المغذي بغير المغذي، ومن رأى أنها عبادة غير معقولة، وأن المقصود منها إنما هو الإمساك فقط عما يرد الجوف سوى بين المغذي وغير المغذي، وتحصيل مذهب مالك أنه يجب الإمساك عن ما يصل إلى الحلق من أي المنافذ وصل مغذيا كان أو غير مغذ. وأما ما عدا المأكول والمشروب من المفطرات فكلهم يقولون إن من قبل فأمنى فقد أفطر وإن أمذى فلم يفطر إلا مالك. واختلفوا في القبلة للصائم، فمنهم من أجازها، ومنهم من كرهها للشاب وأجازها للشيخ ومنهم من كرهها على الإطلاق، فمن رخص فيها فلما روى من حديث عائشة وأم سلمة "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقبل وهو صائم" ومن كرهها فلما يدعوا إليه من الوقاع. وشذ قوم فقالوا: القبلة تفطر، واحتجوا لذلك بما روي عن ميمونة بنت سعد قالت "سأل رسول الله ﷺ عن القبلة للصائم فقال: "أفطرا جميعا" خرج هذا الأثر الطحاوي ولكن ضعفه. وأما ما يقع من هذه من قبل الغلبة ومن قبل النسيان فالكلام فيه عند الكلام في المفطرات وأحكامها. وأما ما اختلفوا فيه مما هو منطوق به فالحجامة والقيء. أما الحجامة فإن فيها ثلاثة مذاهب: قوم قالوا: إنها تفطر وأن الإمساك عنها واجب، وبه قال أحمد وداود والأوزاعي وإسحق بن راهويه وقوم قالوا: إنها مكروهة للصائم وليست تفطر، وبه قال مالك والشافعي والثوري. وقوم قالوا: إنها غير مكروهة ولا مفطرة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وسبب اختلافهم تعارض الآثار الواردة في ذلك، وذلك أنه ورد في ذلك حديثان: أحدهما ما روي من طريق ثوبان ومن طريق رافع بن خديج أنه عليه الصلاة والسلام قال: "أفطر الحاجم والمحجوم" وحديث ثوبان هذا كان يصححه أحمد. والحديث الثاني حديث عكرمة عن ابن عباس "أن رسول الله ﷺ احتجم وهو صائم" وحديث ابن عباس هذا صحيح؛ فذهب العلماء في هذين الحديثين ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب الترجيح. والثاني مذهب الجمعة. والثالث مذهب الإسقاط عند التعارض والرجوع إلى البراءة الأصلية إذا لم يعلم الناسخ من المنسوخ، فمن ذهب مذهب الترجيح قال بحديث ثوبان، وذلك أن هذا موجب حكما، وحديث ابن عباس رافعه، والموجب مرجح عند كثير من العلماء على الرافع لأن الحكم إذا ثبت بطريق يوجب العمل لم يرتفع إلا بطريق يوجب العمل برفعه، وحديث ثوبان قد وجب العمل به، وحديث ابن عباس يحتمل أن يكون ناسخا ويحتمل أن يكون منسوخا، وذلك شك والشك لا يوجب عملا ولا يرفع العلم الموجب للعمل، وهذا على طريقة من لا يرى الشك مؤثرا في العلم، ومن رام الجمع بينهما حمل حديث النهي على الكراهية وحديث الإحتجام على الحظر، ومن أسقطهما للتعارض قال بإباحة الإحتجام للصائم. وأما القيء فإن جمهور الفقهاء على أن من ذرعه القيء فليس بمفطر، إلا ربيعة فإنه قال: إنه مفطر، وجمهورهم أيضا على أنه من استقاء فقاء فإنه مفطر إلا طاوس. وسبب اختلافهم ما يتوهم من التعارض بين الأحاديث الواردة في هذه المسألة اختلافهم أيضا في تصحيحها، وذلك أنه ورد في هذا الباب حديثان أحدهما حديث أبي الدرداء "أن رسول الله ﷺ قاء فأفطر" قال معدان: فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فقلت له أن أبا الدرداء حدثني "أن رسول الله ﷺ قاء فأفطر، قال: صدق أنا صببت له وضوءه" وحديث ثوبان هذا صححه الترمذي. والآخر حديث أبي هريرة خرجه الترمذي وأبو داود أيضا أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء وإن استقاء فعليه القضاء" وروى موقوفا عن ابن عمر؛ فمن لم يصح عنده الأثران كلاهما قال: ليس فيه فطر أصلا، ومن أخذ بظاهر حديث ثوبان ورجحه على حديث أبي هريرة أوجب الفطر من القيء بإطلاق، ولم يفرق بين أن يستقيء أو لا يستقيء؛ ومن جمع بين الحديثين وقال حديث ثوبان مجمل وحديث أبي هريرة مفسر والواجب حمل المجمل على المفسر فرق بين القئ والإستقاءة، وهو الذي عليه الجمهور @-الركن الثالث وهو النية: والنظر في النية في مواضع منها هل هي شرط في صحة هذه العبادة أم ليست بشرط؟ وإن كانت شرطا فما الذي يجزئ من تعيينها؟ وهل يجب تجديدها في كل يوم من أيام رمضان أم يكفي في ذلك النية الواقعة في اليوم الأول؟ وإذا أوقعها المكلف فأي وقت إذا وقعت فيه صح الصوم؟ وإذا لم تقع فيه بطل الصوم؟ وهل رفض النية يوجب الفطر وإن لم يفطر؟ وكل هذه المطالب قد اختلف العلماء فيها. أما كون النية شرطا في صحة الصيام فإنه قول الجمهور؛ وشذ زفر فقال: لا يحتاج رمضان إلى النية إلا أن يكون الذي يدركه صيام شهر رمضان مريضا أو مسافرا فيريد الصوم. والسبب في اختلافهم الإحتمال المتطرق إلى الصوم هل هو عبادة معقولة المعنى أو غير معقولة المعنى؟ فمن رأى أنها غير معقولة المعنى أوجب النية، ومن رأى أنها معقولة المعنى قال: قد حصل المعنى إذا صام وإن لم ينو، لكن تخصيص زفر رمضان بذلك من بين أنواع الصوم فيه ضعف، وكأنه لما رآى أن أيام رمضان لا يجوز فيها الفطر، أي أن كل صوم يقع فيها ينقلب صوما شرعيا، وأن هذا شيء يخص هذه الأيام. وأما اختلافهم في تعيين النية المجزية في ذلك فإن مالكا قال: لا بد في ذلك من تعيين صوم رمضان، ولا يكفيه اعتقاد الصوم مطلقا ولا اعتقاد صوم معين غير صوم رمضان. وقال أبو حنيفة: إن اعتقد مطلق الصوم أجزأه، وكذلك إن نوى فيه صيام غير رمضان أجزأه وانقلب إلى صيام رمضان إلا أن يكون مسافرا، فإنه إذا نوى المسافر عنده في رمضان صيام غير رمضان كان ما نوى، لأنه لم يجب عليه صوم رمضان وجوبا معينا، ولم يفرق صاحباه بين المسافر والحضر وقالا: كل صوم نوى في رمضان انقلب إلى رمضان. وبسبب اختلافهم هل الكافي في تعيين النية في هذه العبادة هو تعيين جنس العبادة أو تعيين شخصها، وذلك أن كلا الأمرين موجود في الشرع، مثال ذلك أن النية في الوضوء يكفي منها اعتقاد رفع الحدث لأي شيء كان من العبادة التي الوضوء شرط في صحتها، وليس يختص عبادة عبادة بوضوء وضوء. وأما الصلاة فلا بد فيها من تعيين شخص العبادة، فلا بد من تعيين الصلاة إن عصرا فعصرا، وإن ظهرا فظهرا، وهذا كله على المشهور عند العلماء، فتردد الصوم عند هؤلاء بين هذين الجنسين، فمن ألحقه بالجنس الواحد قال: يكفي في ذلك اعتقاد الصوم فقط، ومن ألحقه بالجنس الثاني اشترط تعيين الصوم. واختلافهم أيضا في إذا نوى في أيام رمضلن صوما آخر هل ينقلب أو لا ينقلب؟ سببه أيضا أن من العبادة عندهم من ينقلب من قبل أن الوقت الذي توقع فيه مختص بالعبادة التي تنقلب إليه، ومنها ما ليس ينقلب، أما التي لا تنقلب فأكثرها، وأما التي تنقلب باتفاق فالحج. وذلك أنهم قالوا إذا ابتدأ الحج تطوعا من وجب عليه الحج انقلب التطوع إلى فرض، ولم يقولوا ذلك في الصلاة ولا في غيرها، فمن شبه الصوم بالحج قال ينقلب ومن شبهه بغيره من العبادات قال لا ينقلب. وأما اختلافهم في وقت النية، فإن مالكا رأى أنه لا يجزئ الصيام إلا بنية قبل الفجر، وذلك في جميع أنواع الصوم؛ وقال الشافعي: تجزئ النية بعد الفجر في النافلة ولا تجزئ في الفروض. وقال أبو حنيفة: تجزئ النية بعد الفجر في الصيام المتعلق وجوبه بوقت معين مثل رمضان ونذر أيام محدودة، وكذلك في النافلة، ولا يجزئ في الواجب في الذمة. والسبب في اختلافهم تعارض الآثار في ذلك؛ أما الآثار المتعارضة في ذلك، فأحدها ما خرجه البخاري عن حفصة أنه قال عليه الصلاة والسلام "من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له" ورواه مالك موقوفا قال أبو عمر: حديث حفصة في إسناده اضطراب. والثاني ما رواه مسلم عن عائشة قالت "قال لي رسول الله ﷺ ذات يوم: يا عائشة هل عندكم شيء؟ قالت: قلت يارسول الله ما عندنا شيء، قال فإني صائم" ولحديث معاوية أنه قال على المنبر: يا أهل المدينة أين علماؤكم سمعت رسول الله ﷺ يقول "اليوم هذا يوم عاشوراء ولم يكتب علينا صيامه وأنا صائم فمن شاء منكم فليصم ومن شاء فليفطر" فمن ذهب مذهب الترجيح أخذ بحديث حفصة، ومن ذهب مذهب الجمع فرق بين النفل والفرض، أعني حمل حديث حفصة على الفرض، وحديث عائشة ومعاوية على النفل، وإنما فرق أبو حنيفة بين الواجب المعين والواجب في الذمة، لأن الواجب المعين له وقت مخصوص يقوم مقام النية في التعيين، الذي في الذمة ليس له وقت مخصوص، فأوجب أن التعيين بالنية؛ وجمهور الفقهاء على أنه ليست الطهارة من الجنابة شرطا في صحة الصوم لما ثبت من حديث عائشة وأم سلمة زوجي النبي ﷺ أنهما قالتا "كان رسول الله ﷺ يصبح جنبا من جماع غير احتلام في رمضان ثم يصوم" ومن الحجة لهما الإجماع على أن الإحتلام بالنهار لا يفسد الصوم. وروي عن إبراهيم النخعي وعروة بن الزبير وطاوس أنه إن تعمد ذلك أفسد صومه. وسبب اختلافهم ما روي عن أبي هريرة أنه كان يقول "من أصبح جنبا في رمضان أفطر" وروي عنه أنه قال: ما أنا قلته، محمد ﷺ قاله ورب الكعبة. وذهب ابن الماجشون من أصحاب مالك أن الحائض إذا طهرت قبل الفجر فأخرت الغسل إلى يومها يوم فطر وأقاويل هؤلاء شاذة ومردودة بالسنن المشهورة الثابتة. @-القسم الثاني من الصوم المفروض: وهو الكلام في الفطر وأحكامه: والمفطرون في الشرع على ثلاثة أقسام: صنف يجوز له الفطر والصوم بإجماع. وصنف يجب عليه الفطر على اختلاف في ذلك بين المسلمين. وصنف لا يجوز له الفطر، وكل واحد من هؤلاء تتعلق به أحكام. أما الذين يجوز لهم الأمران: فالمريض بإتفاق، والمسافر باختلاف، والحامل والمرضع والشيخ الكبير. وهذا التقسيم كله مجمع عليه. فأما المسافر فالنظر فيه في مواضع منها: هل إن صام أجزأه صومه أم ليس يجزيه؟ وهل إن كان يجزئ المسافر صومه الأفضل له الصوم أو الفطر أو هو مخير بينهما؟ وهل الفطر الجائز له هو في سفر محدود أم في كل ما ينطلق عليه اسم السفر في وضع اللغة؟ ومتى يفطر المسافر؟ ومتى يمسك؟ وهل إذا مر بعض الشهر له أن ينشئ السفر أم لا؟ ثم إذا أفطر ما حكمه؟ وأما المريض فالنظر فيه أيضا في تحديد المرض الذي يجوز له فيه الفطر وفي حكم الفطر. (أما المسألة الأولى) وهي إن صام المريض والمسافر هل يجزيه صومه عن فرضه أم لا؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فذهب الجمهور إلى أنه إن صام وقع صيامه وأجزأه، وذهب أهل الظاهر إلى أنه لا يجزيه وأن فرضه هو أيام أخر. والسبب في اختلافهم تردد قوله تعالى {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} بين أن يحمل على الحقيقة فلا يكون هنالك محذوف أصلا، أو يحمل على المجاز فيكون التقدير فأفطر فعدة من أيام أخر، وهذا الحذف في الكلام هو الذي يعرفه أهل صناعة الكلام بلحن الخطاب، فمن حمل الآية على الحقيقة ولم يحملها على المجاز قال: إن فرض المسافر عدة من أيام أخر لقوله تعالى {فعدة من أيام أخر} ومن قدر فأفطر قال: إنما فرضه عدة من أيام أخر إذا أفطر. وكلا الفريقين يرجح تأويله بالآثار الشاهدة لكلا المفهومين. وإن كان الأصل هو أن يحمل الشيء على الحقيقة حتى يدل الدليل على حمله على المجاز. أما الجمهور فيحتجون لمذهبهم بما ثبت من حديث أنس قال "سافرنا مع رسول الله ﷺ في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم" وبما ثبت عنه أيضا أنه قال: كان أصحاب رسول الله ﷺ يسافرون فيصوم بعضهم ويفطر بعضهم. فأهل الظاهر يحتجون لمذهبهم بما ثبت عن ابن عباس "أن رسول الله ﷺ خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر فأفطر الناس" وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله ﷺ. قالوا: وهذا يدل على نسخ الصوم. قال أبو عمر: والحجة على أهل الظاهر إجماعهم على أن المريض إذا صام أجزأه صومه. (وأما المسألة الثانية) وهي هل الصوم أفضل أو الفطر؟ إذا قلنا أنه من أهل الفطر على مذهب الجمهور؛ فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة مذاهب: فبعضهم رأى أن الصوم أفضل، وممن قال بهذا القول مالك وأبو حنيفة. وبعضهم رأى أن الفطر أفضل، وممن قال بهذا القول أحمد وجماعة. وبعضهم رأى أن ذلك على التخيير، وأنه ليس أحدهما أفضل. والسبب في اختلافهم معارضة المفهوم من ذلك لظاهر بعض المنقول، ومعارضة المنقول بعضه لبعض وذلك أن المعنى المعقول من إجازة الفطر للصائم إنما هو الرخصة له لمكان رفع المشقة عنه، وما كان رخصة فالأفضل ترك الرخصة، ويشهد لهذا حديث حمزة بن عمرو الأسلمي خرجه مسلم أنه قال "يا رسول الله أجد فيَّ قوة على الصيام في السفر فهل عليَّ من جناح؟ فقال رسول الله ﷺ: هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" وأما ما ورد من قوله عليه الصلاة والسلام "ليس من البر أن تصوم في السفر" ومن أنَّ آخر فعله عليه الصلاة والسلام كان الفطر، فيوهم أن الفطر أفضل، لكن الفطر لما كان ليس حكما وإنما هو فعل المباح عسر على الجمهور أن يضعوا المباح أفضل من الحكم. وأما من خيِّر في ذلك فلمكان حديث عائشة قالت "سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسول الله ﷺ عن الصيام في السفر فقال: إن شئت فصم وإن شئت فأفطر" خرجه مسلم. (وأما المسألة الثالثة) وهي هل الفطر الجائز للمسافر هو في سفر محدود أو في سفر غير محدود. فإن العلماء اختلفوا فيها؛ فذهب الجمهور إلى أنه إنما يفطر في السفر الذي تقصر فيه الصلاة، وذلك على حسب اختلافهم في هذه المسألة. وذهب قوم إلى أنه يفطر في كل ما ينطلق عليه اسم سفر وهم أهل الظاهر. والسبب في اختلافهم معارضة ظاهر اللفظ للمعنى، وذلك أن ظاهر اللفظ أن كل من ينطلق عليه اسم مسافر فله أن يفطر لقوله تعالى {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} وأما المعنى المعقول من إجازة الفطر في السفر فهو المشقة، ولما كانت لا توجد في كل سفر وجب أن يجوز الفطر في السفر الذي فيه المشقة ولما كان الصحابة كأنهم مجمعون على الحد في ذلك وجب يقاس ذلك على الحد في تقصير الصلاة. وأما المرض الذي يجوز فيه الفطر، فإنهم اختلفوا فيه أيضا، فذهب قوم إلى أنه المرض الذي يلحق من الصوم فيه مشقة وضرورة، وبه قال مالك. وذهب قوم إلى أنه المرض الغالب، وبه قال أحمد. وقال قوم إذا انطلق عليه اسم المريض أفطر. وسبب اختلافهم هو بعينه سبب اختلافهم في حد السفر. (وأما المسألة الخامسة) [لا يوجد رابعة؟؟] وهي متى يفطر المسافر ومتى يمسك، فإن قوما قالوا: يفطر يومه الذي خرج فيه مسافرا، وبه قال الشعبي والحسن وأحمد. وقالت طائفة: لا يفطر يومه ذلك، وبه قال فقهاء الأمصار. واستحب جماعة العلماء لمن علم أنه يدخل المدينة أول يومه ذلك أن يدخل صائما، وبعضهم في ذلك أكثر تشديدا من بعض وكلهم لم يوجبوا على من دخل مفطرا كفارة. واختلفوا في من دخل وقد ذهب بعض النهار، فذهب مالك والشافعي على أنه يتمادى على فطره. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يكف عن الأكل، وكذلك الحائض عنده تطهر تكف عن الأكل. والسبب في اختلافهم في الوقت الذي يفطر فيه المسافر هو معارضة الأثر للنظر. أما الأثر فإنه ثبت من حديث ابن عباس "أن رسول الله ﷺ صام حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأفطر الناس معه" وظاهر هذا أنه أفطر بعد أن بيت الصوم. وأما الناس فلا يشك أنهم أفطروا بعد تبييتهم الصوم، وفي هذا المعنى أيضا حديث جابر بن عبد الله "أن رسول الله ﷺ خرج عام الفتح إلى مكة، فسار حتى بلغ كراع الغميم وصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك إن بعض الناس قد صام فقال: "أولئك العصاة أولئك العصاة" وخرج أبو داود عن أبي نضرة الغفاري أنه لما تجاوز البيوت دعا بالسفرة، قال جعفر راوي الحديث: فقلت: ألست تؤم البيوت؟ فقال: أترغب عن سنة رسول الله ﷺ؟ قال جعفر: فأكل. وأما النظر فلما كان المسافر لا يجوز له إلا أن يبيت الصوم ليلة سفره لم يجز له أن يبطل صومه وقد بيته لقوله تعالى {ولا تبطلوا أعمالكم} وأما اختلافهم في إمساك الداخل في أثناء النهار عن الأكل أو لا إمساكه. فالسبب في اختلافهم في تشبيه من يطرأ عليه في يوم شك أفطر فيه الثبوت أنه من رمضان، فمن شبهه به قال يمسك عن الأكل، ومن لم يشبهه به قال لا يمسك عن الأكل، لأن الأول أكل لموضع الجهل، وهذا أكل لسبب مبيح أو موجب للأكل. والحنفية تقول: كلاهما سببان موجبان للإمساك عن الأكل بعد إباحة الأكل. (وأما المسألة السادسة) وهي هل يجوز للصائم في رمضان أن ينشيء سفرا ثم لا يصوم فيه، فإن الجمهور على أنه يجوز ذلك له. وروي عن بعضهم وهو عبيدة السلماني وسويد بن غفلة وابن مجلز أنه إن سافر فيه صام ولم يجيزوا له الفطر. والسبب في اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وذلك أنه يحتمل أن يفهم منه أن من شهد أن الواجب أن يصوم ذلك البعض الذي شهده، وذلك أنه لما كان المفهوم باتفاق أن من شهده كله فهو يصومه كله كأن من شهد بعضه فهو يصوم بعضه، ويؤيد تأويل الجمهور إنشاء رسول الله ﷺ السفر في رمضان. وأما حكم المسافر إذا أفطر فهو القضاء باتفاق وكذلك المريض لقوله تعالى {فعدة من أيام أخر} ما عدا المريض بإغماء أو جنون، فإنهم اختلفوا في وجوب القضاء عليه، وفقهاء الأمصار على وجوبه على المغمى عليه واختلفوا في المجنون، ومذهب مالك وجوب القضاء عليه وفيه ضعف لقوله عليه الصلاة والسلام "وعن المجنون حتى يفيق" والذين أوجبوا عليهم القضاء اختلفوا في كون الإغماء والجنون مفسداً للصوم، فقوم قالوا إنه مفسد، وقوم قالوا: ليس بمفسد، وقوم فرقوا بين أن يكون أغمي عليه بعد الفجر أو قبل الفجر، وقوم قالوا: إن أغمي عليه بعد مضي أكثر النهار أجزأه، وإن أغمي عليه في أول النهار قضى، وهو مذهب مالك، وهذا كله فيه ضعف، فإن الإغماء والجنون صفة يرتفع بها التكليف وبخاصة الجنون، إذا ارتفع التكليف لم يوصف لمفطر ولا صائم فكيف يقال في الصفة التي ترفع التكليف إنها مبطلة للصوم إلا كما يقال في الميت أو في من لا يصح منه العمل إنه قد بطل صومه وعمله. ويتعلق بقضاء المسافر والمريض مسائل: منها هل يقضيان ما عليهما متتابعا أم لا؟ ومنها ماذا عليهما إذا أخرا القضاء بغير عذر إلى أن يدخل رمضان آخر؟ ومنها إذا ماتا ولم يقضيا هل يصوم عنهما وليهما أو لا يصوم؟ (أما المسألة الأولى) فإن بعضهم أوجب أن يكون القضاء متتابعا على صفة الأداء، وبعضهم لم يوجب ذلك، وهؤلاء منهم من خير ومنهم من استحب التتابع، والجماعة على ترك إيجاب التتابع. وسبب اختلافهم تعارض ظواهر اللفظ والقياس، وذلك أن القياس يقتضي أن يكون الأداء على صفة القضاء أصل ذلك الصلاة والحج. أما ظاهر قوله تعالى {فعدة من أيام أخر} فإنما يقتضي إيجاب العدد فقط لا إيجاب التتابع. وروي عن عائشة أنها قالت: نزلت فعدة من أيام أخر متتابعات فسقط {متتابعات} . وأما إذا أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر؛ فقال قوم: يجب عليه بعد صيام رمضان الداخل القضاء والكفارة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد. وقال قوم: لا كفارة عليه وبه قال الحسن البصري وإبراهيم النخعي. وسبب اختلافهم هل تقاس الكفارات بعضها على بعض أم لا؟ فمن لم يجز القياس في الكفارات قال: إنما عليه القضاء فقط. ومن أجاز القياس في الكفارات قال: عليه كفارة قياسا على من أفطر متعمدا لأن كليهما مستهين بحرمة الصوم. أما هذا فبترك القضاء زمان القضاء، وأما ذلك فبالأكل في يوم لا يجوز فيه الأكل، وإنما كان يكون القياس مستندا لو ثبت أن للقضاء زمنا محدودا بنص من الشارع، لأن أزمنة الأداء هي المحدودة في الشرع، وقد شذ قوم فقالوا: إذا اتصل مرض المريض حتى يدخل رمضان آخر أنه لا قضاء عليه وهذا مخالف للنص. وأما إذا مات وعليه صوم فإن قوما قالوا: لا يصوم أحد عن أحد. وقوم قالوا يصوم عنه وليه، والذين لم يوجبوا الصوم قالوا: يطعم عنه وليه، وبه قال الشافعي. وقال بعضهم: لا صيام ولا إطعام إلا أن يوصي به، وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة يصوم، فإن لم يستطع أطعم وفرق قوم بين النذر والصيام المفروض فقالوا يصوم عنه وليه في النذر ولا يصوم في الصيام المفروض والسبب في اختلافهم معارضة القياس للأثر وذلك أنه ثبت عنه من حديث عائشة أنه قال عليه الصلاة والسلام "من مات وعليه صيام صامه عنه وليه" خرجه مسلم، وثبت عنه أيضا من حديث ابن عباس أنه قال "جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: يارسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟ قال نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء" فمن رأى أن الأصول تعارضه، وذلك أنه كما أنه لا يصلي أحد عن أحد ولا يتوضأ أحد عن أحد وكذلك لا يصوم أحد عن أحد قال: لا صيام على الولي، ومن أخذ بالنص في ذلك قال: بإيجاب الصيام عليه، ومن لم يأخذ بالنص في ذلك قصر الوجوب على النذر، ومن قاس رمضان عليه قال: يصوم عنه في رمضان. وأما من أوجب الإطعام فمصيرا إلى قراءة من قرأ {وعلى الذين يطيقونه فدية} الآية. (يتبع...) @(تابع... 1): -القسم الثاني من الصوم المفروض:... ... ومن خير في ذلك فجمعا بين الآية والأثر، فهذه هي أحكام المسافر والمريض من الصنف الذي يجوز لهم الفطر والصوم. وأما باقي هذا الصنف وهو المرضع والحامل والشيخ الكبير، فإن فيه مسألتين مشهورتين: إحداهما الحامل والمرضع إذا أفطرتا ماذا عليهما؟ وهذه المسألة للعلماء فيها أربعة مذاهب: أحدها أنهما يطعمان ولا قضاء عليهما، وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس. والقول الثاني أنهما يقضيان فقط ولا إطعام عليهما وهو مقابل الأول وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأبو عبيد وأبو ثور. والثالث أنهما يقضيان ويطعمان وبه قال الشافعي والقول الرابع أن الحامل تقضي ولا تطعم والمرضع تقضي وتطعم، وسبب اختلافهم تردد شبههما بين الذي يجهده الصوم وبين المريض، فمن شبههما بالمريض قال: عليهما القضاء فقط، ومن شبههما بالذي يجهده الصوم قال عليهما الإطعام فقط بدليل قراءة من قرأ {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين} الآية. وأما من جمع عليهما الأمرين فيشبه أن يكون رأى فيهما من كل واحد شبها فقال: عليهما القضاء من جهة ما فيهما من شبه المريض وعليهما الفدية من جهة ما فيهما من شبه الذين يجهدهم الصيام، ويشبه أن يكون شبههما بالمفطر الصحيح لكن يضعف هذا، فإن الصحيح لا يباح له الفطر. ومن فرق بين الحامل والمرضع ألحق الحامل بالمريض وأبقى حكم المرضع مجموعا من حكم المريض وحكم الذي يجهده الصوم أو شبهها بالصحيح ومن أفرد لهما أحد الحكمين أولى والله أعلم ممن جمع، كما أن من أفردهما بالقضاء أولى ممن أفردهما بالإطعام فقط لكون القراءة غير متواترة، فتأمل هذا فإنه بين. وأما الشيخ الكبير والعجوز اللذان لا يقدران على الصيام فإنهم أجمعوا على أن لهما أن يفطرا، واختلفوا في ما عليهما إذا أفطرا، فقال قوم: عليهما الإطعام. وقال قوم ليس عليهما إطعام، وبالأول قال الشافعي وأبو حنيفة، وبالثاني قال مالك إلا أنه استحبه. وأكثر من رأى الإطعام عليهما يقول مد عن كل يوم، وقيل إن حفن حفنات كما كان أنس يصنع أجزأه. وسبب اختلافهم اختلافهم في القراءة التي ذكرناها، أعني قراءة من قرأ {وعلى الذين يطوقونه} فمن أوجب العمل بالقراءة التي لم تثبت في المصحف إذا وردت من طريق الآحاد العدول قال: الشيخ منهم، ومن لم يوجب بها عملا جعل حكمه حكم المريض الذي يتمادى به المرض حتى الموت، فهذه هي أحكام الصنف من الناس الذين يجوز لهم الفطر، أعني أحكامهم المشهورة التي أكثرها منطوق به أو لها تعلق بالمنطوق به في الصنف الذي يجوز له الفطر. وأما النظر في أحكام الصنف الذي يجوز له الفطر إذا أفطر، فإن النظر في ذلك يتوجه إلى من يفطر بجماع وإلى من يفطر بغير جماع وإلى من يفطر بأمر متفق عليه وإلى من يفطر بأمر مختلف عليه، أعني بشبهة أو بغير شبهة، وكل واحد من هذين إما أن يكون على طريق السهو أو طريق العمد أو طريق الإختيار أو طريق الإكراه. أما من أفطر بجماع متعمدا في رمضان، فإن الجمهور على أن الواجب عليه القضاء والكفارة، لما ثبت من حديث أبي هريرة أنه قال "جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: هلكت يا رسول الله، قال: وما أهلكك؟ قال وقعت على إمرأتي في رمضان، قال: هل تجد ما تعتق به رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد ما تطعم به ستين مسكينا؟ قال: لا، ثم جلس فأتى النبي ﷺ بفرق فيه تمر فقال: تصدق بهذا، فقال: أعلى أفقر مني؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، قال: فضحك النبي ﷺ حتى بدت أنيابه ثم قال: إذهب فأطعمه أهلك" واختلفوا من ذلك في مواضع: منها هل الإفطار متعمدا بالأكل والشرب حكمه كلإفطار في الجماع في القضاء والكفارة أم لا؟ ومنها إذا جامع ساهيا ماذا عليه؟ ومنها ماذا على المرأة إذا لم تكن مكرهة؟ ومنها هل الكفارة واجبة فيه مترتبة أو على التخيير؟ ومنها كم المقدار الذي يجب أن يعطى كل مسكين إذا كفر بالإطعام؟ ومنها هل الكفارة متكررة بتكرر الجماع أم لا؟ ومنها إذا لزمه الإطعام وكان معسرا هل يلزمه الإطعام إذا أثرى أم لا؟ وشذ قوم فلم يوجبوا على المفطر عمدا بالجماع إلا القضاء فقط، إما لأنه لم يبلغهم هذا الحديث، وأما أنه لم يكن الأمر عزمة في هذا الحديث، لأنه لو كان عزمة لوجب إذا لم يستطع الإعتاق أو الإطعام أن يصوم، ولا بد إذا كان صحيحا على ظاهر الحديث، وأيضا لو كان عزمة لأعلمه عليه الصلاة والسلام أنه إذا صح أنه يجب عليه الصيام أن لو كان مريضا وكذلك شذ قوم أيضا فقالوا: ليس عليه إلا الكفارة فقط إذ ليس في الحديث ذكر القضاء، والقضاء الواجب بالكتاب إنما هو لمن أفطر ممن يجوز له الفطر، أو ممن لا يجوز له الصوم على الاختلاف الذي قررناه قبل في ذلك، فأما من أفطر متعمدا فليس في إيجاب القضاء عليه نص فيلحق في قضاء المتعمد الخلاف الذي لحق في قضاء تارك الصلاة عمدا حتى خرج وقتها، إلا أن الخلاف في هاتين المسألتين شاذ. وأما الخلاف المشهور فهو في المسائل التي عددناها قبل. (أما المسألة الأولى) وهي هل تجب الكفارة بالإفطار بالأكل والشرب متعمدا، فإن مالك وأصحابه وأبا حنيفة وأصحابه والثوري وجماعة ذهبوا إلى أن من أفطر متعمدا بأكل أو شرب أن عليه القضاء والكفارة المذكورة في هذا الحديث. وذهب الشافعي وأحمد وأهل الظاهر إلى أن الكفارة إنما تلزم في الإفطار من الجماع فقط. والسبب في اختلافهم اختلافهم في جواز قياس المفطر بالأكل والشرب على المفطر بالجماع، فمن رأى أن شبههما فيه واحد وهو انتهاك حرمة الصوم جعل حكمهما واحد. ومن رأى أنه وإن كانت الكفارة عقابا لإنتهاك الحرمة فإنها أشد مناسبة للجماع منها لغيره، وذلك أن العقاب المقصود به الردع والعقاب الأكبر قد يوضع لما إليه النفس أميل وهو لها أغلب من الجنايات وإن كانت الجناية متقاربة إذ كان المقصود من ذلك إلتزام الناس بالشرائع، وأن يكونوا أخيارا عدولا كما قال تعالى {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} قال هذه الكفارة المغلظة خاصة بالجماع، وهذا إذا كان ممن يرى القياس. وأما من لا يرى القياس فأمره بين أنه ليس يعدى حكم الجماع إلى الأكل والشرب. وأما ما روى مالك في الموطأ أن رجلا أفطر في رمضان فأمره النبي ﷺ بالكفارة المذكورة فليس بحجة لأن قول الراوي فأفطر هو مجمل، والمجمل ليس له عموم فيؤخذ به، لكن هذا قول على إن الراوي كان يرى أن الكفارة لموضع الإفطار، ولولا ذلك لما عبر بهذا اللفظ ولذكر النوع من الفطر الذي أفطر به. (وأما المسألة الثانية) وهو إذا جامع ناسيا لصومه، فإن الشافعي وأبا حنيفة يقولان: لا قضاء عليه ولا كفارة. قال مالك: عليه القضاء دون الكفارة. وقال أحمد وأهل الظاهر عليه القضاء والكفارة وسبب اختلافهم في قضاء الناسي معارضة ظاهر الأثر في ذلك للقياس وأما القياس فهو تشبيه ناسي الصوم بناسي الصلاة، فمن شبهه بناسي الصلاة أوجب عليه القضاء كوجوبه بالنص على ناسي الصلاة. وأما الأثر المعارض بظاهره لهذا القياس فهو ما خرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه" وهذا الأثر يشهد له عموم قوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ومن هذا الباب اختلافهم فيمن ظن أن الشمس قد غربت فأفطر ثم ظهرت الشمس بعد ذلك هل عليه قضاء أم لا؟ وذلك أن هذا مخطئ، والمخطئ والناسي حكمهما واحد، فكيفما قلنا فتأثير النسيان في إسقاط القضاء بين والله أعلم. وذلك أنّا إن قلنا أن الأصل هو أن لا يلزم الناسي قضاء حتى يدل الدليل على ذلك وجب أن يكون النسيان لا يوجب القضاء في الصوم إذ لا دليل ههنا على ذلك بخلاف الأمر في الصلاة، وإن قلنا أن الأصل هو إيجاب القضاء حتى يدل الدليل على رفعه عن الناسي فقد دل الدليل في حديث أبي هريرة على رفعه عن الناسي، اللهم إلا أن يقول قائل: إن الدليل الذي استثنى ناسي الصوم من ناسي سائر العبادات التي رفع عن تاركها الحرج بالنص هو قياس الصوم على الصلاة، ولكن إيجاب القضاء فيه ضعف، وإنما القضاء عند الأكثر واجب بأمر متجدد. وأما من أوجب القضاء والكفارة على المجامع ناسيا فضعيف، فإن تأثير النسيان في إسقاط العقوبات بيّن في الشرع والكفارة من أنواع العقوبات وإنما أصارهم إلى ذلك أخذهم بمجمل الصفة المنقولة في الحديث أعني من أنه لم يذكر فيه أنه فعل ذلك عمدا ولا نسيانا، لكن من أوجب الكفارة على قاتل الصيد نسيانا لم يحفظ أصله في هذا مع أن النص إنما جاء في المتعمد، وقد كان يجب على أهل الظاهر أن يأخذوا بالمتفق عليه وهو إيجاب الكفارة على العامد إلى أن يدل الدليل على إيجابها على الناسي، أو يأخذوا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" حتى يدل الدليل على التخصيص، ولكن كلا الفريقين لم يلزم أصله وليس في مجمل ما نقل من حديث الأعرابي حجة. ومن قال من أهل الأصول إن ترك التفصيل في اختلاف الأحوال من الشارع بمنزلة العموم في الأقوال فضعيف، فإن الشارع لم يحكم قط إلا على مفصل وإنما الإجمال في حقنا. (وأما المسألة الثالثة) وهو اختلافهم في وجوب الكفارة على المرأة إذا طاوعته على الجماع، فإن أبا حنيفة وأصحابه ومالكا وأصحابه أوجبوا عليها الكفارة، وقال الشافعي وداود: لا كفارة عليها. وسبب اختلافهم معارضة ظاهر الأثر للقياس، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر المرأة في الحديث بالكفارة، والقياس أنها مثل الرجل إذ كان كلاهما مكلف. (وأما المسألة الرابعه) وهي هل هذه الكفارة مرتبة ككفارة الظهار أو على التخيير، وأعني بالترتيب أن لا ينتقل المكلف إلى واحد من الواجبات المخيرة إلا بعد العجز عن الذي قبله، وبالتخيير أن يفعل منها ما شاء ابتداء من غير عجز عن الآخر فإنهم أيضا اختلفوا في ذلك، فقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وسائر الكوفيين: هي غير مرتبة، فالعتق أولا، فإن لم يجد فالصيام، فإن لم يستطع فالإطعام. وقال مالك: هي على التخيير. وروى عنه ابن القاسم مع ذلك أنه بستحب الإطعام أكثر من العتق ومن الصيام. وسبب اختلافهم في وجوب الترتيب تعارض ظواهر الآثار في ذلك والأقيسة، وذلك أن ظاهر حديث الأعرابي المتقدم يوجب أنها على الترتيب إذ سأله النبي عليه الصلاة والسلام عن الاستطاعة عليها مرتبا، وظاهر ما رواه مالك من "أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول الله ﷺ أن يعتق رقبه أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكينا" أنها على التخيير، إذ أو إنما تقتضي في لسان العرب التخيير، وإن كان ذلك من لفظ الراوي الصاحب، إذ كانوا هم أقعد بمفهوم الأحوال ودلالات الأقوال. وأما الأقيسة المعارضة في ذلك فتشبيهها تارة بكفارة الظهار وتارة بكفارة اليمين، لكنها أشبه بكفارة الظهار منها بكفارة اليمين، وأخذ الترتيب من حكاية لفظ الراوي. وأما استحباب مالك الإبتداء بالإطعام فمخالف لظواهر الآثار، وإنما ذهب إلى هذا من طريق القياس، لأنه رأى الصيام قد وقع بدله الإطعام في مواضع شتى من الشرع، وإنه مناسب له أكثر من غيره بدليل قراءة من قرأ {وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مساكين} ولذلك استحب هو وجماعة من العلماء لمن مات وعليه صوم أن يكفر بالإطعام عنه، وهذا كأنه من باب ترجيح القياس الذي تشهد له الأصول على الأثر الذي لا تشهد له الأصول. (وأما المسألة الخامسة) وهو اختلافهم في مقدار الإطعام، فإن مالكا والشافعي وأصحابهما قالوا: يطعم لكل مسكين مدا بمد النبي ﷺ وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجزئ أقل من مدين بمد النبي ﷺ وذلك نصف صاع لكل مسكين. وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر. وأما القياس فتشبيه هذه الفدية بفدية الأذى المنصوص عليها. وأما الأثر فما روي في بعض طرق حديث الكفارة أن الفرق كان فيه خمسة عشر صاعا، لكن ليس يدل كونه فيه خمسة عشر صاعا على الواجب من ذلك لكل مسكين إلا دلالة ضعيفة، وإنما يدل على أن بدل الصيام في هذه الكفارة هو هذا القدر. (وأما المسألة السادسة) وهي تكرر الكفارة بتكرر الإفطار فإنهم أجمعوا على أن من وطئ في يوم رمضان ثم كفر ثم وطئ في يوم آخر أن عليه كفارة أخرى، وأجمعوا على أنه من وطئ مرارا في يوم واحد أنه ليس عليه إلا كفارة واحدة. واختلفوا فيمن وطئ في يوم من رمضان ولم يكفر حتى وطئ في يوم ثان، فقال مالك والشافعي وجماعة: عليه لكل يوم كفارة، وقال أبو حنيفة وأصحابه: عليه كفارة واحدة ما لم يكفر عن الجماع الأول. والسبب في اختلافهم تشبيه الكفارات بالحدود، فمن شبهها بالحدود قال: كفارة واحدة تجزئ في ذلك عن أفعال كثيرة كما يلزم الزاني جلد واحد، وإن زنى ألف مرة إذا لم يحد لواحدة منها. ومن لم يشبهها بالحدود جعل لكل واحد من الأيام حكما منفردا بنفسه في هتك الصوم فيه أوجب في كل يوم كفارة. قالوا: والفرق بينهما أن الكفارة فيها نوع من القربة. والحدود زجر محض. (يتبع...) @(تابع... 2): -القسم الثاني من الصوم المفروض:... ... (وأما المسألة السابعة) وهي هل يجب عليه الإطعام إذا أيسر وكان معسرا في وقت الوجوب فإن الأوزاعي قال: لا شيء عليه إن كان معسرا. وأما الشافعي فتردد في ذلك. والسبب في اختلافهم في ذلك أنه حكم مسكوت عنه فيحتمل أن يشبه بالديون فيعود الوجوب عليه في وقت الإثراء، ويحتمل أن يقال: لو كان ذلك واجبا عليه لبينه له عليه الصلاة والسلام، فهذه أحكام من أفطر متعمدا في رمضان مما أجمع على أنه مفطر. وأما من أفطر مما هو مختلف فيه، فإن بعض من أوجب فيه الفطر أوجب فيه القضاء والكفارة وبعضهم أوجب فيه القضاء فقط، مثل من رأى الفطر في الحجامة ومن الاستقاء، ومن بلع الحصاة، ومثل المسافر يفطر أول يوم يخرج عند من يرى أنه ليس له أن يفطر في ذلك اليوم، فإن مالكا أوجب فيه القضاء والكفارة، وخالفه في ذلك سائر فقهاء الأمصار وجمهور أصحابه. وأما من أوجب القضاء والكفارة من الاستقاء فأبو ثور والأوزاعي وسائر من يرى أن الاستقاء مفطر لا يوجبون إلا القضاء فقط. والذي أوجب القضاء والكفارة في الإحتجام من القائلين بأن الحجامة تفطر هو عطاء وحده. وسبب هذا الخلاف أن المفطر بشيء فيه اختلاف فيه شبه من غير المفطر ومن المفطر. فمن غلب أحد الشبهين أوجب له ذلك الحكم وهذان الشبهان الموجودان فيه هما اللذان أوجبا فيه الخلاف، أعني هل هو مفطر أو غير مفطر، ولكون الإفطار شبهة لا يوجب الكفارة عند الجمهور وإنما يوجب القضاء فقط، نزع أبو حنيفة إلى أنه من أفطر متعمدا للفطر ثم طرأ عليه في ذلك اليوم سبب مبيح للفطر أنه لا كفارة عليه كالمرأة تفطر عمدا ثم تحيض باقي النهار، وكالصحيح يفطر عمدا ثم يمرض والحاضر يفطر ثم يسافر، فمن اعتبر الأمر في نفسه أعني أنه مفطر في يوم جاز له الإفطار فيه لم يوجب عليهم الكفارة، وذلك أن كل واحد من هؤلاء قد كشف له الغيب أنه أفطر في يوم جاز له الإفطار فيه، ومن اعتبر الاستهانه بالشرع أوجب عليه الكفارة، لأنه حين أفطر لم يكن عنده علم بالإباحة، وهو مذهب مالك والشافعي. ومن هذا الباب إيجاب مالك القضاء فقط على من أكل وهو شاكّ في الفجر، وإيجابه القضاء والكفارة على من أكل وهو شاك في الغروب على ما تقدم من الفرق بينهما. واتفق الجمهور على أنه ليس في الفطر عمدا في قضاء رمضان كفارة، لأنه ليس له حرمة زمان الأداء: أعني رمضان، إلا قتادة فإنه أوجب عليه القضاء والكفارة. وروي عن ابن القاسم وابن وهب أن عليه يومين قياسا على الحج الفاسد. وأجمعوا على أن من سنن الصوم تأخير السحور وتعجيل الفطر لقوله عليه الصلاة والسلام " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور" وقال "تسحروا فإن في السحور بركة" وقال عليه الصلاة والسلام "فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر" وكذلك جمهورهم على أن من سنن الصوم ومرغباته كف اللسان عن الرفث والخنا لقوله عليه الصلاة والسلام "إنما الصوم جنة، فإذا أصبح أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه فليقل إني صائم" وذهب أهل الظاهر إلى أن الرفث يفطر وهو شاذ فهذه مشهورات ما يتعلق بالصوم المفروض من المسائل وبقي القول في الصوم المندوب إليه، وهو القسم الثاني من هذا الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم. 3*كتاب الصيام الثاني وهو المندوب إليه.

@-والنظر في الصيام المندوب إليه هو في تلك الأركان الثلاثة وفي حكم الإفطار فيه. فأما الأيام التي يقع فيها الصوم المندوب إليه وهو الركن الأول، فإنها على ثلاثة أقسام: أيام مرغب فيها، وأيام منهى عنها، وأيام مسكوت عنها. ومن هذه ما هو مختلف فيه، ومنها ما هو متفق عليه. أما المرغب فيه المتفق عليه فصيام يوم عاشوراء. وأما المختلف فيه فصيام يوم عرفة وست من شوال والغرر من كل شهر، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر. أما صيام يوم عاشوراء، فلأنه ثبت أن رسول الله ﷺ صامه وأمر بصيامه وقال فيه "من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه" واختلفوا فيه هل هو التاسع أو العاشر. والسبب في ذلك اختلاف الآثار، خرج مسلم عن ابن عباس قال: إذا رأيت الهلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما، قلت: هكذا كان محمد رسول الله ﷺ يصومه؟ قال: نعم. وروي "أنه حين صام رسول الله ﷺ يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله ﷺ: فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع" قال: فلم يأتي العام المقبل حتى توفي رسول الله ﷺ. وأما اختلافهم في يوم عرفة، فلأن النبي عليه الصلاة والسلام أفطر يوم عرفة، وقال فيه "صيام يوم عرفة يكفر السنة الماضية والآتية" ولذلك اختلف الناس في ذلك، واختار الشافعي الفطر فيه للحاج وصيامه لغير الحاج جمعا بين الأثرين. وخرج أبو داود "أن رسول الله ﷺ نهى عن صيام يوم عرفة بعرفة" وأما الست من شوال فإنه ثبت أن رسول الله ﷺ قال "من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر" إلا أن مالكا كره ذلك، إما مخافة أن يلحق الناس برمضان ما ليس في رمضان، وإما لأنه لعله لم يبلغه الحديث أو لم يصح عنده وهو الأظهر، وكذلك كره مالك تحري صيام الغرر مع ما جاء فيها من الأثر مخافة أن يظن الجهال بها أنها واجبة، وثبت "أن رسول الله ﷺ كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام غير معينة، وأنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص لما أكثر الصيام: "أما يكفيك من كل شهر ثلاثة أيام؟ قال: فقلت يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، قال: خمسا، قلت: يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، قال: سبعا، قلت: يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، قال: تسعا، قلت: يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، قال: أحد عشر، قلت: يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: لا صوم فوق صيام داود، شطر الدهر صيام يوم، وإفطار يوم" وخرج أبو داود "أنه كان يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس" وثبت أنه لم يستتم قط شهرا بالصيام غير رمضان، وإن أكثر صيامه كان في شعبان. وأما الأيام المنهى عنها، فمنها أيضا متفق عليها، ومنها مختلف فيها. أما المتفق عليها فيوم الفطر ويوم الأضحى لثبوت النهي عن صيامهما. وأما المختلف فيها فأيام التشريق ويوم الشك ويوم الجمعة ويوم السبت والنصف الآخر من شعبان وصيام الدهر. أما أيام التشريق فإن أهل الظاهر لم يجيزوا الصوم فيها. وقوم أجازوا ذلك فيها. وقوم كرهوه، وبه قال مالك، إلا أنه أجاز صيامها لمن وجب عليه الصوم في الحج وهو المتمتع، وهذه الأيام هي الثلاثة الأيام التي بعد يوم النحر. والسبب في اختلافهم تردد قوله عليه الصلاة والسلام في "إنها أيام أكل وشرب" بين أن يحمل على الوجوب أو على الندب، فمن حمله على الوجوب قال: الصوم يحرم، ومن حمله على الندب قال: الصوم مكروه، ويشبه أن يكون من حمله على الندب إنما صار إلى ذلك وغلبه على الأصل الذي هو حمله على الوجوب لأنه رأى أنه إن حمله على الوجوب عارضه حديث أبي سعيد الخدري الثابت بدليل الخطاب، وهو أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول "لا يصح الصيام في يومين يوم الفطر من رمضان ويوم النحر" فدليل الخطاب يقتضي أن ما عدا هذين اليومين يصح الصيام فيه، وإلا كان تخصيصهما عبثا لا فائدة فيه. وأما يوم الجمعة فإن قوما لم يكرهوا صيامه، ومن هؤلاء مالك وأصحابه وجماعة، وقوم كرهوا صيامه إلا أن يصام قبله أو بعده. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك، فمنها حديث ابن مسعود "أن النبي ﷺ كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر قال: وما رأيته يفطر يوم الجمعة" وهو حديث صحيح. ومنها حديث جابر "أن سائلا سأل جابرا أسمعت رسول الله ﷺ نهى أن يفرد يوم الجمعة بصوم؟ قال: نعم ورب هذا البيت" خرجه مسلم. ومنها حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ "لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله أو يصوم بعده" خرجه أيضا مسلم، فمن أخذ بظاهر حديث ابن مسعود، أجاز صيام يوم الجمعة مطلقا، ومن أخذ بظاهر حديث جابر كرهه مطلقا، ومن أخذ بحديث أبي هريرة جمع بين الحديثين، أعني حديث جابر وحديث ابن مسعود. وأما يوم الشك فإن جمهور العلماء على النهي عن صيام يوم الشك على أنه من رمضان لظواهر الأحاديث التي يوجب مفهومها تعلق الصوم بالرؤية أو بإكمال العدد إلا ما حكيناه عن ابن عمر، واختلفوا في تحري صيامه تطوعا، فمنهم من كرهه على ظاهر حديث عمار "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم" ومن أجازه فلأنه قد روي أنه عليه الصلاة والسلام صام شعبان كله، ولما قد روي من أنه عليه الصلاة والسلام قال "لا تتقدموا رمضان بيوم ولا بيومين إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم فليصمه" وكان الليث بن سعد يقول: إنه إن صامه على أنه من رمضان ثم جاء الثبت أنه من رمضان أجزأه، وهذا دليل على أن النية تقع بعد الفجر في التحول من نية التطوع إلى نية الفرض. وأما يوم السبت، فالسبت في اختلافهم فيه اختلافهم في تصحيح ما روي من أنه عليه الصلاة والسلام قال "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" خرجه أبو داود، قالوا: والحديث منسوخ، نسخة حديث جويرية بنت الحارث "أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: صمت أمس؟ فقالت: لا، فقال: تريدين أن تصومي غدا؟ قالت: لا، قال: فأفطري". وأما صيام الدهر فإنه قد ثبت النهي عن ذلك، لكن مالك لم ير بذلك بأسا، وعسى رأى النهي في ذلك إنما هو من باب خوف الضعف والمرض. وأما صيام النصف الآخر من شعبان، فإن قوما كرهوه، وقوما أجازوه، فمن كرهوه فلما روي من أنه عليه الصلاة والسلام قال "لا صوم بعد النصف من شعبان حتى رمضان" ومن أجازه فلما روي عن أم سلمة قالت "ما رأيت رسول الله ﷺ صام شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان" ولما روي عن ابن عمر قال "كان رسول الله ﷺ يقرن شعبان برمضان" وهذه الآثار خرجها الطحاوي. وأما الركن الثاني وهو النية فلا أعلم أن أحدا لم يشترط النية في صوم التطوع، وإنما اختلفوا في وقت النية على ما تقدم. وأما الركن الثالث وهو الإمساك عن المفطرات فهو بعينه الإمساك الواجب في الصوم المفروض، والاختلاف الذي هنالك لاحق ههنا. وأما حكم الإفطار في التطوع فإنهم أجمعوا على أنه ليس على من دخل في صيام تطوع فقطعه لعذر قضاء. واختلفوا إذا قطعه لغير عذر عامدا، فأوجب مالك وأبو حنيفة عليه القضاء، وقال الشافعي وجماعة: ليس عليه قضاء. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أن مالكا روى أن حفصة وعائشة زوجي النبي عليه الصلاة والسلام أصبحتا صائمتين متطوعتين، فأهدى لهما الطعام فأفطرتا عليه، فقال رسول الله ﷺ: اقضيا يوما مكانه" وعارض هذا حديث أم هانئ قالت "لما كان يوم الفتح فتح مكة، جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول الله ﷺ وأم هانئ عن يمينه، قالت: فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب، فناولته فشرب منه، ثم ناوله أم هانئ فشربت منه، قالت: يا رسول الله لقد أفطرت وكنت صائمة، فقال لها عليه الصلاة والسلام: أكنت تقضين شيئا؟ قالت: لا، قال: فلا يضرك إن كان تطوعا" واحتج الشافعي في هذا المعنى بحديث عائشة أنها قالت "دخل علي رسول الله ﷺ فقلت: أنا خبأت لك خبئا، فقال: أما إني كنت أريد الصيام ولكن قربيه" وحديث عائشة وحفصة غير مسند. ولاختلافهم أيضا في هذه المسألة سبب آخر، هو تردد الصوم التطوع بين قياسه على صلاة التطوع أو على حج التطوع، وذلك أنهم أجمعوا على أن من دخل في الحج والعمرة متطوعا يخرج منهما أن عليه القضاء. وأجمعوا على أن من خرج من صلاة التطوع فليس عليه قضاء فيما علمت، وزعم من قاس الصوم على الصلاة أنه أشبه بالصلاة منه بالحج، لأن الحج له حكم خاص في هذا المعنى، وهو أنه يلزم المفسد له المسير فيه إلى آخره، وإذا أفطر في التطوع ناسيا فالجمهور على أن لا قضاء عليه، وقال ابن علية عليه القضاء قياسا على الحج، ولعل مالكا حمل حديث أم هانئ على النسيان، وحديث أم هانئ خرجه أبو داود، وكذلك خرج حديث عائشة بقريب من اللفظ الذي ذكرناه، وخرج حديث عائشة وحفصة بعينه. بسم الله الرحمن الرحيم. 2*كتاب الاعتكاف.

@-والاعتكاف مندوب إليه بالشرع واجب بالنذر، ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن مالك أنه كره الدخول فيه مخافة أن لا يوفى شرطه وهو في رمضان أكثر منه في غيره، وبخاصة في العشر الأواخر منه، إذ كان ذلك هو آخر اعتكافه ﷺ، وهو بالجملة يشتمل على عمل مخصوص في موضع مخصوص وفي زمان مخصوص بشروط مخصوصة وتروك مخصوصة. فأما العمل الذي يخصه ففيه قولان: قيل إنه الصلاة وذكر الله وقراءة القرآن لا غير ذلك من أعمال البر والقرب، وهو مذهب ابن القاسم. وقيل جميع أعمال القرب والبر المختصة بالآخرة، وهو مذهب ابن وهب، فعلى هذا المذهب يشهد الجنائز ويعود المرضى ويدرس العلم، وعلى المذهب الأول لا، وهذا هو مذهب الثوري، والأول هو مذهب الشافعي وأبي حنيفة. وسبب اختلافهم أن ذلك شيء مسكوت عنه، أعني أنه ليس فيه حد مشروع بالقول، فمن فهم من الاعتكاف حبس النفس على الأفعال المختصة بالمساجد قال: لا يجوز للمعتكف إلا الصلاة والقراءة. ومن فهم منه حبس النفس على القرب الأخروية كلها أجاز له غير ذلك مما ذكرناه. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: من اعتكف لا يرفث ولا يساب، وليشهد الجمعة والجنازة، ويوصي أهله إذا كانت له حاجة وهو قائم ولا يجلس. ذكره عبد الرزاق. وروي عن عائشة خلاف هذا، وهو أن السنة للمعتكف أن لا يشهد جنازة ولا يعود مريضا، وهذا أيضا أحد ما أوجب الاختلاف في هذا المعنى. وأما المواضع التي يكون فيها الاعتكاف، فإنهم اختلفوا فيها فقال قوم: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة بيت الله الحرام وبيت المقدس ومسجد النبي عليه الصلاة والسلام وبه قال حذيفة وسعيد بن المسيب. وقال آخرون: الاعتكاف عام في كل مسجد، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري، وهو مشهور مذهب مالك. وقال آخرون: لا اعتكاف إلا في مسجد فيه جمعة، وهي رواية ابن عبد الحكم عن مالك. وأجمع الكل على أن من شرط الاعتكاف المسجد، إلا ما ذهب إليه ابن لبابة من أنه يصح في غير مسجد، وأن مباشرة النساء إنما حرمت على المعتكف إذا اعتكف في المسجد، وإلا ما ذهب إليه أبو حنيفة من أن المرأة إنما تعتكف في مسجد بيتها. وسبب اختلافهم في اشتراط المسجد أو ترك اشتراطه هو الاحتمال الذي في قوله تعالى {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} بين أن يكون له دليل خطاب أو لا يكون له؟ فمنن قال له دليل خطاب قال: لا اعتكاف إلا في مسجد، وإن من شرط الاعتكاف ترك المباشرة. ومن قال ليس له دليل خطاب قال: المفهوم منه أن الاعتكاف جائز في غير المسجد وأنه لا يمنع المباشرة لأن قائلا لو قال: لا تعط فلانا شيئا إذا كان داخلا في الدار لكان مفهوم دليل الخطاب يوجب أن تعطيه إذا كان خارج الدار، ولكن هو قول شاذ. والجمهور على أن العكوف إنما أضيف إلى المساجد لأنها من شرطه. وأما سبب اختلافهم في تخصيص بعض المساجد أو تعميمها فمعارضة العموم للقياس المخصص له، فمن رجح العموم قال: في كل مسجد على ظاهر الآية. ومن انقدح له تخصيص بعض المساجد من ذلك العموم بقياس اشترط أن يكون مسجدا فيه جمعة لئلا ينقطع عمل المعتكف بالخروج إلى الجمعة، أو مسجدا تشد إليه المطي مثل مسجد النبي ﷺ الذي وقع فيه اعتكافه، ولم يقس سائر المساجد عليه إذ كانت غير مساوية له في الحرمة. وأما سبب اختلافهم في اعتكاف المرأة فمعارضة القياس أيضا للأثر، وذلك "أنه ثبت أن حفصة وعائشة وزينب أزواج النبي ﷺ استأذن رسول الله ﷺ في الاعتكاف في المسجد، فأذن لهم حين ضربن أخبيتهن فيه" فكان هذا الأثر دليلا على جواز اعتكاف المرأة في المسجد. وأما القياس المعارض لهذا فهو قياس الاعتكاف على الصلاة، وذلك أنه لما كانت صلاة المرأة في بيتها أفضل منها في المسجد على ما جاء الخبر وجب أن يكون الإعتكاف في بيتها أفضل قالوا وإنما يجوز للمرأة أن تعتكف في المسجد مع زوجها فقط على نحو ما جاء في الأثر من اعتكاف أزواجه عليه الصلاة والسلام معه كما تسافر معه ولا تسافر مفردة، وكأنه نحو من الجمع بين القياس والأثر. وأما زمان الاعتكاف فليس لأكثره عندهم حد واجب، وإن كان كلهم يختار العشر الأواخر من رمضان بل يجوز الدهر كله، إما مطلقا عند من لا يرى الصوم من شروطه، وإما ما عدا الأيام التي لا يجوز صومها عند من يرى الصوم من شروطه. وأما أقله فإنهم اختلفوا فيه، وكذلك اختلفوا في الوقت الذي يدخل فيه المعتكف لاعتكافه وفي الوقت الذي يخرج فيه منه. أما أقل زمان الاعتكاف، فعند الشافعي وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء أنه لا حد له. واختلف عن مالك في ذلك فقيل ثلاثة أيام، وقيل يوم وليلة. وقال ابن القاسم عنه أقله عشرة أيام، وعند البغداديين من أصحابه أن العشرة استحباب وأن أقله يوم وليلة. والسبب في اختلافهم معارضة القياس للأثر؛ أما القياس فإنه من اعتقد أن من شرطه الصوم قال: لا يجوز اعتكاف ليلة، وإذا لم يجز اعتكافه ليلة فلا أقل من يوم وليلة، إذ انعقاد صوم النهار إنما يكون بالليل. وأما الأثر المعارض فما خرجه البخاري من "أن عمر رضي الله عنه نذر أن يعتكف ليلة فأمره رسول الله ﷺ أن يفي بنذره" ولا معنى للنظر مع الثابت من مذهب الأثر. وأما اختلافهم في الوقت الذي يدخل فيه المعتكف إلى اعتكافه إذا نذر أياما معدودة أو يوما واحدا، فإن مالكا والشافعي وأبا حنيفة اتفقوا على أنه من نذر اعتكاف شهر أنه يدخل المسجد قبل غروب الشمس. وأما من نذر أن يعتكف يوما فإن الشافعي قال: من أراد أن يعتكف يوما واحدا دخل قبل طلوع الفجر، وخرج بعد غروبها. وأما مالك فقوله في اليوم والشهر واحد بعينه، وقال زفر والليث: يدخل قبل طلوع الفجر، واليوم والشهر عندهما سواء. وفرق أبو ثور بين نذر الليالي والأيام فقال: إذا نذر أن يعتكف عشرة أيام دخل قبل طلوع الفجر، وإذا نذر عشر ليالي دخل قبل غروبها. وقال الأوزاعي: يدخل في اعتكافه بعد صلاة الصبح. والسبب في اختلافهم معارضة الأقيسة بعضها بعضا، ومعارضة الأثر لجميعها؛ وذلك أنه من رأى أن أول الشهر ليلة واعتبر الليالي قال: يدخل قبل مغيب الشمس، ومن لم يعتبر الليالي قال: يدخل قبل الفجر، ومن رأى أن اسم اليوم يقع على الليل والنهار معا أوجب إن نذر يوما أن يدخل قبل غروب الشمس، ومن رأى أنه إنما ينطلق على النهار أوجب الدخول قبل طلوع الفجر، ومن رأى أن اسم اليوم خاص بالنهار واسم الليل بالليل فرق بين أن ينذر أياما أو ليالي. والحق أن اسم اليوم في كلام العرب قد يقال على النهار مفردا، وقد يقال على الليل والنهار معا، لكن يشبه أن يكون دلالته الأولى إنما هي على النهار، ودلالته على الليل بطريق اللزوم. وأما الأثر المخالف لهذه الأقيسة كلها فهو ما خرجه البخاري وغيره من أهل الصحيح عن عائشة قالت "كان رسول الله ﷺ يعتكف في رمضان وإذا صلى الغداة دخل مكانه الذي كان يعتكف فيه". وأما وقت خروجه، فإن مالكا رأى أن يخرج المعتكف العشر الأواخر من رمضان من المسجد إلى صلاة العيد على جهة الاستحباب، وأنه إن خرج بعد غروب الشمس أجزأه. وقال الشافعي وأبو حنيفة: بل يخرج بعد غروب الشمس. وقال سحنون وابن الماجشون: إن رجع إلى بيته قبل صلاة العيد فس اعتكافه. وسبب الاختلاف هل الليلة الباقية هي من حكم العشر أم لا؟ وأما شروطه فثلاث: النية والصيام وترك مباشرة النساء. أما النية فلا أعلم فيها اختلافا. وأما الصيام فإنهم اختلفوا فيه؛ فذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة إلى أنه لا اعتكاف إلا بالصوم. وقال الشافعي: الاعتكاف جائز بغير صوم، وبقول مالك قال من الصحابة ابن عمر وابن عباس على خلاف عنه في ذلك، وبقول الشافعي قال علي وابن مسعود. والسبب في اختلافهم أن اعتكاف رسول الله ﷺ إنما وقع في رمضان فمن رأى أن الصوم المقترن باعتكافه هو شرط في الاعتكاف وإن لم يكن الصوم للاعتكاف نفسه قالا: لابد من الصوم مع الاعتكاف، ومن رأى أنه إنما اتفق ذلك اتفاقا لا على أن ذلك كان مقصودا له عليه الصلاة والسلام في الاعتكاف قال: ليس الصوم من شرطه. ولذلك أيضا سبب آخر وهو اقترانه في آية واحدة. وقد احتج الشافعي بحديث عمر المتقدم وهو أنه أمره عليه الصلاة والسلام أن يعتكف ليلة والليل ليس بمحل للصيام. واحتجت المالكية بما روى عبد الرحمن بن إسحاق عن عروة عن عائشة أنها قالت: السنة للمعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج إلا إلى ما لابد له منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع. قال أبو عمر بن عبد البر: لم يقل أحد في حديث عائشة: هذه السنة إلا عبد الرحمن بن إسحق، ولا يصح هذا الكلام عندهم إلا من قول الزهري، وإن كان الأمر هكذا بطل أن يجري مجرى المسند. وأما الشرط الثالث وهي المباشرة فإنهم أجمعوا على أن المعتكف إذا جامع عامدا بطل اعتكافه إلا ما روي عن ابن لبابة في غير المسجد، واختلفوا فيه إذا جامع ناسيا، واختلفوا في فساد الاعتكاف بما دون الجماع من القبلة واللمس، فرأى مالك أن جميع ذلك يفسد الاعتكاف. وقال أبو حنيفة: ليس في المباشرة فساد إلا أن ينزل، وللشافعي قولان: أحدهما مثل قول مالك. والثاني مثل قول أبي حنيفة. وسبب اختلافهم هل الاسم المتردد بين الحقيقة والمجاز له عموم أم لا؟ وهو أحد أنواع الاسم المشترك، فمن ذهب إلى أن له عموما قال: إن المباشرة في قوله تعالى {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد} ينطلق على الجماع وعلى ما دونه، ومن لم ير عموما وهو الأشهر الأكثر قال: يدل إما على الجماع وإما على ما دون الجماع، فإذا قلنا إنه يدل على الجماع بإجماع بطل أن يدل على غير الجماع، لأن الاسم الواحد لا يدل على الحقيقة والمجاز معا، ومن أجرى الإنزال بمنزلة الوقاع فلأنه في معناه، ومن خالف فلأنه لا ينطلق عليه الاسم حقيقة، واختلفوا فيما يجب على المجامع فقال الجمهور: لا شيء عليه، وقال قوم: عليه كفارة، فبعضهم قال: كفارة المجامع في رمضان، وبه قال الحسن، وقال قوم: يتصدق بدينارين، وبه قال مجاهد، وقال قوم: يعتق رقبة، فإن لم يجد أهدى بدنة، فإن لم يجد تصدق بعشرين صاعا من تمر. وأصل الخلاف هل يجوز القياس في الكفارة أم لا؟ والأظهر أنه لا يجوز، واختلفوا في مطلق النذر بالاعتكاف هل من شرطه التتابع أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة: ذلك من شرطه. وقال الشافعي: ليس من شرطه ذلك. والسبب في اختلافهم قياسه على نذر الصوم المطلق. وأما موانع الاعتكاف، فاتفقوا على أنها ما عدا الأفعال التي هي أعمال المعتكف وأنه لا يجوز للمعتكف الخروج من المسجد إلا لحاجة الإنسان أو ما هو في معناها مما تدعو إليه الضرورة لما ثبت من حديث عائشة أنها قالت "كان رسول الله ﷺ إذا اعتكف يدني إلي رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" واختلفوا إذا خرج لغير حاجة متى ينقطع اعتكافه، فقال الشافعي: ينتقض اعتكافه عند أول خروجه وبعضهم رخص في الساعة، وبعضهم في اليوم، واختلفوا هل له أن يدخل بيتا غير بيت مسجده؟ فرخص فيه بعضهم وهم الأكثر مالك والشافعي وأبو حنيفة. ورأى بعضهم أن ذلك يبطل اعتكافه، وأجاز مالك له البيع والشراء وأن يلي عقد النكاح وخالفه غيره في ذلك. وسبب اختلافهم أنه ليس في ذلك حد منصوص عليه إلا الاجتهاد وتشبيه ما لم يتفقوا عليه بما اتفقوا عليه. واختلفوا أيضا هل للمعتكف أن يشترط فعل شيء مما يمنعه الاعتكاف فينفعه شرطه في الإباحة أم ليس ينفعه مثل ذلك أن يشترط شهود جنازة أو غير ذلك؟ فأكثر الفقهاء على أن شرطه لا ينفعه، وأنه إن فعل بطل اعتكافه، وقال الشافعي: ينفعه شرطه. والسبب في اختلافهم تشبيههم الاعتكاف بالحج في أن كليهما عبادة مانعة لكثير من المباحات والاشتراط في الحج إنما صار إليه من رآه لحديث ضباعة أن رسول الله ﷺ قال لها: أهلي بالحج واشترطي أن تحلي حيث حبستني" لكن هذا الأصل مختلف فيه في الحج، فالقياس فيه ضعيف عند الخصم المخالف له. واختلفوا إذا اشترط التتابع في النذر، أو كان التتابع لازما، فمطلق النذر عند من يرى ذلك ما هي الأشياء التي إذا قطعت الاعتكاف أوجبت الاستئناف أو البناء مثل المرض، فإن منهم من قال: إذا قطع المرض الاعتكاف بنى المعتكف وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي، ومنهم من قال: يستأنف الاعتكاف، وهو قول الثوري. ولا خلاف فيما أحسب عندهم أن الحائض تبنى، واختلفوا هل يخرج من المسجد أم ليس يخرج، وكذلك اختلفوا إذا جن المعتكف أو أغمي عليه هل يبنى أو ليس يبنى بل يستقل. والسبب في اختلافهم في هذا الباب أنه ليس في هذه الأشياء شيء محدود من قبل السمع، فيقع التنازع من قبل تشبيههم ما اتفقوا عليه فيما اختلفوا فيه، أعني بما اتفقوا عليه في هذه العبادة، أو في العبادات التي من شرطها التتابع مثل صوم النهار وغيره. والجمهور على أن الاعتكاف المتطوع إذا قطع لغير عذر أنه يجب فيه القضاء لما ثبت أن رسول الله ﷺ أراد أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان فلم يعتكف فاعتكف عشرا من شوال وأما الواجب بالنذر فلا خلاف في قضائه فيما أحسب، والجمهور على أن من أتى كبيرة انقطع اعتكافه، فهذه جملة ما رأينا أن نثبته في أصول هذا الباب وقواعده، والله الموفق والمعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.

=====

 

 

 

 

 

 

 

 

كتاب الحج. @-بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما. والنظر في هذا الكتاب في ثلاثة أجناس: الجنس الأول. يشتمل على الأشياء التي تجري من هذه العبادة مجرى المقدمات التي تجب معرفتها لعمل هذه العبادة. الجنس الثاني: في الأشياء التي تجري منها مجرى الأركان، وهي الأمور المعمولة أنفسها والأشياء المتروكة. الجنس الثالث: في الأشياء التي تجري منها مجرى الأمور اللاحقة، وهي أحكام الأفعال، وذلك أن كل عبادة فإنها توجد مشتملة على هذه الثلاثة الأجناس. 4*الجنس الأول.

@-وهذا الجنس يشتمل على شيئين: على معرفة الوجوب وشروطها، وعلى من يجب ومتى يجب؟ فأما وجوبه فلا خلاف فيه لقوله سبحانه {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} وأما شروط الوجوب فإن الشروط قسمان: شروط صحة، وشروط وجوب. فأما شروط الصحة فلا خلاف بينهم أن من شروطه الإسلام، إذ لا يصح حج من ليس بمسلم. واختلفوا في صحة وقوعه من الصبي، فذهب مالك والشافعي إلى جواز ذلك، ومنع منه أبو حنيفة. وسبب الخلاف معارضة الأثر في ذلك للأصول، وذلك أن من أجاز ذلك أخذ فيه بحديث ابن عباس المشهور، وخرجه البخاري ومسلم. وفيه "أن المرأة رفعت إليه عليه الصلاة والسلام صبيا فقالت: ألهذ حج يا رسول الله؟ قال: نعم ولك أجر" ومن منع ذلك تمسك بأن الأصل هو أن العبادة لا تصح من غير عاقل، وكذلك اختلف أصحاب مالك في صحة وقوعها من الطفل الرضيع، وينبغي أن لا يختلف في صحة وقوعه ممن يصح وقوع الصلاة منه، وهو كما قال عليه الصلاة والسلام "من السبع إلى العشر" وأما شروط الوجوب فيشترط فيها الإسلام على القول بأن الكفار مخاطبون بشرائع الإسلام، ولا خلاف في اشتراط الاستطاعة في ذلك لقوله تعالى {من استطاع إليه سبيلا} وإن كان في تفصيل ذلك اختلاف وهي بالجملة تتصور على نوعين: مباشرة ونيابة. فأما المباشر فلا خلاف عندهم أن من شرطها الاستطاع بالبدن والمال مع الأمن. واختلفوا في تفصيل الاستطاعة بالبدن والمال، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد: وهو قول ابن عباس وعمر بن الخطاب إن من شرط ذلك الزاد والراحلة. وقال مالك: من استطاع المشي فليس وجود الراحلة من شرط الوجوب في حقه بل يجب عليه الحج، وكذلك ليس الزاد عنده من شرط الاستطاعة إذا كان ممن يمكنه الاكتساب في طريقه ولو بالسؤال. والسبب في هذا الخلاف معارضة الأثر الوارد في تفسير الاستطاعة لعموم لفظها، وذلك أنه ورد أثر عنه عليه الصلاة والسلام "أنه سئل ما الاستطاعة فقال: الزاد والراحلة" فحمل أبو حنيفة والشافعي ذلك على كل مكلف، وحمله مالك على من لا يستطيع المشي ولا له قوة على الاكتساب في طريقه، وإنما اعتقد الشافعي هذا الرأي لأن من مذهبه إذا ورد الكتاب مجملا، فوردت السنة بتفسير ذلك المجمل أنه ليس ينبغي العدول عن ذلك التفسير. وأما وجوبه باستطاعة النيابة مع العجز عن المباشرة، فعند مالك وأبي حنيفة أنه لا تلزم النيابة إذا استطلعت مع العجز عن المباشرة، وعن الشافعي أنها تلزم فيلزم على مذهبه الذي عنده مال بقدر أن يحج به عنه غيره إذا لم يقدر هو ببدنه عنه غيره بماله وإن وجد من يحج عنه بماله وبدنه من أخ أو قريب سقط ذلك عنه، وهي المسألة التي يعرفونها بالمعضوب، وهو الذي لا يثبت على الراحلة، وكذلك عنده الذي يأتيه الموت ولم يحج يلزم ورثته عنده أن يخرجوا من ماله بما يحج به عنه. وسبب الخلاف في هذا معارضة القياس للأثر، وذلك أن القياس يقتضي أن العبادات لا ينوب فيها أحد عن أحد، فإنه لا يصلي أحد عن أحد باتفاق ولا يزكي أحد عن أحد. وأما الأثر المعارض لهذا فحديث ابن عباس المشهور، خرجه الشيخان، وفيه "أن امرأة من خثعم قالت لرسول الله ﷺ: يا رسول الله فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم" وذلك في حجة الوداع، فهذا في الحي. وأما في الميت فحديث ابن عباس أيضا خرجه البخاري قال "جاءت امرأة من جهينة إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله إن أمي نذرت الحج فماتت أفأحج عنها؟ قال: حجي عنها، أرأيت لو كان عليها دين أكنت قاضيته؟ دين الله أحق بالقضاء" ولا خلاف بين المسلمين أنه يقع عن الغير تطوعا، وإنما الخلاف في وقوعه فرضا. واختلفوا من هذا الباب في الذي يحج عن غيره سواء كان حيا أو ميتا هل من شرطه أن يكون قد حج عن نفسه أم لا؟ فذهب بعضهم إلى أن ذلك ليس من شرطه، وإن كان قد أدى الفرض عن نفسه فذلك أفضل، وبه قال مالك فيمن يحج عن الميت، لأن الحج عنده عن الحي لا يقع. وذهب آخرون إلى أن من شرطه أن يكون قد قضى فريضة نفسه، وبه قال الشافعي وغيره أنه إن حج عن غيره من لم يقض فرض نفسه انقلب إلى فرض نفسه، وعمدة هؤلاء حديث ابن عباس "أن النبي ﷺ سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة، قال: ومن شبرمة؟ قال: أخ لي، أو قال قريب لي، قال: أفحججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: فحج عن نفسك ثم حج عن شبرمة" والطائفة الأولى عللت هذا الحديث بأنه قد روي موقوفا على ابن عباس. واختلفوا من هذا الباب في الرجل يؤاجر نفسه في الحج فكره ذلك مالك والشافعي وقالا: إن وقع ذلك جاز ولم يجز ذلك أبو حنيفة، وعمدته أنه قربة إلى الله عز وجل فلا تجوز الإجارة عليه، وعمدة الطائفة الأولى إجماعهم على جواز الإجارة في كتب المصاحف وبناء المساجد، وهي قربة. والإجارة في الحج عند مالك نوعان: أحدهما الذي يسميه أصحابه على البلاغ، وهو الذي يؤاجر نفسه على ما يبلغه من الزاد والراحلة، فإن نقص ما أخذه عن البلاغ وفاه ما يبلغه، وإن فضل عن ذلك شيء رده. والثاني على سنة الإجارة وإن نقص شيء وفاه من عنده وإن فضل شيء فله. والجمهور على أن العبد لا يلزمه الحج حتى يعتق، وأوجبه عليه بعض أهل الظاهر، فهذه معرفة على من تجب هذه الفريضة وممن تقع. وأما متى تجب فإنهم اختلفوا هل هي على الفور أو على التراخي؟ والقولان متأولان على مالك وأصحابه، والظاهر عند المتأخرين من أصحابه أنها على التراخي وبالقول إنها على الفور قال البغداديون من أصحابه. واختلف في ذلك قول أبي حنيفة وأصحابه، والمختار عندهم أنه على الفور. وقال الشافعي: هو على التوسعة، وعمدة من قال هو على التوسعة أن الحج فرض قبل حج النبي ﷺ بسنين، فلو كان على الفور لما أخره النبي عليه الصلاة والسلام، ولو أخره لعذر لبينه، وحجة الفريق الثاني أنه لما كان مختصا بوقت كان الأصل تأثيم تاركه حتى يذهب الوقت، أصله وقت الصلاة، والفرق عند الفريق الثاني بينه وبين الأمر بالصلاة أنه لا يتكرر وجوبه بتكرار الوقت، والصلاة يتكرر وجوبها بتكرار الوقت. وبالجملة فمن شبه أول وقت من أوقات الحج الطارئة على المكلف المستطيع بأول الوقت من الصلاة قال: هو على التراخي، ومن شبهه بآخر الوقت من الصلاة قال: هو على الفور، ووجه شبهه بآخر الوقت أنه ينقضي بدخول وقت لا يجوز فيه فعله كما ينقضي وقت الصلاة بدخول وقت ليس يكون فيه المصلي مؤديا، ويحتج هؤلاء بالغرر الذي يلحق المكلف بتأخيره إلى عام آخر بما يغلب على الظن من مكان وقوع الموت في مدة من عام، ويرون أنه بخلاف تأخير الصلاة من أول الوقت إلى آخره، لأن الغالب أنه لا يموت أحد في مقدار ذلك الزمان إلا نادرا، وربما قالوا: إن التأخير في الصلاة يكون مع مصاحبة الوقت الذي يؤدي فيه الصلاة، والتأخير ههنا يكون مع دخول وقت لا تصح فيه العبادة، فهو ليس يشبهه في هذا الأمر المطلق، وذلك أن الأمر عند من يقول إنه على التراخي ليس يؤدي التراخي فيه إلى دخول وقت لا يصح فيه وقوع المأمور فيه كما يؤدي التراخي في الحج إذا دخل وقته فأخره المكلف إلى قابل، فليس الاختلاف في هذه المسألة من باب اختلافهم في مطلق الأمر هل هو على الفور أو على التراخي كما قد يظن. واختلفوا من هذا الباب هل من شرط وجوب الحج على المرأة أن يكون معها زوج أو ذو محرم منها يطاوعها على الخروج معها إلى السفر للحج؟ فقال مالك والشافعي: ليس من شرط الوجوب ذلك، وتخرج المرأة إلى الحج إذا وجدت رفقة مأمونة. وقال أبو حنيفة وجماعة: وجود ذي المحرم ومطاوعته لها شرط في الوجوب. وسبب الخلاف معارضة الأمر بالحج والسفر إليه للنهي عن سفر المرأة ثلاثا إلا مع ذي محرم. وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عباس وابن عمر أنه قال عليه الصلاة والسلام "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم" فمن غلب عموم الأمر قال: تسافر للحج وإن لم يكن معها ذو محرم، ومن خصص العموم بهذا الحديث أو رأى أنه من باب تفسير الاستطاعة قال: لا تسافر للحج إلا مع ذي محرم، فقد قلنا في وجوب هذا النسك الذي هو الحج وبأي شيء يجب وعلى من يجب ومتى يجب؟ وقد بقي من هذا الباب القول في حكم النسك الذي هو العمرة، فإن قوما قالوا: إنه واجب، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد والثوري والأوزاعي، وهو قول ابن عباس من الصحابة وابن عمر وجماعة من التابعين. وقال مالك وجماعة: هي سنة. وقال أبو حنيفة: هي تطوع، وبه قال أبو ثور وداود، فمن أوجبها احتج بقوله تعالى {وأتموا الحج والعمرة لله} وبآثار مروية، منها ما روي عن ابن عمر عن أبيه قال "دخل أعرابي حسن الوجه أبيض الثياب على رسول الله ﷺ فقال: ما الإسلام يا رسول الله؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصة وتؤتي الزكاة وتصوم شهر رمضان وتحج وتعتمر وتغتسل من الجنابة" وذكر عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة أنه كان يحدث أنه "لما نزلت {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} قال رسول الله ﷺ: باثنين حجة وعمرة فمن قضاها فقد قضى الفريضة" وروي عن زيد بن ثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت" وروي عن ابن عباس "العمرة واجبة" وبعضهم يرفعه إلى النبي ﷺ. وأما حجة الفريق الثاني، وهم الذين يرون أنها ليست واجبة، فالأحاديث المشهورة الثابتة الواردة في تعديد فرائض الإسلام من غير أن يذكر منها العمرة مثل حديث ابن عمر "بني الإسلام على خمس" فذكر الحج مفردا" ومثل حديث السائل عن الإسلام، فإن في بعض طرقه "وأن يحج البيت" وربما قالوا إن الأمر بالإتمام ليس يقتضي الوجوب، لأن هذا يخص السنن والفرائض أعني إذا شرع فيها أن تتم ولا تقطع، واحتج هؤلاء أيضا أعني من قال إنها سنة بآثار، منها حديث الحجاج بن أرطاة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال "سأل رجل النبي ﷺ عن العمرة أواجبة هي؟ قال: لا ولأن تعتمر خير لك" قال أبو عمر بن عبد البر: وليس هو حجة فيما انفرد به، وربما احتج من قال إنها تطوع بما روي عن أبي صالح الحنفي قال: قال رسول الله ﷺ "الحج واجب والعمرة تطوع" وهو حديث منقطع. فسبب الخلاف في هذا هو تعارض الآثار في هذا الباب، وتردد الأمر بالتمام بين أن يقتضي الوجوب أم لا يقتضيه. 4*القول في الجنس الثاني.

@-وهو تعريف أفعال هذه العبادة في نوع نوع منها والتروك المشترطة فيها. وهذه العبادة كما قلنا صنفان: حج وعمرة، والحج على ثلاثة أصناف: إفراد وتمتع وقران، وهي كلها تشتمل على أفعال محدودة في أمكنة محدودة وأوقات محدودة، ومنها فرض، ومنها غير فرض، وعلى تروك تشترط في تلك الأفعال وكل من هذه أحكام محدودة إما عند الإخلال بها، وإما عند الطوارئ المانعة منها، فهذا الجنس ينقسم أولا إلى القول في الأفعال وإلى القول في التروك. وأما الجنس الثالث فهو الذي يتضمن القول في الأحكام فلنبدأ بالأفعال، وهذه منها ما تشترك فيه هذه الأربعة الأنواع من النسك، أعني أصناف الحج الثلاث، والعمرة، ومنها ما يختص بواحد واحد منها، فلنبدأ من القول فيها بالمشترك ثم نصير إلى ما يخص واحدا واحدا منها، فنقول: إن الحج والعمرة أول أفعالهما الفعل الذي يسمى الإحرام. 4*القول في شروط الإحرام.

@-والإحرام شروطه الأول المكان والزمان، أما المكان فهو الذي يسمى مواقيت الحج، فلنبدأ بهذا فنقول: إن العلماء بالجملة مجمعون على أن المواقيت التي منها يكون الإحرام، أما لأهل المدينة فذو الحليفة، وأما لأهل الشام فالجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم، لثبوت ذلك عن رسول الله ﷺ من حديث ابن عمر وغيره. واختلفوا في ميقات أهل العراق فقال جمهور فقهاء الأمصار ميقاتهم من ذات عرق. وقال الشافعي والثوري: إن أهلوا من العقيق كان أحب. واختلفوا فيمن أقته لهم فقالت طائفة: عمر ابن الخطاب. وقالت طائفة: بل رسول الله ﷺ هو الذي أقت لأهل العراق ذات عرق والعقيق. وروي ذلك من حديث جابر وابن عباس وعائشة. وجمهور العلماء على أن من يخطئ هذه وقصده الإحرام فلم يحرم إلا بعدها أن عليه دما، وهؤلاء منهم من قال: إن رجع إلى الميقات فأحرم منه سقط عنه الدم ومنهم الشافعي. ومنهم من قال: لا يسقط عنه الدم وإن رجع، وبه قال مالك. وقال قوم: ليس عليه دم. وقال آخرون: إن لم يرجع إلى الميقات فسد حجه وأنه يرجع إلى الميقات فيهل منه بعمرة وهذا يذكر في الأحكام. وجمهور العلماء على أن من كان منزله دونهن فميقات إحرامه من منزله. واختلفوا هل الأفضل إحرام الحاج منهن أو من منزله إذا كان منزله خارجا منهن؟ فقال قوم: الأفضل له من منزله، والإحرام منها رخصة وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة. وقال مالك وإسحاق وأحمد: إحرامه من المواقيت أفضل، وعمدة هؤلاء الأحاديث المتقدمة، وأنها السنة التي سنها رسول الله ﷺ فهي أفضل. وعمدة الطائفة الأخرى أن الصحابة قد أحرمت من قبل الميقات ابن عباس وابن عمر وابن مسعود وغيرهم قالوا: وهم أعرف بالسنة، وأصول أهل الظاهر تقتضي أن لا يجوز الإحرام إلا من الميقات إلا أن يصح إجماع على خلافه. واختلفوا فيمن ترك الإحرام من ميقاته وأحرم من ميقات آخر غير ميقاته، مثل أن يترك أهل المدينة الإحرام من ذي الحليفة ويحرموا من الجحفة، فقال قوم: عليه دم، وممن قال به مالك وبعض أصحابه. وقال أبو حنيفة: ليس عليه شيء. وسبب الخلاف هل هو من النسك الذي يجب في تركه الدم أم لا؟ ولا خلاف أنه لا يلزم الإحرام من مر بهذه المواقيت ممن أراد الحج أوالعمرة. وأما من لم يردهما ومر بهما فقال قوم: كل من مر بهما يلزمه الإحرام إلا من يكثر ترداده مثل الحطابين وشبههم، وبه قال مالك. وقال قوم: لا يلزم الإحرام بها إلا لمريد الحج أو العمرة، وهذا كله لمن ليس من أهل مكة. وأما أهل مكة فإنهم يحرمون بالحج منها، أو بالعمرة يخرجون إلى الحل ولا بد. وأما متى يحرم بالحج أهل مكة فقيل إذا رأوا الهلال، وقيل إذا خرج الناس إلى منى فهذا هو ميقات المكان المشترط لأنواع هذه العبادة. 4*القول في ميقات الزمان.

@-وأما ميقات الزمان فهو محدود أيضا في أنواع الحج الثلاث وهو شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة باتفاق. وقال مالك: الثلاثة الأشهر كلها محل للحج. وقال الشافعي: الشهران وتسع من ذي الحجة. وقال أبو حنيفة: عشر فقط، ودليل قول مالك عموم قوله سبحانه وتعالى {الحج أشهر معلومات} فوجب أن يطلق على جميع أيام ذي الحجة أصله انطلاقه على جميع أيام شوال وذي القعدة. ودليل الفريق الثاني انقضاء الإحرام قبل تمام الشهر الثالث بانقضاء أفعاله الواجبة. وفائدة الخلاف تأخر طواف الإفاضة إلى آخر الشهر، إن أحرم بالحج قبل أشهر الحج كرهه مالك ولكن صح إحرامه عنده. وقال غيره: لا يصح إحرامه. وقال الشافعي: ينعقد إحرامه إحرام عمرة، فمن شبهه بوقت الصلاة قال: يقع قبل الوقت، ومن اعتمد عموم قوله تعالى {وأتموا الحج والعمرة لله} قال متى أحرم انعقد إحرامه لأنه مأمور بالإتمام، وربما شبهوا الحج في هذا المعنى بالعمرة، وشبهوا ميقات الزمان بميقات العمرة. فأما مذهب الشافعي فهو مبني على أن من التزم عبادة في وقت نظيرتها انقلبت إلى النظير، مثل أن يصوم نذرا في أيام رمضان، وهذا الأصل فيه اختلاف في المذهب. وأما العمرة فإن العلماء اتفقوا على جوازها في كل أوقات السنة لأنها كانت في الجاهلية لا تصنع في أيام الحج، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" وقال أبو حنيفة: تجوز في كل السنة إلا يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق فإنها تكره. واختلفوا في تكريرها في السنة الواحدة مرارا، فكان مالك يستحب عمرة في كل سنة، ويكره وقوع عمرتين عنده وثلاثا في السنة الواحدة. وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا كراهية في ذلك فهذا هو القول في شروط الإحرام الزمانية والمكانية. وينبغي بعد ذلك أن نصير إلى القول في الإحرام، وقبل ذلك ينبغي أن نقول في تروكه، ثم نقول بعد ذلك في الأفعال الخاصة بالمحرم إلى حين إحلاله وهي أفعال الحج كلها وتروكه، ثم نقول في أحكام الإخلال بالتروك والأفعال ولنبدأ بالتروك. 4*القول في التروك.

@-وهو ما يمنع الإحرام من الأمور المباحة للحلال. والأصل من هذا الباب ما ثبت من حديث مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر "أن رجلا سأل رسول الله ﷺ ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله ﷺ: لا تلبسوا القمص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فيلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس" فاتفق العلماء على بعض الأحكام الواردة في هذا الحديث واختلفوا في بعضها، فمما اتفقوا عليه أنه لا يلبس المحرم قميصا ولا شيئا مما ذكر في هذا الحديث ولا ما كان في معناه من مخيط الثياب وأن هذا مخصوص بالرجال، أعني تحريم لبس المخيط، وأنه لا بأس للمرأة بلبس القميص والدرع والسراويل والخفاف والخمر. واختلفوا فيمن لم يجد غير السراويل هل له لباسها؟ فقال مالك وأبو حنيفة: لا يجوز له لباس السراويل وإن لبسها افتدى. وقال الشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وداود: لا شيء عليه إذا لم يجد إزارا، وعمدة مذهب مالك ظاهر حديث ابن عمر المتقدم قال: ولو كان في ذلك رخصة لاستثناها رسول الله ﷺ كما استثنى في لبس الخفين. وعمدة الطائفة الثانية حديث عمرو بن دينار عن جابر وابن عباس قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول "السراويل لمن لم يجد الإزار والخف لمن لم يجد النعلين" وجمهور العلماء على إجازة لباس الخفين مقطوعين لمن لم يجد النعلين. وقال أحمد: جائز لمن لم يجد النعلين أن يلبس الخفين غير مقطوعين أخذا بمطلق حديث ابن عباس. وقال عطاء: في قطعهما فساد والله لا يحب الفساد. واختلفوا فيمن لبسهما مقطوعين مع وجود النعلين، فقال مالك: عليه الفدية، وبه قال أبو ثور. وقال أبو حنيفة: لا فدية عليه، والقولان عن الشافعي، وسنذكر هذا في الأحكام. وأجمع العلماء على أن المحرم لا يلبس الثوب المصبوغ بالورس والزعفران لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر "لا تلبسوا من الثياب شيئا مسه الزعفران ولا الورس" واختلفوا في المعصفر فقال مالك: ليس به بأس فإنه ليس بطيب. وقال أبو حنيفة والثوري: هو طيب وفيه الفدية، وحجة أبي حنيفة ما خرجه مالك عن علي "أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن لبس القسي وعن لبس المعصفر" وأجمعوا على أن إحرام المرأة في وجهها وأن لها أن تغطي رأسها وتستر شعرها، وأن لها أن تسدل ثوبها على وجهها من فوق رأسها سدلا خفيفا تستتر به عن نظر الرجال إليها كنحو ما روي عن عائشة أنها قالت "كنا مع رسول الله ﷺ ونحن محرمون فإذا مر بنا ركب سدلنا على وجوهنا الثوب من قبل رءوسنا، وإذا جاوز الركب رفعناه" ولم يأت تغطية وجوههن إلا ما رواه مالك عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت "كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر الصديق". واختلفوا في تخمير المحرم وجهه بعد إجماعهم على أنه لا يخمر رأسه، فروى مالك عن ابن عمر أن ما فوق الذقن من الرأس لا يخمره المحرم، وإليه ذهب مالك. وروي عنه أنه إن فعل ذلك ولم ينزعه مكانه افتدى. وقال الشافعي والثوري وأحمد وأبو داود وأبو ثور يخمر المحرم وجهه إلى الحاجبين. وروي من الصحابة عن عثمان وزيد بن ثابت وجابر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص. واختلفوا في لبس القفازين للمرأة فقال مالك: إن لبست المرأة القفازين افتدت، ورخص فيه الثوري، وهو مروي عن عائشة. والحجة لمالك ما خرجه أبو داود عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن النقاب والقفازين وبعض الرواة يرويه موقوفا عن ابن عمر، وصححه بعض رواة الحديث، أعني رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا هو مشهور اختلافهم واتفاقهم في اللباس، وأصل الخلاف في هذا كله اختلافهم في قياس بعض المسكوت عنه على المنطوق به واحتمال اللفظ المنطوق به وثبوته أو لا ثبوته، وأما الشيء الثاني من المتروكات فهو الطيب، وذلك أن العلماء أجمعوا على أن الطيب كله يحرم على المحرم بالحج والعمرة في حال إحرامه. واختلفوا في جوازه للمحرم عند الإحرام قبل أن يحرم لما يبقى من أثره عليه بعد الإحرام، فكرهه قوم وأجازه آخرون، وممن كرهه مالك، ورواه عن عمر بن الخطاب، وهو قول عثمان وابن عمر وجماعة من التابعين. وممن أجازه أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وداود، والحجة لمالك رحمه الله من جهة الأثر حديث صفوان ابن يعلى ثبت في الصحيحين، وفيه "أن رجلا جاء إلى النبي ﷺ بجبة مضمخة بطيب، فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبة بعد ما تضمخ بطيب؟ فأنزل الوحي على رسول الله ﷺ فلما أفاق قال: أين السائل عن العمرة أنفا؟ فالتمس الرجل فأتى به، فقال عليه الصلاة والسلام: أما الطيب الذي بك فاغسله عنك ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها ثم اصنع ما شئت في عمرتك كما تصنع في حجتك" اختصرت الحديث، وفقهه هو الذي ذكرت. وعمدة الفريق الثاني ما رواه مالك عن عائشة أنها قالت "كنت أطيب رأس رسول الله ﷺ لإحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت" واعتل الفريق الأول بما روي عن عائشة أنها قالت {وقد بلغها إنكار ابن عمر تطيب المحرم قبل إحرامه} "يرحم الله أبا عبد الرحمن طيبت رسول الله ﷺ فطاف على نسائه ثم أصبح محرما" قالوا: وإذا طاف على نسائه اغتسل، فإنما يبقى عليه أثر ريح الطيب لا جرمة نفسه، قالوا: ولما كان الإجماع قد انعقد على أن كل ما لا يجوز للمحرم ابتداؤه وهو محرم، مثل لبس الثياب وقتل الصيد لا يجوز له استصحابه وهو محرم، فوجب أن يكون الطيب كذلك. فسبب الخلاف تعارض الآثار في هذا الحكم. وأما المتروك الثالث فهو مجامعة النساء، وذلك أنه أجمع المسلمون على أن وطء النساء على الحاج حرام من حين يحرم لقوله تعالى {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} . وأما الممنوع الرابع وهو إلقاء التفث وإزالة الشعر وقتل القمل، ولكن اتفقوا على أنه يجوز له غسل رأسه من الجنابة، واختلفوا في كراهية غسله من غير الجنابة، فقال الجمهور: لابأس بغسله رأسه. وقال مالك: بكراهية ذلك، وعمدته أن عبد الله بن عمر كان لا يغسل رأسه وهو محرم إلا من الاحتلام. وعمدة الجمهور ما رواه مالك عن عبد الله بن جبير "أن ابن عباس والمسور بن مخرمة اختلفا بالأبواء، فقال عبد الله: يغسل المحرم رأسه، وقال المسور بن مخرمة: لا يغسل المحرم رأسه، قال: فأرسلني عبد الله بن عباس إلى أبي أيوب الأنصاري قال: فوجدته يغتسل بين القرنين وهو مستتر بثوب، فسلمت عليه فقال: من هذا؟ فقلت عبد الله بن جبير أرسلني إليك عبد الله بن عباس أسألك كيف كان رسول الله ﷺ يغسل رأسه وهو محرم، فوضع أبو أيوب يده على الثوب فتطأطأ حتى بدا لي رأسه ثم قال لأنسان يصب عليه اصبب، فصب على رأسه، ثم حرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله ﷺ يفعل" وكان عمر يغسل رأسه وهو محرم ويقول: "ما يزيده الماء إلا شعثا" رواه مالك في الموطأ، وحمل مالك حديث أبي أيوب على غسل الجنابة والحجة له إجماعهم على أن المحرم ممنوع من قتل القمل ونتف الشعر وإلقاء التفث وهو الوسخ، والغاسل رأسه هو إما أن يفعل هذه كلها أو بعضها. واتفقوا على منع غسله رأسه بالخطمى. وقال مالك وأبو حنيفة: إن فعل ذلك افتدى. وقال أبو ثور وغيره: لا شيء عليه. واختلفوا في الحمام فكان مالك يكره ذلك، ويرى أن على من دخله الفدية. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري وداود: لابأس بذلك. وروي عن ابن عباس دخول الحمام وهو محرم من طريقين، والأحسن أن يكره دخوله لأن المحرم منهي عن إلقاء التفث. وأما المحظور الخامس فهو الاصطياد، وذلك أيضا مجمع عليه لقوله سبحانه وتعالى {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} وقوله تعالى {ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} وأجمعوا على أنه لا يجوز له صيده ولا أكل ما صاد هو منه، واختلفوا إذا صاده حلال هل يجوز للمحرم أكله؟ على ثلاثة أقوال: قول إنه يجوز له أكله على الإطلاق، وبه قال أبو حنيفة، وهو قول عمر ابن الخطاب والزبير. وقال قوم: هو محرم عليه على كل حال وهو قول ابن عباس وعلي وابن عمر، وبه قال الثوري. وقال مالك: ما لم يصد من أجل المحرم أو من أجل قوم محرمين فهو حلال، وما صيد من أجل محرم فهو حرام على المحرم. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في ذلك، فأحدها ما خرجه مالك من حديث أبي قتادة : أنه كان مع رسول الله ﷺ حتى إذا كانوا ببعض طرق مكة تخلف مع أصحاب له محرمين وهو غير محرم، فرأى حمارا وحشيا فاستوى على فرسه فسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا عليه فسألهم رمحه فأبوا عليه، فأخذه ثم شد على الحمار فقتله، فأكل منه بعض أصحاب رسول الله ﷺ وأبى بعضهم، فلما أدركوا رسول الله ﷺ سألوه عن ذلك فقال: إنما هي طعمة أطعمكموها الله" وجاء أيضا في معناه حديث طلحة بن عبيد الله ذكره النسائي أن عبد الرحمن التميمي قال: كنا مع طلحة ابن عبيد الله ونحن محرمون، فأهدى له ظبي وهو راقد، فأكل بعضنا، فاستيقظ طلحة فوافق على أكله وقال: أكلناه مع رسول الله ﷺ. والحديث الثاني حديث ابن عباس خرجه أيضا مالك "أنه أهدى لرسول الله ﷺ حمارا وحشيا وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه وقال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم" وللاختلاف سبب آخر، وهو هل يتعلق النهي عن الأكل بشرط القتل، أو يتعلق بكل واحد منهما النهي عن الانفراد؟ فمن أخذ بحديث أبي قتادة قال: إن النهي إنما يتعلق بالأكل مع القتل، ومن أخذ بحديث ابن عباس قال: النهي يتعلق بكل واحد منهما على انفراده، فمن ذهب في هذه الأحاديث مذهب الترجيح قال: إما بحديث أبي قتادة، وإما بحديث ابن عباس، ومن جمع بين الأحاديث قال بالقول الثالث قالوا: والجمع أولى، وأكدوا ذلك بما روي عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم" واختلفوا في المضطر هل يأكل الميتة أو يصيد في الحرم؟ فقال مالك وأبو حنيفة والثوري وزفر وجماعة: إذا اضطر أكل الميتة ولحم الخنزير دون الصيد. وقال أبو يوسف: يصيد ويأكل وعليه الجزاء، والأول أحسن للذريعة. وقال أبو يوسف: أقيس لأن تلك محرمة لعينها والصيد محرم لغرض من الأغراض، وما حرم لعلة أخف مما حرم لعينه، وما هو محرم لعينه أغلظ، فهذه الخمسة اتفق المسلمون على أنها من محظورات الإحرام، واختلفوا في نكاح المحرم فقال مالك والشافعي والليث والأوزاعي: لا ينكح المحرم ولا ينكح، فإن نكح فالنكاح باطل، وهو قول عمر وعلي بن أبي طالب وابن عمر وزيد ابن ثابت. وقال أبو حنيفة والثوري: لا بأس بأن ينكح المحرم أو أن ينكح. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار في ذلك فأحدها ما رواه مالك من حديث عثمان ابن عفان أنه قال: قال رسول الله ﷺ "لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب" والحديث المعارض لهذا حديث ابن عباس "أن رسول الله ﷺ نكح ميمونة وهو محرم" خرجه أهل الصحاح إلا أنه عارضته آثار كثيرة عن ميمونة "أن رسول الله ﷺ تزوجها وهو حلال" رويت عنها من طرق شتى عن أبي رافع وعن سليمان ابن يسار وهو مولاها، وعن زيد بن الأصم، ويمكن الجمع بين الحديثين بأن يحمل الواحد على الكراهية والثاني على الجواز، فهذه هي مشهورات ما يحرم على المحرم، وأما متى يحل فسنذكره عند ذكرنا أفعال الحج، وذلك أن المعتمر يحل إذا طاف وسعى وحلق. واختلفوا في الحاج على ما سيأتي بعد، وإذ قد قلنا في تروك المحرم فلنقل في أفعاله: 4*القول في أنواع هذا النسك.

@-والمحرمون إما محرم بعمرة مفردة أو محرم بحج فرد، أو جامع بين الحج والعمرة، وهذان ضربان: إما متمتع، وإما قارن، فينبغي أولا أن نجرد أصناف هذه المناسك الثلاث ثم نقول ما يفعل المحرم في كلها، وما يخص واحدا واحدا منها إن كان هنالك ما يخص، وكذلك نفعل فيما يعد الإحرام من أفعال الحج إن شاء الله تعالى. 4*القول في شرح أنواع هذه المناسك.

@-فنقول: إن الإفراد هو ما يتعرى عن صفات التمتع والقران، فلذلك يجب أن نبدأ أولا بصفة التمتع، ثم نردف ذلك بصفة القران. 4*القول في التمتع.

@-فنقول: إن العلماء اتفقوا على أن هذا النوع من النسك الذي هو المعنى بقوله سبحانه {فمن تمتع بالعمرة إلى حج فما استيسر من الهدى} هو أن يهل الرجل بالعمرة في أشهر الحج من الميقات، وذلك إذا كان مسكنه خارجا عن الحرم، ثم يأتي حتى يصل البيت فيطوف لعمرته ويسعى ويحلق في تلك الأشهر بعينها، ثم يحل بمكة، ثم ينشئ الحج في ذلك العام بعينه وفي تلك الأشهر بعينها من غير أن ينصرف إلى بلده إلا ما روي عن الحسن أنه كان يقول هو متمتع وإن عاد إلى بلده ولم يحج: أي عليه هدى المتمتع المنصوص عليه في قوله تعالى {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} لأنه كان يقول عمرة في أشهر الحج متعة. وقال طاوس: من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى الحج وحج من عامه أنه متمتع. واتفق العلماء على أن من لم يكن من حاضري المسجد الحرام فهو متمتع. واختلفوا في المكي هل يقع منه التمتع أم لا يقع؟ والذين قالوا إنه يقع منه اتفقوا على أنه ليس عليه دم لقوله تعالى {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} واختلفوا فيمن هو حاضر المسجد الحرام ممن ليس هو، فقال مالك: حاضرو المسجد الحرام هم أهل مكة وذي طوى، وما كان مثل ذلك من مكة. وقال أبو حنيفة: هم أهل المواقيت فمن دونهم إلى مكة. وقال الشافعي بمصر: من كان بينه وبين مكة ليلتان وهو أكمل المواقيت. وقال أهل الظاهر: من كان ساكن الحرم. وقال الثوري: هم أهل مكة فقط. وأبو حنيفة يقول: إن حاضري المسجد الحرام لا يقع منهم التمتع، وكره ذلك مالك. وسبب الاختلاف اختلاف ما يدل عليه اسم حاضري المسجد الحرام بالأقل والأكثر، ولذلك لا يشك أن أهل مكة هم حاضري المسجد الحرام كما لا يشك أن من خارج المواقيت ليس منهم فهذا هو نوع التمتع المشهور، ومعنى التمتع أنه تمتع بتحلله بين النسكين وسقوط السفر عنه مرة ثانية إلى النسك الثاني الذي هو الحج، وهنا نوعان من التمتع اختلف العلماء فيهما: أحدهما فسخ الحج في عمرة، وهو تحويل النية من الإحرام بالحج إلى العمرة، فجمهور العلماء يكرهون ذلك من الصدر الأول وفقهاء الأمصار. وذهب ابن عباس إلى جواز ذلك، وبه قال أحمد وداود وكلهم متفقون أن رسول الله ﷺ أمر أصحابه عام حج بفسخ الحج في العمرة، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" وأمره لمن لم يسق الهدي من أصحابه أن يفسخ إهلاله في العمرة، وبهذا تمسك أهل الظاهر، والجمهور رأوا ذلك من باب الخصوص لأصحاب رسول الله ﷺ، واحتجوا بما روي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال ابن الحارث المدني عن أبيه قال "قلت يا رسول الله أفسخ لنا خاصة أم لمن بعدنا؟ قال: لنا خاصة" وهذا لم يصح عند أهل الظاهر صحة يعارض بها العمل المتقدم. وروي عن عمر أنه قال "متعتان كانتا على عهد رسول الله ﷺ أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحج" وروي عن عثمان أنه قال: متعة الحج كانت لنا وليست لكم. وقال أبو ذر: ما كان لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ثم يفسخه في عمرة هذا كله مع ظاهر قوله تعالى {وأتموا الحج والعمرة لله} . والظاهرية على أن الأصل اتباع فعل الصحابة حتى يدل الدليل من كتاب الله أو سنة ثابتة على أنه خاص. فسبب الاختلاف هل فعل الصحابة محمول على العموم أو على الخصوص. وأما النوع الثاني من التمتع فهو ما كان يذهب إليه ابن الزبير من أن التمتع الذي ذكره الله هو تمتع المحصر بمرض أو عدو، وذلك إذا خرج الرجل حاجا فحبسه عدو أو أمر تعذر به عليه الحج حتى تذهب أيام الحج، فيأتي البيت فيطوف ويسعى بين الصفا والمروة، ويحل ثم يتمتع بحله إلى العام المقبل، ثم يحج ويهدي، وعلى هذا القول ليس يكون التمتع المشهور إجماعا. وشذ طاوس أيضا فقال: إن المكي إذا تمتع من بلد غير مكة كان عليه الهدي. واختلف العلماء فيمن أنشأ عمرة في غير أشهر الحج ثم عملها في أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك، فقال مالك: عمرته في الشهر الذي حل فيه، فإن كان حل في أشهر الحج فهو متمتع، وإن كان في غير أشهر الحج فليس بمتمتع، وبقريب منه قال أبو حنيفة والشافعي والثوري، إلا أن الثوري اشترط أن يوقع طوافه كله في شوال، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن طاف ثلاثة أشواط في رمضان وأربعة في شوال كان متمتعا، وإن كان عكس ذلك لم يكن متمتعا أعني أن يكون طاف أربعة أشواط في رمضان وثلاثة في شوال. وقال أبو ثور: إذا دخل العمرة في غير أشهر الحج فسواء طاف لها في غير أشهر الحج أو في أشهر الحج لا يكون متمتعا. وسبب الاختلاف هل يكون متمتعا بإيقاع إحرام العمرة في أشهر الحج فقط أم بإيقاع الطواف معه؟ ثم إن كان بإيقاع الطواف معه فهل بإيقاعه كله أم أكثره فأبو ثور يقول: لا يكون متمتعا إلا بإيقاع الإحرام في أشهر الحج، لأن بالإحرام تنعقد العمرة. والشافعي يقول: الطواف هو أعظم أركانها، فوجب أن يكون به متمتعا؛ فالجمهور على أن من أوقع بعضها في أشهر الحج كمن أوقعها كلها، وشروط التمتع عند مالك ستة: أحدها أن يجمع بين الحج والعمرة في شهر واحد. والثاني أن يكون ذلك في عام واحد. والثالث أن يفعل شيئا من العمرة في أشهر الحج. والرابع أن يقدم العمرة على الحج. والخامس أن ينشئ الحج بعد الفراغ من العمرة وإحلاله منها. والسادس أن يكون وطنه غير مكة، فهذه هي صورة التمتع والاختلاف المشهور فيه والاتفاق. 4*القول في القارن.

@-وأما القران فهو أن يهل بالنسكين معا أو يهل بالعمرة في أشهر الحج، ثم يردف ذلك بالحج قبل أن يهل من العمرة. واختلف أصحاب مالك في الوقت الذي يكون له فيه، فقيل ذلك له ما لم يشرع في الطواف ولو شوطا واحدا، وقيل ما لم يطف ويركع ويكره بعد الطواف وقبل الركوع، فإن فعل لزمه، وقيل له ذلك ما بقي عليه شيء من عمل العمرة من طواف أو سعي، ما خلا أنهم اتفقوا على أنه إذا أهل بالحج ولم يبق عليه من أفعال العمرة إلا الحلاق فإنه ليس بقارن، والقارن الذي يلزمه هدي المتمتع هو عند الجمهور من غير حاضري المسجد الحرام، إلا ابن الماجشون من أصحاب مالك، فإن القارن من أهل مكة عنده عليه الهدي. وأما الإفراد فهو ما تعرى من هذه الصفات، وهو أن لا يكون متمتعا ولا قارنا بل أن يهل بالحج فقط. وقد اختلف العلماء أي أفضل هل الإفراد أو القران أو التمتع؟. والسبب في اختلافهم اختلافهم فيما فعل رسول الله ﷺ من ذلك، وذلك أنه روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان مفردا وروي أنه تمتع وروي عنه أنه كان قارنا فاختار مالك الإفراد، واعتمد في ذلك على ما روي عن عائشة أنها قالت "خرجنا مع رسول الله ﷺ عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، وأهل رسول الله ﷺ بالحج" ورواه عن عائشة من طرق كثيرة قال أبو عمر بن عبد البر: وروى الإفراد عن النبي ﷺ عن جابر بن عبد الله من طرق شتى متواترة صحاح، وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وجابر. والذين رأوا أن النبي ﷺ كان متمتعا احتجوا بما رواه الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر قال "تمتع رسول الله ﷺ في عام حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى وساق الهدي معه من ذي الحليفة" وهو مذهب عبد الله بن عمر وابن عباس وابن الزبير. واختلف عن عائشة في التمتع والإفراد. واعتمد من رأى أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا أحاديث كثيرة، منها حديث ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول وهو بوادي العقيق "أتاني الليلة آت من ربي فقال: أهل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة" خرجه البخاري، وحديث مروان ابن الحكم قال "شهدت عثمان وعليا وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى ذلك علي أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة، وقال: ما كنت لأدع سنة رسول الله ﷺ لقول أحد" خرجه البخاري، وحديث أنس خرجه البخاري أيضا قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول "لبيك عمرة وحجة" وحديث مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت "خرجنا مع رسول الله ﷺ عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله: من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا" واحتجوا فقالوا: ومعلوم أنه كان معه ﷺ هدي، ويبعد أن يأمر بالقران من معه هدي ويكون معه هدي ولا يكون قارنا. وحديث مالك أيضا عن نافع عن عمر عن حفصة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أنحر هديي" وقال أحمد: لا أشك أن رسول الله ﷺ كان قارنا، والتمتع أحب إلي، واحتج في اختياره التمتع بقوله عليه الصلاة والسلام "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" واحتج من طريق المعنى من رأى أن الإفراد الأفضل أن التمتع والقران رخصة ولذلك وجب فيهما الدم. وإذ قلنا في وجوب هذا النسك وعلى من يجب وما شروط وجوبه ومتى يجب وفي أي وقت يجب ومن أي مكان يجب وقلنا بعد ذلك فيما يجتنبه المحرم بما هو محرم، ثم قلنا أيضا في أنواع هذا النسك يجب أن نقول في أول أفعال الحاج أو المعتمر وهو الإحرام. 4*القول في الإحرام.

@-واتفق جمهور العلماء على أن الغسل للإهلال سنة، وأنه من أفعال المحرم حتى قال ابن نوار: إن هذا الغسل للإهلال عند مالك أوكد من غسل الجمعة. وقال أهل الظاهر: هو واجب. وقال أبو حنيفة والثوري: يجزئ منه الوضوء وحجة أهل الظاهر مرسل مالك من حديث أسماء بيت عميس أنها ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله ﷺ فقال: مرها فلتغتسل ثم لتهل" والأمر عندهم على الوجوب وعمدة الجمهور أن الأصل هو براءة الذمة حتى يثبت الوجوب بأمر لا مدفع فيه، وكان عبد الله بن عمر يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ولدخوله مكة ولوقوفه عشية يوم عرفة، ومالك يرى هذه الاغتسالات الثلاث من أفعال المحرم، واتفقوا على أن الإحرام لا يكون إلا بنية، واختلفوا هل تجزئ النية فيه من غير التلبية؟ فقال مالك والشافعي: تجزئ النية من غير التلبية. وقال أبو حنيفة: التلبية في الحج كالتكبيرة في الإحرام بالصلاة إلا أنه يجزئ عنده كل لفظ يقوم مقام التلبية كما يجزئ عنده في افتتاح الصلاة كل لفظ يقوم مقام التكبير وهو كل ما يدل على التعظيم. واتفق العلماء على أن لفظ تلبية رسول الله ﷺ "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" وهي من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ وهو أصح سندا. واختلفوا في هل هي واجبة بهذا اللفظ أم لا؟ فقال أهل الظاهر: هي واجبة بهذا اللفظ، ولا خلاف عند الجمهور في استحباب هذا اللفظ، وإنما اختلفوا في الزيادة عليه أو في تبديله، وأوجب أهل الظاهر رفع الصوت بالتلبية، وهو مستحب عند الجمهور لما رواه مالك "أن رسول الله ﷺ قال: أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية وبالإهلال" وأجمع أهل العلم على أن تلبية المرأة فيما حكاه أبو عمر هو أن تسمع نفسها بالقول. وقال مالك: لا يرفع المحرم صوته في مساجد الجماعة بل يكفيه أن يسمع من يليه، إلا في المسجد الحرام ومسجد منى فإنه يرفع صوته فيهما. واستحب الجمهور رفع الصوت عند التقاء الرفاق وعند الإطلال على شرف من الأرض. وقال أبو حازم: كان أصحاب رسول الله ﷺ لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم. وكان مالك لا يرى التلبية من أركان الحج ويرى على تاركها دما، وكان غيره يراها من أركانه. وحجة من رآها واجبة أن أفعاله ﷺ إذا أتت بيانا لواجب أنها محمولة على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام "خذوا عني مناسككم" وبهذا يحتج من أوجب لفظه فيها فقط. ومن لم ير وجوب لفظه فاعتمد في ذلك على ما روي من حديث جابر قال "أهل رسول الله ﷺ" فذكر التلبية التي في حديث ابن عمر. وقال في حديثه "والناس يزيدون على ذلك "لبيك ذا المعارج" ونحوه من الكلام والنبي يسمع ولا يقول شيئا وما روي عن ابن عمر أنه كان يزيد في التلبية وعن عمر بن الخطاب وعن أنس وغيره. واستحب العلماء أن يكون ابتداء المحرم بالتلبية بأثر صلاة يصليها، فكان مالك يستحب ذلك بأثر نافلة لما روي من مرسله عن هشام ابن عروة، عن أبيه "أن رسول الله ﷺ كان يصلي في مسجد ذي الحليفة ركعتين فإذا استوت به راحلته أهل". واختلفت الآثار في الموضع الذي أحرم منه رسول الله ﷺ بحجته من أقطار ذي الحليفة، فقال قوم: من مسجد ذي الحليفة بعد أن صلى فيه، وقال آخرون: إنما أحرم حين أطل على البيداء، وقال قوم: إنما أهل حين استوت به راحلته. وسئل ابن عباس عن اختلافهم في ذلك فقال: كل حدث لا عن أول إهلاله عليه الصلاة والسلام بل عن أول إهلال سمعه، وذلك أن الناس يأتون متسابقين فعلى هذا لا يكون في هذا اختلاف، ويكون الإهلال إثر الصلاة. وأجمع الفقهاء على أن المكي لا يلزمه الإهلال حتى إذا خرج إلى منى ليتصل له عمل الحج، وعمدتهم ما رواه مالك عن ابن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر: رأيتك تفعل هنا أربعا لم أر أحد يفعلها، فذكر منها ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت إلى يوم التروية، فأجابه ابن عمر: أما الإهلال "فإني لم أر رسول الله ﷺ يهل حتى تنبعث به راحلته" يريد حتى يتصل له عمل الحج. وروى مالك أن عمر ابن الخطاب كان يأمر أهل مكة أن يهلوا إذا رأوا الهلال. ولا خلاف عندهم أن المكي لا يهل إلا من جوف مكة إذا كان حاجا، وإما إذا كان معتمرا فإنهم أجمعوا على أنه يلزمه أن يخرج إلى الحل ثم يحرم منه ليجمع بين الحل والحرم كما يجمع الحاج، أعني لأنه يخرج إلى عرفة وهو حل. وبالجملة فاتفقوا على أنها سنة المعتمر، واختلفوا إن لم يفعل فقال قوم: يجزيه وعليه دم، وبه قال أبو حنيفة وابن القاسم. وقال آخرون: لا يجزيه وهو قول الثوري وأشهب. @-(وأما متى يقطع المحرم التلبية) فإنهم اختلفوا في ذلك، فروى مالك أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقطع التلبية إذا زاغت الشمس من يوم عرفة. وقال مالك: وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا. وقال ابن شهاب: كانت الأئمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يقطعون التلبية عند زوال الشمس من يوم عرفة. قال أبو عمر بن عبد البر: واختلف في ذلك عن عثمان وعائشة. وقال جمهور فقهاء الأمصار وأهل الحديث أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وداود وابن أبي ليلى وأبو عبيد والطبري والحسن بن حيى: إن المحرم لا يقطع التلبية حتى يرمي جمرة العقبة لما ثبت "أن رسول الله ﷺ لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة" إلا أنهم اختلفوا متى يقطعها، فقال قوم: إذا رماها بأسرها لما روي عن ابن عباس "أن الفضل بن عباس كان رديف رسول الله ﷺ وأنه لبى حين رمى جمرة العقبة وقطع التلبية في آخر حصاة" وقال قوم: بل يقطعها في أول جمرة يلقيها روي ذلك عن ابن مسعود. وروى في وقت قطع التلبية بأقاويل غير هذه إلا أن هذين القولين هما المشهوران. واختلفوا في وقت قطع التلبية بالعمرة، وقال مالك: يقطع التلبية إذا انتهى إلى الحرم، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: إذا افتتح الطواف، وسلف مالك في ذلك ابن عمر وعروة، وعمدة الشافعي أن التلبية معناها إجابة إلى الطواف بالبيت فلا تنقطع حتى يشرع في العمل. وسبب الخلاف معارضة القياس لفعل بعض الصحابة وجمهور العلماء كما قلنا متفقون على إدخال المحرم الحج على العمرة ويختلفون في إدخال العمرة على الحج. وقال أبو ثور: لا يدخل حج على عمرة ولا عمرة على حج كما لا تدخل صلاة على صلاة، فهذه هي أفعال المحرم بما هو محرم وهو أول أفعال الحج. وأما الفعل الذي بعد هذا فهو الطواف عند دخول مكة فلنقل في الطواف: 4*القول في الطواف بالبيت والكلام في الطواف: في صفته وشروطه وحكمه في الوجوب أو الندب وفي إعداده.

@-القول في الصفة. والجمهور مجمعون على أن صفة كل طواف واجبا كان أو غير واجب أن يبتدئ من الحجر الأسود، فإن استطاع أن يقبله قبله أو يلمسه بيده ويقبلها إن أمكنه، ثم يجعل البيت على يساره ويمضي على يمينه، فيطوف سبعة أشواط يرمل في الثلاثة الأشواط الأول ثم يمشي في الأربعة، وذلك في طواف القدوم على مكة وذلك للحاج والمعتمر دون المتمتع، وأنه لا رمل على النساء، ويستلم الركن اليماني وهو الذي على قطر الركن الأسود لثبوت هذه الصفة من فعله ﷺ. واختلفوا في حكم الرمل في الثلاثة الأشواط الأول للقادم هل هو سنة أو فضيلة؟ فقال ابن عباس: هو سنة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وإسحق وأحمد وأبو ثور. واختلف قول مالك في ذلك وأصحابه. والفرق بين القولين أن من جعله سنة أوجب في تركه الدم، ومن لم يجعله سنة لم يوجب في تركه شيئا. واحتج من لم ير الرمل سنة بحديث ابن الطفيل عن ابن عباس قال: قلت لابن عباس زعم قومك أن رسول الله ﷺ حين طاف بالبيت رمل وأن ذلك سنة، فقال: صدقوا وكذبوا، قال: قلت ما صدقوا وما كذبوا؟ قال: صدقوا "رمل رسول الله ﷺ حين طاف بالبيت، وكذبوا ليس بسنة، إن قريشا زمن الحديبية قالوا: إن به وبأصحابه هزالا وقعدوا على قعيقعان ينظرون إلى النبي ﷺ وأصحابه، فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال لأصحابه: ارملوا أروهم أن بكم قوة، فكان رسول الله ﷺ يرمل من الحجر الأسود إلى اليماني فإذا توارى عنهم مشى" وحجة الجمهور حديث جابر "أن رسول الله ﷺ رمل في الثلاثة الأشواط في حجة الوداع ومشى أربعا" وهو حديث ثابت من رواية مالك وغيره قالوا: وقد اختلف على أبي الطفيل عن ابن عباس فروي عنه "أن رسول الله ﷺ رمل من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود" وذلك بخلاف الرواية الأولى، وعلى أصول الظاهرية يجب الرمل لقوله "خذوا عني مناسككم" وهو قولهم أو قول بعضهم الآن فيما أظن. وأجمعوا على أنه لا رمل على من أحرم بالحج من مكة من غير أهلها وهم المتمتعون لأنهم قد رملوا في حين دخولهم حين طافوا للقدوم. واختلفوا في أهل مكة هل عليهم إذا حجوا رمل أم لا؟ فقال الشافعي: كل طواف قبل عرفة مما يوصل بينه وبين السعي فإنه يرمل فيه، وكان مالك يستحب ذلك وكان ابن عمر لا يرى عليهم رملا إذا طافوا بالبيت على ما روى عنه مالك. وسبب الخلاف هل الرمل كان لعلة أو لغير علة؟ وهل هو مختص بالمسافر أم لا؟ وذلك أنه كان عليه الصلاة والسلام حين رمل واردا على مكة. واتفقوا على أن من سنة الطواف استلام الركنين الأسود واليماني للرجال دون النساء. واختلفوا هل تستلم الأركان كلها أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أنه إنما يستلم الركنان فقط لحديث ابن عمر "أن رسول الله ﷺ لم يكن يستلم إلا الركنين فقط" واحتج من رأى استلام جميعها بما روي عن جابر قال: كنا نرى إذا طفنا أن نستلم الأركان كلها، وكان بعض السلف لا يحب أن يستلم الركنين إلا في الوتر من الأشواط. وكذلك أجمعوا على أن تقبيل الحجر الأسود خاصة من سنن الطواف إن قدر، وإن لم يقدر على الدخول إليه قبل يده، وذلك لحديث عمر بن الخطاب الذي رواه مالك أنه قال وهو يطوف بالبيت حين بلغ الحجر الأسود "إنما أنت حجر ولولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك، ثم قبله" وأجمعوا على أن من سنة الطواف ركعتين بعد انقضاء الطواف، وجمهورهم على أنه يأتي بها الطائف عند انقضاء كل أسبوع إن طاف أكثر من أسبوع واحد. وأجاز بعض السلف أن لا يفرق بين الأسابيع وأن لا يفصل بينهما ركوع ثم يركع لكل أسبوع ركعتين، وهو مروي عن عائشة أنها كانت لا تفرق بين ثلاثة الأسابيع ثم تركع ست ركعات. وحجة الجمهور "أن رسول الله ﷺ طاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين، وقال: خذوا عني مناسككم" وحجة من أجاز الجمع أنه قال: المقصود إنما هو ركعتان لكل أسبوع، والطواف ليس له وقت معلوم ولا الركعتان المسنونتان بعده، فجاز الجمع بين أكثر من ركعتين لأكثر من أسبوعين، وإنما استحب من يرى أن يفرق بين ثلاثة الأسابيع لأن رسول الله ﷺ انصرف إلى الركعتين بعد وتر من طوافه، ومن طاف أسابيع غير وتر ثم عاد إليها لم ينصرف عن وتر من طوافه. @-القول في شروطه. وأما شروطه فإن منها حد موضعه، وجمهور العلماء على أن الحجر من البيت، وأن من طاف بالبيت لزمه إدخال الحجر فيه، وأنه شرط في صحة طواف الإفاضة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: هو سنة. وحجة الجمهور ما رواه مالك عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال "لولا حدثان قومك بالكفر لهدمت الكعبة ولصيرتها على قواعد إبراهيم" فإنهم تركوا منها سبعة أذرع من الحجر ضاقت بهم النفقة والخشب، وهو قول ابن عباس، وكان يحتج بقوله تعالى {وليطوفوا بالبيت العتيق} ثم يقول طاف رسول الله ﷺ من وراء الحجر، وحجة أبي حنيفة ظاهر الآية. وأما وقت جوازه فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها إجازة الطواف بعد الصبح والعصر، ومنعه وقت الطلوع والغروب، وهو مذهب عمر بن الخطاب وأبي سعيد الخدري، وبه قال مالك وأصحابه وجماعة. والقول الثاني كراهيته بعد الصبح والعصر، ومنعه عند الطلوع والغروب، وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد وجماعة. والقول الثالث إباحة ذلك في هذه الأوقات كلها، وبه قال الشافعي وجماعة، وأصول أدلتهم راجعة إلى منع الصلاة في هذه الأوقات أو إباحتها. أما وقت الطلوع والغروب فالأثار متفقة على منع الصلاة فيها والطواف هل هو ملحق بالصلاة؟ في ذلك الخلاف. ومما احتجت به الشافعية حديث جبير بن مطعم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "يا بني عبد مناف أو يا بني عبد المطلب إن وليتم من هذا الأمر شيئا فلا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت أن يصلي فيه أي ساعة شاء من ليل أو نهار" رواه الشافعي وغيره عن ابن عيينة بسنده إلى جبير بن مطعم. واختلفوا في جواز الطواف بغير طهارة مع إجماعهم على أن من سنته الطهارة، فقال مالك والشافعي: لا يجزئ طواف بغير طهارة لا عمدا ولا سهوا. وقال أبو حنيفة: يجزئ ويستحب له الإعادة وعليه دم. وقال أبو ثور: إذا طاف على غير وضوء أجزأه طوافه إن كان لا يعلم، ولا يجزئه إن كان يعلم، والشافعي يشترط طهارة ثوب الطائف كاشتراط ذلك للمصلي. وعمدة من شرط الطهارة في الطواف قوله ﷺ للحائض وهي أسماء بنت عميس "اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" وهو حديث صحيح، وقد يحتجون أيضا بما روي أنه ﷺ قال "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أحل فيه النطق فلا ينطق إلا بخير" وعمدة من أجاز الطواف بغير طهارة إجماع العلماء على جواز السعي بين الصفا والمروة من غير طهارة، وأنه ليس كل عبادة يشترط فيها الطهر من الحيض من شرطها الطهر من الحدث أصله الصوم. @-القول في أعداده وأحكامه. وأما أعداده، فإن العلماء أجمعوا على أن الطواف ثلاثة أنواع: طواف القدوم على مكة، وطواف الإفاضة بعد رمي جمرة العقبة يوم النحر، وطواف الوداع، وأجمعوا على أن الواجب منها الذي يفوت الحج بفواته هو طواف الإفاضة، وأنه المعنى بقوله تعالى {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} وأنه لا يجزئ عنه دم، وجمهورهم على أنه لا يجزئ طواف القدوم على مكة عن طواف الإفاضة إذا نسي طواف الإفاضة لكونه قبل يوم النحر. وقالت طائفة من أصحاب مالك: إن طواف القدوم يجزئ عن طواف الإفاضة كأنهم رأوا أن الواجب إنما هو طواف واحد. وجمهور العلماء على أن طواف الوداع يجزئ عن طواف الإفاضة إن لم يكن طاف طواف الإفاضة لأنه طواف بالبيت معمول في وقت طواف الوجوب الذي هو طواف الإفاضة بخلاف طواف القدوم الذي هو قبل وقت طواف الإفاضة وأجمعوا فيما حكاه أبو عمر بن عبد البر أن طواف القدوم والوداع من سنة الحاج لا لخائف فوات الحج فإنه يجزئ عنه طواف الإفاضة، واستحب جماعة من العلماء لمن عرض له هذا أن يرمل في الأشواط الثلاثة من طواف الإفاضة، على سنة طواف القدوم من الرمل، وأجمعوا على أن المكي ليس عليه إلا طواف الإفاضة كما أجمعوا على أنه ليس على المعتمر إلا طواف القدوم. وأجمعوا أن من تمتع بالعمرة إلى الحج أن عليه طوافين طوافا للعمرة لحله منها وطوافا للحج يوم النحر على ما في حديث عائشة المشهور. وأما المفرد للحج فليس عليه إلا طواف واحد كما قلنا يوم النحر. واختلفوا في القارن فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور: يجزئ القارن طواف واحد وسعي واحد، وهو مذهب عبد الله بن عمر وجابر، وعمدتهم حديث عائشة المتقدم. وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وابن أبي ليلى على القارن طوافان وسعيان، ورووا هذا عن علي وابن مسعود لأنهما نسكان من شرط كل واحد منهما إذا انفرد طوافه وسعيه، فوجب أن يكون الأمر كذلك إذا اجتمعا، فهذا هو القول في وجوب هذا الفعل وصفته وشروطه وعدده ووقته وصفته، والذي يتلو هذا الفعل من أفعال الحج أعني طواف القدوم هو السعي بين الصفا والمروة وهو الفعل الثالث للإحرام فلنقل فيه: 4*القول في السعي بين الصفا والمروة.

@-والقول في السعي في حكمه وفي صفته وفي شروطه وفي ترتيبه. @-القول في حكمه. أما حكمه؛ فقال مالك والشافعي: هو واجب، وإن لم يسع كان عليه حج قابل، وبه قال أحمد وإسحق. وقال الكوفيون: هو سنة، وإذا رجع إلى بلاده ولم يسع كان عليه دم. وقال بعضهم: هو تطوع ولا شيء على تاركه؛ فعمدة من أوجبه ما روي "أن رسول الله ﷺ كان يسعى ويقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" روى هذا الحديث الشافعي عن عبد الله بن المؤمل، وأيضا فإن الأصل أن أفعاله عليه الصلاة والسلام في هذه العبادة محمولة على الوجوب، إلا ما أخرجه الدليل من سماع أو إجماع أو قياس عند أصحاب القياس. وعمدة من لم يوجبه قوله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما} قالوا: إن معناه أن لا يطوف وهي قراءة ابن مسعود، وكما قال سبحانه {. يبين الله لكم أن تضلوا} معناه: أي لئلا تضلوا، وضعفوا حديث ابن المؤمل. وقالت عائشة: الآية على ظاهرها وإنما نزلت في الأنصار تحرجوا أن يسعوا بين الصفا والمروة على ما كانوا يسعون عليه في الجاهلية لأنه كان موضع ذبائح المشركين، وقد قيل إنهم كانوا لا يسعون بين الصفا والمروة تعظيما لبعض الأصنام، فسألوا عن ذلك فنزلت هذه الآية مبيحة لهم، وإنما صار الجمهور إلى أنها من أفعال الحج لأنها صفة فعله ﷺ تواترت بذلك الآثار، أعني وصل السعي بالطواف. @-القول في صفته. وأما صفته فإن جمهور العلماء على أن من سنة السعي بين الصفا والمروة أن ينحدر الراقي على الصفا بعد الفراغ من الدعاء، فيمشي على جبلته حتى يبلغ بطن المسيل فيرمل فيه حتى يقطعه إلى ما يلي المروة، فإذا انقطع ذلك وجاوزه مشى على سجيته حتى يأتي المروة فيرقي عليها حتى يبدو له البيت ثم يقول عليها نحوا مما قاله من الدعاء والتكبير على الصفا، وإن وقف أسفل المروة أجزأه عند جميعهم، ثم ينزل عن المروة فيمشي على سجيته حتى ينتهي إلى بطن المسيل فإذا انتهى إليه رمل حتى يقطعه إلى الجانب الذي يلي الصفا، يفعل ذلك سبع مرات يبدأ في كل ذلك بالصفا ويختم بالمروة، فإن بدأ بالمروة قبل الصفا ألغي ذلك الشوط لقول رسول الله ﷺ "نبدأ بما بدأ الله به: نبدأ بالصفا" يريد قوله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله} وقال عطاء إن جهل فبدأ بالمروة أجزأ عنه. وأجمعوا على أنه ليس في وقت السعي قول محدود فإنه موضع دعاء. وثبت من حديث جابر "أن رسول الله ﷺ كان إذا وقف على الصفا يكبر ثلاثا ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، يصنع ذلك ثلاث مرات، ويدعو ويصنع على المروة مثل ذلك". @-القول في شروطه. وأما شروطه فإنهم اتفقوا على أن من شرطه الطهارة من الحيض كالطواف سواء لقوله ﷺ في حديث عائشة "افعلي كل ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تسعي بين الصفا والمروة" انفرد بهذه الزيادة يحيى عن مالك دون من روى عنه هذا الحديث، ولا خلاف بينهم أن الطهارة ليست من شروطه إلا الحسن فإنه شبهه بالطواف. @-القول في ترتيبه. وأما ترتيبه فإن جمهور العلماء اتفقوا على أن السعي إنما يكون بعد الطواف، وأن من سعى قبل أن يطوف بالبيت يرجع فيطوف وإن خرج عن مكة، فإن جهل ذلك حتى أصاب النساء في العمرة أو في الحج كان عليه حج قابل والهدي أو عمرة أخرى. وقال الثوري: إن فعل ذلك فلا شيء عليه. وقال أبو حنيفة: إذا خرج من مكة فليس عليه أن يعود وعليه دم. فهذا هو القول في حكم السعي وصفته وشروطه المشهورة وترتيبه. 4*الخروج إلى عرفة.

@-وأما الفعل الذي يلي هذا الفعل للحاج، فهو الخروج يوم التروية إلى منى والمبيت بها ليلة عرفة. واتفقوا على أن الإمام يصلي بالناس بمنى يوم التروية الظهر والعصر والمغرب والعشاء بها مقصورة، إلا أنهم أجمعوا على أن هذا الفعل ليس شرطا في صحة الحج لمن ضاق عليه الوقت، ثم إذا كان يوم عرفة مشى الإمام مع الناس من منى إلى عرفة ووقفوا بها. @-الوقوف بعرفة. والقول في هذا الفعل ينحصر في معرفة حكمه وفي صفته وفي شروطه. أما حكم الوقوف بعرفة فإنهم أجمعوا على أنه ركن من أركان الحج، وأن من فاته فعليه حج قابل والهدي في قول أكثرهم لقوله عليه الصلاة والسلام: "الحج عرفة" وأما صفته فهو أن يصل الإمام إلى عرفة يوم عرفة قبل الزوال، فإذا زالت الشمس خطب الناس ثم جمع بين الظهر والعصر في أول وقت الظهر ثم وقف حتى تغيب الشمس. وإنما اتفقوا على هذا لأن هذه الصفة هي مجمع عليها من فعله ﷺ ولا خلاف بينهم أن إقامة الحج هي للسلطان الأعظم أو لمن يقيمه السلطان الأعظم لذلك وأنه يصلي وراءه برا كان السلطان أو فاجرا أو مبتدعا، وأن السنة في ذلك أن يأتي المسجد بعرفة يوم عرفة مع الناس، فإذا زالت الشمس خطب الناس كما قلنا وجمع بين الظهر والعصر. واختلفوا في وقت أذان المؤذن بعرفة للظهر والعصر، فقال مالك: يخطب الإمام حتى يمضي صدرا من خطبته أو بعضها، ثم يؤذن المؤذن وهو يخطب. وقال الشافعي: يؤذن إذا أخذ الإمام في الخطبة الثانية. وقال أبو حنيفة: إذا صعد الإمام المنبر أمر المؤذن بالأذان فأذن كالحال في الجمعة، فإذا فرغ المؤذن قام الإمام يخطب ثم ينزل ويقيم المؤذن الصلاة، وبه قال أبو ثور تشبيها بالجمعة. وقد حكى ابن نافع عن مالك أنه قال: الأذان بعرفة بعد جلوس الإمام للخطبة وفي حديث جابر "أن النبي ﷺ لما زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له وأتى بطن الوادي فخطب الناس ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم راح إلى الموقف" واختلفوا هل يجمع بين هاتين الصلاتين بأذانين وإقامتين أو بأذان واحد وإقامتين فقال مالك: يجمع بينهما بأذانين وإقامتين. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأبو ثور وجماعة: يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين. وروي عن مالك مثل قولهم. وروي عن أحمد أنه يجمع بينهما بإقامتين، والحجة للشافعي حديث جابر الطويل في صفة حجه عليه الصلاة والسلام وفيه "أنه صلى الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين كما قلنا" وقول مالك مروي عن ابن مسعود، وحجته أن الأصل هو أن تفرد كل صلاة بأذان وإقامة، ولا خلاف بين العلماء أن الإمام لو لم يخطب يوم عرفة قبل الظهر أن صلاته جائزة بخلاف الجمعة، وكذلك أجمعوا أن القراءة في هذه الصلاة سرا، وأنها مقصورة إذا كان الإمام مسافرا. واختلفوا إذا كان الإمام مكيا هل يقصر بمنى الصلاة يوم التروية وبعرفة يوم عرفة وبالمزدلفة ليلة النحر إن كان من أحد هذه المواضع؟ فقال مالك والأوزاعي وجماعة: سنة هذه المواضع التقصير سواء كان من أهلها أو لم يكن. وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وداود: لا يجوز أن يقصر من كان من أهل تلك المواضع، وحجة مالك أنه لم يرو أن أحدا أتم الصلاة معه ﷺ أعني بعد سلامه منها. وحجة الفريق الثاني البقاء على الأصل المعروف أن القصر لا يجوز إلا للمسافر حتى يدل الدليل على التخصيص. واختلف العلماء في وجوب الجمعة بعرفة ومنى، فقال مالك: لا تجب الجمعة بعرفة ولا بمنى إلا أيام الحج لا لأهل مكة ولا لغيرهم إلا أن يكون الإمام من أهل عرفة. وقال الشافعي مثل ذلك، إلا أنه يشترط في وجوب الجمعة أن يكون هنالك من أهل عرفة أربعون رجلا على مذهبه في اشتراط هذا العدد في الجمعة. وقال أبو حنيفة: إذا كان أمير الحج ممن لا يقصر الصلاة بمنى ولا بعرفة صلى بهم فيها الجمعة إذا صادفها. وقال أحمد: إذا كان والي مكة يجمع بهم. وبه قال أبو ثور. @-(وأما شروطه) فهو الوقوف بعرفة بعد الصلاة، وذلك أنه لم يختلف العلماء "أن رسول الله ﷺ بعد ما صلى الظهر والعصر بعرفة ارتفع فوقف بجبالها داعيا إلى الله تعالى ووقف معه كل من حضر إلى غروب الشمس، وأنه لما استيقن غروبها وبان له ذلك دفع منها إلى المزدلفة" ولا خلاف بينهم أن هذا هو سنة الوقوف بعرفة، وأجمعوا على أن من وقف بعرفة قبل الزوال وأفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه ذلك، وأنه إن لم يرجع فيقف بعد الزوال أو يقف من ليلته تلك قبل طلوع الفجر فقد فاته الحج. وروي عن عبد الله بن معمر الديلي قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول "الحج عرفات، فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك" وهو حديث انفرد به هذا الرجل من الصحابة إلا أنه مجمع عليه. واختلفوا فيمن وقف بعرفة بعد الزوال ثم دفع منها قبل غروب الشمس، فقال مالك: عليه حج قابل إلا أن يرجع قبل الفجر، وإن دفع منها قبل الإمام وبعد الغيبوبة أجزأه. وبالجملة فشرط صحة الوقوف عنده هو أن يقف ليلا. وقال جمهور العلماء: من وقف بعرفة بعد الزوال فحجه تام وإن دفع قبل الغروب، إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم عليه، وعمدة الجمهور حديث عروة بن مضرس، وهو حديث مجمع على صحته قال "أتيت رسول الله ﷺ بجمع فقلت له: هل لي من حج؟ فقال: من صلى هذه الصلاة معنا ووقف هذا الموقف حتى نفيض أو أفاض قبل ذلك من عرفات ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه" وأجمعوا على أن المراد بقوله في هذا الحديث نهارا أنه بعد الزوال، ومن اشترط الليل احتج بوقوفه بعرفة ﷺ حين غربت الشمس، لكن للجمهور أن يقولوا إن وقوفه بعرفة إلى المغيب قد نبأ حديث عروة بن مضرس أنه على جهة الأفضل إذ كان مخيرا بين ذلك. وروي عن النبي ﷺ من طرق أنه قال "عرفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن عرنة، والمزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر، ومنى كلها منحر، وفجاج مكة منحر ومبيت" واختلف العلماء فيمن وقف من عرفة بعرنة فقيل حجه تام وعليه دم، وبه قال مالك، وقال الشافعي: لا حج له. وعمدة من أبطل الحج النهي الوارد عن ذلك في الحديث. وعمدة من لم يبطله أن الأصل أن الوقوف بكل عرفة جائز إلا ما قام عليه الدليل، وقالوا: ولم يأت هذا الحديث من وجه تلزم به الحجة والخروج عن الأصل، فهذا هو القول في السنن التي في يوم عرفة. وأما الفعل الذي يلي الوقوف بعرفة من أفعال الحج فهو النهوض إلى المزدلفة بعد غيبة الشمس وما يفعل بها فلنقل فيه. 4*القول في أفعال المزدلفة.

@-والقول الجملي أيضا في هذا الموضع ينحصر في معرفة حكمه وفي صفته وفي وقته. فأما كون هذا الفعل من أركان الحج فالأصل فيه قوله سبحانه {فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم} وأجمعوا على أن من بات المزدلفة ليلة النحر وجمع فيها بين المغرب والعشاء مع الإمام ووقف بعد صلاة الصبح إلى الأسفار بعد الوقوف بعرفة أن حجه تام، وأن ذلك الصفة التي فعل رسول الله ﷺ. واختلفوا هل الوقوف بها بعد صلاة الصبح، والمبيت بها من سنن الحج أو من فروضه، فقال الأوزاعي وجماعة من التابعين: هو فرض من فروض الحج، ومن فاته كان عليه حج قابل والهدي، وفقهاء الأمصار يرون أنه ليس من فروض الحج، وأن من فاته الوقوف بالمزدلفة والمبيت بها فعليه دم. وقال الشافعي: إن دفع منها إلى بعد نصف الليل الأول ولم يصل بها فعليه دم، وعمدة الجمهور ما صح عنه أنه ﷺ قدم ضعفة أهله ليلا فلم يشاهدوا معه صلاة الصبح بها، وعمدة الفريق الأول قوله ﷺ في حديث عروة بن مضرس وهو حديث متفق على صحته "من أدرك معنا هذه الصلاة: يعني صلاة الصبح بجمع، وكان قد أتى قبل ذلك عرفات ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه" وقوله تعالى {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم} . ومن حجة الفريق الأول أن المسلمين قد أجمعوا على ترك الأخذ بجميع ما في هذا الحديث، وذلك أن أكثرهم على أن من وقف بالمزدلفة ليلا ودفع منها إلى قبل الصبح أن حجه تام، وكذلك من بات فيها ونام عن الصلاة وكذلك أجمعوا على أنه لو وقف بالمزدلفة ولم يذكر الله أن حجه تام، وفي ذلك أيضا ما يضعف احتجاجهم بظاهر الآية، والمزدلفة وجمع هما اسمان لهذا الموضع وسنة الحج فيها كما قلنا أن يبيت الناس بها ويجمعون بين المغرب والعشاء في أول وقت العشاء ويغلسوا بالصبح فيها. 4*القول في رمي الجمار.

@-وأما الفعل بعدها فهو رمي الجمار، وذلك أن المسلمين اتفقوا على "أن النبي ﷺ وقف بالمشعر الحرام وهي المزدلفة بعد ما صلى الفجر ثم دفع منها قبل طلوع الشمس إلى منى، وأنه في هذا اليوم وهو يوم النحر رمى جمرة العقبة من بعد طلوع الشمس" وأجمع المسلمون أن من رماها في هذا اليوم في ذلك الوقت: أعني بعد طلوع الشمس إلى زوالها فقد رماها في وقتها، وأجمعوا أن رسول الله ﷺ لم يرم يوم النحر من الجمرات غيرها. واختلفوا فيمن رمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر، فقال مالك: لم يبلغنا أن رسول الله ﷺ رخص لأحد أن يرمي قبل طلوع الفجر، ولا يجوز ذلك، فإن رماها قبل الفجر أعادها، وبه قال أبو حنيفة وسفيان وأحمد. وقال الشافعي: لا بأس به وإن كان المستحب هو بعد طلوع الشمس، فحجة منع ذلك فعله ﷺ مع قوله "خذوا عني مناسككم" وما روي عن ابن عباس "أن رسول الله ﷺ قدّم ضعفة أهله وقال: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس". وعمدة من جوز رميها قبل الفجر حديث أم سلمة خرجه أبو داود وغيره وهو "أن عائشة قالت: أرسل رسول الله ﷺ لأم سلمة يوم النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ومضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله ﷺ عندها. وحديث أسماء أنه رمت الجمرة بليل وقالت: إنا كنا نصنعه على عهد رسول الله ﷺ. وأجمع العلماء أن الوقت المستحب لرمي جمرة العقبة هو من لدن طلوع الشمس إلى وقت الزوال، وأنه إن رماها قبل غروب الشمس من يوم النحر أجزأ عنه ولا شيء عليه، إلا مالكا فإنه قال: أستحب له أن يريق دما. واختلفوا فيمن لم يرمها حتى غابت الشمس فرماها من الليل أو من الغد، فقال مالك: عليه دم. وقال أبو حنيفة: إن رمى من الليل فلا شيء عليه، وإن أخرها إلى الغد فعليه دم. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي لا شيء عليه إن أخرها إلى الليل أو إلى الغد، وحجتهم "أن رسول الله ﷺ رخص لرعاة الإبل في مثل ذلك: أعني أن يرموا ليلا" وفي حديث ابن عباس "أن رسول الله ﷺ قال له السائل: يا رسول الله رميت بعد ما أمسيت، قال له: لا حرج" وعمدة مالك أن ذلك الوقت المتفق عليه الذي رمى فيه رسول الله ﷺ هو السنة، ومن خالف سنة من سنن الحج فعليه دم، على ما روي عن ابن عباس وأخذ به الجمهور. وقال مالك: ومعنى الرخصة للرعاة إنما ذلك إذا مضى يوم النحر ورموا جمرة العقبة ثم كان اليوم الثالث وهو أول أيام النفر، فرخص لهم رسول الله ﷺ أن يرموا في ذلك اليوم له ولليوم الذي بعده، فإن نفروا فقد فرغوا، وإن أقاموا إلى الغد رموا مع الناس يوم النفر الأخير ونفروا، ومعنى الرخصة للرعاة عند جماعة العلماء هو جمع يومين في يوم واحد، إلا أن مالكا إنما يجمع عنده ما وجب مثل أن يجمع في الثالث فيرمي عن الثاني والثالث، لأنه لا يقضي عنده إلا ما وجب، ورخص كثير من العلماء في جمع يومين في يوم، سواء تقدم ذلك اليوم الذي أضيف إلى غيره أو تأخر ولم يشبهوه بالقضاء، وثبت "أن رسول الله ﷺ رمى في حجته الجمرة يوم النحر، ثم نحر بدنة، ثم حلق رأسه، ثم طاف طواف الإفاضة" وأجمع العلماء على أن هذا سنة الحج. واختلفوا فيمن قدم من هذه ما أخره النبي ﷺ أو بالعكس، فقال مالك: من حلق قبل أن يرمي جمرة العقبة فعليه الفدية. وقال الشافعي وأحمد وداود وأبو ثور: لا شيء عليه. وعمدتهم ما رواه مالك من حديث عبد الله بن عمر أنه قال "وقف رسول الله ﷺ للناس بمنى والناس يسألونه، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر. فقال رسول الله ﷺ: إنحر ولا حرج، ثم جاءه آخر فقال: يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، فقال عليه الصلاة والسلام: إرم ولا حرج، قال: فما سئل رسول الله ﷺ يومئذ عن شيء قُدِمَ أو أُخِرَ إلا قال: إفعل ولا حرج". وروى هذا من طريق ابن عباس عن النبي ﷺ. وعمدة مالك أن رسول الله ﷺ حكم على من حلق قبل محله من ضرورة بالفدية فكيف من غير ضرورة، مع أن الحديث لم يذكر فيه حلق الرأس قبل رمي الجمار، وعند مالك أن من حلق قبل أن يذبح فلا شيء عليه وكذلك من ذبح قبل أن يرمي. وقال أبو حنيفة: إن حلق قبل أن ينحر أو يرمي فعليه دم، وإن كان قارنا فعليه دمان، وقال زفر: عليه ثلاث دماء دم للقران ودمان للحلق قبل النحر وقبل الرمي. وأجمعوا على أن من نحر قبل أن يرمي فلا شيء عليه لأنه منصوص عليه، إلا ما روي عن ابن عباس أنه كان يقول : من قدم من حجه شيئا أو أخر فليهرق دما. وأنه من قدم الإفاضة قبل الرمي والحلق أنه يلزمه إعادة الطواف. وقال الشافعي ومن تابعه: لا إعادة عليه. وقال الأوزاعي: إذا طاف للإفاضة قبل أن يرمي جمرة العقبة ثم واقع أهله أراق دما. واتفقوا على أن جملة ما يرميه الحاج سبعون حصاة منها في يوم النحر جمرة العقبة بسبع، وأن رمي هذه الجمرة من حيث تيسر من العقبة من أسفلها أو من أعلاها أو من وسطها كل ذلك واسع، والموضع المختار منها بطن الوادي لما جاء في حديث ابن مسعود أنه استبطن الوادي ثم قال: من ههنا والذي لا إله غيره رأيت الذي أنزلت عليه سورة البقرة يرمي. وأجمعوا على أنه يعيد الرمي إذا لم تقع الحصاة في العقبة، وأنه يرمي في كل يوم من أيام التشريق ثلاث جمار بواحد وعشرين حصاة كل جمرة منها بسبع، وأنه يجوز أن يرمي منها يومين وينفر في الثالث لقوله تعالى -فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه- وقدرها عندهم أن يكون في مثل حصى الخذف لما روي من حديث جابر وإبن عباس وغيرهم "أن النبي عليه الصلاة والسلام رمى الجمار بمثل حصى الخذف" والسنة عندهم في رمي الجمرات كل يوم من أيام التشريق أن يرمي الجمرة الأولى فيقف عندها ويدعو، وكذلك الثانية ويطيل المقام، ثم يرمي الثالثة ولا يقف لما روي في ذلك عن رسول الله ﷺ "أنه كان يفعل ذلك في رميه" والتكبير عندهم عند رمي كل جمرة حسن لأنه يروى عنه عليه الصلاة والسلام. وأجمعوا على أن من سنة رمي الجمار الثلاث في أيام التشريق أن يكون ذلك بعد الزوال. واختلفوا إذا رماها قبل الزوال في أيام التشريق، فقال جمهور العلماء: من رماها قبل الزوال أعاد رميها بعد الزوال.وروي عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال: رمي الجمار من طلوع الشمس إلى غروبها. وأجمعوا على أن من لم يرم الجمار أيام التشريق حتى تغيب الشمس من آخرها أنه لا يرميها بعد. واختلفوا في الواجب من الكفارة فقال مالك: إن من ترك الجمار كلها أو بعضها أو واحدة منها فعليه دم، وقال أبو حنيفة: إن ترك كلها كان عليه دم، وإن ترك جمرة واحدة فصاعدا كان عليه لكل جمرة إطعام مسكين نصف صاع حنطة إلى أن يبلغ دما بترك الجميع إلا جمرة العقبة فمن تركها فعليه دم. وقال الشافعي: عليه في الحصاة مد من طعام، وفي حصاتين مدان، وفي ثلاث دم. وقال الثوري مثله، إلا أنه قال في الرابعة الدم. ورخصت طائفة من التابعين في الحصاة الواحدة ولم يروا فيها شيئا، والحجة لهم حديث سعد بن أبي وقاص قال "خرجنا مع رسول الله ﷺ في حجته، فبعضنا يقول: رميت بسبع، وبعضنا يقول: رميت بست، فلم يعب بعضنا على بعض" وقال أهل الظاهر: لا شيء في ذلك والجمهور على أن جمرة العقبة ليست من أركان الحج. وقال عبد الملك من أصحاب مالك: هي من أركان الحج. فهذه هي جملة أفعال الحج من حين الإحرام إلى أن يحل، والتحلل تحللان: تحلل أكبر، وهو طواف الإفاضة، وتحلل أصغر وهو رمي جمرة العقبة، وسنذكر ما في هذا الإختلاف. القول في الجنس الثالث: وهو الذي يتضمن القول في الأحكام، وقد نفى القول في حكم الإختلالات التي تقع في الحج، وأعظمها في حكم من شرع في الحج فمنعه بمرض أو بعدو أو فاته وقت الفعل الذي هو شرط في صحة الحج أو أفسد حجه بإتيانه بعض المحظورات المفسدة للحج أو للأفعال التي هي تروك أو أفعال، فلنبتدئ من هذه بما هو نص في الشريعة وهو حكم المحصر وحكم قاتل الصيد وحكم الحالق رأسه قبل محل الحلق وإلقائه التفث قبل أن يحل، وقد يدخل في هذا الباب حكم المتمتع وحكم القارن على القول بأن وجوب الهدي في هذه هو لمكان الرخصة. القول في الإحصار وأما الإحصار، فالأصل فيه قوله سبحانه: -فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي- إلى قوله -فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي- فنقول: اختلف العلماء في هذه الآية اختلافا كثيرا، وهو السبب في اختلافهم في حكم المحصر بمرض أو بعدو، فأول اختلافهم في هذه الآية هل المحصر ههنا هو المحصر بالمرض. فأما من قال: إن المحصر ههنا هو المحصر بالعدو فاحتجوا بقوله تعالى -فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه- قالوا: فلو كان المحصر هو المحصر بمرض لما كان لذكر المرض بعد ذلك فائدة، واحتجوا أيضا بقوله سبحانه -فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج- وهذه حجة ظاهرة، ومن قال: إن الآية إنما وردت في المحصر بالمرض فإنه زعم أن المحصر هو من أحصر، ولا يقال أحصر في العدو، وإنما يقال حصره العدو وأحصره المرض، قالوا: وإنما ذكر المرض بعد ذلك لأن المرض صنفان: صنف محصر، وصنف غير محصر، وقالوا معنى قوله -فإذا أمنتم- معناه من المرض. وأما الفريق الأول فقالوا عكس هذا، وهو أن أفعل أبدا وفعل في الشيء الواحد إنما يأتي لمعنيين: أما فعل فإذا أوقع بغيره فعلا من الأفعال، وأما أفعل فإذا عرضه لوقوع ذلك الفعل به يقال: أقتله إذا فعل به فعل القتل، واقتله إذا عرضه للقتل، وإذا كان هذا هكذا فأحصر أحق بالعدو وحصر أحق بالمرض، لأن العدو إنما عرض للإحصار، والمرض فهو فاعل الإحصار. وقالوا لا يطلق الأمن إلا في ارتفاع الخوف من العدو وإن قيل في المرض فباستعارة ولا يصار إلى الإستعارة إلا لأمر يوجب الخروج عن الحقيقة، وكذلك ذكر حكم المريض بعد الحصر الظاهر منه أن المحصر غير المريض، وهذا هو مذهب الشافعي. والمذهب الثاني مذهب مالك وأبي حنيفة. وقال قوم: بل المحصر ههنا الممنوع من الحج بأي نوع امتنع إما بمرض أو بعدو أو بخطأ في العدد أو بغير ذلك. وجمهور العلماء على أن المحصر عن الحج ضربان: إما محصر بمرض، وإما محصر بعدو. فأما المحصر بالعدو فاتفق الجمهور على أنه يحل من عمرته أو حجه حيث أحصر. وقال الثوري والحسن بن صالح لا يتحلل إلا في يوم النحر، والذين قالوا: يتحلل حيث أحصر اختلفوا في إيجاب الهدي عليه وفي موضع نحره إذا قيل بوجوبه وفي إعادة ما حصر عنه من حج أو عمرة، فذهب مالك إلى أنه لا يجب عليه الإعادة. وذهب أبو حنيفة إلى أنه إن كان أحرم بالحج عليه حجة وعمرة، وإن كان قارنا فعليه حج وعمرتان، وإن كان معتمرا قضى عمرته، وليس عليه عند أبي حنيفة ومحمد بن الحسن تقصير، واختار أبو يوسف تقصيره، وعمدة مالك في أن لا إعادة عليه "أن رسول الله ﷺ حل هو وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي وحلقوا رؤوسهم وحلوا من كل شيء قبل أن يطوف بالبيت، وقبل أن يصل إلى الهدي، ثم لم يعلم أن رسول الله ﷺ أمر أحد من الصحابة ولا ممن كان معه أن يقضي شيئا ولا أن يعود لشيء" وعمدة من أوجب عليه الإعادة "أن رسول الله ﷺ اعتمر في العام المقبل من عام الحديبية قضاء لتلك العمرة" ولذلك قيل لها عمرة القضاء. وإجماعهم أيضا علة أن المحصر بمرض أو ما أشبهه عليه القضاء. فسبب الخلاف هو هل قضى رسول الله ﷺ أو لم يقض؟ وهل يثبت القضاء بالقياس أم لا؟ وذلك أن جمهور العلماء على أن القضاء يجب بأمر ثان غير أمر الأداء. وأما من أوجب عليه الهدي فبناء على أن الآية وردت في المحصر بالعدو، أو على أنها عامة لأن الهدي فيها نص، وقد احتج هؤلاء بنحر النبي ﷺ وأصحابه الهدي عام الحديبية حين أحصروا. وأجاب الفريق الآخر أن ذلك الهدي لم يكن هدي تحلل، وإنما كان هديا سيق ابتداء، وحجة هؤلاء أن الأصل هو أن لا هدي عليه إلا أن يقوم الدليل. وأما اختلافهم في مكان الهدي عند من أوجبه فالأصل فيه اختلافهم في موضع نحر رسول الله ﷺ هديه عام الحديبية، فقال ابن إسحاق: نحره في الحرم، وقال غيره: إنما نحره في الحل، واحتج بقوله تعالى - هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله - وإنما ذهب أبو حنيفة إلى أن من أحصر عن الحج أن عليه حجا وعمرة لأن المحصر قد فسخ الحج في عمرة ولم يتم واحدا منهما، فهذا هو حكم المحصر بعدو عند الفقهاء. وأما المحصر بمرض، فإن مذهب الشافعي وأهل الحجاز أنه لا يحله إلا الطواف بالبيت والسعي ما بين الصفا والمروة، وأنه بالجملة يتحلل بعمرة، لأنه إذا فاته الحج بطول مرضه انقلب عمرة، وهو مذهب ابن عمر وعائشة وابن عباس، وخالف في ذلك أهل العراق فقالوا: يحل مكانه وحكمه حكم المحصر بعدو، أعني أن يرسل هديه ويقدر يوم نحره ويحل في اليوم الثالث وبه قال ابن مسعود. (يتبع...) @(تابع... 1): -وأما الفعل بعدها فهو رمي الجمار، وذلك أن المسلمين اتفقوا على "أن... ... واحتجوا بحديث الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول "من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى" وبإجماعهم على أن المحصر بعدو ليس من شرط إحلاله الطواف بالبيت. والجمهور على أن المحصر بمرض عليه الهدي. وقال أبو ثور وداود: لا هدي عليه اعتمادا على ظاهر حكم هذا المحصر، وعلى أن الآية الواردة في المحصر هو حصر العدو، وأجمعوا على إيجاب القضاء عليه، وكل من فاته الحج بخطأ من العدد في الأيام أو بخفاء الهلال عليه أو غير ذلك من الأعذار فحكمه حكم المحصر بمرض عند مالك. وقال أبو حنيفة: من فاته الحج بعذر غير مرض يحل بعمرة ولا هدي عليه وعليه إعادة الحج، والمكي المحصر بمرض عند مالك كغير المكي يحل بعمرة وعليه الهدي وإعادة الحج. وقال الزهري: لابد (قوله لابد الخ: هكذا هذه العبارة في غالب النسخ ولينظر معناها، وفي بعض: ولابد أن يعيد (وجعل بياضا لباقي العبارة فليتأمل ا هـ مصححه). أن يقف بعمرة وإن نعش نعشا. وأصل مذهب مالك أن المحصر بمرض إن بقي على إحرامه إلى العام المقبل حتى يحج حجة القضاء فلا هدي عليه، فإن تحلل بعمرة فعليه هدي المحصر، لأنه حلق رأسه قبل أن ينحر في حجة القضاء، وكل من تأول قوله سبحانه - فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج - أنه خطاب للمحصر وجب عليه أن يعتقد على ظاهر الآية أن عليه هديين: هديا لحلقه عند التحلل قبل نحره في حجة القضاء، وهديا لتمتعه بالعمرة إلى الحج، وإن حل في أشهر الحج من العمرة وجب عليه هدي ثالث، وهو هدي التمتع الذي هو أحد أنواع نسك الحج. وأما مالك رحمه الله، فكان يتأول لمكان هذا أن المحصر إنما عليه هدي واحد، وكان يقول: إن الهدي الذي في قوله سبحانه - فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي - هو بعينه الهدي الذي في قوله - فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي - وفيه بعد في التأويل، والأظهر أن قوله سبحانه - فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج - أنه في غير المحصر بل هو في التمتع الحقيقي، فكأنه قال: فإذا لم تكونوا خائفين لكن تمتعتم بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي، ويدل على هذا التأويل قوله سبحانه - ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام - والمحصر يستوي فيه حاضر المسجد الحرام وغيره بإجماع. وقد قلنا في أحكام المحصر الذي نص الله عليه، فلنقل في أحكام القاتل للصيد: القول في أحكام جزاء الصيد فنقول: إن المسلمين أجمعوا على أن قوله تعالى -يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما- هي آية محكمة، واختلفوا في تفاصيل أحكامها وفيما يقاس على مفهومها مما لا يقاس عليه، فمنها أنهم اختلفوا هل الواجب في قتل الصيد قيمته أو مثله؟ فذهب الجمهور إلى أن الواجب المثل، وذهب أبو حنيفة إلى أنه مخير بين القيمة، أعني قيمة الصيد وبين أ، يشتري بها المثل. ومنها أنهم اختلفوا في استئناف الحكم على قاتل الصيد فيما حكم فيه السلف من الصحابة، مثل حكمهم أن من قتل نعامة فعليه بدنة تشبيها بها، ومن قتل غزالا فعليه شاة، ومن قتل بقرة وحشية فعليه إنسية، فقال مالك: يستأنف في كل ما وقع من ذلك الحكم به، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: إن اجتزأ بحكم الصحابة مما حكموا فيه جاز، ومنها هل الآية على التخيير أو على الترتيب؟ فقال مالك: هي على التخيير، وبه قال أبو حنيفة، يريد أن الحكمين يخيران الذي عليه الجزاء. وقال زفر: هي على الترتيب، واختلفوا هل يقوم الصيد أو المثل إذا اختار الإطعام إن وجب على القول بالوجوب فيشتري بقيمته طعاما؟ فقال مالك: يقوم الصيد، وقال الشافعي: يقوم المثل، فقال مالك: يصوم لكل مد يوما وهو الذي يطعم عندهم كل مسكين، وبه قال الشافعي وأهل الحجاز. وقال أهل الكوفة: يصوم لكل مدين يوما، وهو القدر الذي يطعم كل مسكين عندهم. واختلفوا في قتل الصيد خطأ هل فيه جزاء أم لا؟ فالجمهور على أن فيه الجزاء. وقال أهل الظاهر: لا جزاء عليه. واختلفوا في الجماعة يشتركون في قتل الصيد، فقال مالك: إذا قتل جماعة محرمون صيدا فعلى كل واحد منهم جزاء كامل، وبه قال الثوري وجماعة. وقال الشافعي: عليهم جزاء واحد. وفرق أبو حنيفة بين المحرمين يقتلون الصيد وبين المحلين يقتلونه في الحرم فقال: على كل واحد من المحرمين جزاء وعلى المحلين جزاء واحد. واختلفوا هل يكون أحد الحكمين قاتل الصيد، فذهي مالك إلى أنه لا يجوز. وقال الشافعي: يجوز. واختلف أصحاب أبي حنيفة على القولين جميعا واختلفوا في موضع الإطعام، فقال مالك: في الموضع الذي أصاب فيه الصيد إن كان ثمَّ طعام، وإلا ففي أقرب المواضع إلى ذلك الموضع. وقال أبو حنيفة: حيثما أطعم. وقال الشافعي: لا يطعم إلا مساكين مكة. وأجمع العلماء على أن المحرم إذا قتل الصيد أن عليه الجزاء للنص في ذلك. واختلفوا في الحلال يقتل الصيد في الحرم، فقال جمهور فقهاء الأمصار: عليه الجزاء. وقال داود وأصحابه: لا جزاء عليه. ولم يختلف المسلمون في تحريم قتل الصيد في الحرم، وإنما اختلفوا في الكفارة وذلك لقوله سبحانه -اولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا- وقول رسول الله ﷺ "إن الله حرَّم مكة يوم خلق السموات والأرض" وجمهور فقهاء الأمصار على أن المحرم إذا قتل الصيد وأكله أنه ليس عليه إلا كفارة واحدة. وروى عن عطاء وطائفة أن فيه كفارتين، فهذه هي مشهورات المسائل المتعلقة بهذه الآية. (وأما الأسباب التي دعتهم إلى هذا الإختلاف) فنحن نشير إلى طرف منها فنقول. أما من اشترط في وجوب الجزاء أن يكون القتل عمدا فحجته أن اشتراط ذلك نص في الآية، وأيضا فإن العمد هو الموجب للعقاب والكفارات عقابا ما. وأما من أوجب الجزاء مع النسيان فلا حجة له، إلا أن يشبه الجزاء عند إتلاف الصيد بإتلاف الأموال، فإن الأموال عند الجمهور تضمن خطأ ونسيانا، لكن يعارض هذا القياس اشتراط العمد في وجوب الجزاء، فقد أجاب بعضهم عن هذا: أي العمد إنما اشترط لمكان تعلق العقاب المنصوص عليه في قوله -ليذوق وبال أمره- وذلك لا معنى له لأن الوبال المذوق هو في الغرامة فسواء قتله مخطئا أو متعمدا قد ذاق الوبال، ولا خوف أن الناسي غير معاقب، وأكثر ما تلزم هذه الحجة لمن كان من أصله أن الكفارات لا تثبت بالقياس، فإنه لا دليل لمن أثبتها على الناسي إلا القياس. وأما اختلافهم في المثل هل هو الشبيه أو المثل في القيمة، فإن سبب الاختلاف أن المثل يقال على الذي هو مثل وعلى الذي هو مثل في القيمة؛ لكن حجة من رأى أن الشبيه أقوى من جهة دلالة اللفظ أن انطلاق لفظ المثل على الشبيه في لسان العرب أظهر، وأظهر منه على المثل في القيمة، لكن لمن حمل ههنا المثل على القيمة دلائل حركته إلى اعتقاد ذلك: أحدها أن المثل الذي هو العدل هو منصوص عليه في الإطعام والصيام، وأيضا فإن المثل إذا حمل ههنا على التعديل كان عاما في جميع الصيد، فإن من الصيد ما لا يلقي له شبيه، وأيضا فإن المثل فيما لا يوجد له شبيه هو التعديل، وليس يوجد للحيوان المصيد في الحقيقة شبيه إلا من جنسه، وقد نص أن المثل الواجب فيه هو من غير جنسه، فوجب أن يكون مثلا في التعديل والقيمة، وأيضا فإن الحكم في الشبيه قد فرغ منه، فأما الحكم بالتعديل فهو شيء يختلف باختلاف الأوقات، ولذلك هو كل وقت يحتاج إلى الحكمين المنصوص عليهما، وعلى هذا يأتي التقدير في الآية بمشابه، فكأنه قال: ومن قتله منكم متعمدا فعليه قيمة ما قتل من النعم أو عدل القيمة طعاما أو عدل ذلك صياما. وأما اختلافهم هل المقدر هو الصيد أو مثله من النعم إذا قدر بالطعام، فمن قال المقدر هو الصيد قال: لأنه الذي لما لم يوجد مثله رجع إلى تقديره بالطعام، ومن قال إن المقدر هو الواجب من النعم قال: لأن الشيء إنما تقدر قيمته إذا عدم بتقدير مثله أعني شبيهه. وأما من قال إن الآية على التخيير فإنه التفت إلى حرف "أو" إذ كان مقتضاها في لسان العرب التخيير وأما من نظر إلى ترتيب الكفارات في ذلك فشبهها في الكفارات التي فيها الترتيب باتفاق، وهي كفارة الظهار والقتل. وأما اختلافهم في هل يستأنف الحكم في الصيد الواحد الذي وقع الحكم فيه من الصحابة، فالسبب في اختلافهم هو هل الحكم شرعي غير معقول المعنى أم هذا معقول المعنى؟ فمن قال هو معقول المعنى قال: ما قد حكم فيه فليس يوجد شيء أشبه به منه، مثل النعامة فإنه لا يوجد أشبه بها من البدنة فلا معنى إعادة الحكم، ومن قال هو عبادة قال: يعاد ولابد منه، وبه قال مالك. وأما اختلافهم في الجماعة يشتركون في قتل الصيد الواحد، فسببه هل الجزاء موجبه هو التعدي فقط أو التعدي على جملة الصيد؟ فمن قال التعدي فقط أوجب على كل واحد من الجماعة القاتلة للصيد جزاء، ومن قال التعدي على جملة الصيد قال: عليهم جزاء واحد. وهذه المسئلة شبيهة بالقصاص في النصاب في السرقة وفي القصاص في الأعضاء وفي الأنفس، وستأتي في مواضعها من هذا الكتاب إن شاء الله. وتفريق أبي حنيفة بين المحرمين وبين غير المحرمين القاتلين في الحرم على جهة التغليظ على المحرمين، ومن أوجب على كل واحد من الجماعة جزاء فإنما نظر إلى سد الذرائع، فإنه لو سقط عنهم الجزاء جملة لكان من أراد أن يصيد في الحرم صاد في جماعة، وإذا قلنا إن الجزاء هو كفارة للإثم فيشبه أنه لا يتبعض إثم قتل الصيد بالاشتراك فيه، فيجب أن لا يتبعض الجزاء فيجب على كل واحد كفارة. وأما اختلافهم في هل يكون أحد الحكمين قاتل للصيد، فالسبب فيه معارضة مفهوم الظاهر لمفهوم المعنى الأصلي في الشرع، وذلك أنه لم يشترطوا في الحكمين إلا العدالة، فيجب على ظاهر هذا أن يجوز الحكم ممن يوجد فيه هذا الشرط، سواء كان قاتل الصيد أو غير قاتل. وأما مفهوم المعنى الأصلي في الشرع فهو أن المحكوم عليه لا يكون حاكما على نفسه. وأما اختلافهم في الموضع، فسببه الإطلاق أعني أنه لم يشترط فيه موضع، فمن شبهه بالزكاة في أنه حق للمساكين فقال لا ينقل من موضعه. وأما من رأى أن المقصود بذلك إنما هو الرفق بمساكين مكة قال: لا يطعم إلا مساكين مكة، ومن اعتمد ظاهر الإطلاق قال: يطعم حيث شاء. وأما اختلافهم في الحلال يقتل الصيد في الحرم هل عليه كفارة أم لا؟ فسببه هل يقاس في الكفارات عند من يقول بالقياس؟ وهل القياس أصل من أصول الشرع عند الذين يختلفون فيه؟ فأهل الظاهر ينفون قياس قتل الصيد في الحرم على المحرم لمنعهم القياس في الشرع، ويحق على أصل أبي حنيفة أن يمنعه لمنعه القياس في الكفارات، ولا خلاف بينهم في تعلق الاسم به لقوله سبحانه وتعالى - أو لم يروا أنا جعلنا حراما آمنا ويتخطف الناس من حولهم - وقول رسول الله ﷺ "إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض" وأما اختلافهم فيمن قتله ثم أكله هل عليه جزاء واحد أم جزاءان؟ فسببه هل أكله تعد ثان عليه سوى القتل أم لا؟ وإن كان تعديا عليه فهل هو مساو للتعدي الأول أم لا؟ وذلك أنهم اتفقوا على أنه إن أكل أثم، ولما كان النظر في كفارة الجزاء يشتمل على أربعة أركان: معرفة الواجب في ذلك، ومعرفة من تجب عليه، ومعرفة الفعل الذي لأجله يجب، ومعرفة محل الوجوب. وكان قد تقدم الكلام في أكثر هذه الأجناس، وبقي من ذلك أمران: أحدهما اختلاف في بعض الواجبات من الأمثال في بعض المصيدات. والثاني ما هو صيد مما ليس بصيد يجب أن ينظر فيما بقي علينا من ذلك، فمن أصول هذا الباب ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قضى في الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الأرنب، وفي اليربوع بجفرة، واليربوع: دويبة لها أربع قوائم وذنب، تجتر كما تجتر الشاة، وهي من ذوات الكروش، والعنز عند أهل العلم من المعز ما قد ولد أو ولد مثله، والجفرة والعناق من المعز، فالجفرة ما أكل واستغنى عن الرضاع، والعناق قيل فوق الجفرة وقيل دونها، وخالف مالك هذه الحديث فقال: في الأرنب واليربوع لا يقومان إلا بما يجوز هديا وأضحية، وذلك الجذع فما فوقه من الضأن، والثني فما فوقه من الإبل والبقر، وحجة مالك قوله تعالى -هديا بالغ الكعبة- ولم يختلفوا أن من جعل على نفسه هديا أنه لا يجيزه أقل من الجزع فما فوقه من الضأن والثنى مما سواه، وفي صغار الصيد عند مالك مثل ما في كباره. وقال الشافعي: يفدى صغار الصيد بالمثل من صغار النعم وكبار الصيد بالكبار منها، وهو مروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود، وحجته أنها حقيقة المثل، فعنده في النعامة الكبيرة بدنة، وفي الصغيرة فصيل، وأبو حنيفة على أصله في القيمة. واختلفوا من هذا الباب في حمام مكة وغيرها، فقال مالك في حمام مكة: شاة، وفي حمام الحل حكومة. واختلف قول ابن القاسم في حمام الحرم غير مكة،فقال مرة شاة كحمام مكة، ومرة قال حكومة كحمام الحل. وقال الشافعي: في كل حمام شاة، وفي حمام سوى الحرم قيمته. وقال داود كل شيء لا مثل له من الصيد فلا جزاء فيها إلا الحمام فإن فيه شاة، ولعله ظن ذلك إجماعا، فإنه روي عن عمر بن الخطاب ولا مخالف له من الصحابة. وروي عن عطاء أنه قال: في كل شيء من الطير شاة. واختلفوا من هذا الباب في بيض النعامة، فقال مالك: أرى في بيض النعامة عشر ثمن البدنة، وأبو حنيفة على أصله في القيمة. ووافقه الشافعي في هذه المسألة. وبه قال أبو ثور. وقال أبو حنيفة: إن كان فيها فرخ ميت فعليه الجزاء: أعني جزاء النعامة. واشترط أبو ثور في ذلك أن يخرج حيا ثم يموت. (يتبع...) @(تابع... 2): -وأما الفعل بعدها فهو رمي الجمار، وذلك أن المسلمين اتفقوا على "أن... ... وروي عن علي أنه قضى في بيض النعامة بأن يرسل الفحل على الإبل فإذا تبين لقاحها سميت ما أصبت من البيض، فقلت: هذا هدي، ثم ليس عليك ضمان ما فسد من الحمل. وقال عطاء: من كانت له إبل فالقول قول علي، وإلا ففي كل بيضة درهمان، قال أبو عمر: وقد روي عن ابن عباس عن كعب بن عجرة عن النبي عليه الصلاة والسلام "في بيض النعامة يصيبه المحرم ثمنه" من وجه ليس بالقوي. وروي عن ابن مسعود أن فيه القيمة، قال: وفيه أثر ضعيف. وأكثر العلماء على أن الجراد من صيد البر يجب على المحرم فيه الجزاء. واختلفوا في الواجب من ذلك، فقال عمر رضي الله عنه: قبضة من طعام، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة وأصحابه: تمرة خير من جرادة. وقال الشافعي: في الجراد قيمته، وبه قال أبو ثور إلا أنه قال: كل ما تصدق به من حفنة طعام أو تمرة فهو له قيمة. وروي عن ابن عباس أن فيها تمرة مثل قول أبي حنيفة. وقال ربيعة: فيها صاع من طعام وهو شاذ. وقد روي عن ابن عمر أن فيها شويهة وهو أيضا شاذ، فهذه هي مشهورات ما اتفقوا على الجزاء فيه، واختلفوا فيما هو الجزاء فيه. وأما إختلافهم فيما هو صيد مما ليس بصيد، وفيما هو من صيد البحر مما ليس منه، فإنهم اتفقوا على أن صيد البر محرَّم على المحرم إلا الخمس الفواسق المنصوص عليها، واختلفوا فيما يلحق به مما ليس يلحق، وكذلك اتفقوا على أن صيد البحر حلالا كله للمحرم، واختلفوا فيما هو من صيد البحر مما ليس منه، وهذا كله لقوله تعالى: -أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما- ونحن نذكر مشهور ما اتفقوا عليه من هذين الجنسين وما اختلفوا فيه، فنقول: ثبت من حديث ابن عمر وغيره أن رسول الله ﷺ قال "خمس من الدواب ليس على المحرم جناح في قتلهن: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب والعقور" واتفق العلماء على القول بهذا الحديث، وجمهورهم على القول بإباحة قتل ما تضمنه لكونه ليس بصيد وإن كان بعضهم اشترط في ذلك أوصافا ما. واختلفوا هل هذا باب من الخاص أريد به الخاص، أو باب من الخاص أريد به العام، والذين قالوا هو من باب الخاص أريد به العام اختلفوا في أي عام أريد بذلك، فقال مالك: الكلب العقور الوارد في الحديث إشارة إلى كل سبع عاد، وأن ما ليس بعاد من السباع فليس للمحرم قتله ولم ير قتل صغارها التي لا تعدو ولا ما كان منها أيضا لا يعدو ولا خلاف بينهم في قتل الحية والأفعى والأسود، وهو مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ "تقتل الأفعى والأسود" وقال مالك: لا أرى قتل الوزغ، والأخبار بقتلها متواترة، لكن مطلقا لا في الحرم، ولذلك توقف فيها مالك في الحرم. وقال أبو حنيفة: لا يقتل من الكلاب العقورة إلا الكلب الإنسي والذئب، وشذت طائفة فقالت: لا يقتل إلا الغراب الأبقع. وقال الشافعي: كل محرم الأكل فهو معنى في الخمس. وعمدة الشافعي أنه إنما حرم على المحرم ما أحل للحلال، وأن المباحة الأكل لا يجوز قتلها بإجماع لنهي رسول الله ﷺ عن صيد البهائم. وأما أبو حنيفة فلم يفهم من اسم الكلب الإنسي فقط بل من معناه كل ذئب وحشي. واختلفوا في الزنبور فبعضهم شبهه بالعقرب، وبعضهم رأى أنه أضعف نكاية من العقرب. وبالجملة فالمنصوص عليها تتضمن أنواعا من الفساد، فمن رأى أنه من باب الخاص أريد به العام ألحق بواحد واحد منها ما يشبه إن كان له شبه، ومن لم ير ذلك قصر النهي على المنطوق به. وشذت طائفة فقالت: لا يقتل إلا الغراب الأبقع، فخصصت عموم الاسم الوارد في الحديث الثابت بما روي عن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام قال "خمس يقتلن في الحرم، فذكر فيهن الغراب الأبقع" وشذ النخعي فمنع المحرم قتل الصيد إلا الفأرة. وأما اختلافهم فيما هو من صيد البحر مما ليس هو منه، فإنهم اتفقوا على أن السمك من صيد البحر، واختلفوا فيما عدا السمك، وذلك بناء منهم على ما كان منه يحتاج إلى زكاة فليس من صيد البحر، وأكثر ذلك ما كان محرما، ولا خلاف بين من يحل جميع ما في البحر في أن صيده حلال، وإنما اختلف هؤلاء فيما كان من الحيوان يعيش في البر وفي الماء بأي الحكمين يلحق؟ وقياس قول أكثر العلماء أنه يلحق بالذي عيشه فيه غالبا، وهو حيث يولد. والجمهور على أن طير الماء محكوم له بحكم حيوان البر. وروي عن عطاء أنه قال في طير الماء حيث يكون أغلب عيشه يحكم له بحكمه. واختلفوا في نبات الحرم هل فيه جزاء أم لا؟ فقال مالك: لا جزا فيه، وإنما فيه الإثم فقط للنهي الوارد في ذلك. وقال الشافعي: فيه الجزاء في الدوخة بقرة، وفيما دونها شاة. وقال أبو حنيفة: كل ما كان من غرس الإنسان فلا شيء فيه، وكل ما كان نابتا بطبعه ففيه قيمة. وسبب الخلاف هل يقاس النبات في هذا على الحيوان لاجتماعهما في النهي عن ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام "لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها" فهذا هو القول في مشهور مسائل هذا الجنس، فلنقل في حكم الحالق رأسه قبل محل الحلق. 4* القول في فدية الأذى وحكم الحالق رأسه قبل محل الحلق

@- وأما فدية الأذى فمجمع أيضا عليها لورود الكتاب بذلك والسنة. أما الكتاب فقوله تعالى - فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك - . وأما السنة فحديث كعب ابن عجرة الثابت "أنه كان مع رسول الله ﷺ محرما، فآذاه القمل في رأسه، فأمره رسول الله ﷺ أن يحلق رأسه وقال: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين مدين لكل إنسان، أو انسك بشاة، أي ذلك فعلت أجزأ عنك" والكلام في هذه الآية على من تجب الفدية، وعلى من لا تجب، وإذا وجبت فما هي الفدية الواجبة؟ وفي أي شيء تجب الفدية، ولمن تجب ومتى تجب وأين تجب؟ فأما على من تجب الفدية، فإن العلماء أجمعوا على أنها واجبة على كل من أماط الأذى من ضرورة لورود النص بذلك، واختلفوا فيمن أماطه بغير ضرورة، فقال مالك: عليه الفدية المنصوص عليها. وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن حلق دون ضرورة فإنما عليه دم فقط، واختلفوا هل من شرط من وجبت عليه الفدية بإماطة الأذى أن يكون متعمدا أو الناسي في ذلك والمتعمد سواء، فقال مالك: العامد في ذلك والناسي واحد، وهو قول أبي حنيفة والثوري والليث. وقال الشافعي في أحد قوليه: وأهل الظاهر لا فدية على الناسي، فمن اشترط في وجوب الفدية الضرورة فدليله النص، ومن أوجب ذلك على غير المضطر فحجته أنه إذا وجبت على المضطر فهي على غير المضطر أوجب، ومن فرق بين العامد والناسي فلتفريق الشرع في ذلك بينهما في مواضع كثيرة، ولعموم قوله تعالى: -وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم- ولعموم قوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" ومن لم يفرق بينهما فقياسا على كثير من العبادات التي لم يفرق الشرع فيها بين الخطأ والنسيان. وأما ما يجب فيه فدية الأذى، فإن العلماء أجمعوا على أنها ثلاث خصال على التخيير: الصيام والإطعام والنسك لقوله تعالى: -ففدية من صيام أو صدقة أو نسك- والجمهور على أن الإطعام هو لستة مساكين، وأن النسك أقله شاة. وروي عن أنس وعكرمة ونافع أنهم قالوا: الإطعام لعشرة مساكين والصيام عشرة أيام. ودليل الجمهور حديث كعب بن عجرة الثابت. وأما من قال الصيام عشرة أيام فقياسا على صيام التمتع وتسوية الصيام مع الإطعام، ولما ورد أيضا في جزاء الصيد في قوله تعالى: -أو عدل ذلك صياما- وأما كم يطعم لكل مسكين من المساكين الستة التي ورد فيها النص، فإن الفقهاء اختلفوا في ذلك لاختلاف الآثار في الإطعام في الكفارات، فقال مالك والشافعي وابو حنيفة وأصحابهم: الإطعام في ذلك مدان بمد النبي ﷺ لكل مسكين. وروي عن الثوري أنه قال: من البر نصف صاع ومن التمر والزبيب والشعير صاع. وروي أيضا عن أبي حنيفة مثله وهو أصله في الكفارات. وأما ما تجب فيه الفدية، فاتفقوا على أنها تجب على من حلق رأسه لضرورة مرض أو حيوان يؤذيه في رأسه. قال ابن عباس: المرض أن يكون برأسه قروح، والأذى: القمل وغيره. وقال عطاء: المرض الصداع، والأذى: القمل وغيره. والجمهور على أن كل ما منعه المحرم من لباس الثياب المخيطة وحلق الرأس وقص الأظفار أنه إذا استباحه فعليه الفدية: أي دم على اختلاف بينهم في ذلك أو إطعام، ولم يفرقوا بين الضرر وغيره في هذه الأشياء، وكذلك استعمال الطيب. وقال قوم: ليس في قص الأظفار شيء. وقال قوم فيه دم. وحكى ابن المنذر أن منع المحرم قص الأظفار إجماع. واختلفوا فيمن أخذ بعض أظفاره، فقال الشافعي وأبو ثور: إن أخذ ظفرا واحدا أطعم مسكينا واحدا.، وإن أخذ ظفرين أطعم مسكينين، وإن أخذ ثلاثا فعليه دم في مقام واحد. وقال أبو حنيفة في أحد أقواله: لا شيء عليه حتى يقصها كلها. وقال أبو محمد بن حزم: يقص المحرم أظفاره وشاربه وهو شذوذ، وعنده أن لا فدية إلا من حلق الرأس فقط للعذر الذي ورد فيه النص. وأجمعوا على منع حلق شعر الرأس، واختلفوا في حلق الشعر من سائر الجسد، فالجمهور على أن فيه الفدية. وقال داود: لا فدية فيه. واختلفوا فيمن نتف من رأسه الشعرة والشعرتين أو من لحمه، فقال مالك: ليس على من نتف الشعر اليسير شيء إلا أن يكون أماط به أذى فعليه الفدية. وقال الحسن: في الشعرة مد وفي الشعرتين مدين، وفي الثلاثة دم، وبه قال الشافعي وأبو ثور. وقال عبد الملك صاحب مالك: فيما قل من الشعر إطعام وفيما كثر فدية. فمن فهم من منع المحرم حلق الشعر أنه عبادة سوى بين القليل والكثير، لأن القليل ليس في إزالته زوال أذى. أما موضع الفدية فاختلفوا فيه، فقال مالك: يفعل من ذلك ما شاء أين شاء بمكة وبغيرها وإن شاء ببلده، وسواء عنده في ذلك ذبح النسك والإطعام والصيام، وهو قول مجاهد والذي عند مالك ههنا هو نسك وليس بهدي. فإن الهدي لا يكون إلا بمكة أو بمنى. وقال أبو حنيفة والشافعي: الدم والإطعام لا يجزيان إلا بمكة والصوم حيث شاء. وقال ابن العباس: ما كان من دم فبمكة، وما كان من إطعام وصيام فحيث شاء، وعن أبي حنيفة مثله. ولم يختلف قول الشافعي أن دم الإطعام لا يجزئ إلا لمساكين الحرم. وسبب الخلاف استعمال قياس دم النسك على الهدي، فمن قاسه على الهدي أوجب فيه شروط الهدي من الذبح في المكان المخصوص به وفي مساكين الحرم، وإن كان مالك يرى أن الهدي يجوز إطعامه لغير مساكين الحرم، والذي يجمع النسك والهدي هو أن المقصود بهما منفعة المساكين المجاورين لبيت الله، والمخالف يقول: إن الشرع لما فرق بين اسمهما فسمى أحدهما نسكا وسمى الآخر هديا وجب أن يكون حكمهما مختلفا. وأما الوقت فالجمهور على أن هذه الكفارة لا تكون إلا بعد إماطة الأذى، ولا يبعد أن يدخله الخلاف قياسا على كفارة الأيمان، فهذا هو القول في كفارة إماطة الأذى. واختلفوا في حلق الرأس هل هو من مناسك الحج أو هو مما يتحلل به منه؟ ولا خلاف بين الجمهور في أنه من أعمال الحج، وأن الحلق أفضل من التقصير لما ثبت من حديث ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال "اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله، قال: والمقصرين" وأجمع العلماء على أن النساء لا يحلقن وأن سنتهن التقصير. واختلفوا هل هو نسك يجب على الحاج والمعتمر أولا؟ فقال مالك: الحلاق نسك للحاج وللمعتمر وهو أفضل من التقصير، ويجب على كل من فاته الحج وأحصر بعدو أو بمرض أو بعذر وهو قول جماعة الفقهاء إلا في المحصر بعدو، فإن أبا حنيفة قال: ليس عليه حلاق ولا تقصير. وبالجملة فمن جعل الحلاق أو التقصير نسكا أوجب في تركه الدم، ومن لم يجعله من النسك لم يوجب فيه شيئا. 4* القول في كفارة المتمتع

@- وأما كفارة المتمتع التي نص الله عليها في قوله سبحانه - فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي - الآية، فإنه لا خلاف في وجوبها، وإنما الخلاف في المتمتع من هو؟ وقد تقدم ما في ذلك من الخلاف والقول في هذه الكفارة أيضا يرجع إلى تلك الأجناس بعينها على من تجب؟ وما الواجب فيها؟ ومتى تجب ولمن تجب وفي أي مكان تجب؟ فأما على من تجب فعلى المتمتع باتفاق، وقد تقدم الخلاف في المتمتع من هو. وأما اختلافهم في الواجب، فإن الجمهور من العلماء على أن ما استيسر من الهدي هو شاة، واحتج مالك في أن اسم الهدي قد ينطلق على الشاة بقوله تعالى في جزاء الصيد - هدايا بالغ الكعبة - ومعلوم بالإجماع أنه قد يجب في جزاء الصيد شاة، وذهب ابن عمر إلى أن اسم الهدي لا ينطلق إلا على الإبل والبقر، وأن معنى قوله تعالى - فما استيسر من الهدي - أي بقرة أدون من بقرة، وبدنة أدون من بدنة. وأجمعوا أن هذه الكفارة على الترتيب، وأن من لم يجد الهدي فعليه الصيام. واختلفوا من حد الزمان الذي ينتقل بانقضائه فرضه من الهدي إلى الصيام، فقال مالك: إذا شرع في الصوم فقد انتقل واجبه إلى الصوم وإن وجد الهدي في أثناء الصوم. وقال أبو حنيفة: إن وجد الهدي في صوم الثلاثة الأيام لزمه، وإن وجده في صوم السبعة لم يلزمه، وهذه المسئلة نظير مسئلة من طلع عليه الماء في الصلاة وهو متيمم. وسبب الخلاف هو هل ما هو شرط في ابتداء العبادة هو شرط في استمرارها. وإنما فرق أبو حنيفة بين الثلاثة والسبعة، لأن الثلاثة الأيام هي عنده بدل من الهدي والسبعة ليست ببدل، وأجمعوا على أنه إذا صام الثلاثة الأيام في العشر الأول من ذي الحجة أنه قد أتى بها في محلها لقوله سبحانه - فصيام ثلاثة أيام في الحج - ولا خلاف أن العشر الأول من أيام الحج. واختلفوا فيمن صامها في أيام عمل العمرة قبل أن يهل بالحج أو صامها في أيام منى، فأجاز مالك صيامها في أيام منى ومنعه أبو حنيفة وقال: إذا فاتته الأيام الأولى وجب الهدي في ذمته ومنعه مالك قبل الشروع في عمل الحج وأجازه أبو حنيفة. وسبب الخلاف هل ينطلق اسم الحج على هذه الأيام المختلف فيها أم لا؟ وإن انطلق فهل من شرط الكفارة أن لا تجزئ إلا بعد وقوع موجبها، فمن قال: لا تجزئ كفارة إلا بعد وقوع موجبها قال: لا يجزي الصوم إلا بعد الشروع في الحج، ومن قاسها على كفارة الأيمان قال: يجزي. واتفقوا أنه إذا صام السبعة الأيام في أهله أجزأه، واختلفوا إذا صامها في الطريق فقال مالك: يجزي الصوم، وقال الشافعي: لا يجزي. وسبب الخلاف الاحتمال الذي في قوله سبحانه - إذا رجعتم - فإن اسم الراجع ينطلق على من فرغ من الرجوع، وعلى من هو في الرجوع نفسه، فهذه هي الكفارة التي ثبتت بالسمع وهي من المتفق عليها، ولا خلاف أن من فاته الحج بعد أن شرع فيه إما بفوت ركن من أركانه، وإما من قبل غلطه في الزمان، أو من قبل جهله أو نسيانه أو إتيانه في الحج فعلا مفسدا له، فإن عليه القضاء إذا كان حجا واجبا وهل عليه هدي مع القضاء؟ واختلفوا فيه، وإن كان تطوعا فهل عليه قضاء أم لا؟ الخلاف في ذلك كله، لكن الجمهور على أن عليه الهدي لكون النقصان الداخل عليه مشعرا بوجوب الهدي. وشذ قوم فقالوا: لا هدي أصلا ولا قضاء إلا أن يكون في حج واجب، ومما يخص الحج الفاسد عند الجمهور دون سائر العبادات أنه يمضي فيه المفسد له ولا يقطعه وعليه دم. وشذ قوم فقالوا: هو كسائر العبادات، وعمدة الجمهور ظاهر قوله تعالى - وأتموا الحج والعمرة لله - فالجمهور عمموا والمخالفون خصصوا قياسا على غيرها من العبادات إذا وردت عليها المفسدات، واتفقوا على أن المفسد للحج إما من الأفعال المأمور بها فترك الأركان التي هي شرط في صحته على اختلافهم فيما هو ركن مما ليس بركن. وأما من التروك المنهي عنها فالجماع، وإن كانوا اختلفوا في الوقت الذي إذا وقع فيه الجماع كان مفسدا للحج. فأما إجماعهم على إفساد الجماع للحج فلقوله تعالى - فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج - واتفقوا على أن من وطئ قبل الوقوف بعرفة فقد أفسد حجه، وكذلك من وطئ من المعتمرين قبل أن يطوف ويسعى. واختلفوا في فساد الحج بالوطء بعد الوقوف بعرفة وقبل رمي جمرة العقبة وبعد رمي الجمرة وقبل طواف الإفاضة الذي هو الواجب، فقال مالك: من وطئ قبل رمي جمرة العقبة فقد فسد حجه وعليه الهدي والقضاء، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة والثوري: عليه الهدي بدنة وحجه تام. وقد روي مثل هذا عن مالك. وقال مالك: من وطئ بعد رمي جمرة العقبة وقبل طواف الإفاضة فحجه تام، وبقول مالك في أن الوطء قبل طواف الإفاضة لا يفسد الحج قال الجمهور: ويلزمه عندهم الهدي. وقالت طائفة: من وطئ قبل طواف الإفاضة فسد حجه، وهو قول ابن عمر. وسبب الخلاف أن للحج تحللا يشبه السلام في الصلاة وهو التحلل الأكبر وهو الإفاضة وتحللا أصغر، وهل يشترط في إباحة الجماع تحللان أو أحدهما؟ ولا خلاف بينهم أن التحلل الأصغر الذي هو رمي الجمرة يوم النحر أنه يحل به الحاج من كل شيء حرم عليه بالحج إلا النساء والطيب والصيد، فإنهم اختلفوا فيه، والمشهور عن مالك أنه يحل له كل شيء إلا النساء والطيب، وقيل عنه إلا النساء والطيب والصيد، لأن الظاهر من قوله - وإذا حللتم فاصطادوا - أنه التحلل الأكبر. واتفقوا على أن المعتمر يحل من عمرته إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وإن لم يكن حلق ولا قصر لثبوت الآثار في ذلك إلا خلافا شاذا. وروي عن ابن عباس أنه يحل بالطواف. وقال أبو حنيفة: لا يحل إلا بعد الحلاق، وإن جامع قبله فسدت عمرته. واختلفوا في صفة الجماع الذي يفسد الحج وفي مقدماته، فالجمهور على أن التقاء الختانين يفسد الحج، ويحتمل من يشترط في وجوب الطهر الإنزال مع التقاء الختانين أن يشترطه في الحج. واختلفوا في إنزال الماء فيما دون الفرج، فقال أبو حنيفة: لا يفسد الحج إلا الإنزال في الفرج. وقال الشافعي: ما يوجب الحد يفسد الحج. وقال مالك: الإنزال نفسه يفسد الحج، وكذلك مقدماته من المباشرة والقبلة. واستحب الشافعي فيمن جامع دون الفرج أن يهدي. واختلفوا فيمن وطئ مرارا، فقال مالك: ليس عليه إلا هدي واحد. وقال أبو حنيفة: إن كرر الوطء في مجلس واحد كان عليه هدي واحد، وإن كرره في مجالس كان عليه لكل وطء هدي. وقال محمد بن الحسن: يجزيه هدي واحد، وإن كرر الوطء ما لم يهد لوطئه الأول. وعن الشافعي الثلاثة الأقوال، إلا أن الأشهر عنه مثل قول مالك. واختلفوا فيمن وطئ ناسيا، فسوى مالك في ذلك بين العمد والنسيان. وقال الشافعي في الجديد لا كفارة عليه. واختلفوا هل على المرأة هدي؟ فقال مالك: إن طاوعته فعليها هدي، وإن أكرهها فعليه هديان. وقال الشافعي: ليس عليه إلا هدي واحد كقوله في المجامع في رمضان وجمهور العلماء على أنهما إذا حجا من قابل تفرقا أعني الرجل والمرأة، وقيل لا يفترقان، والقول بأن لا يفترقا مروي عن بعض الصحابة والتابعين، وبه قال أبو حنيفة. واختلف قول مالك والشافعي من أين يفترقان؟ فقال الشافعي: يفترقان من حيث أفسدا الحج، وقال مالك: يفترقان من حيث أحرما، إلا أن يكونا حرما قبل الميقات، فمن أخذهما بالافتراق فسدا للذريعة وعقوبة، ومن لم يؤاخذهما به فجريا على الأصل، وأنه لا يثبت حكم في هذا الباب إلا بسماع. واختلفوا في الهدي الواجب في الجماع ما هو؟ فقال مالك وأبو حنيفة: هو شاة، وقال الشافعي: لايجزئه إلا بدنة، وإن لم يجد قومت البدنة دراهم وقومت الدراهم طعاما، فإن لم يجد صام عن كل مد يوما، قال: والإطعام والهدي لا يجزى إلا بمكة أو بمنى والصوم حيث شاء. وقال مالك: كل نقص دخل الإحرام من وطء أو حلق شعر أو إحصار فإن صاحبه إن لم يجد الهدي صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، ولا يدخل الإطعام فيه، فمالك شبه الدم اللازم ههنا بدم المتمتع، والشافعي شبهه بالدم الواجب بالفدية، والإطعام عند مالك لا يكون إلا في كفارة الصيد وكفارة إزالة الأذى، والشافعي يرى أن الصيام والإطعام قد وقعا بدل لدم في موضعين، ولم يقع بدلهما إلا في موضع واحد، فقياس المسكوت عنه على المنطوق به في الإطعام أولى، فهذا ما يخص الفساد بالجماع.

 

 

وأما الفساد بفوات الوقت، وهو أن يفوته الوقوف بعرفة يوم عرفة، فإن العلماء أجمعوا أن من هذه صفته لا يخرج من إحرامه إلا بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، أعني أنه يحل ولابد بعمرة، وأن عليه حج قابل. واختلفوا هل عليه هدي أم لا؟ فقال مالك والشافعي وأحمد والثوري وأبو ثور: عليه الهدي، وعمدتهم إجماعهم على أن من حبسه مرض حتى فاته الحج أن عليه الهدي. وقال أبو حنيفة: يتحلل بعمرة ويحج من قابل ولا هدي عليه. وحجة الكوفيين أن الأصل في الهدي إنما هو بدل من القضاء، فإذا كان القضاء فلا هدي إلا ما خصصه الإجماع. واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة فيمن فاته الحج وكان قارنا هل يقضي حجا مفردا أو مقرونا بعمرة؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه يقضي قارنا لأنه إنما يقضي مثل الذي عليه. وقال أبو حنيفة: ليس عليه إلا الإفراد لأنه قد طاف لعمرته فليس يقضي إلا ما فاته. وجمهور العلماء على أن من فاته الحج أنه لا يقيم على إحرامه ذلك إلى عام آخر وهذا هو الاختيار عند مالك، إلا أنه أجاز ذلك ليسقط عنه الهدي ولا يحتاج أن يتحلل بعمرة. وأصل اختلافهم في هذه المسئلة اختلافهم فيمن أحرم بالحج في غير أشهر الحج، فمن لم يجعله محرما لم يجز للذي فاته الحج أن يبقى محرما إلى عام آخر، ومن أجاز الإحرام في غير أيام الحج أجاز له البقاء محرما، قال القاضي: فقد قلنا في الكفارات الواجبة بالنص في الحج وفي صفة القضاء في الحج الفائت والفاسد وفي صفة إحلال من فاته الحج، وقلنا قبل ذلك في الكفارات المنصوص عليها، وما ألحق الفقهاء بذلك من كفارة المفسد حجه، وبقي أن نقول في الكفارات التي اختلفوا فيها ترك نسك منها من مناسك الحج مما لم ينص عليه. 4* القول في الكفارات المسكوت عنها

@- فنقول: إن الجمهور اتفقوا على أن النسك ضربان: نسك هو سنة موكدة ونسك هو مرغب فيه. فالذي هو سنة يجب على تاركه الدم لأنه حج ناقص أصله المتمتع والقارن. وروي عن ابن عباس أنه قال: من فاته من نسكه شيء فعليه دم، وأما الذي هو نفل فلم يروا فيه دما، ولكنهم اختلفوا اختلافا كثيرا في ترك نسك نسك هل فيه دم أم لا؟ وذلك لاختلافهم فيه هل هو سنة أو نفل؟ وأما ما كان فرضا فلا خلاف عندهم أنه لا يجبر بالدم، وإنما يختلفون في الفعل الواحد نفسه من قبل اختلافهم هل هو فرض أم لا؟ وأما أهل الظاهر فإنهم لا يرون دما إلا حيث ورد النص لتركهم القياس وبخاصة في العبادات، وكذلك اتفقوا على أن ما كان من المتروك مسنونا ففعل ففيه فدية الأذى، وما كان مرغبا فيه فليس فيه شيء. واختلفوا في ترك فعل لاختلافهم هل هو سنة أم لا؟ وأهل الظاهر لا يوجبون الفدية إلا في المنصوص عليه ونحن نذكر المشهور من اختلاف الفقهاء في ترك نسك نسك، أعني في وجوب الدم أو لا وجوبه من أول المناسك إلى آخرها، وكذلك في فعل محظور محظور، فأول ما اختلفوا فيه من المناسك من جاوز الميقات فلم يحرم هل عليه دم؟ فقال قوم: لا دم عليه. وقال قوم: عليه الدم وإن رجع، وهو قول مالك وابن المبارك. وروي عن الثوري. وقال قوم: إن رجع إليه فليس عليه دم، وإن لم يرجع فعليه دم، وهو قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد ومشهور قول الثوري. وقال أبو حنيفة: إن رجع ملبيا فلا دم عليه، وإن رجع غير ملب كان عليه الدم. وقال قوم: هو فرض ولا يجبره بالدم. واختلفوا فيمن غسل رأسه بالخطمى. فقال مالك وأبو حنيفة: يفتدى. وقال الثوري وغيره: لا شيء عليه. ورأى مالك أن في الحمام الفدية، وأباحه الأكثرون وروي عن ابن عباس من طريق ثابت دخوله، والجمهور على أنه يفتدى من لبس من المحرمين ما نهي عن لباسه. واختلفوا إذا لبس السراويل لعدم الإزار هل يفتدى أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة: يفتدى، وقال الثوري وأحمد وأبو ثور وداود: لا شيء عليه إذا لم يجد إزارا. وعمدة من منع النهي المطلق وعمدة من لم ير فيه فدية حديث عمرو بن دينار عن جابر وابن عباس قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول "السراويل لمن لم يجد الإزار والخف لمن لم يجد النعلين" واختلفوا فيمن لبس الخفين مقطوعين مع وجود النعلين، فقال مالك: عليه الفدية، وقال أبو حنيفة: لا فدية عليه، والقولان عن الشافعي. واختلفوا في لبس المرأة القفازين هل فيه فدية أم لا؟ وقد ذكرنا كثيرا من هذه الأحكام في باب الإحرام، وكذلك اختلفوا فيمن ترك التلبية هل عليه دم أم لا؟ وقد تقدم. واتفقوا على أن من نكس الطواف أو نسي شوطا من أشواطه أنه يعيده ما دام بمكة. واختلفوا إذا بلغ إلى أهله، فقال قوم منهم أبو حنيفة: يجزيه الدم، وقال قوم: بل يعيد ويجبر ما نقصه ولا يجزيه الدم. وكذلك اختلفوا في وجوب الدم على من ترك الرمل في الثلاثة الأشواط، وبالوجوب قال ابن عباس والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور. واختلف في ذلك قول مالك وأصحابه. والخلاف في هذه الأشياء كلها مبناه على أنه هل هو سنة أم لا؟ وقد تقدم القول في ذلك. وتقبيل الحجر أو تقبيل يده بعد وضعها عليه إذا لم يصل الحجر عند كل من لم يوجب الدم قياسا على المتمتع إذا تركه فيه دم. وكذلك اختلفوا فيمن نسي ركعتي الطواف حتى رجع إلى بلده هل عليه دم أم لا؟ فقال مالك: عليه دم. وقال الثوري: يركعهما ما دام في الحرم. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يركعهما حيث شاء، والذين قالوا في طواف الوداع إنه ليس بفرض اختلفوا فيمن تركه ولم تتمكن له العودة إليه هل عليه دم أم لا؟ فقال مالك: ليس عليه شيء إلا أن يكون قريبا فيعود. وقال أبو حنيفة والثوري: عليه دم إن لم يعد، وإنما يرجع عندهم ما لم يبلغ المواقيت، وحجة من لم يره سنة مؤكدة سقوطه عن المكي والحائض. وعند أبي حنيفة أنه إذا لم يدخل الحجر في الطواف أعاد ما لم يخرج من مكة، فإن خرج فعليه دم. واختلفوا هل من شرط صحة الطواف المشي فيه مع القدرة عليه؟ فقال مالك: هو من شرطه كالقيام في الصلاة، فإن عجز كان كصلاة القاعد ويعيد عنده أبدا. إلا إذا رجع إلى بلده فإن عليه دما. وقال الشافعي: الركوب في الطواف جائز "لأن النبي ﷺ طاف بالبيت راكبا من غير مرض" ولكنه أحب أن يستشرف الناس إليه، ومن لم ير السعي واجبا فعليه فيه دم إذا انصرف إلى بلده. ومن رآه تطوعا لم يوجب فيه شيئا، وقد تقدم اختلافهم أيضا فيمن قدم السعي على الطواف هل فيه دم إذا لم يعد حتى يخرج من مكة أم ليس فيه دم؟ واختلفوا في وجوب الدم على من دفع من عرفة قبل الغروب فقال الشافعي وأحمد: إن عاد فدفع بعد غروب الشمس فلا دم عليه، وإن لم يرجع حتى طلع الفجر وجب عليه الدم. وقال أبو حنيفة والثوري: عليه الدم رجع أو لم يرجع، وقد تقدم هذا. واختلفوا فيمن وقف من عرفة بعرنة، فقال الشافعي: لا حج له، وقال مالك: عليه دم. وسبب الاختلاف هل النهي عن الوقوف بها من باب الحظر أو من باب الكراهية، وقد ذكرنا في باب أفعال الحج إلى انقضائها كثيرا من اختلافهم فيما تركه دم وما ليس فيه دم، وإن كان الترتيب يقتضي ذكره في هذا الموضع، والأسهل ذكره هنالك. قال القاضي: فقد قلنا في وجوب هذه العبادة وعلى من تجب؟ وشروط وجوبها ومتى تجب؟ وهي التي تجري مجرى المقدمات لمعرفة هذه العبادة، وقلنا بعد ذلك في زمان هذه العبادة ومكانها ومحظوراتها وما اشتملت عليه أيضا من الأفعال في مكان مكان من أماكنها وزمان زمان من أزمنتها الجزئية إلى انقضاء زمانها، ثم قلنا في أحكام التحلل الواقع في هذه العبادة، وما يقبل من ذلك الإصلاح بالكفارات وما لا يقبل الإصلاح بل يوجب الإعادة، وقلنا أيضا في حكم الإعادة بحسب موجباتها. وفي هذا الباب يدخل من شرع فيها فأحصر بمرض أو عدو أو غير ذلك. والذي بقي من أفعال هذه العبادة هو القول في الهدي، وذلك أن هذا النوع من العبادات هو جزء من هذه العبادة، وهو مما ينبغي أن يفرد بالنظر فلنقل فيه: 4* القول في الهدي

@- فنقول: إن النظر في الهدي يشتمل على معرفة وجوبه وعلى معرفة جنسه وعلى معرفة سنه وكيفية سوقه ومن أين يساق وإلى أين ينتهي بسوقه، وهو موضع نحره وحكم لحمه بعد النحر، فنقول: إنهم قد أجمعوا على أن الهدي المسوق في هذه العبادة منه واجب ومنه تطوع؛ فالواجب منه ما هو واجب بالنذر، ومنه ما هو واجب في بعض أنواع هذه العبادة، ومنه ما هو واجب لأنه كفارة. فأما ما هو واجب في بعض أنواع هذه العبادة فهو هدي المتمتع باتفاق وهدي القارن باختلاف. وأما الذي هو كفارة فهدي القضاء على مذهب من يشترط فيه الهدي، وهدي كفارة الصيد، وهدي إلقاء الأذى والتفث وما أشبه ذلك من الهدي الذي قاسه الفقهاء في الإخلال بنسك نسك منها على المنصوص عليه. فأما جنس الهدي فإن العلماء متفقون على أنه لا يكون الهدي إلا من الأزواج الثمانية التي نص الله عليها، وأن الأفضل في الهدايا هي الإبل ثم البقر ثم الغنم ثم المعز، وإنما اختلفوا في الضحايا. وأما الأسنان فإنهم أجمعوا أن الثني فما فوقه يجزي منها، وأنه لا يجزي الجذع من المعز في الضحايا والهدايا لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بردة "تجزي عنك ولا تجزي عن أحد بعدك" واختلفوا في الجذع من الضأن، فأكثر أهل العلم يقولون بجوازه في الهدايا والضحايا. وكان ابن عمر يقول: لا يجزي في الهدايا إلا الثني من كل جنس، ولا خلاف في أن الأغلى ثمنا من الهدايا أفضل. وكان الزبير يقول لبنيه: يا بني لا يهدين أحدكم لله من الهدي شيئا يستحي أن يهديه لكريمه، فإن الله أكرم الكرماء وأحق من اختير له، وقال رسول الله ﷺ "في الرقاب وقد قيل له أيها أفضل فقال: أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها" وليس في عدد الهدي حد معلوم، وكان هدي رسول الله ﷺ مائة. وأما كيفية سوق الهدي فهو التقليد والإشعار بأنه هدي "لأن رسول الله ﷺ خرج عام الحديبية، فلما كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم" وإذا كان الهدي من الإبل والبقر فلا خلاف أنه يقلد نعلا أو نعلين أو ما أشبه ذلك لمن لم يجد النعال. واختلفوا في تقليد الغنم، فقال مالك وأبو حنيفة: لا تقلد الغنم. وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود: تقلد لحديث الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة "أن النبي ﷺ أهدى إلى البيت مرة غنما فقلده" واستحبوا توجيهه إلى القبلة في حين تقليده، واستحب مالك الإشعار من الجانب الأيسر لما رواه عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا أهدى هديا من المدينة قلده وأشعره بذي الحليفة قلده قبل أن يشعره، وذلك في مكان واحد وهو موجه للقبلة يقلده بنعلين ويشعره من الشق الأيسر، ثم يساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة، ثم يدفع به معهم إذا دفعوا، وإذا قدم منى غداة النحر نحره قبل أن يحلق أو يقصر، وكان هو ينحر هديه بيده يصفهن قياما ويوجههن للقبلة ثم يأكل ويطعم. واستحب الشافعي وأحمد وأبو ثور الإشعار من الجانب الأيمن لحديث ابن عباس "أن رسول الله ﷺ صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببدنه فأشعرها من صفحة سنامها الأيمن ثم سلت الدم عنها وقلدها بنعلين ثم ركب راحلته، فلما استوت على البيداء أهل بالحج" وأما من أين يساق الهدي؟ فإن مالكا يرى أن من سنته أن يساق من الحل، ولذلك ذهب إلى أن من اشترى الهدي بمكة ولم يدخله من الحل أن عليه أن يقفه بعرفة، وإن لم يفعل فعليه البدل. وأما إن كان أدخله من الحل فيستحب له أن يقفه بعرفة، وهو قول ابن عمر، وبه قال الليث. وقال الشافعي والثوري وأبو ثور: وقوف الهدي بعرفة سنة، ولا حرج على من لم يقفه كان داخلا من الحل أو لم يكن. وقال أبو حنيفة ليس توقيف الهدي بعرفة من السنة، وحجة مالك في إدخال الهدي من الحل إلى الحرم "أن النبي عليه الصلاة والسلام كذلك فعل وقال: خذوا عني مناسككم" وقال الشافعي: التعريف سنة مثل التقليد. وقال أبو حنيفة: ليس التعريف بسنة، وإنما فعل ذلك رسول الله ﷺ لأن مسكنه كان خارج الحرم. وروي عن عائشة التخيير في تعريف الهدي أو لا تعريفه. وأما محله فهو البيت العتيق كما قال تعالى {ثم محلها إلى البيت العتيق} وقال {هديا بالغ الكعبة} وأجمع العلماء على أن الكعبة لا يجوز لأحد فيها ذبح، وكذلك المسجد الحرام، وأن المعنى في قوله {هديا بالغ الكعبة} أنه إنما أراد به النحر بمكة إحسانا منه لمساكينهم وفقرائهم. وكان مالك يقول: إنما المعنى في قوله {هديا بالغ الكعبة} مكة، وكان لا يجيز لمن نحر هديه في الحرم إلا أن ينحره بمكة. وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن نحره في غير مكة من الحرم أجزأه. وقال الطبري: يجوز نحر الهدي حيث شاء المهدي إلا هدي القران وجزاء الصيد فإنهما لا ينحران إلا بالحرم. وبالجملة فالنحر بمنى إجماع من العلماء وفي العمرة بمكة، إلا ما اختلفوا فيه من نحر المحصر. وعند مالك إن نحر للحج بمكة والعمرة بمنى أجزأه، وحجة مالك في أنه لا يجوز النحر بالحرم إلا بمكة قوله ﷺ "وكل فجاج مكة وطرقها منحر" واستثنى مالك من ذلك هدي الفدية، فأجاز ذبحه بغير مكة. وأما متى ينحر فإن مالكا قال: إن ذبح هدي التمتع أو التطوع قبل يوم النحر لم يجزه، وجوزه أبو حنيفة في التطوع وقال الشافعي: يجوز في كليهما قبل يوم النحر، ولا خلاف عند الجمهور أن ما عدل من الهدي بالصيام أنه يجوز حيث شاء، لأنه لا منفعة في ذلك لا لأهل الحرم ولا لأهل مكة، وإنما اختلفوا في الصدقة المعدولة عن الهدي، فجمهور العلماء على أنها لمساكين مكة والحرم، لأنها بدل من جزاء الصيد الذي هو لهم، وقال مالك: الإطعام كالصيام يجوز بغير مكة. وأما صفة النحر فالجمهور مجمعون على أن التسمية مستحبة فيها لأنها زكاة، ومنها من استحب مع التسمية التكبير. ويستحب للمهدي أن يلي نحر هديه بيده وإن استخلف جاز، وكذلك فعل رسول الله ﷺ في هديه، ومن سنتها أن تنحر قياما لقوله سبحانه وتعالى {فاذكروا اسم الله عليها صواف} وقد تكلم في صفة النحر في كتاب الذبائح. وأما ما يجوز لصاحب الهدي من الانتفاع به وبلحمه فإن في ذلك مسائل مشهورة: أحدها هل يجوز له ركوب الهدي الواجب أو التطوع؟ فذهب أهل الظاهر إلى أن ركوبه جائز من ضرورة ومن غير ضرورة، وبعضهم أوجب ذلك، وكره جمهور فقهاء الأمصار ركوبها من غير ضرورة، والحجة للجمهور ما خرجه أبو داود عن جابر وقد سئل عن ركوب الهدي فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا" ومن طريق المعنى أن الانتفاع بما قصد به القربة إلى الله تعالى منعه مفهوم من الشريعة، وحجة أهل الظاهر ما رواه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة "أن رسول الله ﷺ رأى رجلا يسوق بدنة فقال: اركبها، فقال: يا رسول الله إنها هدي، فقال: اركبها، ويلك في الثانية أو في الثالثة". وأجمعوا أن هدي التطوع إذا بلغ محله أنه يأكل منه صاحبه كسائر الناس، وأنه إذا عطب قبل أن يبلغ محله خلى بينه وبين الناس ولم يأكل منه، وزاد داود: ولا يطعم منه شيئا أهل رفقته "لما ثبت أن رسول الله ﷺ بعث بالهدي مع ناجية الأسلمي وقال له: إن عطب منها شيء فانحره ثم اصبغ نعليه في دمه وخل بينه وبين الناس" وروي عن ابن عباس هذا الحديث فزاد فيه "ولا تأكل منه أنت ولا أهل رفقتك" وقال بهذه الزيادة داود وأبو ثور. واختلفوا فيم يجب على من أكل منه، فقال مالك: إن أكل منه وجب عليه بدله. وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد وابن حبيب من أصحاب مالك: عليه قيمة ما أكل أو أمر بأكله طعاما يتصدق به. وروي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس وجماعة من التابعين. وما عطب في الحرم قبل أن يصل مكة فهل بلغ محله أم لا؟ فيه الخلاف مبني على الخلاف المتقدم هل المحل هو مكة أو الحرم؟ وأما الهدي الواجب إذا عطب قبل محله فإن لصاحبه أن يأكل منه لأن عليه بدله، ومنهم من أجاز له بيع لحمه وأن يستعين به في البدل، وكره ذلك مالك. واختلفوا في الأكل من الهدي الواجب إذا بلغ محله، فقال الشافعي: لا يؤكل من الهدي الواجب كله ولحمه كله للمساكين، وكذلك جله إن كان مجللا والنعل الذي قلد به. وقال مالك: يؤكل من كل الهدي الواجب إلا جزاء الصيد ونذر المساكين وفدية الأذى. وقال أبو حنيفة: لا يؤكل من الهدي الواجب إلا هدي المتعة وهدي القران. وعمدة الشافعي تشبيه جميع أصناف الهدي الواجب بالكفارة. وأما من فرق فلأنه يظهر في الهدي معنيان: أحدهما أنه عبادة مبتدأة. والثاني أنه كفارة، وأحد المعنيين في بعضها أظهر، فمن غلب شبهه بالعبادة على شبهه بالكفارة في نوع نوع من أنواع الهدي كهدي القران وهدي التمتع وبخاصة عند من يقول إن التمتع والقران أفضل لم يشترط أن لا يأكل، لأن هذا الهدي عنده هو فضيلة لا كفارة تدفع العقوبة، ومن غلب شبهه بالكفارة قال: لا يأكله لاتفاقهم على أنه لا يأكل صاحب الكفارة من الكفارة، ولما كان هدي جزاء الصيد وفدية الأذى ظاهر من أمرهما أنهما كفارة لم يختلف هؤلاء الفقهاء في أنه لا يأكل منها. قال القاضي: فقد قلنا في حكم الهدي وفي جنسه وفي سنه وكيفية سوقه، وشروط صحته من الزمان والمكان، وصفة نحره وحكم الانتفاع به، وذلك ما قصدناه والله الموفق للصواب. وبتمام القول في هذا بحسب ترتيبنا تم القول في هذا الكتاب بحسب غرضنا ولله الشكر والحمد كثيرا على ما وفق وهدى ومن به من التمام والكمال. وكان الفراغ منه يوم الأربعاء التاسع من جمادى الأولى الذي هو عام أربعة وثمانين وخمسمائة، وهو جزء من كتاب المجتهد الذي وضعته منذ أزيد من عشرين عاما أو نحوها، والحمد لله رب العالمين. كان رضي الله عنه عزم حين تأليف الكتاب أولا ألا يثبت كتاب الحج، ثم بدا له بعد فأثبته. بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

======

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. 2*كتاب الجهاد

@-والقول المحيط بأصول هذا الباب ينحصر في جملتين: الجملة الأولى: في معرفة أركان الحرب. الثانية: في أحكام أموال المحاربين إذا تملكها المسلمون. 3*(الجملة الأولى) وفي هذه الجملة فصول سبعة:

@-أحدها: معرفة حكم هذه الوظيفة ولمن تلزم. والثاني: معرفة الذين يحاربون. والثالث: معرفة ما يجوز من النكاية في صنف صنف من أصناف أهل الحرب مما لا يجوز. والرابع: معرفة جواز شروط الحرب. والخامس: معرفة العدد الذين لا يجوز الفرار عنهم. والسادس: هل تجوز المهادنة؟. والسابع: لماذا يحاربون؟. 4*الفصل الأول في معرفة حكم هذه الوظيفة.

@-فأما حكم هذه الوظيفة فأجمع العلماء على أنها فرض على الكفاية لا فرض عين، إلا عبد الله بن الحسن، فإنه قال إنها تطوع، وإنما صار الجمهور لكونه فرضا لقوله تعالى {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} الآية. وأما كونه فرضا على الكفاية، أعني إذا قام به البعض سقط عن البعض فلقوله تعالى {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} الآية، وقوله {وكلا وعد الله الحسنى} ولم يخرج قط رسول الله ﷺ للغزو إلا وترك بعض الناس، فإذا اجتمعت هذه اقتضى ذلك كون هذه الوظيفة فرضا على الكفاية. وأما على من يجب فهم الرجال الأحرار البالغون الذين يجدون بما يغزون الأصحاء إلا المرضى وإلا الزمنى، وذلك لا خلاف فيه لقوله تعالى {ليس على الأعمى حرج ولا على المريض حرج ولا على الأعرج حرج} وقوله {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج} الآية. وأما كون هذه الفريضة تختص بالأحرار فلا أعلم فيها خلافا، وعامة الفقهاء متفقون على أن من شرط هذه الفريضة إذن الأبوين فيها، إلا أن تكون عليه فرض عين مثل أن لا يكون هنالك من يقوم بالفرض إلا بقيام الجميع به، والأصل في هذا ما ثبت "أن رجلا قال لرسول الله ﷺ "إني أريد الجهاد، قال: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد" واختلفوا في إذن الأبوين المشركين. وكذلك اختلفوا في إذن الغريم إذا كان عليه دين لقوله عليه الصلاة والسلام وقد سأله الرجل "أيكفر الله عني خطاياي إن مت صابرا محتسبا في سبيل الله؟ قال: نعم إلا الدين كذلك قال لي جبريل آنفا" والجمهور على جواز ذلك، وبخاصة إذا تخلف وفاء من دينه. 4*الفصل الثاني في معرفة الذين يحاربون.

@-فأما الذين يحاربون فاتفقوا على أنهم جميع المشركين لقوله تعالى {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} إلا ما روي عن مالك أنه قال: لا يجوز ابتداء الحبشة بالحرب ولا الترك، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال "ذروا الحبشة ما وذرتكم" وقد سئل مالك عن صحة هذا الأثر فلم يعترف بذلك لكن قال: لم يزل الناس يتحامون غزوهم. 4*الفصل الثالث في معرفة ما يجوز من النكاية بالعدو.

@-وأما ما يجوز من النكاية بالعدو، فإن النكاية لا تخلو أن تكون في الأموال أو في النفوس أو في الرقاب، أعني الاستعباد والتملك. فأما النكاية التي هي الاستعباد فهي جائزة بطريق الإجماع في جميع أنواع المشركين، أعني ذكرانهم وإناثهم وشيوخهم وصبيانهم صغارهم وكبارهم إلا الرهبان، فإن قوما رأوا أن يتركوا ولا يؤسروا بل يتركوا دون أن يعرض إليهم لا بقتل ولا باستعباد لقول رسول الله ﷺ "فذروهم وما حبسوا أنفسهم إليه" واتباعا لفعل أبي بكر، وأكثر العلماء على أن الإمام مخير في الأسارى في خصال: منها أن يمن عليهم، ومنها أن يستعبدهم، ومنها أن يقتلهم، ومنها أن يأخذ منهم الفداء، ومنها أن يضرب عليهم الجزية. وقال قوم: لا يجوز قتل الأسير. وحكى الحسن بن محمد التميمي أنه إجماع الصحابة. والسبب في اختلافهم تعارض الآية في هذا المعنى وتعارض الأفعال ومعارضة ظاهر الكتاب لفعله عليه الصلاة والسلام، وذلك أن ظاهر قوله تعالى {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} الآية، أنه ليس للإمام بعد الأسر إلا المن أو الفداء وقوله تعالى {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض} الآية. والسبب الذي نزلت فيه من أسارى بدر يدل على أن القتل أفضل من الاستعباد، وأما هو عليه الصلاة والسلام فقد قتل الأسارى في غير ما موطن وقد من واستعبد النساء. وحكى أبو عبيد أنه لم يستعبد أحرار ذكور العرب وأجمعت الصحابة بعده على استعباد أهل الكتاب ذكرانهم وإناثهم، فمن رأى أن الآية الخاصة بفعل الأسارى ناسخة لفعله قال: لا يقتل الأسير، ومن رأى أن الآية ليس فيها ذكر لقتل الأسير ولا المقصود منها حصر ما يفعل بالأسارى بل فعله عليه الصلاة والسلام وهو حكم زائد على ما في الآية، ويحط العتب الذي وقع في ترك قتل أسارى بدر قال: بجواز قتل الأسير، والقتل إنما يجوز إذا لم يكن يوجد بعد تأمين، وهذا ما لا خلاف فيه بين المسلمين، وإنما اختلفوا فيمن يجوز تأمينه ممن لا يجوز، واتفقوا على جواز تأمين الإمام، وجمهور العلماء على جواز أمان الرجل الحر المسلم إلا ما كان من ابن الماجشون يرى أنه موقوف على إذن الإمام. واختلفوا في أمان العبد وأمان المرأة، فالجمهور على جوازه، وكان ابن الماجشون وسحنون يقولان: أمان المرأة موقوف على إذن الإمام. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أمان العبد إلا أن يقاتل. والسبب في اختلافهم معارضة العموم للقياس. أما العموم فقوله عليه الصلاة والسلام "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم" فهذا يوجب أمان العبد بعمومه. وأما القياس المعارض له فهو أن الأمان من شرطه الكمال، والعبد ناقص بالعبودية، فوجب أن يكون للعبودية تأثير في إسقاطه قياسا على تأثيرها في إسقاط كثير من الأحكام الشرعية وأن يخصص ذلك العموم بهذا القياس. وأما اختلافهم في أمان المرأة، فسببه اختلافهم في مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" وقياس المرأة في ذلك على الرجل، وذلك أن من فهم من قوله عليه الصلاة والسلام "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" إجازة أمانها لا صحته في نفسه، وأنه لولا إجازته لذلك لم يؤثر قال: لا أمان للمرأة إلا أن يجيزه الإمام، ومن فهم من ذلك أن إمضاءه أمانها كان من جهة أنه قد انعقد وأثر لا من جهة أن إجازته هي التي صححت عقده قال: أمان المرأة جائز، وكذلك من قاسها على الرجل ولم ير بينهما فرقا في ذلك أجاز أمانها، ومن رأى أنها ناقصة عن الرجل لم يجز أمانها، وكيفما كان فالأمان غير مؤثر في الاستعباد وإنما يؤثر في القتل، وقد يمكن أن ندخل الاختلاف في هذا من قبل اختلافهم في ألفاظ جموع المذكر هل تتناول النساء أم لا؟ أعني بحسب العرف الشرعي. وأما النكاية التي تكون في النفوس فهي القتل ولا خلاف بين المسلمين أنه يجوز في الحرب قتل المشركين الذكران البالغين المقاتلين. وأما القتل بعد الأسر ففيه الخلاف الذي ذكرنا، وكذلك لا خلاف بينهم في أنه لا يجوز قتل صبيانهم ولا قتل نسائهم ما لم تقاتل المرأة والصبي، فإذا قاتلت المرأة استبيح دمها، وذلك لما ثبت "أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل النساء والولدان، وقال في امرأة مقتولة: ما كانت هذه لتقاتل" واختلفوا في أهل الصوامع المنتزعين عن الناس والعميان والزمنى والشيوخ الذين لا يقاتلون والمعتوه والحراث والعسيف، فقال مالك: لا يقتل الأعمى ولا المعتوه ولا أصحاب الصوامع، ويترك لهم من أموالهم بقدر ما يعيشون به، وكذلك لا يقتل الشيخ الفاني عنده، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال الثوري والأوزاعي: لا تقتل الشيوخ فقط. وقال الأوزاعي: لا تقتل الحراث. وقال الشافعي في الأصح عنه تقتل جميع هذه الأصناف. والسبب في اختلافهم معارضة بعض الآثار بخصوصها لعموم الكتاب، ولعموم قوله عليه الصلاة والسلام الثابت "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الله إلا الله" الحديث، وذلك في قوله تعالى {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} يقتضي قتل كل مشرك راهبا كان أو غيره، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله". وأما الآثار التي وردت باستبقاء هذه الأصناف؛ فمنها ما رواه داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس "أن النبي ﷺ كان إذا بعث جيوشه قال: لا تقتلوا أصحاب الصوامع" ومنها أيضا ما روي عن أنس بن مالك عن النبي عليه الصلاة والسلام قال "لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة ولا تغلوا" خرجه أبو داود، ومن ذلك أيضا ما رواه مالك عن أبي بكر أنه قال: ستجدون قوما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فدعهم وما حبسوا أنفسهم له، وفيه: ولا تقتلن امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما". ويشبه أن يكون السبب الأملك في الاختلاف في هذه المسألة معارضة قوله تعالى {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} لقوله تعالى {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} الآية. فمن رأى أن هذه ناسخة لقوله تعالى {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} لأن القتال أولا إنما أبيح لمن يقاتل قال: الآية على عمومها، ومن رأى أن قوله تعالى {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} وهي محكمة وأنها تتناول (قوله تتناول الخ: هكذا هذه العبارة ولينظر التناول بعد قوله يقاتلونكم تأمل ا هـ مصححه). هؤلاء الأصناف الذين لا يقاتلون استثناها من عموم تلك، وقد احتج الشافعي بحديث سمرة أن رسول الله ﷺ قال "اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم" وكأن العلة الموجبة للقتل عنده إنما هي الكفر، فوجب أن تطرد هذه العلة في جميع الكفار. وأما من ذهب إلى أنه لا يقتل الحراث، فإنه احتج في ذلك بما روي عن زيد بن وهب قال: أتانا كتاب عمر رضي الله عنه وفيه: لا تغلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا واتقوا الله في الفلاحين. وجاء في حديث رباح بن ربيعة النهي عن قتل العسيف المشرك وذلك "أنه خرج مع رسول الله ﷺ في غزوة غزاها، فمر رباح وأصحاب رسول الله ﷺ على امرأة مقتولة، فوقف رسول الله ﷺ عليها ثم قال: ما كانت هذه لتقاتل، ثم نظر في وجوه القوم فقال لأحدهم: الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا ولا امرأة". والسبب الموجب بالجملة لاختلافهم اختلافهم في العلة الموجبة للقتل، فمن زعم أن العلة الموجبة لذلك هي الكفر لم يستثن أحدا من المشركين، ومن زعم أن العلة في ذلك إطاقة القتال للنهي عن قتل النساء مع أنهن كفار استثنى من لم يطق القتال ومن لم ينصب نفسه إليه كالفلاح والعسيف. وصح النهي عن المثلة، واتفق المسلمون على جواز قتلهم بالسلاح، واختلفوا في تحريقهم بالنار، فكره قوم تحريقهم بالنار ورميهم بها وهو قول عمر. ويروى عن مالك، وأجاز ذلك سفيان الثوري، وقال بعضهم: إن ابتدأ العدو بذلك جاز وإلا فلا. والسبب في اختلافهم معارضة العموم للخصوص. أما قوله تعالى {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} ولم يستثن قتلا من قتل. وأما الخصوص فما ثبت أن رسول الله ﷺ قال في رجل "إن قدرتم عليه فاقتلوه ولا تحرقوه بالنار فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار" واتفق عوام الفقهاء على جواز رمي الحصون بالمجانيق سواء كان فيها نساء وذرية أو لم يكن لما جاء "أن النبي عليه الصلاة والسلام نصب المنجنيق على أهل الطائف"؛ وأما إذا كان الحصن فيه أسارى من المسلمين وأطفال من المسلمين، فقالت طائفة: يكف عن رميهم بالمنجنيق وبه قال الأوزاعي. وقال الليث: ذلك جائز ومعتمد من لم يجزه قوله تعالى {لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما} الآية. وأما من أجاز ذلك فكأنه نظر إلى المصلحة، فهذا هو مقدار النكاية التي يجوز أن تبلغ بهم في نفوسهم ورقابهم. وأما النكاية التي تجوز في أموالهم وذلك في المباني والحيوان والنبات فإنهم اختلفوا في ذلك، فأجاز مالك قطع الشجر والثمار وتخريب العامر، ولم يجز قتل المواشي ولا تحريق النخل، وكره الأوزاعي قطع الشجر المثمر وتخريب العامر كنيسة كان أو غير ذلك، وقال الشافعي: تحرق البيوت والشجر إذا كانت لهم معاقل، وكره تخريب البيوت وقطع الشجر إذا لم يكن لهم معاقل. والسبب في اختلافهم مخالفة فعل أبي بكر في ذلك لفعله عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه ثبت "أنه عليه الصلاة والسلام حرق نخل بني النضير" وثبت عن أبي بكر أنه قال: لا تقطعن شجرا ولا تخربن عامرا، فمن ظن أن فعل أبي بكر هذا إنما كان لمكان علمه بنسخ ذلك الفعل منه ﷺ، إذ لا يجوز على أبي بكر أن يخالفه مع علمه بفعله، أو رأى أن ذلك كان خاصا ببني النضير لغزوهم قال بقول أبي بكر، ومن اعتمد فعله عليه الصلاة والسلام ولم ير قول أحد ولا فعله حجة عليه قال: بتحريق الشجر. وإنما فرق مالك بين الحيوان والشجر لأن قتل الحيوان مثلة وقد نهى عن المثلة، ولم يأت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قتل حيوانا، فهذا هو معرفة النكاية التي يجوز أن تبلغ من الكفار في نفوسهم وأموالهم. 4*الفصل الرابع في شرط الحرب.

@-فأما شرط الحرب فهو بلوغ الدعوة باتفاق، أعني أنه لا يجوز حرابتهم حتى يكونوا قد بلغتهم الدعوة، وذلك شيء مجمع عليه من المسلمين لقوله تعالى {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} وأما هل يجب تكرار الدعوة عند تكرار الحرب فإنهم اختلفوا في ذلك، فمنهم من أوجبها، ومنهم من استحبها ومنهم من لم يوجبها ولا استحبها. والسبب في اختلافهم معارضة القول للفعل، وذلك "أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام كان إذا بعث سرية قال لأميرها: إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دراهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبو فاستعن بالله وقاتلهم" وثبت من فعله عليه الصلاة والسلام أنه كان يبيت للعدو ويغير عليهم مع الغدوات، فمن الناس وهم الجمهور من ذهب إلى أن فعله ناسخ لقوله وأن ذلك إنما كان في أول الإسلام قبل أن تنتشر الدعوة بدليل دعوتهم فيه إلى الهجرة، ومن الناس من رجح القول على الفعل، وذلك بأن حمل الفعل على الخصوص، ومن استحسن الدعاء فهو وجه من الجمع. 4*الفصل الخامس في معرفة العدد الذين لا يجوز الفرار عنهم.

@-وأما معرفة العدد الذين لا يجوز الفرار عنهم فهم الضعف، وذلك مجمع عليه لقوله تعالى {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا} الآية. وذهب ابن الماجشون ورواه عن مالك أن الضعف إنما يعتبر في القوة لا في العدد، وأنه يجوز أن يفر الواحد عن الواحد إذا كان أعتق جوادا منه وأجود سلاحا وأشد قوة. 4*الفصل السادس في جواز المهادنة.

@-فأما هل تجوز المهادنة؟ فإن قوما أجازوها ابتداء من غير سبب إذا رأى ذلك الإمام مصلحة للمسلمين، وقوم لم يجيزوها إلا لمكان الضرورة الداعية لأهل الإسلام من فتنة أو غير ذلك إما بشيء يأخذونه منهم لا على حكم الجزية إذ كانت الجزية إنما شرطها أن تؤخذ منهم وهم بحيث تنفذ عليهم أحكام المسلمين، وإما بلا شيء يأخذونه منهم، وكان الأوزاعي يجيز أن يصالح الإمام الكفار على شيء يدفعه المسلمون إلى الكفار إذا دعت إلى ذلك ضرورة فتنة أو غير ذلك من الضرورات. وقال الشافعي: لا يعطي المسلمون الكفار شيئا إلا أن يخافوا أن يصطلموا لكثرة العدو وقلتهم أو لمحنة نزلت بهم، وممن قال بإجازة الصلح إذا رأى الإمام ذلك مصلحة مالك والشافعي وأبو حنيفة، إلا أن الشافعي لا يجوز عنده الصلح لأكثر من المدة التي صالح عليها رسول الله ﷺ الكفار عام الحديبية. وسبب اختلافهم في جواز الصلح من غير ضرورة معارضة ظاهر قوله تعالى {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وقوله تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} لقوله تعالى {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله} فمن رأى أن آية الأمر بالقتال حتى يسلموا أو يعطوا الجزية ناسخة لآية الصلح قال: لا يجوز الصلح إلا من ضرورة، ومن رأى أن آية الصلح مخصصة لتلك قال: الصلح جائز إذا رأى ذلك الإمام وعضد تأويله بفعله ذلك ﷺ، وذلك أن صلحه ﷺ عام الحديبية لم يكن لموضع الضرورة. وأما الشافعي فلما كان الأصل عنده الأمر بالقتال حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، وكان هذا مخصصا عنده بفعله عليه الصلاة والسلام عام الحديبية لم ير أن يزاد على المدة التي صالح عليها رسول الله ﷺ، وقد اختلف في هذه المدة، فقيل كانت أربع سنين وقيل ثلاثا، وقيل عشر سنين، وبذلك قال الشافعي. وأما من أجاز أن يصالح المسلمون المشركين بأن يعطوا لهم المسلمون شيئا إذا دعت إلى ذلك ضرورة فتنة أو غيرها فمصيرا إلى ما روي "أنه كان عليه الصلاة والسلام قد هم أن يعطي بعض ثمر المدينة لبعض الكفار الذين كانوا في جملة الأحزاب لتخبيبهم، فلم يوافقه على القدر الذي كان سمح له به من ثمر المدينة حتى أفاء الله بنصره". وأما من لم يجز ذلك إلا أن يخاف المسلمون أن يصطلموا فقياسا على إجماعهم على جواز فداء أسارى المسلمين، لأن المسلمين إذا صاروا في هذا الحد فهم بمنزلة الأسارى. 4*الفصل السابع لماذا يحاربون؟

@-فأما لماذا يحاربون؟ فاتفق المسلمون على أن المقصود بالمحاربة لأهل الكتاب ما عدا أهل الكتاب من قريش ونصارى العرب هو أحد أمرين: إما الدخول في الإسلام، وإما إعطاء الجزية لقوله تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} وكذلك اتفق عامة الفقهاء على أخذها من المجوس لقوله ﷺ "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" واختلفوا فيما سوى أهل الكتاب من المشركين هل تقبل منهم الجزية أم لا؟ فقال قوم: تؤخذ الجزية من كل مشرك، وبه قال مالك. وقوم استثنوا من ذلك مشركي العرب. وقال الشافعي وأبو ثور وجماعة: لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب والمجوس. والسبب في اختلافهم معارضة العموم للخصوص. أما العموم فقوله تعالى {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} وقوله عليه الصلاة والسلام "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" وأما الخصوص فقوله لأمراء السرايا الذين كان يبعثهم إلى مشركي العرب، ومعلوم أنهم كانوا من غير أهل كتاب "فإذا لقيت عدوك فادعهم إلى ثلاث خصال، فذكر الجزية فيها" وقد تقدم الحديث. فمن رأى أن العموم إذا تأخر عن الخصوص فهو ناسخ له قال: لا تقبل الجزية من مشرك ما عدا أهل الكتاب لأن الآية الآمرة بقتالهم على العموم هي متأخرة عن ذلك الحديث وذلك أن الأمر بقتال المشركين عامة هو في سورة براءة، ذلك عام الفتح، وذلك الحديث إنما هو قبل الفتح بدليل دعائهم فيه للهجرة، ومن رأى أن العموم يبني على الخصوص تقدم أو تأخر أو جهل التقدم والتأخر بينهما قال: تقبل الجزية من جميع المشركين وأما تخصيص أهل الكتاب من سائر المشركين فخرج من ذلك العموم باتفاق بخصوص قوله تعالى {من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} وسيأتي القول في الجزية وأحكامها في الجملة الثانية من هذا الكتاب، فهذه هي أركان الحرب. ومما يتعلق بهذه الجملة من المسائل المشهورة: النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو، وعامة الفقهاء على أن ذلك غير جائز لثبوت ذلك عن رسول الله ﷺ. وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك إذا كان في العساكر المأمونة. والسبب في اختلافهم هل النهي عام أريد به العام أو عام أريد به الخاص. 3*(الجملة الثانية) والقول المحيط بأصول هذه الجملة ينحصر أيضا في سبعة فصول: الأول: في حكم الخمس. الثاني: في حكم الأربعة الأخماس. الثالث: في حكم الأنفال. الرابع: في حكم ما وجد من أموال المسلمين عند الكفار. الخامس: في حكم الأرضين. السادس: في حكم الفيء. السابع: في أحكام الجزية والمال الي يؤخذ منهم على طريق الصلح.

4*الفصل الأول في حكم خمس الغنيمة.

@-واتفق المسلمون على أن الغنيمة التي تؤخذ قسرا من أيدي الروم ما عدا الأرضين أن خمسها للإمام وأربعة أخماسها للذين غنموها لقوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول} الآية. واختلفوا في الخمس على أربعة مذاهب مشهورة: أحدها أن الخمس يقسم على خمسة أقسام على نص الآية، وبه قال الشافعي. والقول الثاني أنه يقسم على أربعة أخماس، وأن قوله تعالى {فأن لله خمسه} هو افتتاح كلام وليس هو قسما خامسا. والقول الثالث أنه يقسم اليوم ثلاثة أقسام، وأن سهم النبي وذي القربى سقطا بموت النبي ﷺ. والقول الرابع أن الخمس بمنزلة الفيء يعطى منه الغني والفقير، وهو قول مالك وعامة الفقهاء. والذين قالوا يقسم أربعة أخماس أو خمسة اختلفوا فيما يفعل بسهم رسول الله ﷺ وسهم القرابة بعد موته. فقال قوم: يرد على سائر الأصناف الذين لهم الخمس. وقال قوم: بل يرد على باقي الجيش. وقال قوم: بل سهم رسول الله ﷺ للإمام، وسهم ذوي القربى لقرابة الإمام. وقال قوم: بل يجعلان في السلاح والعدة. واختلفوا في القرابة من هم؟ فقال قوم: بنو هاشم فقط، وقال قوم: بنو عبد المطلب وبنو هاشم. وسبب اختلافهم في هل الخمس يقصر على الأصناف المذكورين أم يعدي لغيرهم هو هل ذكر تلك الأصناف في الآية المقصود منها تعيين الخمس لهم أم قصد التنبيه بهم على غيرهم فيكون ذلك من باب الخاص أريد به العام؟ فمن رأى أنه من باب الخاص أريد به الخاص قال: لا يتعدى بالخمس تلك الأصناف المنصوص عليها وهو الذي عليه الجمهور، ومن رأى أنه من باب الخاص أريد به العام قال يجوز للإمام أن يصرفها فيما يراه صلاحا للمسلمين، واحتج من رأى أن سهم النبي ﷺ للإمام بعده بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "إذا أطعم الله نبيا طعمة فهو للخليفة بعده" وأما من صرفه على الأصناف الباقين أو على الغانمين فتشبيها بالصنف المحبس عليهم. وأما من قال القرابة هم بنو هاشم وبنو عبد المطلب فإنه احتج بحديث جبير بن مطعم قال "قسم رسول الله ﷺ سهم ذوي القربى لبني هاشم وبني المطلب من الخمس" قال: وإنما بنو هاشم وبنو المطلب صنف واحد، ومن قال بنو هاشم صنف فلأنهم الذين لا يحل لهم الصدقة. واختلف العلماء في سهم النبي ﷺ من الخمس؛ فقال قوم: الخمس فقط، ولا خلاف عندهم في وجوب الخمس له غاب عن القسمة أو حضرها. وقال قوم: بل الخمس والصفي وهو سهم مشهور له ﷺ، وهو شيء كان يصطفيه من رأس الغنيمة فرس أو أمة أو عبد. وروي أن صفية كانت من الصفي. وأجمعوا على أن الصفي ليس لأحد من بعد رسول الله ﷺ إلا أبا ثور فإنه قال: يجري مجرى سهم النبي ﷺ. 4*الفصل الثاني في حكم الأربعة الأخماس.

@-وأجمع جمهور العلماء على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين إذا خرجوا بإذن الإمام. واختلفوا في الخارجين بغير إذن الإمام وفيمن يجب له سهمه من الغنيمة ومتى يجب وكم يجب وفيما يجوز له من الغنيمة قبل القسم؟ فالجمهور على أن أربعة أخماس الغنيمة للذين غنموها خرجوا بإذن الإمام أو بغير ذلك لعموم قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء} الآية. وقال قوم: إذا خرجت السرية أو الرجل الواحد بغير إذن الإمام فكل ما ساق نفل يأخذه الإمام، وقال قوم: بل يأخذه كله الغانم. فالجمهور تمسكوا بظاهر الآية، وهؤلاء كأنهم اعتمدوا صورة الفعل الواقع في ذلك في عهد رسول الله ﷺ، وذلك أن جميع السرايا إنما كانت تخرج عن إذنه عليه الصلاة والسلام، فكأنهم رأوا أن إذن الإمام شرط في ذلك وهو ضعيف. وأما من له السهم من الغنيمة؟ فإنهم اتفقوا على الذكران الأحرار البالغين، واختلفوا في أضدادهم: أعني في النساء والعبيد ومن لم يبلغ من الرجال ممن قارب البلوغ فقال قوم ليس للعبيد ولا للنساء حظ من الغنيمة ولكن يرضخ لهم، وبه قال مالك، وقال قوم: لا يرضخ لهم ولا لهم حظ الغانمين، وقال قوم: بل لهم حظ واحد من الغانمين، وهو قول الأوزاعي. وكذلك اختلفوا في الصبي المراهق، فمنهم من قال: يقسم له وهو مذهب الشافعي، ومنهم من اشترط في ذلك أن يطيق القتال، وهو مذهب مالك، ومنه من قال: يرضخ له. وسبب اختلافهم في العبيد هو هل عموم الخطاب يتناول الأحرار والعبيد معا أم الأحرار فقط دون العبيد؟ وأيضا فعمل الصحابة معارض لعموم الآية، وذلك أنه انتشر فيهم رضي الله عنهم أن الغلمان لا سهم لهم، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس، ذكره ابن أبي شبية من طرق عنهما، قال أبو عمر بن عبد البر: أصح ما روي من ذلك عن عمر ما رواه سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قال عمر: ليس أحد إلا وله في هذا المال حق إلا ما ملكت أيمانكم، وإنما صار الجمهور إلى أن المرأة لا يقسم لها ويرضخ بحديث أم عطية الثابت قالت: "كنا نغزو مع رسول الله ﷺ فنداوي الجرحى ونمرض المرضى وكان يرضخ لنا من الغنيمة". وسبب اختلافهم هو اختلافهم في تشبيه المرأة بالرجل في كونها إذا غزت لها تأثير في الحرب أم لا؟ فإنهم اتفقوا على أن النساء مباح لهن الغزو، فمن شبههن بالرجال أوجب لهن نصيبا في الغنيمة، ومن رآهن ناقصات عن الرجال في هذا المعنى إما لم يوجب لهن شيئا وإما أوجب لهن دون حظ الغانمين وهو الإرضاخ، والأولى اتباع الأثر، وزعم الأوزاعي "أن رسول الله ﷺ أسهم للنساء بخيبر" وكذلك اختلفوا في التجار والأجراء هل يسهم لهم أم لا؟ فقال مالك: لا يسهم لهم إلا أن يقاتلوا، وقال قوم: بل يسهم إذا شهدوا القتال. وسبب اختلافهم هو تخصيص عموم قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} بالقياس الذي يوجب الفرق بين هؤلاء وسائر الغانمين، وذلك أن من رأى أن التجار والأجراء حكمهم حكم خلاف سائر المجاهدين لأنهم لم يقصدوا القتال وإنما قصدوا إما التجارة وإما الإجارة استثناهم من ذلك العموم. ومن رأى أن العموم أقوى من هذا القياس أجرى العموم على ظاهره، ومن حجة من استثناهم ما خرجه عبد الرزاق أن عبد الرحمن بن عوف قال لرجل من فقراء المهاجرين أن يخرج معهم، فقال نعم فوعده، فلما حضر الخروج دعاه فأبى أن يخرج معه واعتذر له بأمر عياله وأهله، فأعطاه عبد الرحمن ثلاثة دنانير على أن يخرج معه، فلما هزموا العدو سأل الرجل عبد الرحمن نصيبه من المغنم فقال عبد الرحمن: سأذكر أمرك لرسول الله ﷺ، فذكره له، فقال رسول الله ﷺ "تلك الثلاثة دنانير حظه ونصيبه من غزوه في أمر دنياه وآخرته" وخرج مثله أبو داود عن يعلى بن منبه ومن أجاز له القسم شبهه بالجعائل أيضا وهو أن يعين أهل الديوان بعضهم بعضا، أعني أن يعين القاعد منهم الغازي. وقد اختلف العلماء في الجعائل، فأجازها مالك ومنعها غيره، ومنهم من أجاز ذلك من السلطان فقط أو إذا كانت ضرورة، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وأما الشرط الذي يجب به للمجاهد السهم من الغنيمة، فإن الأكثر على أنه إذا شهد القتال وجب له السهم وإن لم يقاتل، وأنه إذا جاء بعد القتال فليس له سهم في الغنيمة، وبهذا قال الجمهور. وقال قوم: إذا لحقهم قبل أن يخرجوا إلى دار الإسلام وجب له حظه من الغنيمة إن اشتغل في شيء من أسبابها، وهو قول أبي حنيفة. والسبب في اختلافهم سببان: القياس والأثر. أما القياس فهو هل يلحق تأثير الغازي في الحفظ بتأثيره في الأخذ؟ وذلك أن الذي شهد القتال له تأثير في الأخذ: أعني في أخذ الغنيمة وبذلك استحق السهم، والذي جاء قبل أن يصلوا إلى بلاد المسلمين له تأثير في الحفظ، فمن شبه التأثير في الحفظ بالتأثير في الأخذ قال: يجب له السهم وإن لم يحضر القتال، ومن رأى أن الحفظ أضعف لم يوجب له. وأما الأثر فإن في ذلك أثرين متعارضين: أحدهما ما روي عن أبي هريرة "أن رسول الله ﷺ بعث أبان بن سعيد على سرية من المدينة قبل نجد، فقدم أبان وأصحابه على النبي ﷺ بخيبر بعد ما فتحوها فقال أبان: اقسم لنا يا رسول الله، فلم يقسم له رسول الله ﷺ منها" والأثر الثاني ما روي أن رسول الله ﷺ قال يوم بدر "إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله، فضرب له رسول الله ﷺ بسهم ولم يضرب لأحد غاب عنها" قالوا: فوجب له السهم لأن اشتغاله كان بسبب الإمام. قال أبو بكر بن المنذر: وثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: الغنيمة لمن شهد الوقيعة. وأما السرايا التي تخرج من العساكر فتغنم، فالجمهور على أن أهل العسكر يشاركونهم فيما غنموا وإن لم يشهدوا الغنيمة ولا القتال، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام "وترد سراياهم على قعدتهم" خرجه أبو داود، ولأن لهم تأثير أيضا في أخذ الغنيمة. وقال الحسن البصري: إذا خرجت السرية بإذن الإمام من عسكره خمسها وما بقي فلأهل السرية، وإن خرجوا بغير إذنه خمسها، وكان ما بقي بين أهل الجيش كله. وقال النخعي: الإمام بالخيار إن شاء خمس ما ترد السرية وإن شاء نفله كله. والسبب أيضا في هذا الاختلاف هو تشبيه تأثير العسكر في غنيمة السرية بتأثير من حضر القتال بها وهم أهل السرية، فإذن الغنيمة إنما تجب عند الجمهور للمجاهد بأحد شرطين: إما أن يكون ممن حضر القتال، وإما أن يكون ردءا لمن حضر القتال، وأما كم يجب للمقاتل فإنهم اختلفوا في الفارس، فقال الجمهور: للفارس ثلاثة أسهم: سهم له، وسهمان لفرسه. وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان: سهم لفرسه، وسهم له. والسبب في اختلافهم اختلاف الآثار ومعارضة القياس للأثر، وذلك أن أبا داود خرج عن ابن عمر "أن النبي ﷺ أسهم لرجل وفرسه ثلاثة أسهم: سهمان للفرس، وسهم لراكبه" وخرج أيضا عن مجمع بن حارثة الأنصاري مثل قول أبي حنيفة. وأما القياس المعارض لظاهر حديث ابن عمر فهو أن يكون سهم الفرس أكبر من سهم الإنسان، هذا الذي اعتمده أبو حنيفة في ترجيح الحديث الموافق لهذا القياس على الحديث المخالف له، وهذا القياس ليس بشيء، لأن سهم الفرس إنما استحقه الإنسان الذي هو الفارس بالفرس وغير بعيد أن يكون تأثير الفارس بالفرس في الحرب ثلاثة أضعاف تأثير الراجل بل لعله واجب مع أن حديث ابن عمر أثبت. وأما ما يجوز للمجاهد أن يأخذ من الغنيمة قبل القسم فإن المسلمون اتفقوا على تحريم الغول لما ثبت في ذلك عن رسول الله ﷺ مثل قوله عليه الصلاة والسلام "أد الخائط والمخيط، فإن الغلول عار وشنار على أهله يوم القيامة" إلى غير ذلك من الآثار الواردة في هذا الباب. واختلفوا في إباحة الطعام للغزاة ما داموا في أرض الغزو فأباح ذلك الجمهور، ومنع من ذلك قوم وهو مذهب ابن شهاب. والسبب في اختلافهم معارضة الآثار التي جاءت في تحريم الغلول للآثار الواردة في إباحة أكل الطعام من حديث ابن عمر وابن المغفل وحديث ابن أبي أوفى، فمن خصص أحاديث تحريم الغلول بهذه أجاز أكل الطعام للغزاة، ومن رجح أحاديث تحريم الغلول على هذا لم يجز ذلك، وحديث ابن مغفل هو قال: "أصبت جراب شحم يوم خيبر، فقلت لا أعطي منه شيئا، فالتفت فإذا رسول الله ﷺ يبتسم" خرجه البخاري ومسلم. وحديث ابن أبي أوفى قال "كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا ندفعه" خرجه أيضا البخاري. واختلفوا في عقوبة الغال، فقال قوم: يحرق رحله، وقال بعضهم: ليس له عقاب إلا التعزير. وسبب اختلافهم اختلافهم في تصحيح حديث صالح بن محمد بن زائدة عن سالم عن ابن عمر أنه قال: قال عليه الصلاة والسلام "من غل فأحرقوا متاعه". 4*الفصل الثالث في حكم الأنفال.

@-وأما تنفيل الإمام من الغنيمة لمن شاء، أعني أن يزيده على نصيبه، فإن العلماء اتفقوا على جواز ذلك، واختلفوا من أي شيء يكون النفل وفي مقداره وهل يجوز الوعد به قبل الحرب؟ وهل يجب السلب للقاتل أم ليس يجب إلا أن ينفله له الإمام؟ فهذه أربع مسائل هي قواعد هذا الفصل. @-(أما المسألة الأولى) فإن قوما قالوا: النفل يكون من الخمس الواجب لبيت مال المسلمين، وبه قال مالك: وقال قوم: بل النفل إنما يكون من خمس الخمس وهو حظ الإمام فقط، وهو الذي اختاره الشافعي. وقال قوم: بل النفل من جملة الغنيمة، وبه قال أحمد وأبو عبيدة، ومن هؤلاء من أجاز تنفيل جميع الغنيمة. والسبب في اختلافهم هو هل بين الآيتين الواردتين في المغانم تعارض أم هما على التخيير؟ أعني قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء} الآية، وقوله تعالى {يسألونك عن الأنفال} الآية. فمن رأى أن قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} ناسخا لقوله تعالى {يسألونك عن الأنفال} قال: لا نفل إلا من الخمس أو من خمس الخمس. ومن رأى أن الآيتين لا معارضة بينهما وأنهما على التخيير، أعني أن للإمام أن ينفل من رأس الغنيمة من شاء، وله ألا ينفل بأن يعطى جميع أرباع الغنيمة للغانمين قال بجواز النفل من رأس الغنيمة. ولاختلافهم أيضا سبب آخر وهو اختلاف الآثار في هذا الباب، وفي ذلك أثران: أحدهما ما روى مالك عن ابن عمر "أن رسول الله ﷺ بعث سرية فيها عبد الله ابن عمر قبل نجد فغنموا إبلا كثيرة، فكان سهمانهم اثني عشر بعيرا ونفلوا بعيرا بعيرا" وهذا يدل على أن النفل كان بعد القسمة من الخمس. والثاني حديث حبيب بن مسلمة "أن رسول الله ﷺ كان ينفل الربع من السرايا بعد الخمس في البداءة وينفلهم الثلث بعد الخمس في الرجعة" يعني في بداءة غزوه عليه الصلاة والسلام وفي انصرافه. @-(وأما المسألة الثانية) وهي ما مقدار ما للإمام أن ينفل من ذلك؟ عند الذين أجازوا النفل من رأس الغنيمة فإن قوما قالوا: لا يجوز أن ينفل أكثر من الثلث أو الربع على حديث حبيب بن مسلمة. وقال قوم: إن نفل الإمام السرية جميع ما غنمت جاز مصيرا إلى أن آية الأنفال غير منسوخة بل محكمة، وأنها على عمومها غير مخصصة. ومن رأى أنها مخصصة بهذا الأثر قال: لا يجوز أن ينفل أكثر من الربع أو الثلث. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي هل يجوز الوعد بالتنفيل قبل الحرب أم ليس يجوز ذلك؟ فإنهم اختلفوا فيه، فكره ذلك مالك وأجازه وجماعة. وسبب اختلافهم معارضة مفهوم مقصد الغزو لظاهر الأثر، وذلك أن الغزو إنما يقصد به وجه الله العظيم، ولتكون كلمة الله هي العليا، فإذا وعد الإمام بالنفل قبل الحرب خيف أن يسفك دماءهم الغزاة في حق غير الله. وأما الأثر الذي يقتضي ظاهره جواز الوعد بالنفل فهو حديث حبيب بن مسلمة "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان ينفل في الغزو السرايا الخارجة من العسكر الربع وفي القفول الثلث" ومعلوم أن المقصود من هذا إنما هو التنشيط على الحرب. @-(وأما المسألة الرابعة) وهي هل يجب سلب المقتول للقاتل أو ليس يجب إلا إن نفله له الإمام؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك: لا يستحق القاتل سلب المقتول إلا أن ينفله له الإمام على جهة الاجتهاد وذلك بعد الحرب، وبه قال أبو حنيفة والثوري. وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وإسحاق وجماعة السلف: واجب للقاتل قال ذلك الإمام أو لم يقله. ومن هؤلاء من جعل السلب له على كل حال ولم يشترط في ذلك شرطا. ومنهم من قال لا يكون له السلب إلا إذا قتله مقبلا غير مدبر، وبه قال الشافعي. ومنهم من قال: إنما يكون السلب للقاتل إذا كان القتل قبل معمعة الحرب أو بعدها. وأما إن قتله في حين المعمعة فليس له سلب، وبه قال الأوزاعي. وقال قوم: إن استكثر الإمام السلب جاز أن يخمسه. وسبب اختلافهم هو احتمال قوله عليه الصلاة والسلام يوم حنين بعد ما برد القتال "من قتل قتيلا فله سلبه" أن يكون ذلك منه عليه الصلاة والسلام على جهة النفل أو على جهة الاستحقاق للقاتل، ومالك رحمه الله قوي عنده أنه على جهة النفل من قبل أنه لم يثبت عنده أنه قال ذلك عليه الصلاة والسلام ولا قضى به إلا أيام حنين، ولمعارضة آية الغنيمة له إن حمل ذلك على الاستحقاق: أعني قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم من شيء} الآية. فإنه لما نص في الآية على أن الخمس لله علم أن الأربعة الأخماس واجبة للغانمين كما أنه لما نص على الثلث للأم في المواريث علم أن الثلثين للأب. قال أبو عمر: وهذا القول محفوظ عنه ﷺ في حنين وفي بدر. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: "كنا لا نخمس السلب على عهد رسول ﷺ". وخرج أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد "أن رسول الله ﷺ قضى بالسلب للقاتل" وخرج ابن أبي شيبة عن أنس بن مالك أن البراء بن مالك حمل على مرزبان يوم الدارة فطعنه طعنة على قربوس سرجه فقتله فبلغ سلبه ثلاثين ألفا، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال لأبي طلحة: إنا كنا لا نخمس السلب وإن سلب البراء قد بلغ مالا كثيرا ولا أراني إلا خمسته قال: قال ابن سيرين: فحدثني أنس بن مالك أنه أول سلب خمس في الإسلام، وبهذا تمسك من فرق بين السلب القليل والكثير. واختلفوا في السلب الواجب ما هو؟ فقال قوم: له جميع ما وجد على المقتول، واستثنى قوم من ذلك الذهب والفضة. 4*الفصل الرابع في حكم ما وجد من أموال المسلمين عند الكفار.

@-وأما أموال المسلمين التي تسترد من أيدي الكفار فإنهم اختلفوا في ذلك على أربعة أقوال مشهورة: أحدها أن ما استرد المسلمون من أيدي الكفار من أموال المسلمين فهو لأربابها من المسلمين وليس للغزاة المستردين لذلك منها شيء، وممن قال بهذا القول الشافعي وأصحابه وأبو ثور، والقول الثاني أن ما استرد المسلمون من ذلك فهو غنيمة الجيش ليس لصاحبه منه شيء، وهذا القول قاله الزهري وعمرو بن دينار، وهو مروي عن علي بن أبي طالب. والقول الثالث أن ما وجد من أموال المسلمين قبل القسم فصاحبه أحق به بلا ثمن، وما وجد من ذلك بعد القسم فصاحبه أحق به بالقيمة، وهؤلاء انقسموا قسمين: فبعضهم رأى هذا الرأي في كل ما استرده المسلمون من أيدي الكفار بأي وجه صار ذلك إلى أيدي الكفار، وفي أي موضع صار، وممن قال بهذا القول مالك والثوري وجماعة، وهو مروي عن عمر بن الخطاب. وبعضهم فرق بين ما صار من ذلك إلى أيدي الكفار غلبة وحازوه حتى أوصلوه إلى دار المشركين، وبين ما اخذ منهم قبل أن يحوزوه ويبلغوا به دار الشرك، فقالوا: ما حازوه فحكمه إن ألفاه صاحبه قبل القسم فهو له، وإن ألفاه بعد القسم فهو أحق به بالثمن. قالوا: وأما ما لم يحزه العدو بأن يبلغوا دارهم به فصاحبه أحق به قبل القسم وبعده، وهذا هو القول الرابع. واختلافهم راجع إلى اختلافهم في هل يملك الكفار على المسلمين أموالهم إذا غلبوهم عليها أم ليس يملكونها؟ وسبب اختلافهم في هذه المسألة تعارض الآثار في هذا الباب والقياس، وذلك أن حديث عمران بن حصين يدل على أن المشركين ليس يملكون على المسلمين شيئا، وهو قال: أغار المشركون على سرح المدينة وأخذوا العضباء ناقة رسول الله ﷺ وامرأة من المسلمين، فلما كانت ذات ليلة قامت المرأة وقد ناموا، فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا أرغى حتى أتت العضباء، فأتت ناقة ذلولا فركبتها ثم توجهت قبل المدينة ونذرت لئن نجاها الله لتنحرها، فلما قدمت إلى المدينة عرفت الناقة، فأتوا بها رسول الله ﷺ، فأخبرته المرأة بنذرها، فقال: "بئس ما جزيتها، لا نذر فيما لا يملك ابن آدم، ولا نذر في معصية" وكذلك يدل ظاهر حديث ابن عمر على مثل هذا، وهو أنه أغار له فرس فأخذها العدو فظهر عليه المسلمون، فردت عليه في زمان رسول الله ﷺ، وهما حديثان ثابتان. وأما الأثر الذي يدل على ملك الكفار على المسلمين فقوله عليه الصلاة والسلام "وهل ترك لنا عقيل من منزل" يعني أنه باع دوره التي كانت له بمكة بعد هجرته منها عليه الصلاة والسلام إلى المدينة. وأما القياس فإن من شبه الأموال بالرقاب قال الكفار كما لا يملكون رقابهم، فكذلك لا يملكون أموالهم كحال الباغي مع العادل، أعني أنه لا يملك عليهم الأمرين جميعا، ومن قال يملكون قال: من ليس يملك فهو ضامن للشيء إن فاتت عينه، وقد أجمعوا على أن الكفار غير ضامنين لأموال المسلمين، فلزم عن ذلك أن الكفار ليسوا بغير مالكين للأموال فهم مالكون، إذ لو كانوا غير مالكين لضمنوا. وأما من فرق بين الحكم قبل الغنم وبعده، وبين ما أخذه المشركون بغلبة أو بغير غلبة بأن صار إليهم من تلقائه مثل العبد الآبق والفرس العائد فليس له حظ من النظر، وذلك أنه ليس يجد وسطا بين أن يقول إما أن يملك المشرك على المسلم شيئا أو لا يملكه إلا أن يثبت في ذلك دليل سمعي، لكن أصحاب هذا المذهب إنما صاروا إليه لحديث الحسن بن عمارة عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس أن رجلا وجد بعيرا له كان المشركون قد أصابوه، فقال رسول الله ﷺ "إن أصبته قبل أن يقسم فهو لك، وإن أصبته بعد القسم أخذته بالقيمة" لكن الحسن بن عمارة مجتمع على ضعفه وترك الاحتجاج به عند أهل الحديث، والذي عول عليه مالك فيما أحسب من ذلك هو قضاء عمر بذلك، ولكن ليس يجعل له أخذه بالثمن بعد القسم على ظاهر حديثه واستثناء أبي حنيفة أم الولد والمدبر من سائر الأموال لا معنى له، وذلك أنه يرى أن الكفار يملكون على المسلمين سائر الأموال ما عدا هذين، وكذلك قول مالك في أم الولد إنه إذا أصابها مولاها بعد القسم أن على الإمام أن يفديها فإن لم يفعل أجبر سيدها على فدائها، فإن لم يكن له مال أعطيت له، واتبعه الذي أخرجت في نصيبه بقيمتها دينا متى أيسر هو قول أيضا ليس له حظ من النظر لأنه إن لم يملكها الكفار فقد يجب أن يأخذها بغير ثمن، وإن ملكوها فلا سبيل له عليها، وأيضا فإنه لا فرق بينها وبين سائر الأموال إلا أن يثبت في ذلك سماع، ومن هذا الأصل، أعني اختلافهم هل يملك المشرك مال المسلم أو لا يملك؟ اختلف الفقهاء في الكافر يسلم وبيده مال مسلم هل يصح له أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة: يصح له. وقال الشافعي: على أصله لا يصح له. واختلف مالك وأبو حنيفة إذا دخل مسلم إلى الكفار على جهة التلصص وأخذ مما في أيديهم مال مسلم، فقال أبو حنيفة: هو أولى به وإن أراده صاحبه أخذه بالثمن، وقال مالك: هو لصاحبه، فلم يجر على أصله. ومن هذا الباب اختلافهم في الحربي يسلم ويهاجر ويترك في دار ولده وزوجه وماله هل يكون لما ترك حرمة مال المسلم وزوجه وذريته فلا يجوز تملكهم للمسلمين إن غلبوا على ذلك أم ليس لما ترك حرمة؟ فمنهم من قال: لكل ما ترك حرمة الإسلام؛ ومنهم من قال: ليس له حرمة؛ ومنهم من فرق بين المال والزوجة والولد فقال: ليس للمال حرمة، وللولد والزوجة حرمة، وهذا جار على غير قياس وهو قول مالك، والأصل أن المبيح للمال هو الكفر، وأن العاصم له هو الإسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" فمن زعم أن ههنا مبيحا للمال غير الكفر من تملك عدو أو غيره فعليه الدليل، وليس ههنا دليل تعارض به هذه القاعدة، والله أعلم. 4*الفصل الخامس في حكم ما افتتح المسلمون من الأرض عنوة.

@-واختلفوا فيما افتتح المسلمون من الأرض عنوة. فقال مالك: لا تقسم الأرض وتكون وقفا يصرف خراجها في مصالح المسلمين من أرزاق المقاتلة وبناء القناطر والمساجد وغير ذلك من سبل الخير إلا أن يرى الإمام في وقت من الأوقات أن المصلحة تقتضي القسمة، فإن له أن يقسم الأرض. وقال الشافعي: الأرضون المفتتحة تقسم كما تقسم الغنائم: يعني خمسة أقسام. وقال أبو حنيفة: الإمام مخير بين أن يقسمها على المسلمين أو يضرب على أهلها الكفارة فيها الخراج ويقرها بأيديهم. وسبب اختلافهم ما يظن من التعارض بين آية سورة الأنفال وآية سورة الحشر، وذلك أن آية الأنفال تقتضي بظاهرها أن كل ما غنم يخمس، وهو قوله تعالى {واعلموا أنما غنمتم} وقوله تعالى في آية الحشر {والذين جاءوا من بعدهم} عطفا على ذكر الذين أوجب لهم الفيء يمكن أن يفهم منه أن جميع الناس الحاضرين والآتين شركاء في الفيء كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى {والذين جاءوا من بعدهم} ما أرى هذه الآية إلا قد عمت الخلق حتى الراعي بكداء أو كلاما هذا معناه، ولذلك لم تقسم الأرض التي افتتحت في أيامه عنوة من أرض العراق ومصر؛ فمن رأى أن الآيتين متواردتان على معنى واحد وأن آية الحشر مخصصة لآية الأنفال استثنى من ذلك الأرض؛ ومن رأى أن الآيتين ليستا متواردتين على معنى واحد، بل رأى أن آية الأنفال في الغنيمة وآية الحشر في الفيء على ما هو ظاهر من ذلك قال: تخمس الأرض ولا بد، ولا سيما "أنه قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قسم خيبر بين الغزاة". قالوا: فالواجب أن تقسم الأرض لعموم الكتاب وفعله عليه الصلاة والسلام الذي يجري مجرى البيان للمجمل فضلا عن العام. وأما أبو حنيفة فإنما ذهب إلى التخيير بين القسمة وبين أن يقر الكفار فيها على خراج يؤدونه، لأنه زعم أنه قد روي "أن رسول الله ﷺ أعطى خيبر بالشطر ثم أرسل ابن رواحة فقاسمهم" قالوا: فظهر من هذا أن رسول الله ﷺ لم يكن قسم جميعها ولكنه قسم طائفة من الأرض وترك طائفة لم يقسمها، قالوا: فبان بهذا أن الإمام بالخيار بين القسمة والإقرار بأيديهم، وهو الذي فعل عمر رضي الله عنه. وإن أسلموا بعد الغلبة عليهم كان مخيرا بين المن عليهم أو قسمتها على ما فعل رسول الله ﷺ بمكة: أعني من المن، وهذا إنما يصح على رأي من رأى أنه افتتحها عنوة، فإن الناس اختلفوا في ذلك وإن كان الأصح أنه افتتحها عنوة لأنه الذي خرجه مسلم. وينبغي أن تعلم أن قول من قال: إن آية الفيء وآية الغنيمة محمولتان على الخيار، وأن آية الفيء ناسخة لآية الغنيمة أو مخصصة لها أنه قول ضعيف جدا إلا أن يكون اسم الفيء والغنيمة يدلان على معنى واحد، فإن كان ذلك فالآيتان متعارضتان، لأن آية الأنفال توجب التخميس، وآية الحشر توجب القسمة دون التخميس فوجب أن تكون إحداهما ناسخة للأخرى أو يكون الإمام مخيرا بين التخميس وترك التخميس، وذلك في جميع الأموال المغنومة. وذكر بعض أهل العلم أنه مذهب لبعض الناس وأظنه حكاه عن المذهب، ويجب على مذهب من يريد أن يستنبط من الجمع بينهما ترك قسمة الأرض وقسمة ما عدا الأرض أن تكون كل واحدة من الآيتين مخصصة بعض ما في الأخرى أو ناسخة له حتى تكون آية الأنفال خصصت من عموم آية الحشر ما عدا الأرضين فأوجبت فيها الخمس، وآية الحشر خصصت من آية الأنفال الأرض فلم توجب فيها خمسا، وهذه الدعوى لا تصح إلا بدليل مع أن الظاهر من آية الحشر أنها تضمنت القول في نوع من الأموال مخالف الحكم للنوع الذي تضمنته آية الأنفال وذلك أن قوله تعالى {فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب} هو تنبيه على العلة التي من أجلها لم يوجب حق للجيش خاصة دون الناس والقسمة بخلاف ذلك إذ كانت تؤخذ بالإيجاف. 4*الفصل السادس في قسمة الفيء.

@-وأما الفيء عند الجمهور فهو كل ما صار للمسلمين من الكفار من قبل الرعب والخوف من غير أن يوجف عليه بخيل أو رجل. واختلف الناس في الجهة التي يصرف إليها؛ فقال قوم: إن الفيء لجميع المسلمين الفقير والغني، وإن الإمام يعطي منه للمقاتلة وللحكام وللولاة، وينفق منه في النوائب التي تنوب المسلمين كبناء القناطر وإصلاح المساجد وغير ذلك ولا خمس في شيء منه وبه قال الجمهور، وهو الثابت عن أبي بكر وعمر؛ وقال الشافعي: بل يكون فيه الخمس، والخمس مقسوم على الأصناف الذين ذكروا في آية الغنائم وهم الأصناف الذين ذكروا في الخمس بعينه من الغنيمة، وإن الباقي هو مصروف إلى اجتهاد الإمام ينفق منه على نفسه وعلى عياله ومن رأى، وأحسب أن قوما قالوا: إن الفيء غير مخمس، ولكن يقسم على الأصناف الخمسة الذين يقسم عليهم الخمس، وهو أحد أقوال الشافعي فيما أحسب. وسبب اختلاف من رأى أنه يقسم جميعه على الأصناف الخمسة أو هو مصروف إلى اجتهاد الإمام هو سبب اختلافهم في قسمة الخمس من الغنيمة وقد تقدم ذلك، أعني أن من جعل ذكر الأصناف في الآية تنبيها على المستحقين له قال: هو لهذه الأصناف المذكورين ومن فوقهم. ومن جعل ذكر الأصناف تعديدا للذين يستوجبون هذا المال قال: لا يتعدى به هؤلاء الأصناف، أعني أنه جعله من باب الخصوص لا من باب التبيه. وأما تخميس الفيء فلم يقل به أحد قبل الشافعي، وإنما حمله على هذا القول أنه رأى الفيء قد قسم في الآية على عدد الأصناف الذين قسم عليهم الخمس، فاعتقد لذلك أن فيه الخمس، لأنه ظن أن هذه القسمة مختصة بالخمس وليس ذلك بظاهر، بل الظاهر أن هذه القسمة تخص جميع الفيء لا جزءا منه، وهو الذي ذهب إليه فيما أحسب قوم. وخرج مسلم عن عمر قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي ﷺ خالصة، فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، وما بقي يجعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله، وهذا يدل على مذهب مالك. 4*الفصل السابع في الجزية.

@-والكلام المحيط بأصول هذا الفصل ينحصر في ست مسائل: المسألة الأولى: ممن يجوز أخذ الجزية؟ الثانية: على أي الأصناف منهم تجب الجزية؟ الثالثة: كم تجب؟ الرابعة: متى تجب ومتى تسقط؟ الخامسة: كم أصناف الجزية؟ السادسة: فيماذا يصرف مال الجزية؟ @-(المسألة الأولى) فأما من يجوز أخذ الجزية منه؟ فإن العلماء مجمعون على أنه يجوز أخذها من أهل الكتاب العجم ومن المجوس كما تقدم، واختلفوا في أخذها ممن لا كتاب له وفيمن هو من أهل الكتاب من العرب بعد اتفاقهم فيما حكى بعضهم أنها لا تؤخذ من قرشي كتابي، وقد تقدمت هذه المسألة. @-(المسألة الثانية) وهي أي الأصناف من الناس تجب عليهم؟ فإنهم اتفقوا على أنها إنما تجب بثلاثة أوصاف الذكورية والبلوغ والحرية، وأنها لا تجب على النساء ولا على الصبيان إذا كانت إنما هي عوض من القتل والقتل إنما هو متوجه بالأمر نحو الرجال البالغين إذ قد نهى عن قتل النساء والصبيان، وكذلك أجمعوا أنها لا تجب على العبيد. واختلفوا في أصناف من هؤلاء: منها في المجنون وفي المقعد، ومنها في الشيخ، ومنها في أهل الصوامع، ومنها في الفقير هل يتبع بها دينا متى أيسر أم لا؟ وكل هذه المسائل اجتهادية ليس فيها توقيت شرعي. وسبب اختلافهم مبني على هل يقتلون أم لا؟ أعني هؤلاء الأصناف. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي كم الواجب فإنهم اختلفوا في ذلك، فرأى مالك أن القدر الواجب في ذلك هو ما فرضه عمر رضي الله عنه وذلك على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعون درهما، ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه؛ وقال الشافعي: أقله محدود وهو دينار وأكثره غير محدود وذلك بحسب ما يصالحون عليه. وقال قوم: لا توقيت في ذلك، وذلك مصروف إلى اجتهاد الإمام وبه قال الثوري؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: الجزية اثنا عشر درهما وأربعة وعشرون درهما وثمانية وأربعون لا ينقص الفقير من اثني عشر درهما ولا يزاد الغني على ثمانية وأربعين درهما، والوسط أربعة وعشرون درهما؛ وقال أحمد: دينار أو عدله معافر لا يزاد عليه ولا ينقص منه. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه روي "أن رسول الله ﷺ بعث معاذا إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر" وهي ثياب باليمن. وثبت عن عمر أنه ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام. وروي عنه أيضا أنه بعث عثمان بن حنيف فوضع الجزية على أهل السواد ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر. فمن حمل هذه الأحاديث كلها على التخيير وتمسك في ذلك بعموم ما ينطلق عليه اسم جزية إذ ليس في توقيت ذلك حديث عن النبي ﷺ متفق على صحته، وإنما ورد الكتاب في ذلك عاما، قال: لا حد في ذلك وهو الأظهر والله أعلم. ومن جمع بين حديث معاذ والثابت عن عمر قال: أقله محدود ولا حد لأكثره. ومن رجح أحد حديثي عمر قال: إما بأربعين درهما وأربعة دنانير، وإما بثمانية وأربعين درهما وأربعة وعشرين واثني عشر على ما تقدم. ومن رجح حديث معاذ لأنه مرفوع قال: دينار فقط أو عدله معافرا لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه. @-(وأما المسألة الرابعة) وهي متى تجب الجزية؟ فإنهم اتفقوا على أنها لا تجب إلا بعد الحول، وأنه تسقط عنه إذا أسلم قبل انقضاء الحول. واختلفوا إذا أسلم بعد ما يحول عليه الحول هل تؤخذ منه جزية للحول الماضي بأسره أو لما مضى منه؟ فقال قوم: إذا أسلم فلا جزية عليه بعد انقضاء الحول كان بعد إسلامه أو قبل انقضائه، وبهذا القول قال الجمهور؛ وقالت طائفة: إن أسلم بعد الحول وجبت عليه الجزية، وإن أسلم قبل حلول الحول لم تجب عليه، وإنهم اتفقوا على أنه لا تجب عليه قبل انقضاء الحول. لأن الحول شرط في وجوبها، فإذا وجد الرافع لها وهو الإسلام قبل تقرر الوجوب، أعني قبل وجود شرط الوجوب لم تجب؛ وإنما اختلفوا بعد انقضاء الحول لأنها قد وجبت؛ فمن رأى أن الإسلام يهدم هذا الواجب في الكفر كما يهدم كثيرا من الواجبات قال: تسقط عنه وإن كان إسلامه بعد الحول؛ ومن رأى أنه لا يهدم الإسلام هذا الواجب كما لا يهدم كثيرا من الحقوق المترتبة مثل الديون وغير ذلك قال: لا تسقط بعد انقضاء الحول. فسبب اختلافهم هو هل الإسلام يهدم الجزية الواجبة أو لا يهدمها. @-(وأما المسألة الخامسة) وهي كم أصناف الجزية؟ فإن الجزية عندهم ثلاثة أصناف: جزية عنوية، وهي هذه التي تكلمنا فيها، أعني التي تفرض على الحربيين بعد غلبتهم. وجزية صلحية، وهي التي يتبرعون بها ليكف عنهم، وهذه ليس فيها توقيت لا في الواجب، ولا فيمن يجب عليه ولا متى يجب عليه، وإنما ذلك كله راجع إلى الاتفاق الواقع في ذلك بين المسلمين وأهل الصلح إلا أن يقول قائل: إنه إن كان قبول الجزية الصلحية واجبا على المسلمين فقد يجب أن يكون ههنا قدر ما إذا أعطاه من أنفسهم الكفار وجب على المسلمين قبول ذلك منهم فيكون أقلها محدودا وأكثرها غير محدود. وأما الجزية الثالثة فهي العشرية، وذلك أن جمهور العلماء على أنه ليس على أهل الذمة عشر ولا زكاة أصلا في أموالهم إلا ما روي عن طائفة منهم أنهم ضاعفوا الصدقة على نصارى بني تغلب، أعني أنهم أوجبوا إعطاء ضعف ما على المسلمين من الصدقة في شيء شيء من الأشياء التي تلزم فيها المسلمين الصدقة، وممن قال بهذا القول الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري، وهو فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بهم، وليس يحفظ عن مالك في ذلك نص فيما حكوا، وقد تقدم ذلك في كتاب الزكاة. واختلفوا هل يجب العشر عليهم في الأموال التي يتجرون بها إلى بلاد المسلمين بنفس التجارة أو الإذن إن كانوا حربيين أم لا تجب إلا بالشرط؟ فرأى مالك وكثير من العلماء أن تجار أهل الذمة الذين لذمتهم بالإقرار في بلدهم الجزية يجب أن يؤخذ منهم مما يجلبونه من بلد إلى بلد العشر، إلا ما يسوقون إلى المدينة خاصة فيؤخذ منه فيه نصف العشر، ووافقه أبو حنيفة في وجوبه بالإذن في التجارة أو بالتجارة نفسها وخالفه في القدر فقال: الواجب عليهم نصف العشر؛ ومالك لم يشترط عليهم في العشر الواجب عنده نصابا ولا حولا؛ وأما أبو حنيفة فاشترط في وجوب نصف العشر عليهم الحول والنصاب وهو نصاب المسلمين نفسه المذكور في كتاب الزكاة؛ وقال الشافعي: ليس يجب عليهم عشر أصلا ولا نصف عشر في نفس التجارة ولا في ذلك شيء محدود إلا ما اصطلح عليه أو اشترط، فعلى هذا تكون الجزية العشرية من نوع الجزية الصلحية؛ وعلى مذهب مالك وأبي حنيفة تكون جنسا ثالثا من الجزية غير الصلحية والتي على الرقاب. وسبب اختلافهم أنه لم يأت في ذلك عن رسول الله ﷺ سنة يرجع إليها، وإنما ثبت أن عمر بن الخطاب فعل ذلك بهم؛ فمن رأى أن فعل عمر هذا إنما فعله بأمر كان عنده في ذلك من رسول الله ﷺ أوجب أن يكون ذلك سنتهم؛ ومن رأى أن فعله هذا كان على وجه الشرط، إذ لو كان على غير ذلك لذكره قال: ليس ذلك بسنة لازمة لهم إلا بالشرط. وحكى أبو عبيد في كتاب الأموال عن رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لا أذكر اسمه الآن أنه قيل له: لم كنتم تأخذون العشر من مشركي العرب؟ فقال: لأنهم كانوا يأخذون منا العشر إذا دخلنا إليهم. قال الشافعي: وأقل ما يجب أن يشارطوا عليه هو ما فرضه عمر رضي الله عنه، وإن شورطوا على أكثر فحسن. قال: وحكم الحربي إذا دخل بأمان حكم الذمي. @-(وأما المسألة السادسة) وهي في ماذا تصرف الجزية؟ فإنهم اتفقوا على أنها مشتركة لمصالح المسلمين من غير تحديد كالحال في الفيء عند من رأى أنه مصروف إلى اجتهاد الإمام، حتى لقد رأى كثير من الناس أن اسم الفيء إنما ينطلق على الجزية في آية الفيء، وإذا كان الأمر هكذا، فالأموال الإسلامية ثلاثة أصناف: صدقة، وفيء، وغنيمة، وهذا القدر كاف في تحصيل قواعد هذا الكتاب والله الموفق للصواب. 2*كتاب الإيمان

@-وهذا الكتاب ينقسم أولا إلى جملتين: الجملة الأولى: في معرفة ضروب الأيمان وأحكامها. والجملة الثانية: في معرفة الأشياء الرافعة للأيمان اللازمة وأحكامها. 3*(الجملة الأولى) وهذه الجملة فيها ثلاثة فصول: الفصل الأول: في معرفة الأيمان المباحة وتمييزها من غير المباحة. الثاني: في معرفة الأيمان اللغوية والمنعقدة. الثالث: في معرفة الأيمان التي ترفعها الكفارة والتي لا ترفعها.

4*الفصل الأول في معرفة الأيمان المباحة وتمييزها من غيرها.

@-واتفق الجمهور على أن الأشياء منها ما يجوز في الشرع أن يقسم به، ومنها ما لا يجوز أن يقسم به. واختلفوا أي الأشياء التي هي بهذه الصفة؛ فقال قوم: إن الحلف المباح في الشرع هو الحلف بالله، وأن الحالف بغير الله عاص؛ وقال قوم: بل يجوز الحلف بكل معظم بالشرع؛ والذين قالوا إن الأيمان المباحة هي الأيمان بالله اتفقوا على إباحة الأيمان التي بأسمائه، واختلفوا في الأيمان التي بصفاته وأفعاله. وسبب اختلافهم في الحلف بغير الله من الأشياء المعظمة بالشرع معارضة ظاهر الكتاب في ذلك للأثر، وذلك أن الله قد أقسم في الكتاب بأشياء كثيرة مثل قوله {والسماء والطارق} وقوله {والنجم إذا هوى} إلى غير ذلك من الأقسام الواردة في القرآن. وثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" فمن جمع بين الأثر والكتاب بأن قال إن الأشياء الواردة في الكتاب المقسوم بها فيها محذوف وهو الله تبارك وتعالى، وأن التقدير: ورب النجم، ورب السماء قال: الأيمان المباحة هي الحلف بالله فقط؛ ومن جمع بينهما بأن المقصود بالحديث إنما هو أن لا يعظم من لم يعظم الشرع بدليل قوله فيه "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" وأن هذا من باب الخاص أريد به العام أجاز الحلف بكل معظم في الشرع. فإذا سبب اختلافهم هو اختلافهم في بناء الآي والحديث. وأما من منع الحلف بصفات الله وأفعاله فضعيف. وسبب اختلافهم هو هل يقتصر بالحديث على ما جاء من تعليق الحكم فيه بالاسم فقط، أو يعدى إلى الصفات والأفعال، لكن تعليق الحكم في الحديث بالاسم فقط جمود كثير، وهو أشبه بمذهب أهل الظاهر وإن كان مرويا في المذهب حكاه اللخمي عن محمد بن المواز. وشذت فرقة فمنعت اليمين بالله عز وجل، والحديث نص في مخالفة هذا المذهب. 4*الفصل الثاني في معرفة الأيمان اللغوية والمنقعدة.

@-واتفقوا أيضا على أن الأيمان منها لغو ومنها منعقدة لقوله تعالى {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} واختلفوا فيما هي اللغو؟ فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها اليمين على الشيء يظن الرجل أنه على يقين منه فيخرج الشيء على خلاف ما حلف عليه. وقال الشافعي: لغو اليمين ما لم تنعقد عليه النية مثل ما جرت به العادة من قول الرجل في أثناء المخاطبة لا والله لا بالله مما يجري على الألسنة بالعادة من غير أن يعتقد لزومه، وهذا القول رواه مالك في الموطأ عن عائشة، والقول الأول مروي عن الحسن بن أبي الحسن وقتادة ومجاهد وإبراهيم النخعي. وفيه قول ثالث، وهو أن يحلف الرجل وهو غضبان، وبه قال إسماعيل القاضي من أصحاب مالك. وفيه قول رابع، وهو الحلف على المعصية وروي عن ابن عباس. وفيه قول خامس، وهو أن يحلف الرجل على أن لا يأكل شيئا مباحا له بالشرع. والسبب في اختلافهم في ذلك هو الاشتراك الذي في اسم اللغو، وذلك أن اللغو قد يكون الكلام الباطل مثل قوله تعالى {والغوا فيه لعلكم تغلبون} وقد يكون الكلام الذي لا تنعقد عليه نية المتكلم به، ويدل على أن اللغو في الآية هو هذا أن هذه اليمين هي ضد اليمين المنعقدة وهي المؤكدة، فوجب أن يكون الحكم المضاد للشيء المضاد. والذين قالوا إن اللغو هو الحلف في إغلاق أو الحلف على ما لا يوجب الشرع فيه شيئا بحسب ما يعتقد في ذلك قوم، فإنما ذهبوا إلى أن اللغو ههنا يدل على معنى عرفي في الشرع وهي الأيمان التي يبين الشرع في مواضع أخر سقوط حكمها مثل ما روي أنه: "لا طلاق في إغلاق" وما أشبه ذلك، لكن الأظهر هما القولان الأولان: أعني قول مالك والشافعي. 4*الفصل الثالث في معرفة الأيمان التي ترفعها الكفارة والتي لا ترفعها. وهذا الفصل أربع مسائل:

@-(المسألة الأولى) اختلفوا في الأيمان بالله المنعقدة هل يرفع جميعها الكفارة سواء كان حلفا على شيء ماض أنه كان فلم يكن وهي التي تعرف باليمين الغموس، وذلك إذا تعمد الكذب، أو على شيء مستقبل أنه يكون من قبل الحالف أو من قبل من هو بسببه فلم يكن، فقال الجمهور: ليس في اليمين الغموس كفارة، وإنما الكفارة في الأيمان التي تكون في المستقبل إذا خالف اليمين الحالف، وممن قال بهذا القول مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل. وقال الشافعي وجماعة: يجب فيها الكفارة أي تسقط الكفارة الإثم فيها كما تسقطه في غير الغموس. وسبب اختلافهم معارضة عموم الكتاب للأثر، وذلك أن قوله تعالى {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين} الآية توجب أن يكون في اليمين الغموس كفارة لكونها من الأيمان المنعقدة، وقوله عليه الصلاة والسلام "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار" يوجب أن اليمين الغموس ليس فيها كفارة، ولكن للشافعي أن يستثني من الأيمان الغموس ما لا يقتطع بها حق الغير، وهو الذي ورد فيه النص، أو يقول: إن الأيمان التي يقتطع بها حق الغير قد جمعت الظلم والحنث، فوجب ألا تكون الكفارة تهدم الأمرين جميعا، أو ليس يمكن فيها أن تهدم الحنث دون الظلم، لأن رفع الحنث بالكفارة إنما هو من باب التوبة، وليس تتبعض التوبة في الذنب الواحد بعينه، فإن تاب ورد المظلمة وكفر سقط عنه جميع الإثم. @-(المسألة الثانية) واختلف العلماء فيمن قال: أنا كافر بالله أو مشرك بالله أو يهودي أو نصراني إن فعلت كذا ثم يفعل ذلك هل عليه كفارة أم لا؟ فقال مالك والشافعي: ليس عليه كفارة ولا هذه يمين؛ وقال أبو حنيفة: هي يمين وعليه فيها الكفارة إذا خالف اليمين وهو قول أحمد بن حنبل أيضا. وسبب اختلافهم هو اختلافهم في هل يجوز اليمين بكل ماله حرمة أم ليس يجوز إلا بالله فقط؟ ثم إن وقعت فهل تنعقد أم لا؟ فمن رأى أن الأيمان المنعقدة: أعني التي هي بصيغ القسم إنما هي الأيمان الواقعة بالله عز وجل وبأسمائه قال: لا كفارة فيها إذ ليست بيمين؛ ومن رأى أن الأيمان تنعقد بكل ما عظم الشرع حرمته قال: فيها الكفارة، لأن الحلف بالتعظيم كالحلف بترك التعظيم، وذلك أنه كما يجب التعظيم يجب أن لا يترك التعظيم، فكما أن من حلف بوجوب حق الله عليه لزمه كذلك من حلف بترك وجوبه لزمه. @-(المسألة الثالثة) واتفق الجمهور في الأيمان التي ليست أقساما بشيء وإنما تخرج مخرج الإلزام الواقع بشرط من الشروط، مثل أن يقول القائل: فإن فعلت كذا فعلي مشي إلى بيت الله، أو إن فعلت كذا وكذا فغلامي حر أو امرأتي طالق أنها تلزم في القرب، وفيما إذا التزمه الإنسان لزمه بالشرع مثل الطلاق والعتق. واختلفوا هل فيها كفارة أم لا؟ فذهب مالك إلى أن لا كفارة فيها، وأنه إن لم يفعل ما حلف عليه أثم ولا بد؛ وذهب الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم إلى أن هذا الجنس من الأيمان فيها الكفارة إلا الطلاق والعتق؛ وقال أبو ثور: يكفر من حلف بالعتق، وقول الشافعي مروي عن عائشة. وسبب اختلافهم هل هي يمين أو نذر، فمن قال إنها يمين أوجب فيها الكفارة لدخولها تحت عموم قوله تعالى {فكفارته إطعام عشرة مساكين} الآية. ومن قال إنها من جنس النذر: أي من جنس الأشياء التي نص عليها الشرع على أنه إذا ألتزمها الإنسان لزمته قال: لا كفارة فيها لكن يعسر هذا على المالكية لتسميتهم إياها إيمانا، لكن لعلهم إنما سموها أيمانا على طريق التجوز والتوسع. والحق أنه ليس يجب أن تسمى بحسب الدلالة اللغوية أيمانا، فإن الأيمان في لغة العرب لها صيغ مخصوصة، وإنما يقع اليمين بالأشياء التي تعظم وليست صيغة الشرط هي صيغة اليمين، فأما هل تسمى أيمانا بالعرف الشرعي وهل حكمها حكم الأيمان؟ ففيه نظر، وذلك أنه قد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال "كفارة النذر كفارة يمين" وقال تعالى {لم تحرم ما أحل الله لك} إلى قوله {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} فظاهر هذا أنه قد سمي بالشرع القول الذي مخرجه مخرج الشرط أو مخرج الإلزام دون شرط ولا يمين، فيجب أن تحمل على ذلك جميع الأقاويل التي تجري هذا المجرى إلا ما خصصه الإجماع من ذلك مثل الطلاق، فظاهر الحديث يعطي أن النذر ليس بيمين وأن حكمه حكم اليمين؛ وذهب داود وأهل الظاهر إلى أنه ليس يلزم من مثل هذه الأقاويل، أعني الخارجة مخرج الشرط إلا ما ألزمه الإجماع من ذلك وذلك أنها ليست بنذور فيلزم فيها النذر، ولا بأيمان فترفعها الكفارة، فلم يوجبوا على من قال: إن فعلت كذا وكذا فعلي المشي إلى بيت الله مشيا ولا كفارة، بخلاف ما لو قال: علي المشي إلى بيت الله لأن هذا نذر باتفاق، وقد قال عليه الصلاة والسلام "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه" فسبب هذا الخلاف في هذه الأقاويل التي تخرج مخرج الشرط هو هل هي أيمان أو نذور؟ أو ليست أيمانا ولا نذورا؟ فتأمل هذا فإنه بين إن شاء الله تعالى. @-(المسألة الرابعة) اختلفوا في قول القائل: أقسم أو أشهد إن كان كذا وكذا هل هو يمين أم لا؟ على ثلاثة أقوال: فقيل إنه ليس بيمين، وهو أحد قولي الشافعي؛ وقيل إنها أيمان ضد القول الأول، وبه قال أبو حنيفة؛ وقيل إن أراد الله بها فهو يمين، وإن لم يرد الله بها فليست بيمين، وهو مذهب مالك. وسبب اختلافهم هو هل المراعى اعتبار صيغة اللفظ أو اعتبار مفهومه بالعادة أو اعتبار النية؟ فمن اعتبر صيغة اللفظ قال: ليست بيمين إذ لم يكن هنالك نطق بمقسوم به؛ ومن اعتبر صيغة اللفظ بالعادة قال: هي يمين وفي اللفظ محذوف ولا بد وهو الله تعالى؛ ومن لم يعتبر هذين الأمرين واعتبر النية إذ كان اللفظ صالحا للأمرين فرق في ذلك كما تقدم. 3*(الجملة الثانية) وهذه الجملة تنقسم أولا قسمين: القسم الأول: النظر في الاستثناء. والثاني: النظر في الكفارات.

4*القسم الأول. وفي هذا القسم فصلان: الفصل الأول: في شروط الاستثناء المؤثر في اليمين. الفصل الثاني: في تعريف الأيمان التي يؤثر فيها الاستثناء من التي لا يؤثر.

5*الفصل الأول في شروط الاستثناء المؤثر في اليمين.

@-وأجمعوا على أن الاستثناء بالجملة له تأثير في حل الأيمان واختلفوا في شروط الاستثناء الذي يجب له هذا الحكم بعد أن أجمعوا على أنه إذا اجتمع في الاستثناء ثلاثة شروط أن يكون متناسقا مع اليمين وملفوظا به ومقصودا من أول اليمين أنه لا ينعقد معه اليمين؛ واختلفوا في هذه الثلاثة مواضع، أعني إذا فرق الاستثناء من اليمين أو نواه ولم ينطق به أو حدثت له نية الاستثناء بعد اليمين وإن أتى به متناسقا مع اليمين. @-(فأما المسألة الأولى) وهي اشتراط اتصاله بالقسم فإن قوما اشترطوا ذلك فيه، وهو مذهب مالك؛ وقال الشافعي: لا بأس بينهما بالسكتة الخفيفة كسكتة الرجل للتذكر أو للتنفس أو لانقطاع الصوت. وقال قوم من التابعين يجوز للحالف الاستثناء ما لم يقم من مجلسه؛ وكان ابن عباس يرى أن له الاستثناء أبدا على ما ذكر منه متى ما ذكر، وإنما اتفق الجميع على أن استثناء مشيئة الله في الأمر المحلوف على فعله إن كان فعلا أو على تركه إن كان تركا رافع لليمين، لأن الاستثناء هو رفع للزوم اليمين. قال أبو بكر بن المنذر: ثبت أنه رسول الله ﷺ قال "من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث" وإنما اختلفوا هل يؤثر في اليمين إذا لم توصل بها أو لا يؤثر؟ لاختلافهم هل الاستثناء حال للانعقاد أم هو مانع له؟ فإذا قلنا إنه مانع للانعقاد لا حال له اشترط أن يكون متصلا باليمين، وإذا قلنا إنه حال لم يلزم فيه ذلك. والذين اتفقوا على أنه حال اختلفوا هل هو حال بالقرب أو بالبعد على ما حكينا، وقد احتج من رأى أنه حال بالقرب بما رواه سعد عن سماك ابن حرب عن عكرمة قال: قال رسول الله ﷺ "والله لأغزون قريشا، قالها ثلاث مرات ثم سكت، ثم قال: إن شاء الله" فدل هذا على أن الاستثناء حال لليمين لا مانع لها من الانعقاد. قالوا: ومن الدليل على أنه حال بالقرب أنه لو كان حالا بالبعد على ما رواه ابن عباس لكان الاستثناء يغني عن الكفارة والذي قالوه بين. وأما اشتراط النطق باللسان فإنه اختلف فيه، فقيل لابد فيه من اشتراط اللفظ أي لفظ كان من ألفاظ الاستثناء وسواء كان بألفاظ الاستثناء أو بتخصيص العموم أو بتقييد المطلق هذا هو المشهور. وقيل إنما ينفع الاستثناء بالنية بغير لفظ في حرف إلا فقط: أي بما يدل عليه لفظ إلا، وليس ينفع ذلك فيما سواه من الحروف، وهذه التفرقة ضعيفة. والسبب في هذا الاختلاف هو هل تلزم العقود اللازمة بالنية فقط دون اللفظ أو باللفظ والنية معا مثل الطلاق والعتق واليمين وغير ذلك. @-(وأما المسألة الثانية) وهي هل تنفع النية الحادثة في الاستثناء بعد انقضاء اليمين؟ فقيل أيضا في المذهب إنها تنفع إذا حدثت متصلة باليمين؛ وقيل بل إذا حدثت قبل أن يتم النطق باليمين؛ وقيل بل الاستثناء على ضربين: استثناء من عدد، واستثناء من عموم بتخصيص أو من مطلق بتقييد، فالاستثناء من العدد لا ينفع فيه إلا حدوث النية قبل النطق باليمين؛ والاستثناء من العموم ينفع فيه حدوث النية بعد اليمين إذا وصل الاستثناء نطقا باليمين. وسبب اختلافهم هل الاستثناء مانع للعقد أو حال له؟ فإن قلنا إنه مانع فلا بد من اشتراط حدوث النية في أول اليمين؛ وإن قلنا إنه حال لم يلزم ذلك؛ وقد أنكر عبد الوهاب أن يشترط حدوث النية في أول اليمين للاتفاق وزعم على أن الاستثناء حال لليمين كالكفارة سواء. 5*الفصل الثاني من القسم الأول في تعريف الأيمان التي يؤثر فيها الاستثناء وغيرها.

@-وقد اختلفوا في الأيمان التي يؤثر فيها استثناء مشيئة الله من التي لا يؤثر فيها. فقال مالك وأصحابه: لا تؤثر المشيئة إلا في الأيمان التي تكفر وهي اليمين بالله عندهم أو النذر المطلق على ما سيأتي. وأما الطلاق والعتاق فلا يخلو أن يعلق الاستثناء في ذلك بمجرد الطلاق أو العتق فقط مثل أن يقول: هي طالق إن شاء الله أو عتيق إن شاء الله، وهذه ليست عندهم يمينا. وإما أن يعلق الطلاق بشرط من الشروط، مثل أن يقول: إن كان كذا فهي طالق إن شاء الله، أو إن كان كذا فهو عتيق إن شاء الله. فأما القسم الأول فلا خلاف في المذهب أن المشيئة غير مؤثرة فيه. وأما القسم الثاني وهو اليمين بالطلاق ففي المذهب فيه قولان أصحهما أنه إذا صرف الاستثناء إلى الشرط الذي علق به الطلاق صح وإن صرفه إلى نفس الطلاق لم يصح. وقال أبو حنيفة والشافعي: الاستثناء يؤثر في ذلك كله سواء قرنه بالقول الذي مخرجه مخرج الشرط، أو بالقول الذي مخرجه مخرج الخبر. وسبب الخلاف ما قلناه من أن الاستثناء هل هو حال أو مانع؟ فإذا قلنا مانع وقرن بلفظ مجرد الطلاق فلا تأثير له فيه إذ قد وقع الطلاق، أعني إذا قال الرجل لزوجته: هي طالق إن شاء الله، لأن المانع إنما يقوم لما لم يقع وهو المستقبل؛ وإن قلنا إنه حال للعقود وجب أن يكون له تأثير في الطلاق وإن كان قد وقع، فتأمل هذا فإنه بين؛ ولا معنى لقول المالكية إن الاستثناء في هذا مستحيل لأن الطلاق قد وقع، إلا أن يعتقدوا أن الاستثناء هو مانع لا حال، فتأمل هذا فإنه ظاهر إن شاء الله. 4*القسم الثاني من الجملة الثانية.

@-وهذا القسم فيه فصول ثلاثة قواعد. الفصل الأول: في موجب الحنث وشروطه وأحكامه. الفصل الثاني: في رافع الحنث وهي الكفارات. الفصل الثالث: متى ترفع وكم ترفع. 5*الفصل الأول في موجب الحنث وشروطه وأحكامه.

@-واتفقوا على أن موجب الحنث هو المخالفة لما انعقدت عليه اليمين، وذلك إما فعل ما حلف على ألا يفعله وإما ترك ما حلف على فعله إذا علم أنه قد تراخى عن فعل ما حلف على فعله إلى وقت ليس يمكنه فيه فعله وذلك في اليمين بالترك المطلق، مثل أن يحلف لتأكلن هذا الرغيف فيأكله غيره؛ أو إلى وقت هو غير الوقت الذي اشترط في وجود الفعل عنه، وذلك في الفعل المشترط فعله في زمان محدود، مثل أن يقول: والله لأفعلن اليوم كذا وكذا، فإنه إذا انقضى النهار ولم يفعل حنث ضرورة. واختلفوا من ذلك في أربعة مواضع: أحدها إذا أتى بالمخالف ناسيا أو مكرها. والثاني هل يتعلق موجب اليمين بأقل ما ينطلق عليه الاسم أو بجميعه. والموضع الثالث هل يتعلق اليمين بالمعنى المساوي لصيغة اللفظ أو بمفهومه المخصص للصيغة والمعمم لها. والموضع الرابع هل اليمين على نية الحالف أو المستحلف. @-(فأما المسألة الأولى) فإن مالكا يرى الساهي والمكره بمنزلة العامد؛ والشافعي يرى أن لا حنث على الساهي ولا على المكره. وسبب اختلافهم معارضة العموم قوله تعالى {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} ولم يفرق بين عامد وناس لعموم قوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فإن هذين العمومين يمكن أن يخصص كل واحد منهما بصاحبه. @-(وأما الموضع الثاني) فمثل أن يحلف أن لا يفعل شيئا ففعل بعضه أو أنه يفعل شيئا فلم يفعل بعضه؛ فعند مالك إذا حلف ليأكلن هذا الرغيف فأكل بعضه لا يبرأ إلا بأكله كله، وإذا قال: لا آكل هذا الرغيف إنه يحنث إن أكل بعضه؛ وعند الشافعي وأبي حنيفة أنه لا يحنث في الوجهين جميعا حملا على الأخذ بأكثر ما يدل عليه الاسم. وأما تفريق مالك بين الفعل والترك فلم يجر في ذلك على أصل واحد لأنه أخذ في الترك بأقل ما يدل عليه الاسم وأخذ في الفعل بجميع ما يدل عليه الاسم، وكأنه ذهب إلى الاحتياط. @-(وأما المسألة الثالثة) فمثل أن يحلف على شيء بعينه يفهم منه القصد إلى معنى أعم من ذلك الشيء الذي لفظ به أو أخص، أو يحلف على شيء وينوي به معنى أعم أو أخص، أو يكون للشيء الذي حلف عليه اسمان أحدهما لغوي والآخر عرفي وأحدهما أخص من الآخر. وأما إذا حلف على شيء بعينه فإنه لا يحنث عند الشافعي وأبي حنيفة إلا بالمخالفة الواقعة في ذلك الشيء بعينه الذي وقع عليه الحلف وإن كان المفهوم منه معنى أعم أو أخص من قبل الدلالة العرفية. وكذلك أيضا فيما أحسب لا يعتبرون النية المخالفة للفظ، وإنما يعتبرون مجرد الألفاظ فقط. وأما مالك فإن المشهور من مذهبه أن المعتبر أولا عنده في الأيمان التي لا يقضي على حالفها بموجبها هو النية، فإن عدمت فقرينة الحال فإن عدمت فعرف اللفظ، فإن عدم فدلالة اللغة؛ وقيل لا يراعي إلا النية أو ظاهر اللفظ اللغوي فقط؛ وقيل يراعي النية وبساط الحال ولا يراعي العرف وأما الأيمان التي يقضي بها على صاحبها فإنه إن جاء الحالف مستفتيا كان حكمه حكم اليمين التي لا يقضي بها على صاحبها من مراعاة هذه الأشياء فيها على هذا الترتيب وإن كان مما يقضي بها عليه لم يراع فيها إلا اللفظ إلا أن يشهد لما يدعي من النية المخالفة لظاهر اللفظ قرينة الحال أو العرف. @-(وأما المسألة الرابعة) فإنهم اتفقوا على أن اليمين على نية المستحلف في الدعاوي واختلفوا في غير ذلك مثل الأيمان على المواعيد، فقال قوم: على نية الحالف. وقال قوم: على نية المستحلف. وثبت أن رسول الله ﷺ قال "اليمين على نية المستحلف" وقال عليه الصلاة والسلام "يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك" خرج هذين الحديثين مسلم. ومن قال: اليمين على نية الحالف. فإنما اعتبر المعنى القائم بالنفس من اليمين لا ظاهر اللفظ. وفي هذا الباب فروع كثيرة. لكن هذه المسائل الأربع هي أصول هذا الباب إذ يكاد أن يكون جميع الاختلاف الواقع في هذا الباب راجعا إلى الاختلاف في هذه. وذلك في الأكثر مثل اختلافهم فيمن حلف أن لا يأكل رءوسا فأكل رءوس حيتان هل يحنث أم لا؟ فمن راعى العرف قال: لا يحنث؛ ومن راعى دلالة اللغة قال: يحنث. ومثل اختلافهم فيمن حلف أن لا يأكل لحما فأكل شحما؛ فمن اعتبر دلالة اللفظ الحقيقي قال: لا يحنث؛ ومن رأى أن اسم الشيء قد ينطلق على ما يتولد منه قال: يحنث. وبالجملة فاختلافهم في المسائل الفروعية التي في هذا الباب هي راجعة إلى اختلافهم في هذه المسائل التي ذكرنا، وراجعة إلى اختلافهم في دلالات الألفاظ التي يحلف بها، وذلك أن منها ما هي مجملة، ومنها ما هي ظاهرة، ومنها ما هي نصوص. 5*الفصل الثاني في رافع الحنث.

@-واتفقوا على أن الكفارة في الأيمان هي الأربعة الأنواع التي ذكر الله في كتابه في قوله تعالى {فكفارته} الآية. وجمهورهم على أن الحالف إذا حنث مخير بين الثلاثة منها: أعني الإطعام أو الكسوة أو العتق، وأنه لا يجوز له الصيام إلا إذا عجز عن هذه الثلاثة لقوله تعالى {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام} إلا ما روي عن ابن عمر أنه كان إذا غلظ اليمين أعتق أو كسا، وإذا لم يغلظها أطعم. واختلفوا من ذلك في سبع مسائل مشهورة: المسألة الأولى: في مقدار الإطعام لكل واحد من العشرة مساكين. الثانية: في جنس الكسوة إذا اختار الكسوة وعددها. الثالثة: في اشتراط التتابع في صيام الثلاثة الأيام أو لا إشتراطه. الرابعة: في اشتراط العدد في المساكين. الخامسة: في اشتراط الإسلام فيهم والحرية. والسادسة: في اشتراط السلامة في الرقبة المعتقة من العيوب. السابعة: في اشتراط الإيمان فيها. @-(المسألة الأولى) أما مقدار الإطعام؟ فقال مالك والشافعي وأهل المدينة: يعطى لكل مسكين مد من حنطة بمد النبي ﷺ، إلا أن مالكا قال: المد خاص بأهل المدينة فقط لضيق معايشهم. وأما سائر المدن فيعطون الوسط من نفقتهم. وقال ابن القاسم: يجري المد في كل مدينة مثل قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: يعطيهم نصف صاع من حنطة، أو صاعا من شعير أو تمر، قال: فإن غداهم وعشاهم أجزأه. والسبب في اختلافهم في ذلك اختلافهم في تأويل قوله تعالى {من أوسط ما تطعمون أهليكم} هل المراد بذلك أكلة واحدة أو قوت اليوم وهو غذاء وعشاء؟ فمن قال أكلة واحدة قال: المد وسط في الشبع؛ ومن قال غداء وعشاء قال: نصف صاع. ولاختلافهم أيضا سبب آخر، وهو تردد هذه الكفارة بين كفارة الفطر متعمدا في رمضان وبين كفارة الأذى؛ فمن شبهها بكفارة الفطر قال: مد واحد، ومن شبهها بكفارة الأذى قالا: نصف صاع. واختلفوا هل يكون مع الخبز في ذلك إدام أم لا؟ وإن كان فما هو الوسط فيه؟ فقيل يجزي الخبز قفارا؛ وقال ابن حبيب: لا يجزي؛ وقيل الوسط من الإدام الزيت؛ وقيل اللبن والسمن والتمر. واختلف أصحاب مالك من الأهل الذين أضاف إليهم الوسط من الطعام في قوله تعالى {من أوسط ما تطعمون أهليكم} فقيل أهل المكفر وعلى هذا إنما يخرج الوسط من الشيء الذي منه يعيش إن قطنية فقطنية وإن حنطة فحنطة، وقيل بل هم أهل البلد الذي هو فيه، وعلى هذا فالمعتبر في اللازم له هو الوسط من عيش أهل البلد لا من عيشه: أعني الغالب، وعلى هذين القولين يحمل قدر الوسط من الإطعام، أعني الوسط من قدر ما يطعم أهله، أو الوسط من قدر ما يطعم أهل البلد أهليهم إلا في المدينة خاصة. @-(وأما المسألة الثانية) وهي المجزئ من الكسوة. فإن مالكا رأى أن الواجب في ذلك هو أن يكسي ما يجزئ فيه الصلاة، فإن كسا الرجل كسا ثوبا وإن كسا النساء كسا ثوبين درعا وخمارا. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يجزئ في ذلك أقل ما ينطلق عليه الاسم إزار أو قميص أو سراويل أو عمامة، وقال أبو يوسف: لا تجزئ العمامة ولا السراويل. وسبب اختلافهم هل الواجب الأخذ بأقل دلالة الاسم اللغوي أو المعنى الشرعي. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي اختلافهم في اشتراط تتابع الأيام الثلاثة في الصيام فإن مالكا والشافعي لم يشترطا في ذلك وجوب التتابع وإن كانا استحباه واشترط ذلك أبو حنيفة. وسبب اختلافهم في ذلك شيئان: أحدهما هل يجوز العمل بالقراءة التي ليست في المصحف، وذلك أن في قراءة عبد الله بن مسعود {فصيام ثلاثة أيام متتابعات} . والسبب الثاني اختلافهم هل يحمل الأمر بمطلق الصوم على التتابع أم ليس يحمل إذا كان الأصل الواجب بالشرع إنما هو التتابع. @-(وأما المسألة الرابعة) وهي اشتراط العدد في المساكين، فإن مالكا والشافعي قالا: لا يجزيه إلا أن يطعم عشرة مساكين؛ وقال أبو حنيفة: إن أطعم مسكينا واحدا عشرة أيام أجزأه. والسبب في اختلافهم هل الكفارة حق واجب للعدد المذكور أو حق واجب على المكفر فقدر بالعدد المذكور، فإن قلنا إنه حق واجب للعدد كالوصية، فلابد من اشتراط العدد، وإن قلنا حق واجب على المكفر لكنه قدر بالعدد أجزأ من ذلك إطعام مسكين واحد على عدد المذكورين والمسألة محتملة. @-(وأما المسألة الخامسة) وهي اشتراط الإسلام والحرية في المساكين، فإن مالكا والشافعي اشترطاهما ولم يشترط ذلك أبو حنيفة. وسبب اختلافهم هل استيجاب الصدقة هو بالفقر فقط؟ أو بالإسلام؟ إذ كان السمع قد أنبأ أنه يثاب بالصدقة على الفقير الغير المسلم، فمن شبه الكفارة بالزكاة الواجبة للمسلمين اشترط الإسلام في المساكين الذين تجب لهم هذه الكفارة؛ ومن شبهها بالصدقات التي تكون عن تطوع أجاز أن يكونوا غير مسلمين. وأما سبب اختلافهم في العبيد فهو هل يتصور فيهم وجود الفقر أم لا إذا كانوا مكفيين من ساداتهم في غالب الأحوال، أو ممن يجب أن يكفوا؟ فمن راعى وجود الفقر فقط قال العبيد والأحرار سواء، إذ قد يوجد من العبيد من يجوعه سيده؛ ومن راعى وجوب الحق له على الغير بالحكم قال: يجب على السيد القيام بهم، ويقتضي بذلك عليه وإن كان معسرا قضى عليه ببيعه، فليس يحتاجون إلى المعونة بالكفارات وما جرى مجراها من الصدقات. @-(وأما المسألة السادسة) وهي هل من شرط الرقبة أن تكون سليمة من العيوب؟ فإن فقهاء الأمصار شرطوا ذلك، أعني العيوب المؤثرة في الأثمان، وقال أهل الظاهر: ليس ذلك من شرطها. وسبب اختلافهم هل الواجب الأخذ بأقل ما يدل عليه الاسم أو بأتم ما يدل عليه. @-(وأما المسألة السابعة) وهي اشتراط الأيمان في الرقبة أيضا، فإن مالكا والشافعي اشترطا ذلك؛ وأجاز أبو حنيفة أن تكون الرقبة غير مؤمنة. وسبب اختلافهم هو هل يحمل المطلق على المقيد في الأشياء التي تتفق في الأحكام وتختلف في الأسباب كحكم حال هذه الكفارات مع كفارة الظهار؛ فمن قال يحمل المطلق على المقيد في ذلك قال باشتراط الإيمان في ذلك حملا على اشتراط ذلك في كفارة الظهار في قوله تعالى {فتحرير رقبة مؤمنة} ومن قال لا يحمل وجب عنده أن يبقى موجب اللفظ على إطلاقه. 4*الفصل الثالث متى ترفع الكفارة الحنث، وكم ترفع؟

@-وأما متى ترفع الكفارة الحنث وتمحوه، فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال الشافعي: إذا كفر بعد الحنث أو قبله فقد ارتفع الإثم؛ وقال أبو حنيفة: لا يرتفع الحنث إلا بالتفكير الذي يكون بعد الحنث لا قبله؛ وروي عن مالك في ذلك القولان جميعا. وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما اختلاف الرواية في قوله عليه الصلاة والسلام "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" فإن قوما رووه هكذا، وقوم رووه "فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير" وظاهر هذه الرواية أن الكفارة تجوز قبل الحنث، وظاهر الثانية أنها بعد الحنث. والسبب الثاني اختلافهم في هل يجزئ تقديم الحق الواجب قبل وقت وجوبه، لأنه من الظاهر أن الكفارة إنما تجب بعد الحنث كالزكاة بعد الحول ولقائل أن يقول إن الكفارة إنما تجب بإرادة الحنث والعزم عليه كالحال في كفارة الظهار فلا يدخله الخلاف من هذه الجهة، وكان سبب الخلاف من طريق المعنى هو هل الكفارة رافعة للحنث إذا وقع أو مانعة له؟ فمن قال مانعة أجاز تقديمها على الحنث؛ ومن قال رافعة لم يجزها إلا بعد وقوعه. وأما تعدد الكفارات بتعدد الأيمان فإنهم اتفقوا فيما علمت أن من حلف على أمور شتى بيمين واحدة أن كفارته كفارة يمين واحدة، وكذلك فيما أحسب لا خلاف بينهم أنه إذا حلف بأيمان شتى على شيء واحد أن الكفارات الواجبة في ذلك بعدد الأيمان كالحالف إذا حلف بأيمان شتى على أشياء شتى. اختلفوا إذا حلف على شيء واحد بعينه مرار كثيرة، فقال قوم: في ذلك كفارة يمين واحدة، وقال قوم: في كل يمين كفارة إلا أن يريد التأكيد، وهو قول مالك؛ وقال قوم: فيها كفارة واحدة، إلا أن يريد التغليظ. وسبب اختلافهم هل الموجب للتعدد هو تعدد الأيمان بالجنس أو بالعدد، فمن قال: اختلافها بالعدد قال لكل يمين كفارة إذا كرر ومن قال اختلافها بالجنس قال: في هذه المسألة يمين واحدة. واختلفوا إذا حلف في يمين واحدة بأكثر من صفتين من صفات الله تعالى هل تعدد الكفارات بتعدد الصفات التي تضمنت اليمين أم في ذلك كفارة واحدة؟ فقال مالك: الكفارة في هذه اليمين متعددة بتعدد الصفات. فمن حلف بالسميع العليم الحكيم كان عليه ثلاث كفارات عنده، وقال قوم: إن أراد الكلام الأول وجاء بذلك على أنه قول واحد فكفارة واحدة إذا كانت يمينا واحدة. والسبب في اختلافهم: هل مراعاة الواحدة أو الكثرة في اليمين هو راجع إلى صيغة القول أو إلى تعدد الأشياء التي يشتمل عليها القول الذي مخرجه مخرج يمين، فمن اعتبر الصيغة قال كفارة واحدة؛ ومن اعتبر عدد ما تضمنته صيغة القول من الأشياء التي يمكن أن يقسم بكل واحد منها على انفراده قال: الكفارة متعددة بتعددها، وهذا القدر كاف في قواعد هذا الكتاب وسبب الاختلاف في ذلك، والله المعين برحمته. 2*كتاب النذور

@-وهذا الكتاب فيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: في أصناف النذور. الفصل الثاني: فيما يلزم من النذور وما لا يلزم وجملة أحكامها. الثالث: في معرفة الشيء الذي يلزم عنها وأحكامها. 3*الفصل الأول في أصناف النذور.

@-والنذور تنقسم أولا قسمين: قسم من جهة اللفظ وقسم من جهة الأشياء التي تنذر. فأما من جهة اللفظ فإنه ضربان: مطلق وهو المخرج مخرج الخبر. ومقيد وهو المخرج مخرج الشرط. والمطلق على ضربين: مصرح فيه بالشيء المنذور به، وغير مصرح، فالأول مثل قول القائل: لله علي نذر أن أحج، والثاني مثل قوله: لله علي نذر، دون أن يصرح بمخرج النذر، والأول ربما صرح فيه بلفظ النذور، وربما لم يصرح فيه به، مثل أن يقول: لله علي أن أحج. وأما المقيد المخرج مخرج الشرط فكقول القائل: إن كان كذا فعلي لله نذر كذا وأن أفعل كذا وهذا ربما علقه بفعل من أفعال الله تعالى مثل أن يقول: إن شفى الله مريضي فعلي نذر كذا وكذا، وربما علقه بفعل نفسه، مثل أن يقول: إن فعلت كذا فعلي نذر كذا، وهذا هو الذي يسميه الفقهاء أيمانا، وقد تقدم من قولنا أنها ليست بأيمان، فهذه هي أصناف النذر من جهة الصيغ. وأما أصنافه من جهة الأشياء التي من جنس المعاني المنذور بها، فإنها تنقسم إلى أربعة أقسام نذر بأشياء من جنس القرب، ونذر بأشياء من جنس المعاصي، ونذر بأشياء من جنس المكروهات، ونذر بأشياء من جنس المباحات، وهذه الأربعة تنقسم قسمين: نذر بتركها، ونذر بفعلها. 3*الفصل الثاني فيما يلزم من النذور وما لا يلزم.

@-وأما ما يلزم من هذه النذور وما لا يلزم، فإنهم اتفقوا على لزوم النذر المطلق في القرب إلا ما حكى عن بعض أصحاب الشافعي أن النذر المطلق لا يجوز، وإنما اتفقوا على لزوم النذر المطلق إذا كان على وجه الرضا لا على وجه اللجاج وصرح فيه بلفظ النذر لا إذا لم يصرح، وسواء كان النذر مصرحا فيه بالشيء المنذور أو كان غير مصرح. وكذلك أجمعوا على لزوم النذر الذي مخرجه مخرج الشرط إذا كان نذرا بقربة، وإنما صاروا لوجوب النذر لعموم قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} ولأن الله تعالى قد مدح به فقال {يوفون بالنذر} وأخبر بوقوع العقاب بنقضه فقال {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله} الآية، إلى قوله {بما كانوا يكذبون} . والسبب في اختلافهم في التصريح بلفظ النذر في النذر المطلق هو اختلافهم في هل يجب النذر بالنية واللفظ معا أو بالنية فقط؟ فمن قال بهما معا إذا قال لله علي كذا وكذا ولم يقل نذرا لم يلزمه شيء لأنه إخبار بوجوب شيء لم يوجبه الله عليه إلا أن يصرح بجهة الوجوب؛ ومن قال ليس من شرطه اللفظ قال: ينعقد النذر وإن لم يصرح بلفظه، وهو مذهب مالك، أعني أنه إذا لم يصرح بلفظ النذر أنه يلزم، وإن كان من مذهبه أن النذر لا يلزم إلا بالنية واللفظ لكن رأى أن حذف لفظ النذر من القول غير معتبر إذ كان المقصود بالأقاويل التي مخرجها مخرج النذر النذر وإن لم يصرح فيها بلفظ النذر، وهذا مذهب الجمهور، والأول مذهب سعيد بن المسيب، ويشبه أن يكون من لم ير لزوم النذر المطلق إنما فعل ذلك من قبل أنه حمل الأمر بالوفاء على الندب؛ وكذلك من اشترط فيه الرضا، فإنما اشترطه لأن القربة إنما تكون على جهة الرضا لا على جهة اللجاج، وهو مذهب الشافعي. وأما مالك فالنذر عنده لازم على أي جهة وقع، فهذا ما اختلفوا في لزومه من جهة اللفظ. وأما ما اختلفوا في لزومه من جهة الأشياء المنذور بها فإن فيه من المسائل الأصول اثنتين. @-(المسألة الأولى) اختلفوا فيمن نذر معصية، فقال مالك والشافعي وجمهور العلماء: ليس يلزمه في ذلك شيء. وقال أبو حنيفة وسفيان والكوفيون: بل هو لازم، واللازم عندهم فيه هو كفارة يمين لا فعل المعصية. وسبب اختلافهم تعارض ظواهر الآثار في هذا الباب، وذلك أنه روي في هذا الباب حديثان أحدهما حديث عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصيه" فظاهر هذا أنه لا يلزم النذر بالعصيان: والحديث الثاني حديث عمران بن حصين وحديث أبي هريرة الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين" وهذا نص في معنى اللزوم؛ فمن جمع بينهما في هذا قال: الحديث الأول تضمن الإعلام بأن المعصية لا تلزم وهذا الثاني تضمن لزوم الكفارة؛ فمن رجح ظاهر حديث عائشة إذ لم يصح عنده حديث عمران وأبي هريرة قال: ليس يلزم في المعصية شيء؛ ومن ذهب مذهب الجمع بين الحديثين أوجب في ذلك كفارة يمين. قال أبو عمر بن عبد البر: ضعف أهل الحديث حديث عمران وأبي هريرة قالوا: لأن حديث أبي هريرة يدور على سليمان بن أرقم وهو متروك الحديث. وحديث عمران بن الحصين يدور على زهير بن محمد عن أبيه وأبوه مجهول لم يرو عنه غير ابنه، وزهير أيضا عنده مناكير، ولكنه خرجه مسلم من طريق عقبة بن عامر، وقد جرت عادة المالكية أن يحتجوا لمالك في هذا المسألة بما روي "أن رسول الله ﷺ رأى رجلا قائما في الشمس، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: نذر أن لا يتكلم ولا يستظل ولا يجلس ويصوم، فقال رسول الله ﷺ: مروه فليتكلم وليجلس وليتم صيامه" قالوا: فأمره أن يتم ما كان طاعة لله ويترك ما كان معصية، وليس بالظاهر أن ترك الكلام معصية، وقد أخبر الله أنه نذر مريم، وكذلك يشبه أن يكون القيام في الشمس ليس بمعصية، إلا ما يتعلق بذلك من جهة إتعاب النفس. فإن قيل فيه معصية فبالقياس لا بالنص، فالأصل فيه أنه من المباحات. @-(المسألة الثانية) واختلفوا فيمن حرم على نفسه شيئا من المباحات فقال مالك: لا يلزم ما عدا الزوجة؛ وقال أهل الظاهر: ليس في ذلك شيء؛ وقال أبو حنيفة: في ذلك كفارة يمين. وسبب اختلافهم معارضة مفهوم النظر لظاهر قوله تعالى {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك} وذلك أن النذر ليس هو اعتقاد خلاف الحكم الشرعي أعني من تحريم محلل أو تحليل محرم، وذلك أن التصرف في هذا إنما هو للشارع فوجب أن يكون لمكان هذا المفهوم أن من حرم على نفسه شيئا أباحه الله له بالشرع أنه لا يلزمه كما لا يلزم إن نذر تحليل شيء حرمه الشرع، وظاهر قوله تعالى {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} أثر العتب على التحريم يوجب أن تكون الكفارة تحل هذا العقد، وإن كان ذلك كذلك فهو غير لازم، والفرقة الأولى تأولت التحريم المذكور في الآية أنه كان العقد بيمين. وقد اختلف في الشيء الذي نزلت فيه هذه الآية. وفي كتاب مسلم أن ذلك كان في شربة عسل، وفيه عن ابن عباس أنه قال: إذا حرم الرجل عليه امرأته فهو يمين يكفرها، وقال {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} 3*الفصل الثالث في معرفة الشيء الذي يلزم عنها وأحكامها.

@-وأما اختلافهم في ماذا يلزم في نذر نذر من النذور وأحكام ذلك، فإن فيه اختلافا كثيرا، لكن نشير نحن من ذلك إلى مشهورات المسائل في ذلك، وهي التي تتعلق بأكثر ذلك بالنطق الشرعي على عادتنا في هذا الكتاب، وفي ذلك مسائل خمس: @-(المسألة الأولى) اختلفوا في الواجب في النذر المطلق الذي ليس يعين فيه الناذر شيئا سوى أن يقول: لله علي نذر، فقال كثير من العلماء: في ذلك كفارة يمين لا غير؛ وقال قوم: بل فيه كفارة الظهار؛ وقال قوم: أقل ما ينطلق عليه الاسم من القرب صيام يوم أو صلاة ركعتين، وإنما صار الجمهور لوجوب كفارة اليمين فيه للثابت من حديث عقبة بن عامر أنه عليه الصلاة والسلام قال "كفارة النذر كفارة يمين" خرجه مسلم. وأما من قال صيام يوم أو صلاة ركعتين فإنما ذهب مذهب من يرى أن المجزئ أقل ما ينطلق عليه الاسم، وصلاة ركعتين أو صيام يوم أقل ما ينطلق عليه اسم النذر. وأما من قال فيه كفارة الظهار فخارج عن القياس والسماع. @-(المسألة الثانية) اتفقوا على لزوم النذر بالمشي إلى بيت الله، أعني إذا نذر المشي راجلا. واختلفوا إذا عجز في بعض الطريق فقال قوم: لا شيء عليه؛ وقال قوم: عليه. واختلفوا في ماذا عليه على ثلاثة أقوال: فذهب أهل المدينة إلى أن عليه أن يمشي مرة أخرى من حيث عجز، وإن شاء ركب وأجزأه وعليه دم، وهذا مروي عن علي. وقال أهل مكة: عليه هدي دون إعادة مشي. وقال مالك: عليه الأمران جميعا، يعني أنه يرجع فيمشي من حيث وجب وعليه هدي، والهدي عنده بدنة أو بقرة أو شاة إن لم يجد بقرة أو بدنة. وسبب اختلافهم منازعة الأصول لهذه المسألة ومخالفة الأثر لها، وذلك أن من شبه العاجز إذا مشى مرة ثانية بالمتمتع والقارن من أجل أن القارن فعل ما كان عليه في سفرين في سفر واحد، وهذا فعل ما كان عليه في سفر واحد في سفرين قال: يجب عليه هدي القارن أو المتمتع؛ ومن شبهه بسائر الأفعال التي تنوب عنها في الحج إراقة الدم قال: فيه دم؛ ومن أخذ بالآثار الواردة في هذا الباب قال: إذا عجز فلا شيء عليه. قال أبو عمر: والسنن الواردة الثابتة في هذا الباب دليل على طرح المشقة وهو كما قال، واحدها حديث عقبة بن عامر الجهني قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله عز وجل فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله ﷺ، فاستفتيت لها النبي ﷺ فقال "لتمش ولتركب" خرجه مسلم. وحديث أنس بن مالك "أن رسول الله ﷺ رأى رجلا يهادي بين ابنتيه، فسأل عنه فقالوا: نذر أن يمشي، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه، وأمره أن يركب" وهذا أيضا ثابت. @-(المسألة الثالثة) اختلفوا بعد اتفاقهم على لزوم المشي في حج أو عمرة فيمن نذر أن يمشي إلى مسجد النبي ﷺ أو إلى بيت المقدس يريد بذلك الصلاة فيهما، فقال مالك والشافعي: يلزمه المشي؛ وقال أبو حنيفة: لا يلزمه شيء وحيث صلى أجزأه، وكذلك عنده إن نذر الصلاة في المسجد الحرام، وإنما وجب عنده المشي بالنذر إلى المسجد الحرام لمكان الحج والعمرة. وقال أبو يوسف صاحبه: من نذر أن يصلي في بيت المقدس أو في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام لزمه، وإن صلى في البيت الحرام أجزأه عن ذلك، وأكثر الناس على أن النذر لما سوى هذه المساجد الثلاثة لا يلزم لقوله عليه الصلاة والسلام "لا تسرج المطي إلا لثلاث، فذكر المسجد الحرام ومسجده وبيت المقدس" وذهب بعض الناس إلى أن النذر إلى المساجد التي يرجى فيها فضل زائد واجب، واحتج في ذلك بفتوى ابن عباس لولد المرأة التي نذرت أن تمشي إلى مسجد قباء فماتت أن يمشي عنها. وسبب اختلافهم في النذر إلى ما عدا المسجد الحرام اختلافهم في المعنى الذي إليه تسرج المطي إلى هذه الثلاث مساجد، هل ذلك لموضع صلاة الفرض فيما عدا البيت الحرام أو لموضع صلاة النفل؟ فمن قال لموضع صلاة الفرض وكان الفرض عنده لا ينذر إذ كان واجبا بالشرع قال: النذر بالمشي إلى هذين المسجدين غير لازم؛ ومن كان عنده أن النذر قد يكون في الواجب أو أنه أيضا قد يقصد هذان المسجدان لموضع صلاة النفل لقوله عليه الصلاة والسلام "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" واسم الصلاة يشمل الفرض والنفل، قال: هو واجب؛ لكن أبو حنيفة حمل هذا الحديث على الفرض مصيرا إلى الجمع بينه وبين قوله عليه الصلاة والسلام "صلاة أحدكم في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة" وإلا وقع التضاد بين هذين الحديثين، وهذه المسألة هي أن تكون من الباب الثاني أحق من أن تكون من هذا الباب. @-(المسألة الرابعة) واختلفوا في الواجب على أن من نذر أن ينحر ابنه في مقام إبراهيم، فقال مالك: ينحر جزورا فداء له؛ وقال أبو حنيفة: ينحر شاة، وهو أيضا مروي عن ابن عباس؛ وقال بعضهم: بل ينحر مائة من الإبل، وقال بعضهم: يهدي ديته، وروي ذلك عن علي؛ وقال بعضهم: بل يحج به؛ وبه قال الليث؛ وقال أبو يوسف والشافعي: لا شيء عليه لأنه نذر معصية ولا نذر في معصية. وسبب اختلافهم قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أعني هل ما تقرب به إبراهيم هو لازم للمسلمين أم ليس بلازم؟ فمن رأى أن ذلك شرع خص به إبراهيم قال: لا يلزم النذر؛ ومن رأى أنه لازم لنا قال: النذر لازم. والخلاف في هل يلزمنا شرع من قبلنا مشهور، لكن يتطرق إلى هذا خلاف آخر، وهو أن الظاهر من هذا الفعل أنه كان خاصا بإبراهيم ولم يكن شرعا لأهل زمانه، وعلى هذا فليس ينبغي أن يختلف هل هو شرع لنا أم ليس بشرع؟ والذين قالوا إنه شرع إنما اختلفوا في الواجب في ذلك من قبل اختلافهم أيضا في هل يحمل الواجب في ذلك على الواجب إبراهيم، أم يحمل على غير ذلك من القرب الإسلامية، وذلك إما صدقة بديته، وإما حج به، وإما هدي بدنة. وأما الذين قالوا مائة من الإبل، فذهبوا إلى حديث عبد المطلب. @-(المسألة الخامسة) واتفقوا على أن من نذر أن يجعل ماله كله في سبيل الله أو في سبيل من سبل البر أنه يلزمه وأنه ليس ترفعه الكفارة وذلك إذا كان نذرا على جهة الخبر لا على جهة الشرط وهو الذي يسمونه يمينا. واختلفوا فيمن نذر ذلك على جهة الشرط مثل أن يقول: مالي للمساكين إن فعلت كذا ففعله؛ فقال قوم: ذلك لازم كالنذر على جهة الخبر ولا كفارة فيه وهو مذهب مالك في النذور التي صيغها هذه الصيغة، أعني أنه لا كفارة فيه؛ وقال قوم: الواجب في ذلك كفارة يمين فقط، وهو مذهب الشافعي في النذور التي مخرجها مخرج الشرط لأنه ألحقها بحكم الأيمان؛ وأما مالك فألحقها بحكم النذور على ما تقدم من قولنا في كتاب الأيمان، والذين اعتقدوا وجوب إخراج ماله في الموضع الذي اعتقدوه اختلفوا في الواجب عليه، فقال مالك: يخرج ثلث ماله فقط؛ وقال قوم: بل يجب عليه إخراج جميع ماله، وبه قال إبراهيم النخعي وزفر؛ وقال أبو حنيفة: يخرج جميع الأموال التي تجب الزكاة فيها، وقال بعضهم: إن أخرج مثل زكاة ماله أجزأه. وفي المسألة قول خامس. وهو إن كان المال كثيرا أخرج خمسه وإن كان وسطا أخرج سبعه وإن كان يسيرا أخرج عشره، وحد هؤلاء الكثير بألفين، والوسط بألف، والقليل بخمسمائة، وذلك مروي عن قتادة. والسبب في اختلافهم في هذه المسألة، أعني من قال المال كله أو ثلثه معارضة الأصل في هذا الباب للأثر، وذلك أن ما جاء في حديث أبي لبابة بن عبد المنذر حين تاب الله عليه وأراد أن يتصدق بجيع ماله، فقال رسول الله ﷺ "يجزيك من ذلك الثلث" هو نص في مذهب مالك. وأما الأصل فيوجب أن اللازم له إنما هو جميع ماله حملا على سائر النذر، أعني أنه يجب الوفاء به على الوجه الذي قصده لكن الواجب هو استثناء هذه المسألة من هذه القاعدة، إذ قد استثناها النص، إلا أن مالكا لم يلزم في هذه المسألة أصله، وذلك أنه قال: إن حلف أو نذر شيئا معينا لزمه وإن كان كل ماله، وكذلك يلزم عنده إن عين جزءا من ماله وهو أكثر من الثلث، وهذا مخالف لنص ما رواه في حديث أبي لبابة وفي قول رسول الله ﷺ للذي جاء بمثل بيضة من ذهب فقال: أصبت هذا من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله ﷺ، ثم جاءه عن يمينه ثم عن يساره ثم من خلفه، فأخذها رسول الله ﷺ فحذفه بها، فلو أصابه بها لأوجعه، وقال عليه الصلاة والسلام "يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس، خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" وهذا نص في أنه لا يلزم المال المعين إذا تصدق به وكان جميع ماله؛ ولعل مالكا لم تصح عنده هذه الآثار. وأما سائر الأقاويل التي قيلت في هذه المسألة فضعاف، وبخاصة من حد في ذلك غير الثلث، وهذا القدر كاف في أصول هذا الكتاب، والله الموفق للصواب. 2*كتاب الضحايا

@-وهذا الكتاب في أصوله أربعة أبواب: الباب الأول: في حكم الضحايا ومن المخاطب بها. الباب الثاني: في أنواع الضحايا وصفاتها وأسنانها وعددها. الباب الثالث: في أحكام الذبح. الباب الرابع: في أحكام لحوم الضحايا. 3*الباب الأول في حكم الضحايا، ومن المخاطب بها

@-اختلف العلماء في الأضحية هل هي واجبة أم هي سنة؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنها من السنن المؤكدة؛ ورخص مالك للحاج في تركها بمنى؛ ولم يفرق الشافعي في ذلك بين الحاج وغيره؛ وقال أبو حنيفة: الضحية واجبة على المقيمين في الأمصار الموسرين، ولا تجب على المسافرين؛ وخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا: إنها ليست بواجبة؛ وروي عن مالك مثل قول أبي حنيفة. وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما هل فعله عليه الصلاة والسلام في ذلك محمول على الوجوب أو على الندب، وذلك أنه لم يترك ﷺ الضحية قط فيما روي عنه حتى في السفر على ما جاء في حديث ثوبان قال: "ذبح رسول الله ﷺ أضحيته ثم قال: يا ثوبان أصلح لحم هذه الضحية، قال: فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة". والسبب الثاني اختلافهم في مفهوم الأحاديث الواردة في أحكام الضحايا، وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أم سلمة أنه قال "إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره شيئا ولا من أظفاره" قالوا: فقوله: "إذا أراد أحدكم أن يضحي" فيه دليل على أن الضحية ليست بواجبة. ولما أمر عليه الصلاة والسلام لأبي بردة بإعادة أضحيته إذ ذبح قبل الصلاة فهم قوم من ذلك الوجوب، ومذهب ابن عباس أن لا وجوب. قال عكرمة: بعثني ابن عباس بدرهمين أشتري بهما لحما وقال: من لقيت فقل له هذه ضحية ابن عباس وروي عن بلال أنه ضحى بديك، وكل حديث ليس بوارد في الغرض الذي يحتج فيه به فالاحتجاج به ضعيف. واختلفوا هل يلزم الذي يريد التضحية أن لا يأخذ من العشر الأول من شعره وأظفاره، والحديث بذلك ثابت. 3*الباب الثاني في أنواع الضحايا وصفاتها وأسنانها وعددها.

@-وفي هذا الباب أربع مسائل مشهورة: إحداها في تمييز الجنس. والثانية: في تمييز الصفات. والثالثة: في معرفة السن. والرابعة: في العدد. @-(المسألة الأولى) أجمع العلماء على جواز الضحايا من جميع بهيمة الأنعام، واختلفوا في الأفضل من ذلك، فذهب مالك إلى أن الأفضل في الضحايا: الكباش ثم البقر ثم الإبل، بعكس الأمر عنده في الهدايا؛ وقد قيل عنه الإبل ثم البقر ثم الكباش؛ وذهب الشافعي إلى عكس ما ذهب إليه مالك في الضحايا: الإبل ثم البقر ثم الكباش، وبه قال أشهب وابن شعبان. وسبب اختلافهم معارضة القياس لدليل الفعل، وذلك أنه لم يرو عنه عليه الصلاة والسلام أنه ضحى إلا بكبش، فكان ذلك دليلا على أن الكباش في الضحايا أفضل، وذلك فيما ذكر بعض الناس وفي البخاري عن ابن عمر ما يدل ما يدل على خلاف ذلك وهو أنه قال "كان رسول الله ﷺ يذبح وينحر بالمصلى" وأما القياس فلأن الضحايا قربة بحيوان فوجب أن يكون الأفضل فيها الأفضل في الهدايا، وقد احتج الشافعي لمذهبه بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا" الحديث، فكان الواجب حمل هذا على جميع القرب بالحيوان. وأما مالك فحمله على الهدايا فقط لئلا يعارض الفعل القول وهو الأولى. وقد يمكن أن يكون لاختلافهم سبب آخر، وهو هل الذبح العظيم الذي فدى به إبراهيم سنة باقية إلى اليوم وإنها الأضحية، وإن ذلك معنى قوله {وتركنا عليه في الآخرين} فمن ذهب إلى هذا قال: الكباش أفضل؛ ومن رأى أن ذلك ليست سنة باقية لم يكن عنده دليل على أن الكباش أفضل، مع أنه قد ثبت أن رسول الله ﷺ ضحى بالأمرين جميعا وإذا كان ذلك كذلك فالواجب المصير إلى قول الشافعي، وكلهم مجمعون على أنه لا تجوز الضحية بغير بهيمة الأنعام إلا ما حكى عن الحسن بن صالح أنه قال: تجوز التضحية ببقرة الوحش عن سبعة، والظبي عن واحد. @-(المسألة الثانية) أجمع العلماء على اجتناب العرجاء البين عرجها في الضحايا والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقى (العجفاء التي لا تنقى: أي التي لا مخ في عظامها) مصيرا لحديث البراء بن عازب أن رسول الله ﷺ سئل ماذا ينقى من الضحايا؟ فأشار بيده وقال: "أربع" وكان البراء يشير بيده ويقول: يدي أقصر من يد رسول الله ﷺ: العرجاء البين عرجها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقى". وكذلك أجمعوا على أن ما كان من هذه الأربع خفيفا فلا تأثير له في منع الإجزاء. واختلفوا في موضعين: أحدهما فيما كان من العيوب أشد من هذه المنصوص عليها مثل العمى وكسر الساق. والثاني فيما كان مساويا لها في إفادة النقص وشينها، أعني ما كان من العيوب في الأذن والعين والذنب والضرس وغير ذلك من الأعضاء ولم يكن يسيرا. فأما الموضع الأول، فإن الجمهور على أن ما كان أشد من هذه العيوب المنصوص عليها فهي أحرى أن تمنع الإجزاء. وذهب أهل الظاهر إلى أنه لا تمنع الإجزاء ولا يتجنب بالجملة أكثر من هذه العيوب التي وقع النص عليها. وسبب اختلافهم هل هذا اللفظ الوارد هو خاص أريد به الخصوص، أو خاص أريد به العموم؟ فمن قال أريد به الخصوص ولذلك أخبر بالعدد قال: لا يمنع الإجزاء إلا هذه الأربعة فقط؛ ومن قال هو خاص أريد به العموم وذلك من النوع الذي يقع فيه التنبيه بالأدنى على الأعلى قال: ما هو أشد من المنصوص عليها فهو أحرى أن لا يجزى. وأما الموضع الثاني، أعني ما كان من العيوب في سائر الأعضاء مفيدا للنقص على نحو إفادة هذه العيوب المنصوص عليها له فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها أنها تمنع الإجزاء كمنع المنصوص عليها، وهو المعروف من مذهب مالك في الكتب المشهورة. والقول الثاني أنها لا تمنع الإجزاء وإن كان يستحب اجتنابها، وبه قال ابن القصار وابن الجلاب وجماعة من البغداديين من أصحاب مالك. والقول الثالث أنها لا تمنع الإجزاء ولا يستحب تجنبها، وهو قول أهل الظاهر. وسبب اختلافهم شيئان أحدهما اختلافهم في مفهوم الحديث المتقدم. والثاني تعارض الآثار في هذا الباب. أما الحديث المتقدم، فمن رآه من باب الخاص أريد به الخاص قال: لا يمنع ما سوى الأربع مما هو مساو لها أو أكثر منها. وأما من رآه من باب الخاص أريد به العام وهم الفقهاء، فمن كان عنده أنه من باب التبيه بالأدنى على الأعلى فقط، لا من باب التنبيه بالمساوى على المساوى قال: يلحق بهذه الأربع ما كان أشد منها، ولا يلحق بها ما كان مساويا لها في منع الإجزاء إلا على وجه الاستحباب؛ ومن كان عنده أنه من باب التنبيه على الأمرين جميعا أعني على ما هو أشد من المنطوق به أو مساويا له قال: تمنع العيوب الشبيهة بالمنصوص عليها الإجزاء كما يمنعه العيوب التي هي أكبر منها، فهذا هو أحد أسباب الخلاف في هذه المسألة، وهو من قبل تردد اللفظ بين أن يفهم منه المعنى الخاص أو المعنى العام، ثم إن من فهم منه العام، فأي عام هو؟ هل الذي هو أكثر من ذلك؟ أو الذي هو أكثر والمساوي معا على المشهور من مذهب مالك؟ وأما السبب الثاني فإنه ورد في هذا الباب من الأحاديث الحسان حديثان متعارضان، فذكر النسائي عن أبي بردة أنه قال: "يا رسول الله أكره النقص يكون في القرن والأذن، فقال له النبي ﷺ: ما كرهته فدعه ولا تحرمه على غيرك" وذكر علي بن أبي طالب قال "أمرنا رسول الله ﷺ أن نستشرف العين والأذن ولا يضحى بشرقاء ولا خرقاء ولا مدابرة ولا بتراء" والشرقاء: المشقوقة الأذن. والخرقاء: المثقوبة الأذن. والمدابرة: التي قطع من جنبتي أذنها من خلف. فمن رجح حديث أبي بردة قال: لا يتقي إلا العيوب الأربع أو ما هو أشد منها؛ ومن جمع بين الحديثين بأن حمل حديث أبي بردة على اليسير الذي هو غير بين وحديث علي على الكثير الذي هو بين ألحق بحكم المنصوص عليها ما هو مساو لها، ولذلك جرى أصحاب هذا المذهب إلى التحديد فيما يمنع الإجزاء مما يذهب من هذه الأعضاء، فاعتبر بعضهم ذهاب الثلث من الأذن والذنب، وبعضهم اعتبر الأكثر؛ وكذلك الأمر في ذهاب الأسنان وأطباء الثدي، وأما القرن فإن مالكا قال: ليس ذهاب جزء منه عيبا إلا أن يكون يدمى فإنه عنده من باب المرض، ولا خلاف في أن المرض البين يمنع الإجزاء. وخرج أبو داود "أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أعصب الأذن والقرن" واختلفوا في الصكاء وهي التي خلقت بلا أذنين، فذهب مالك والشافعي إلى أنها لا تجوز؛ وذهب أبو حنيفة إلى أنه إذا كان خلقة جاز كالأجم ولم يختلف الجمهور أن قطع الأذن كله أو أكثره عيب، وكل هذا الاختلاف راجع إلى ما قدمناه. واختلفوا في الأبتر؛ فقوم أجازوه لحديث جابر الجعفي عن محمد بن قرظة عن أبي سعيد الخدري أنه قال "اشتريت كبشا لأضحي به، فأكل الذئب ذنبه، فسألت رسول الله ﷺ، فقال: ضح به" وجابر عند أكثر المحدثين لا يحتج به وقوم أيضا منعوه لحديث علي المتقدم. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي معرفة السن المشترطة في الضحايا فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز الجذع من المعز بل الثني فما فوقه لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بردة لما أمره بالإعادة "يجزيك، ولا يجذي جذع عن أحد غيرك" واختلفوا في الجذع من الضأن، فالجمهور على جوازه، وقال قوم: بل الثني من الضأن. وسبب اختلافهم معارضة العموم للخصوص، فالخصوص هو حديث جابر قال: قال رسول الله ﷺ "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" خرجه مسلم. والعموم هو ما جاء في حديث أبي بردة بن نيار خرجه من قوله عليه الصلاة والسلام "ولا تجزي جذعة عن أحد بعدك" فمن رجح هذا العموم على الخصوص، وهو مذهب أبي محمد بن حزم في هذه المسألة لأنه زعم أن أبا الزبير مدلس عند المحدثين، والمدلس عندهم من ليس يجري العنعنة من قوله مجرى المسند لتسامحه في ذلك، وحديث أبي بردة لا مطعن فيه. وأما من ذهب إلى بناء الخاص على العام على ما هو مشهور عند جمهور الأصوليين فإنه استثنى من ذلك العموم جذع الضأن المنصوص عليها وهو الأولى، وقد صحح هذا الحديث أبو بكر بن صفور (هكذا بالأصل وليحرر)، وخطأ أبا محمد بن حزم فيما نسب إلى أبي الزبير في غالب ظني في قول له رد فيه على ابن حزم. @-(وأما المسألة الرابعة) وهي عدد ما يجزي من الضحايا عن المضحين فإنهم اختلفوا في ذلك، فقال مالك: يجوز أن يذبح الرجل الكبش أو البقرة أو البدنة مضحيا عن نفسه وعن أهل بيته الذين تلزمه نفقتهم بالشرع، وكذلك عنده الهدايا؛ وأجاز الشافعي وأبو حنيفة وجماعة أن ينحر الرجل البدنة عن سبع، وكذلك البقرة مضحيا أو مهديا، وأجمعوا على أن الكبش لا يجزي إلا عن واحد، إلا ما رواه مالك من أنه يجزي أن يذبحه الرجل عن نفسه وعن أهل بيته لا على جهة الشركة بل إذا اشتراه مفردا، وذلك لما روي عن عائشة أنها قالت "كنا بمنى فدخل علينا بلحم بقر، فقلنا ما هو؟ فقالوا: ضحى رسول الله ﷺ عن أزواجه" وخالفه في ذلك أبو حنيفة والثوري على وجه الكراهة لا على وجه عدم الإجزاء. وسبب اختلافهم معارضة الأصل في ذلك للقياس المبني على الأثر الوارد في الهدايا، وذلك أن الأصل هو أن لا يجزي إلا واحد عن واحد، ولذلك اتفقوا على منع الاشتراك في الضأن، وإنما قلنا: إن الأصل هو أن لا يجزي إلا واحد عن واحد، لأن الأمر بالتضحية لا يتبعض إذ كان من كان له شرك في ضحية ليس ينطلق عليه اسم مضح إلا إن قام الدليل الشرعي على ذلك. وأما الأثر الذي انبنى عليه القياس المعارض لهذا الأصل فما روي عن جابر أنه قال "نحرنا مع رسول الله ﷺ عام الحديبية البدنة عن سبع" وفي بعض روايات الحديث "سن رسول الله ﷺ البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة" فقاس الشافعي وأبو حنيفة الضحايا في ذلك على الهدايا؛ وأما مالك فرجح الأصل على القياس المبني على هذا الأثر لأنه اعتل لحديث جابر بأن ذلك كان حين صد المشركون رسول الله ﷺ عن البيت، وهدي المحصر بعد ليس هو عنده واجبا وإنما هو تطوع، وهدي التطوع يجوز عنده فيه الاشتراك، ولا يجوز الاشتراك في الهدي الواجب، لكن على القول بأن الضحايا غير واجبة فقد يمكن قياسها على هذا الهدي؛ وروي عنه ابن القاسم أنه لا يجوز الاشتراك لا في هدي تطوع ولا في هدي وجوب، وهذا كأنه رد للحديث لمكان مخالفته للأصل في ذلك، وأجمعوا على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك أكثر من سبعة. وإن كان قد روي من حديث رافع بن خديج ومن طريق ابن عباس وغيره "البدنة عن عشرة". وقال الطحاوي: وإجماعهم على أنه لا يجوز أن يشترك في النسك أكثر من سبعة دليل على أن الآثار في ذلك غير صحيحة، وإنما صار مالك لجواز تشريك الرجل أهل بيته في أضحيته أو هدية لما رواه عن ابن شهاب أنه قال "ما نحر رسول الله ﷺ عن أهل بيته إلا بدنة واحدة أو بقرة واحدة" وإنما خولف مالك في الضحايا في هذا المعنى، أعني في التشريك لأن الإجماع انعقد على منع التشريك فيه في الأجانب، فوجب أن يكون الأقارب في ذلك في قياس الأجانب، وإنما فرق مالك في ذلك بين الأجانب والأقارب لقياسه الضحايا على الهدايا في الحديث الذي احتج به: أعني حديث ان شهاب، فاختلافهم في هذه المسألة إذا رجع إلى تعارض الأقيسة في هذا الباب: أعني إما إلحاق الأقارب بالأجانب، وإما قياس الضحايا على الهدايا. 3*الباب الثالث في أحكام الذبح.

@-ويتعلق بالذبح المختص بالضحايا النظر في الوقت والذبح. أما الوقت فإنهم اختلفوا فيه في ثلاثة مواضع: في ابتدائه وفي انتهائه وفي الليالي المتخللة له. فأما في ابتدائه، فإنهم اتفقوا على أن الذبح قبل الصلاة لا يجوز لثبوت قوله عليه الصلاة والسلام "من ذبح قبل الصلاة فإنما هي شاة لحم" وأمره بالإعادة لمن ذبح قبل الصلاة وقوله "أول ما نبدأ به في يومنا هذا هو أن نصلي ثم ننحر" إلى غير ذلك من الآثار الثابتة التي في هذا المعنى. واختلفوا فيمن ذبح قبل ذبح الإمام وبعد الصلاة، فذهب مالك إلى أنه لا يجوز لأحد ذبح أضحيته قبل ذبح الإمام؛ وقال أبو حنيفة والثوري: يجوز الذبح بعد الصلاة وقبل ذبح الإمام. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه جاء في بعضها "أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر لمن ذبح قبل الصلاة أن يعيد الذبح"، وفي بعضها "أنه أمر لمن ذبح قبل ذبحه أن يعيد" وخرج هذا الحديث الذي فيه هذا المعنى مسلم؛ فمن جعل ذلك موطنين اشترط ذبح الإمام في جواز الذبح؛ ومن جعل لذلك موطنا واحدا قال: إنما يعتبر في إجزاء الذبح الصلاة فقط. وقد اختلفت الرواية في حديث أبي بردة ابن نيار، وذلك أن في بعض رواياته "أنه ذبح قبل الصلاة فأمره رسول الله ﷺ أن يعيد الذبح" وفي بعضها "أنه ذبح قبل ذبح رسول الله ﷺ فأمره بالإعادة" وإذا كان ذلك كذلك فحمل قول الراوي أنه ذبح قبل رسول الله ﷺ، وقول الآخر ذبح قبل الصلاة على موطن واحد أولى، وذلك أن من ذبح قبل الصلاة فقد ذبح قبل رسول الله ﷺ، فيجب أن يكون المؤثر في عدم الإجزاء إنما هو الذبح قبل الصلاة كما جاء في الآثار الثابتة في ذلك من حديث أنس وغيره "أن من ذبح قبل الصلاة فليعد" وذلك أن تأصيل هذا الحكم منه ﷺ يدل بمفهوم الخطاب دلالة قوية أن الذبح بعد الصلاة يجزئ، لأنه لو كان هنالك شرط آخر مما يتعلق به إجزاء الذبح لم يسكت عنه رسول الله ﷺ مع أن فرضه التبيين، ونص حديث أنس هذا قال: قال رسول الله ﷺ يوم النحر "من كان ذبح قبل الصلاة فليعد" واختلفوا من هذا الباب في فرع مسكوت عنه، وهو متى يذبح من ليس له إمام من أهل القرى؟ فقال مالك: يتحرون ذبح أقرب الأئمة إليهم؛ وقال الشافعي: يتحرون قدر الصلاة والخطبة ويذبحون؛ وقال أبو حنيفة: من ذبح من هؤلاء بعد الفجر أجزأه؛ وقال قوم: بعد طلوع الشمس؛ وكذلك اختلف أصحاب مالك في فرع آخر، وهو إذا لم يذبح الإمام في المصلى، فقال قوم: يتحرى ذبحه بعد انصرافه؛ وقال قوم: ليس يجب ذلك. وأما آخر زمان الذبح فإن مالكا قال: آخره اليوم الثالث من أيام النحر وذلك مغيب الشمس. فالذبح عنده هو في الأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وجماعة؛ وقال الشافعي والأوزاعي: الأضحى أربعة يوم النحر وثلاثة أيام بعده. وروي عن جماعة أنهم قالوا: الأضحى يوم واحد وهو يوم النحر خاصة؛ وقد قيل الذبح إلى آخر يوم من ذي الحجة وهو شاذ لا دليل عليه، وكل هذه الأقاويل مروية عن السلف. وسبب اختلافهم شيئان: أحدهما اختلافهم في الأيام المعلومات ما هي في قوله تعالى {ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} فقيل يوم النحر ويومان بعده وهو المشهور؛ وقيل العشر الأول من ذي الحجة. والسبب الثاني معارضة دليل الخطاب في هذه الآية لحديث جبير بن مطعم، وذلك أنه ورد فيه عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال "كل فجاج مكة منحر وكل أيام التشريق ذبح" فمن قال في الأيام المعلومات إنها يوم النحر ويومان بعده في هذه الآية ورجح دليل الخطاب فيها على الحديث المذكور قال "لا نحر إلا في هذه الأيام" ومن رأى الجمع بين الحديث والآية وقال لا معارضة بينهما إذ الحديث اقتضى حكما زائدا على ما في الآية، مع أن الآية ليس المقصود منها تحديد أيام الذبح، والحديث المقصود منه ذلك قال: يجوز الذبح في اليوم الرابع إذ كان باتفاق من أيام التشريق، ولا خلاف بينهم أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق وأنها ثلاثة بعد يوم النحر، إلا ما روي عن سعيد بن جبير أنه قال: يوم النحر من أيام التشريق. وإنما اختلفوا في الأيام المعلومات على القولين المتقدمين. وأما من قال يوم النحر فقط فبناء على أن المعلومات هي العشر الأول قال: وإذا كان الإجماع قد انعقد أنه لا يجوز الذبح منها إلا في اليوم العاشر وهي محل الذبح المنصوص عليها فواجب أن يكون الذبح إنما هو يوم النحر فقط. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي اختلافهم في الليالي التي تتخلل أيام النحر، فذهب مالك في المشهور عنه إلى أنه لا يجوز الذبح في ليالي أيام التشريق ولا النحر. وذهب الشافعي وجماعة إلى جواز ذلك. وسبب اختلافهم الاشتراك الذي في اسم اليوم، وذلك أنه مرة يطلقه العرب على النهار والليلة مثل قوله تعالى {فتمتعوا في داركم ثلاثة أيام} ومرة يطلقه على الأيام دون الليالي مثل قوله تعالى {سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما} فمن جعل اسم اليوم يتناول الليل مع النهار في قوله تعالى {ليذكروا اسم الله في أيام معلومات} قال: يجوز الذبح بالليل والنهار في هذه الأيام؛ ومن قال ليس يتناول اسم اليوم الليل في هذه الآية قال: لا يجوز الذبح ولا النحر بالليل. والنظر هل اسم اليوم أظهر في أحدهما من الثاني، ويشبه أن يقال إنه أظهر في النهار منه في الليل، لكن إن سلمنا أن دلالته في الآية هي على النهار فقط لم يمنع الذبح بالليل إلا بنحو ضعيف من إيجاب دليل الخطاب، وهو تعليق ضد الحكم بضد مفهوم الاسم، وهذا النوع من أنواع الخطاب هو من أضعفها حتى إنهم قالوا ما قال به أحد المتكلمين إلا الدقاق فقط إلا أن يقول قائل إن الأصل هو الحظر في الذبح، وقد ثبت جوازه بالنهار، فعلى من جوزه بالليل الدليل. وأما الذابح فإن العلماء استحبوا أن يكون المضحي هو الذي يلي ذبح أضحيته بيده، واتفقوا على أنه يجوز أن يوكل غيره على الذبح. واختلفوا هل تجوز الضحية إن ذبحها غيره بغير إذنه، فقيل لا يجوز، وقيل بالفرق بين أن يكون صديقا أو ولدا أو أجنبيا، أعني أنه يجوز أن كان صديقا أو ولدا، ولم يختلف المذهب فيما أحسب أنه إن كان أجنبيا أنها لا تجوز. 3*الباب الرابع في أحكام لحوم الضحايا.

@-واتفقوا على أن المضحي مأمور أن يأكل من لحم أضحيته ويتصدق لقوله تعالى {فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير} وقوله تعالى {وأطعموا القانع والمعتر} ولقوله ﷺ في الضحايا "كلوا وتصدقوا وادخروا". واختلف مذهب مالك هل يؤمر بالأكل والصدقة معا، أم هو مخير بين أن يفعل أحد الأمرين؟ أعني أن يأكل الكل أو يتصدق بالكل؟ وقال ابن المواز له أن يفعل أحد الأمرين؛ واستحب كثير من العلماء أن يقسمها أثلاثا: ثلثا للادخار، وثلثا للصدقة، وثلثا للأكل لقوله عليه الصلاة والسلام "فكلوا وتصدقوا وادخروا" وقال عبد الوهاب في الأكل إنه ليس بواجب في المذاهب خلافا لقوم أوجبوا ذلك، وأظن أهل الظاهر يوجبون تجزئة لحوم الضحايا إلى الأقسام الثلاثة التي يتضمنها الحديث والعلماء متفقون فيما علمت أنه لا يجوز مع لحمها، واختلفوا في جلدها وشعرها وما عدا ذلك مما ينتفع به منها، فقال الجمهور: لا يجوز يبعه؛ وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه بغير الدراهم والدنانير: أي بالعروض. وقال عطاء: يجوز بكل شيء دراهم ودنانير وغير ذلك، وإنما فرق أبو حنيفة بين الدراهم وغيرها، لأنه رأى أن المعاوضة بالعروض هي من باب الانتفاع لإجماعهم على أنه يجوز أن ينتفع به، وهذا القدر كاف في قواعد هذا الكتاب والحمد لله. 2*كتاب الذبائح

@-والقول المحيط بقواعد هذا الكتاب ينحصر في خمسة أبواب: الباب الأول: في معرفة محل الذبح والنحر، وهو المذبوح أو المنحور. الباب الثاني: في معرفة الذبح والنحر. الباب الثالث: في معرفة الآلة التي بها يكون الذبح والنحر. الباب الرابع: في معرفة شروط الذكاة. الباب الخامس: في معرفة الذابح والناحر والأصول هي الأربعة، والشروط يمكن أن تدخل في الأربعة الأبواب والأسهل في التعليم أن يجعل بابا على حدته. 3*الباب الأول في معرفة محل الذبح والنحر.

@-والحيوان في اشتراط الذكاة في أكله على قسمين: حيوان لا يحل إلا بذكاة، وحيوان يحل بغير ذكاة. ومن هذه ما اتفقوا عليه ومنها ما اختلفوا فيه. واتفقوا على أن الحيوان الذي يعمل فيه الذبح هو الحيوان البري ذو الدم الذي ليس بمحرم ولا منفوذ المقاتل ولا ميئوس منه بوقذ أو نطح أو ترد أو افتراس سبع أو مرض، وأن الحيوان البحري ليس يحتاج إلى ذكاة. واختلفوا في الحيوان الذي ليس يدمي مما يجوز أكله مثل الجراد وغيره هل له ذكاة أم لا؟ وفي الحيوان المدمي الذي يكون تارة في البحر وتارة في البر مثل السلحفاة وغيره. واختلفوا في تأثير الذكاة في الأصناف التي نص عليها في آية التحريم وفي تأثير الذكاة فيما لا يحل أكله، أعني في تحليل الانتفاع بجلودها وسلب النجاسة عنها، ففي هذا الباب إذا ست مسائل أصول: المسألة الأولى: في تأثير الذكاة في الأصناف الخمسة التي نص عليها في الآية إذا أدركت حية. المسألة الثانية: في تأثير الذكاة في الحيوان المحرم الأكل. المسألة الثالثة: في تأثير الذكاة في المريضة. المسألة الرابعة: في هل ذكاة الجنين ذكاة أمه أم لا؟ المسألة الخامسة: هل للجراد ذكاة أم لا؟ المسألة السادسة: هل للحيوان الذي يأوي في البر تارة وفي البحر تارة ذكاة أم لا؟. @-(المسألة الأولى) أما المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع فإنهم اتفقوا فيما أعلم أنه إذا لم يبلغ الخنق منها أو الوقذ منها إلى حالة لا يرجى فيها أن الذكاة عاملة فيها، أعني أنه إذا غلب على الظن أنها تعيش، وذلك بأن لا يصاب لها مقتل. واختلفوا إذا غلب على الظن أنها تهلك من ذلك بإصابة مقتل أو غيره، فقال قوم: تعمل الذكاة فيها، وهو مذهب أبي حنيفة والمشهور من قول الشافعي، وهو قول الزهري وابن عباس؛ وقال قوم: لا تعمل الذكاة فيها؛ وعن مالك في ذلك الوجهان، ولكن الأشهر أنها لا تعمل في الميئوس منها: وبعضهم تأول في المذهب أن الميئوس منها على ضربين ميئوسة مشكوك فيها، وميئوسة مقطوع بموتها وهي المنفوذة المقاتل على اختلاف بينهم أيضا في المقاتل قال: فأما الميئوسة المشكوك فيها ففي المذهب فيها روايتان مشهورتان؛ وأما المنفوذة المقاتل فلا خلاف في المذهب المنقول أن الذكاة لا تعمل فيها وإن كان يتخرج فيها الجواز على وجه ضعيف. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم قوله تعالى {إلا ما ذكيتم} هل هو استثناء متصل فيخرج من الجنس بعض ما يتناوله اللفظ وهو المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع على عادة الاستثناء المتصل، أم هو استثناء منقطع لا تأثير له في الجملة المتقدمة، إذ كان هذا أيضا شأن الاستثناء المنقطع في كلام العرب، فمن قال إنه متصل قال: الذكاة تعمل في هذه الأصناف الخمسة؛ وأما من قال الاستثناء منقطع فإنه قال: لا تعمل الذكاة فيها. وقد احتج من قال: إن الاستثناء متصل بإجماعهم على أن الذكاة تعمل في المرجو منها قال: فهذا يدل على أن الاستثناء له تأثير فيها فهو متصل. وقد احتج أيضا من رأى أنه منقطع بأن التحريم لم يتعلق بأعيان هذه الأصناف الخمسة وهي حية وإنما يتعلق بها بعد الموت، وإذا كان ذلك كذلك فالاستثناء منقطع، وذلك أن معنى قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} إنما هو لحم الميتة، وكذلك لحم الموقوذة والمتردية والنطيحة وسائرها: أي لحم الميتة بهذه الأسباب سوى التي تموت من تلقاء نفسها، وهي التي تسمى ميتة أكثر ذلك في كلام العرب أو بالحقيقة قالوا، فلما علم أن المقصود لم يكن تعليق التحريم بأعيان هذه وهي حية، وإنما علق بها بعد الموت، لأن لحم الحيوان محرم في حال الحياة بدليل اشتراط الذكاة فيها، وبدليل قوله عليه الصلاة والسلام "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" وجب أن يكون قوله {إلا ما ذكيتم} استثناء منقطعا، لكن الحق في ذلك أن كيفما كان الأمر في الاستثناء فواجب أن تكون الذكاة تعمل فيها، وذلك أنه إن علقنا التحريم بهذه الأصناف في الآية بعد الموت وجب أن تدخل في التذكية من جهة ما هي حية الأصناف الخمسة وغيرها، لأنها ما دامت حية مساوية لغيرها في ذلك من الحيوان، أعني أنها تقبل الحلية من قبل التذكية التي الموت منها هو سبب الحلية، وإن قلنا إن الاستثناء متصل فلا خفاء بوجوب ذلك، ويحتمل أن يقال: إن عموم التحريم يمكن أن يفهم منه تناول أعيان هذه الخمسة بعد الموت وقبله كالحال في الخنزير الذي لا تعمل فيه الذكاة، فيكون الاستثناء على هذا رافعا لتحريم أعيانها بالتنصيص على عمل الذكاة فيها، وإذا كان ذلك كذلك لم يلزم ما اعترض به ذلك المعترض من الاستدلال على كون الاستثناء منقطعا. وأما من فرق بين المنفوذة المقاتل والمشكوك فيها فيحتمل أن يقال إن مذهبه أن الاستثناء منقطع وأنه إنما جاز تأثير الذكاة في المرجوة بالإجماع، وقاس المشكوكة على المرجوة. ويحتمل أن يقال إن الاستثناء متصل، ولكن استثناء هذا الصنف من الموقوذة بالقياس، وذلك أن الذكاة إنما يجب أن تعمل في حين يقطع أنها سبب الموت، فأما إذا شك هل كان موجب الموت الذكاة أو الوقذ أو النطح أو سائرها فلا يجب أن تعمل في ذلك وهذه هي حال المنفوذة المقاتل، وله أن يقول إن المنفوذة المقاتل في حكم الميتة والذكاة من شرطها أن ترفع الحياة الثابتة لا الحياة الذاهبة. @-(المسألة الثانية) وأما هل تعمل الذكاة في الحيوانات المحرمات الأكل حتى تطهر بذلك جلودهم، فإنهم أيضا اختلفوا في ذلك؛ فقال مالك: الذكاة تعمل في السباع وغيرها ما عدا الخنزير، وبه قال أبو حنيفة، إلا أنه اختلف المذهب في كون السباع فيه محرمة أو مكروهة على ما سيأتي في كتاب الأطعمة والأشربة. وقال الشافعي: الذكاة تعمل في كل حيوان محرم الأكل (ليس هذا مشهور مذهب الشافعي فليراجع ا هـ مصححه) فيجوز بيع جميع أجزائه والانتفاع بها ماعدا اللحم. وسبب الخلاف هل جميع أجزاء الحيوان تابعة للحم في الحلية والحرمة، أم ليست بتابعة للحم؟ فمن قال إنها تابعة للحم قال: إذا لم تعمل الذكاة في اللحم لم تعمل فيما سواه؛ ومن رأى أنها ليست بتابعة قال: وإن لم تعمل في اللحم فإنها تعمل في سائر أجزاء الحيوان، لأن الأصل أنها تعمل في جميع الأجزاء، فإذا ارتفع بالدليل المحرم للحم عملها في اللحم بقي عملها في سائر الأجزاء إلا أن يدل الدليل على ارتفاعه. @-(المسألة الثالثة) واختلفوا في تأثير الذكاة في البهيمة التي أشرفت على الموت من شدة المرض بعد اتفاقهم على عمل الذكاة في التي تشرف على الموت، فالجمهور على أن الذكاة تعمل فيها وهو المشهور عن مالك، وروي عنه أن الذكاة لا تعمل فيها. وسبب الخلاف معارضة القياس للأثر. فأما الأثر فهو ما روي "أن أمة لكعب بن مالك كانت ترعى غنما بسلع فأصيب شاة منها فأدركتها فذكتها بحجر، فسئل رسول الله ﷺ فقال: كلوها" خرجه البخاري ومسلم. وأما القياس فلأن المعلوم من الذكاة أنها إنما تفعل في الحي وهذه في حكم الميت وكل من أجاز ذبحها فإنهم اتفقوا على أنه لا تعمل الذكاة فيها إلا إذا كان فيها دليل على الحياة. واختلفوا فيما هو الدليل المعتبر في ذلك، فبعضهم اعتبر الحركة وبعضهم لم يعتبرها، والأول مذهب أبي هريرة والثاني مذهب زيد بن ثابت؛ وبعضهم اعتبر فيها ثلاث حركات: طرف العين وتحريك الذنب والركض بالرجل، وهو مذهب سعيد بن المسيب وزيد بن أسلم، وهو الذي اختاره محمد بن المواز وبعضهم شرط مع هذه التنفس، وهو مذهب ابن حبيب. @-(المسألة الرابعة) واختلفوا هل تعمل ذكاة الأم في جنينها أم ليس تعمل فيه؟ وإنما هو ميتة، أعني إذا خرج منها بعد ذبح الأم؛ فذهب جمهور العلماء إلى أن ذكاة الأم ذكاة لجنينها، وبه قال مالك والشافعي؛ وقال أبو حنيفة: إن خرج حيا ذبح وأكل، وإن خرج ميتا فهو ميتة. والذين قالوا: إن ذكاة الأم ذكاة له بعضهم اشترط في ذلك تمام خلقته ونبات شعره، وبه قال مالك؛ وبعضهم لم يشترط ذلك، وبه قال الشافعي. وسبب اختلافهم اختلافهم في صحة الأثر المروي في ذلك من حديث أبي سعيد الخدري مع مخالفته للأصول، وحديث أبي سعيد هو قال "سألنا رسول الله ﷺ عن البقرة أو الناقة أو الشاة ينحرها أحدنا فنجد في بطنها جنينا أنأكله أو نلقه؟ فقال: كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه" وخرج مثله الترمذي وأبو داود عن جابر. واختلفوا في تصحيح هذا الأثر فلم يصححه بعضهم وصححه بعضهم وأحد من صححه الترمذي. وأما مخالفة الأصل في هذا الباب للأثر، فهو أن الجنين إذا كان حيا ثم مات بموت أمه فإنما يموت خنقا فهو من المنخنقة التي ورد النص بتحريمها، وإلى تحريمه ذهب أبو محمد بن حزم ولم يرض سند الحديث. وأما اختلاف القائلين بحليته في اشتراطهم نبات الشعر فيه أو لا اشتراطه فالسبب فيه معارضة العموم للقياس، وذلك أن عموم قوله عليه الصلاة والسلام "ذكاة الجنين ذكاة أمه" يقتضي أن لا يقع هنالك تفصيل وكونه محلا للذكاة يقتضي أن يشترط فيه الحياة قياسا على الأشياء التي تعمل فيها التذكية، والحياة لا توجد إلا فيه إذا نبت شعره وتم خلقه، يعضد هذا القياس أن هذا الشرط مروي عن ابن كعب وعن جماعة من الصحابة. وروى معمر عن الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: كان أصحاب رسول الله ﷺ يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه. وروى ابن المبارك عن ابن أبي ليلى قال: قال رسول الله ﷺ "ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أو لم يشعر" إلا أن ابن أبي ليلى سيء الحفظ عندهم، والقياس يقتضي أن تكون ذكاته في ذكاة أمه من قبل أنه جزء منها، وإذا كان ذلك كذلك، فلا معنى لاشتراط الحياة فيه، فيضعف أن يخصص العموم الوارد في ذلك بالقياس الذي تقدم ذكره عن أصحاب مالك. @-(المسألة الخامسة) واختلفوا في الجراد؛ فقال مالك: لا يؤكل من غير ذكاة وذكاته عنده هو أن يقتل إما بقطع رأسه أو بغير ذلك. وقال عامة الفقهاء: يجوز أكل ميتته، وبه قال مطرف؛ وذكاة ما ليس بذي دم عند مالك كذكاة الجراد. وسبب اختلافهم في ميتة الجراد هو هل يتناوله اسم الميتة أم لا في قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} وللخلاف سبب آخر وهو هل هو نثرة حوت أو حيوان بري. @-(المسألة السادسة) واختلفوا في الذي يتصرف في البر والبحر هل يحتاج إلى ذكاة أم لا؟ فغلب قوم فيه حكم البر وغلب آخرون حكم البحر، واعتبر آخرون حيث يكون عيشه ومتصرفه منهما غالبا. 3*الباب الثاني في الذكاة.

@-وفي قواعد هذا الباب مسئلتان: المسألة الأولى: في أنواع الذكاة المختصة بصنف صنف من بهيمة الأنعام. الثانية: في صفة الذكاة. @-(المسألة الأولى) واتفقوا على أن الذكاة في بهيمة الأنعام نحر وذبح، وأن من سنة الغنم والطير الذبح، وأن من سنة الإبل النحر، وأن البقر يجوز فيها الذبح والنحر. واختلفوا هل يجوز النحر في الغنم والطير والذبح في الإبل؟ فذهب مالك إلى أنه لا يجوز النحر في الغنم والطير ولا الذبح في الإبل، وذلك في غير موضع الضرورة: وقال قوم: يجوز جميع ذلك من غير كراهة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة من العلماء. وقال أشهب: إن نحر ما يذبح أو ذبح ما ينحر أكل ولكنه يكره. وفرق ابن بكير بين الغنم والإبل فقال: يؤكل البعير بالذبح ولا تؤكل الشاة بالنحر، ولم يختلفوا في جواز ذلك في موضع الضرورة. وسبب اختلافهم معارضة الفعل للعموم. فأما العموم فقوله عليه الصلاة والسلام "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا" وأما الفعل، فإنه ثبت أن رسول الله ﷺ نحر الإبل والبقر وذبح الغنم، وإنما اتفقوا على جواز ذبح البقر لقوله تعالى {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} وعلى ذبح الغنم لقوله تعالى في الكبش {وفديناه بذبح عظيم} . @-(المسألة الثانية) وأما صفة الذكاة فإنهم اتفقوا على أن الذبح الذي يقطع فيه الودجان والمرئ والحلقوم مبيح للأكل. واختلفوا من ذلك في مواضع: أحدها هل الواجب قطع الأربعة كلها أو بعضها؟ وهل الواجب في المقطوع منها قطع الكل أو الأكثر؟ وهل من شرط القطع أن لا تقع الجوزة إلى جهة البدن بل إلى جهة الرأس، وهل إن قطعها من جهة العنق جاز أكلها أم لا؟ وهل إن تمادى في قطع هذه حتى قطع النخاع جاز ذلك أم لا؟ وهل من شرط الذكاة أن لا يرفع يده حتى يتم الذكاة أم لا؟ فهذه ست مسائل في عدد المقطوع وفي مقداره وفي موضعه وفي نهاية القطع وفي جهته أعني من قدام أو خلف وفي صفته. @-(أما المسألة الأولى) فإن المشهور عن مالك في ذلك هو قطع الودجين والحلقوم وأنه لا يجزئ أقل من ذلك: وقيل عنه بل الأربعة؛ وقيل بل الودجين فقط، ولم يختلف المذهب في أن الشرط في قطع الودجين هو استيفاؤهما. واختلف في قطع الحلقوم على القول بوجوبه فقيل كله، وقيل أكثره. وأما أبو حنيفة فقال: الواجب في التذكية هو قطع ثلاثة غير معينة من الأربعة، إما الحلقوم والودجان، وإما المرئ والحلقوم وأحد الودجين، أو المرئ والودجان. وقال الشافعي: الواجب قطع المرئ والحلقوم فقط. وقال محمد بن الحسن: الواجب قطع أكثر كل واحد من الأربعة. وسبب اختلافهم أنه لم يأت في ذلك شرط منقول، وإنما جاء في ذلك أثران: أحدهما يقتضي إنهار الدم فقط، والآخر يقتضي قطع الأوداج مع إنهار الدم؛ ففي حديث رافع بن خديج أنه قال عليه الصلاة والسلام "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل" وهو حديث متفق على صحته. وروي عن أبي أمامة عن النبي ﷺ أنه قال "ما فرى الأوداج فكلوا ما لم يكن رض ناب أو نحر ظفر" فظاهر الحديث الأول يقتضي قطع بعض الأوداج فقط لأن إنهار الدم يكون بذلك، وفي الثاني قطع جميع الأوداج، فالحديثان والله أعلم متفقان على قطع الودجين، إما أحدهما أو البعض من كليهما أو من واحد منهما، ولذلك وجه الجمع بين الحديثين أن يفهم من لام التعريف في قوله عليه الصلاة والسلام "ما فرى الأوداج" البعض لا الكل، إذ كانت لام التعريف في كلام العرب قد تدل على البعض وأما من اشترط قطع الحلقوم والمرئ فليس له حجة من السماع وأكثر من ذلك من اشترط المرئ والحلقوم دون الودجين، ولهذا ذهب قوم إلى أن الواجب هو قطع ما وقع الإجماع على جوازه، لأن الذكاة لما كانت شرطا في التحليل ولم يكن في ذلك نص فيما يجري وجب أن يكون الواجب في ذلك ما وقع الإجماع على جوازه، إلا أن يقوم الدليل على جواز الاستثناء من ذلك وهو ضعيف، لأن ما وقع الإجماع على إجزائه ليس يلزم أن يكون شرطا في الصحة. @-(وأما المسألة الثالثة) في موضع القطع وهي إن لم يقطع الجوزة في نصفها وخرجت إلى جهة البدن فاختلف فيه في المذهب؛ فقال مالك وابن القاسم: لا تؤكل؛ وقال أشهب وابن عبد الحكم وابن وهب تؤكل. وسبب الخلاف هل قطع الحلقوم شرط في الذكاة أو ليس بشرط؟ فمن قال إنه شرط قال: لا بد أن تقطع الجوزة، لأنه إذا قطع فوق الجوزة فقد خرج الحلقوم سليما؛ ومن قال إنه ليس بشرط قال: إن قطع فوق الجوزة جاز. @-(وأما المسألة الرابعة) وهي إن قطع أعضاء الذكاة من ناحية العنق، فإن المذهب لا يختلف أنه لا يجوز وهو مذهب سعيد بن المسيب وابن شهاب وغيرهم وأجاز ذلك الشافعي وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور، وروي ذلك عن ابن عمر وعلي وعمران بن الحصين. وسبب اختلافهم هل تعمل الذكاة في المنفوذة المقاتل أم لا تعمل، وذلك أن القاطع لأعضاء الذكاة من القفا لا يصل إليها بالقطع إلا بعد قطع النخاع وهو مقتل من المقاتل، فترد الذكاة على حيوان قد أصيب مقتله، وقد تقدم سبب الخلاف في هذه المسألة. @-(وأما المسألة الخامسة) وهي أن يتمادى الذابح بالذبح حتى يقطع النخاع، فإن مالكا كره ذلك إذا تمادى في القطع ولم ينو قطع النخاع من أول الأمر، لأنه إن نوى ذلك فكأنه نوى التذكية على غير الصفة الجائزة. وقال مطرف وابن الماجشون: لا تؤكل إن قطعها متعمدا دون جهل، وتؤكل إن قطعها ساهيا أو جاهلا. @-(وأما المسألة السادسة) وهي هل من شرط الذكاة أن تكون في فور واحد فإن المذهب لا يختلف أن ذلك من شرط الذكاة، وأنه إذا رفع يده قبل تمام الذبح ثم أعادها، وقد تباعد ذلك أن تلك الذكاة لا تجوز. واختلفوا إذا أعاد يده بفور ذلك وبالقرب، فقال ابن حبيب: إن أعاد يده بالفور أكلت؛ وقال سحنون: لا تؤكل؛ وقيل إن رفعها لمكان الاختبار هل تمت الذكاة أم لا فأعادها على الفور إن تبين له أنها لم تتم أكلت وهو أحد ما تؤول على سحنون وقد تؤول قوله على الكراهة. قال أبو الحسن اللخمي: ولو قيل عكس هذا لكان أجود، أعني أنه إذا رفع يده وهو يظن أنه قد أتم الذكاة فتبين له غير ذلك فأعادها أنها تؤكل، لأن الأول وقع عن شك وهذا عن اعتقاد ظنه يقينا وهذا مبني على أن من شرط الذكاة قطع كل أعضاء الذكاة، فإذا رفع يده قبل أن تستتم كانت منفوذة المقاتل غير مذكاة، فلا تؤثر فيها العودة، لأنها بمنزلة ذكاة طرأت على المنفوذة المقاتل. 3*الباب الثالث فيما تكون به الذكاة.

@-أجمع العلماء على أن كل ما أنهر الدم وفرى الأوداج من حديد أو صخر أو عود أو قضيب أن التذكية به جائزة. واختلفوا في ثلاثة: في السن والظفر والعظم، فمن الناس من أجاز التذكية بالعظم ومنعها بالسن والظفر، والذين منعوها بالسن والظفر منهم من فرق بين أن يكونا منزوعين أو لا يكونا منزوعين، فأجاز التذكية بهما إذا كانا منزوعين ولم يجزها إذا كانا متصلين؛ ومنهم من قال: إن الذكاة بالسن والعظم مكروهة غير ممنوعة، ولا خلاف في المذهب أن الذكاة بالعظم جائزة إذا أنهر الدم، واختلف في السن والظفر فيه على الأقاويل الثلاثة، أعني بالمنع مطلقا، والفرق فيهما بين الانفصال والاتصال وبالكراهية لا بالمنع. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم النهي الوارد في قوله عليه الصلاة والسلام في حديث رافع بن خديج، وفيه قال "يا رسول الله إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدى فنذبح بالقصب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثكم عنه، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة" فمن الناس من فهم منه أن ذلك لمكان أن هذه الأشياء ليس في طبعها أن تنهر الدم غالبا؛ ومنهم من فهم من ذلك أنه شرع غير معلل، والذين فهموا منه أنه شرع غير معلل: منهم من اعتقد أن النهي في ذلك يدل على فساد المنهي عنه؛ ومنهم من اعتقد أنه لا يدل على فساد المنهى عنه؛ ومنهم من اعتقد أن النهي في ذلك على وجه الكراهة لا على وجه الحظر، فمن فهم أن المعنى في ذلك أنه لا ينهر الدم غالبا قال: إذا وجد منهما ما ينهر الدم جاز، ولذلك رأى بعضهم أن يكونا منفصلين إذ كان إنهار الدم منهما إذا كانا بهذه الصفة أمكن، وهو مذهب أبي حنيفة؛ ومن رأى أن النهي عنهما هو مشروع غير معلل وأنه يدل على فساد المنهى عنه قال: إن ذبح بهما لم تقع التذكية، وإن أنهر الدم؛ ومن رأى أنه لا يدل على فساد المنهى عنه قال: إن فعل وأنهر الدم أثم وحلت الذبيحة؛ ومن رأى أن النهي على وجه الكراهية كره ذلك ولم يحرمه، ولا معنى لقول من فرق بين العظم والسن، فإنه عليه الصلاة والسلام قد علل المنع في السن بأنه عظم، ولا يختلف المذهب أنه يكره غير الحديد من المحدودات مع وجود الحديد لقوله عليه الصلاة والسلام "إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" خرجه مسلم. 3*الباب الرابع في شروط الذكاة.

@-وفي هذا الباب ثلاث مسائل: المسألة الأولى: في اشتراط التسمية. الثانية: في اشتراط البسملة. الثالثة: في اشتراط النية. @-(المسألة الأولى) واختلفوا في حكم التسمية على الذبيحة على ثلاثة أقوال: فقيل هي فرض على الإطلاق وقيل بل هي فرض مع الذكر ساقطة مع النسيان؛ وقيل بل هي سنة مؤكدة، وبالقول الأول قال أهل الظاهر وابن عمر والشعبي وابن سيرين، وبالقول الثاني قال مالك وأبو حنيفة والثوري، وبالقول الثالث قال الشافعي وأصحابه، وهو مروي عن ابن عباس وأبي هريرة وسبب اختلافهم معارضة ظاهر الكتاب في ذلك للأثر. فأما الكتاب فقوله تعالى {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق} . وأما السنة المعارضة لهذه الآية فما رواه مالك عن هشام عن أبيه أنه قال "سئل رسول الله ﷺ فقيل: يا رسول الله إن ناسا من البادية يأتوننا بلحمان ولا ندري أسموا الله عليها أم لا؟ فقال رسول الله ﷺ: سموا الله عليها ثم كلوها" فذهب مالك إلى أن الآية ناسخة لهذا الحديث وتأول أن هذا الحديث كان في أول الإسلام ولم ير ذلك الشافعي، لأن هذا الحديث ظاهره أنه كان بالمدينة وآية التسمية مكية، فذهب الشافعي لمكان هذا مذهب الجمع بأن حمل الأمر بالتسمية على الندب. وأما من اشترط الذكر في الوجوب فمصيرا إلى قوله عليه الصلاة والسلام "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". @-(المسألة الثانية) وأما استقبال القبلة بالذبيحة، فإن قوما استحبوا ذلك، وقوما أجازوا ذلك، وقوما أوجبوه، وقوما كرهوا أن لا يستقبل بها القبلة، والكراهية والمنع موجودان في المذهب، وهي مسألة مسكوت عنها، والأصل فيها الإباحة إلا أن يدل الدليل على اشتراط ذلك، وليس في الشرع شيء يصلح أن يكون أصلا تقاس عليه هذه المسألة إلا أن يستعمل فيها قياس مرسل وهو القياس الذي لا يستند إلى أصل مخصوص عند من أجازه أو قياس شبه بعيد وذلك أن القبلة هي جهة معظمة وهذه عبادة، فوجب أن يشترط فيها الجهة لكن هذا ضعيف لأنه ليس كل عبادة تشترط فيها الجهة ما عدا الصلاة، وقياس الذبح على الصلاة بعيد، وكذلك قياسه على استقبال القبلة بالميت. @-(المسألة الثالثة) وأما اشتراط النية فيها فقيل في المذهب بوجوب ذلك، ولا أذكر فيها خارج المذهب في هذا الوقت خلافا في ذلك، ويشبه أن يكون في ذلك قولان: قول بالوجوب، وقول بترك الوجوب، فمن أوجب قال: عبادة لاشتراط الصفة فيها والعدد، فوجب أن يكون من شرطها النية؛ ومن لم يوجبها قال: فعل معقول يحصل عنه فوات النفس الذي هو المقصود منه، فوجب أن لا تشترط فيها النية كما يحصل من غسل النجاسة إزالة عينها. 3*الباب الخامس فيمن تجوز تذكيته ومن لا تجوز.

@-والمذكور في الشرع ثلاثة أصناف: صنف اتفق على جواز تذكيته، وصنف اتفق على منع ذكاته، وصنف اختلف فيه. فأما الصنف الذي اتفق على ذكاته فمن جمع خمسة شروط: الإسلام والذكورية والبلوغ والعقل وترك تضيع الصلاة. وأما الذي اتفق على منع تذكيته فالمشركون عبدة الأصنام لقوله تعالى {وما ذبح على النصب} ولقوله {وما أهل به لغير الله} وأما الذين اختلف فيهم فأصناف كثيرة، لكن المشهور منها عشرة: أهل الكتاب والمجوس والصابئون والمرأة والصبي والمجنون والسكران والذي يضيع الصلاة والسارق والغاصب. فأما أهل الكتاب فالعلماء مجمعون على جواز ذبائحهم لقوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} ومختلفون في التفصيل، فاتفقوا على أنهم إذا لم يكونوا من نصارى بني تغلب ولا مرتدين وذبحوا لأنفسهم وعلم أنهم سموا الله تعالى على ذبيحتهم وكانت الذبيحة مما لم تحرم عليهم في التوراة ولا حرموها هم على أنفسهم أنه يجوز منها ما عدا الشحم. واختلفوا في مقابلات هذه الشروط، أعني إذا ذبحوا لمسلم باستنابته أو كانوا من نصارى بني تغلب أو مرتدين، وإذا لم يعلم أنهم سموا الله أو جهل مقصود ذبحهم أو علم أنهم سموا غير الله مما يذبحونه لكنائسهم وأعيادهم أو كانت الذبيحة مما حرمت عليهم بالتوراة كقوله تعالى {كل ذي ظفر} أو كانت مما حرموها على أنفسهم مثل الذبائح التي تكون عند اليهود فاسدة من قبل خلقة إلهية، وكذلك اختلفوا في الشحوم. فأما إذا ذبحوا باستنابة مسلم فقيل في المذهب عن مالك يجوز وقيل لا يجوز. وسبب الاختلاف هل من شرط ذبح المسلم اعتقاد تحليل الذبيحة على الشروط الإسلامية في ذلك أم لا؟ فمن رأى أن النية شرط في الذبيحة قال: لا تحل ذبيحة الكتابي لمسلم، لأنه لا يصح منه وجود هذه النية. ومن رأى أن ذلك ليس بشرط وغلب عموم الكتاب: أعني قوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال يجوز، وكذلك من اعتقد أن نية المستنيب تجزئ وهو قول ابن وهب. (وأما المسألة الثانية) وهي ذبائح نصارى بني تغلب والمرتدين، فإن الجمهور على أن ذبائح النصارى من العرب حكمها حكم ذبائح أهل الكتاب، وهو قول ابن عباس؛ ومنهم من لم يجز ذبائحهم، وهو أحد قولي الشافعي، وهو مروى عن علي رضي الله عنه. وسبب الخلاف هل يتناول العرب المتنصرين والمتهودين اسم الذين أوتوا الكتاب كما يتناول ذلك الأمم المختصة بالكتاب وهم بنو إسرائيل والروم. وأما المرتد فإن الجمهور على أن ذبيحته لا تؤكل. وقال اسحاق: ذبيحته جائزة؛ وقال الثوري: مكروهة. وسبب الخلاف هل المرتد لا يتناوله اسم أهل الكتاب إذ كان ليس له حرمة أهل الكتاب أو يتناوله؟ (وأما المسألة الثالثة) وهي إذا لم يعلم أن أهل الكتاب سموا الله على الذبيحة فقال الجمهور: تؤكل، وهو مروى عن علي، ولست أذكر فيه في هذا الوقت خلافا، ويتطرق إليه الإحتمال بأن يقال إن الأصل هو أن لا يؤكل من تذكيتهم إلا ما كان على شروط الإسلام؛ فإذا قيل على هذا أن التسمية من شرط التذكية وجب أن لا تؤكل ذبائحهم بالشك في ذلك. وأما إذا علم أنهم ذبحوا ذلك لأعيادهم وكنائسهم فإن من العلماء من كرهه، وهو قول مالك؛ ومنهم من أباحه، وهو قول أشهب؛ ومنهم من حرمه، وهو الشافعي. وسبب اختلافهم تعارض عمومي الكتاب في هذا الباب، وذلك أن قوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} يحتمل أن يكون مخصصا لقوله تعالى {وما أهل به لغير الله} ويحتمل أن يكون قوله تعالى {وما أهل به لغير الله} مخصصا لقوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} إذ كان كل واحد منهما يصح أن يستثنى من الآخر، فمن جعل قوله تعالى وما أهل به لغير الله مخصصا لقوله تعالى {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال: لا يجوز ما أهل به للكنائس والأعياد؛ ومن عكس الأمر قال: يجوز. وأما إذا كانت الذبيحة مما حرمت عليهم، فقيل يجوز؛ وقيل لا يجوز، وقيل بالفرق بين أن تكون محرمة عليهم بالتوراة أو من قبل أنفسهم، أعني بإباحة ما ذبحوا مما حرموا على أنفسهم ومنع ما حرم الله عليهم؛ وقيل يكره ولا يمنع. والأقاويل الأربعة موجودة في المذهب: المنع عن ابن القاسم، والإباحة عن ابن وهب وابن عبد الحكم، والتفرقة عن أشهب. وأصل الاختلاف معارضة عموم الآية لاشتراط نية الذكاة: أعني اعتقاد تحليل الذبيحة بالتذكية؛ فمن قال ذلك شرط في التذكية قال لا تجوز هذه الذبائح لأنهم لا يعتقدون تحليلها بالتذكية؛ ومن قال ليس بشرط فيها وتمسك بعموم الآية المحللة قال: تجوز هذه الذبائح. وهذا بعينه هو سبب اختلافهم في أكل الشحوم من ذبائحهم، ولم يخالف في ذلك أحد غير مالك وأصحابه؛ فمنهم من قال: إن الشحوم محرمة وهو قول أشهب؛ ومنهم من قال مكروهة، والقولان عن مالك؛ ومنهم من قال مباحة. ويدخل في الشحوم سبب آخر من أسباب الخلاف سوى معارضة العموم لاشتراط اعتقاد تحليل الذبيحة بالذكاة، وهو هل تتبعض التذكية أو لا تتبعض؟ فمن قال تتبعض قال: لا تؤكل الشحوم؛ ومن قال لا تتبعض قال: يؤكل الشحم. ويدل على تحليل شحوم ذبائحهم حديث عبد الله بن مغفل إذ أصاب جراب الشحم يوم خيبر، وقد تقدم في كتاب الجهاد. ومن فرق بين ما حرم عليهم من ذلك في أصل شرعهم وبين ما حرموا على أنفسهم قال: ما حرم عليهم هو أمر حق فلا تعمل فيه الذكاة، وما حرموا على أنفسهم هو أمر باطل فتعمل فيه التذكية. قال القاضي: والحق أن ما حرم عليهم أو حرموا على أنفسهم هو في وقت شريعة الإسلام أمر باطل إذ كانت ناسخة لجميع الشرائع، فيجب أن لا يراعي اعتقادهم في ذلك، ولا يشترط أيضا أن يكون اعتقادهم في تحليل الذبائح اعتقاد المسلمين ولا اعتقاد شريعتهم لأنه لو اشترط ذلك لما جاز أكل ذبائحهم بوجه من الوجوه، لكون اعتقاد شريعتهم في ذلك منسوخا، ولاعتقاد شريعتنا لا يصح منهم، وإنما هذا حكم خصهم الله تعالى به، فذبائحهم والله أعلم جائزة لنا على الإطلاق وإلا ارتفع حكم آية التحليل جملة، فتأمل هذا فإنه بين والله أعلم. وأما المجوس فإن الجمهور على أنه لا تجوز ذبائحهم لأنهم مشركون، وتمسك قوم في إجازتها بعموم قوله عليه الصلاة والسلام "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". وأما الصائبون فالاختلاف فيهم من قبل اختلافهم في هل هم من أهل الكتاب أم ليسوا من أهل الكتاب. وأما المرأة والصبي فإن الجمهور على أن ذبائحهم جائزة غير مكروهة، وهو مذهب مالك، وكره ذلك أبو المصعب. والسبب في اختلافهم. نقصان المرأة والصبي، وإنما لم يختلف الجمهور في المرأة لحديث معاذ بن سعيد "أن جارية لكعب بن مالك كانت ترعى بسلع فأصيبت شاة فأدركتها فذبحتها بحجر، فسئل رسول الله ﷺ عن ذلك فقال: لا بأس بها فكلوها" وهو حديث صحيح. وأما المجنون والسكران فإن مالكا لم يجز ذبيحتهما، وأجاز ذلك الشافعي. وسبب الخلاف اشتراط النية في الذكاة، فمن اشترط النية منع ذلك إذ لا يصح من الجنون ولا من السكران وبخاصة الملتخ (الملتخ: الملطخ، قاموس). وأما جواز تذكية السارق والغاصب، فإن الجمهور على جواز ذلك؛ ومنهم من منع ذلك ورأى أنها ميتة، وبه قال داود وإسحاق بن راهويه. وسبب اختلافهم هل النهي يدل على فساد المنهى عنه أو لا يدل؟ فمن قال يدل قال: السارق والغاصب منهى عن ذكاتها وتناولها وتملكها، فإذا كان ذكاها فسدت التذكية؛ ومن قال لا يدل إلا إذا كان المنهى عنه شرطا من شروط ذلك الفعل قال: تذكيتهم جائزة لأنه ليس صحة الملك شرطا من شروط التذكية. وفي موطأ ابن وهب "أنه سئل رسول الله ﷺ عنها فلم ير بها بأسا" وقد جاء إباحة ذلك مع الكراهية فيما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في الشاة التي ذبحت بغير إذن ربها، فقال رسول الله ﷺ "أطعموها الأسارى" وهذا القدر كاف في أصول هذا الكتاب والله أعلم. 2*كتاب الصيد.

@-وهذا الكتاب في أصوله أيضا أربعة أبواب: الباب الأول: في حكم الصيد وفي محل الصيد. الثاني: فيما به يكون الصيد. الثالث: في صفة ذكاة الصيد والشرائط المشترطة في عمل الذكاة في الصيد. الرابع: فيمن يجوز صيده. 3*الباب الأول في حكم الصيد ومحله.

@-فأما حكم الصيد فالجمهور على أنه مباح لقوله تعالى {أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} ثم قال {وإذا حللتم فاصطادوا} واتفق العلماء على أن الأمر بالصيد في هذه الآية بعد النهي يدل على الإباحة كما اتفقوا على ذلك في قوله تعالى {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} أعني أن المقصود به الإباحة لوقوع الأمر به بعد النهي وإن كان اختلفوا هل الأمر بعد النهي يقتضي الإباحة أو لا يقتضيه وإنما يقتضي على أصله الوجوب؛ وكره مالك الصيد الذي يقصد به السرف، وللمتأخرين من أصحابه فيه تفصيل محصول قولهم فيه إن منه ما هو في حق بعض الناس واجب وفي حق بعضهم حرام، وفي حق بعضهم مندوب، وفي حق بعضهم مكروه؛ وهذا النظر في الشرع تغلغل في القياس وبعد عن الأصول المنطوق بها في الشرع، فليس يليق بكتابنا هذا إذ كان قصدنا فيه إنما هو ذكر المنطوق به من الشرع أو ما كان قريبا من المنطوق به. وأما محل الصيد فإنهم أجمعوا على أن محله من الحيوان البحري وهو السمك وأصنافه، ومن الحيوان البري الحلال الأكل الغير مستأنس. واختلفوا فيما استوحش من الحيوان المستأنس فلم يقدر على أخذه ولا ذبحه أو نحره، فقال مالك: لا يؤكل إلا أن ينحر، من ذلك ما ذكاته النحر، ويذبح ما ذكاته الذبح، أو يفعل به أحدهما إن كان مما يجوز فيه الأمران جميعا. وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا لم يقدر على ذكاة البعير الشارد فإنه يقتل كالصيد. وسبب اختلافهم معارضة الأصل في ذلك للخبر، وذلك أن الأصل في هذا الباب هو أن الحيوان الإنسي لا يؤكل إلا بالذبح أو النحر، وأن الوحشي يؤكل بالعقر. وأما الخبر المعارض لهذه الأصول، فحديث رافع بن خديج وفيه قال "فند منها بعير وكان في القوم خيل يسيرة فطلبوه فأعياهم، فأهوى إليه رجل بسهم فحبسه الله تعالى به، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما ند عليكم فاصنعوا به هكذا" والقول بهذا الحديث أولى لصحته، لأنه لا ينبغي أن يكون هذا مستثنى من ذلك الأصل مع أن لقائل أن يقول إنه جار مجرى الأصل في هذا الباب، وذلك أن العلة في كون العقر ذكاة في بعض الحيوان ليس شيئا أكثر من عدم القدرة عليه، لا لأنه وحشي فقط، فإذا وجد هذا المعنى من الإنسي جاز أن تكون ذكاته ذكاة الوحشي، فيتفق القياس والسماع. 3*الباب الثاني فيما يكون به الصيد.

@-والأصل في هذا الباب آيتان وحديثان: الآية الأولى قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم} . والثانية قوله تعالى {قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين} الآية. وأما الحديثان: فأحدهما حديث عدي بن حاتم، وفيه أن رسول الله ﷺ قال له "إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله عليها فكل مما أمسكن عليك، وإن أكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، وإن خالطها كلاب غيرها فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره" وسأله عن المعراض فقال "إذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ" وهذا الحديث هو أصل في أكثر ما في هذا الكتاب. والحديث الثاني حديث أبي ثعلبة الخشني، وفيه من قوله عليه الصلاة والسلام "ما أصبت بقوسك فسم الله ثم كل، وما صدت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله ثم كل، وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلم وأدركت ذكاته فكل" وهذان الحديثان اتفق أهل الصحيح على إخراجهما. والآلات التي يصاد بها منها ما اتفقوا عليها بالجملة. ومنها ما اختلفوا فيها وفي صفاتها، وهي ثلاث: حيوان جارح ومحدد ومثقل. فأما المحدد فاتفقوا عليه كالرماح والسيوف والسهام للنص عليها في الكتاب والسنة. وكذلك بما جرى مجراها مما يعقر ما عدا الأشياء التي اختلفوا في عملها في ذكاة الحيوان الإنسي وهي السن والظفر والعظم وقد تقدم اختلافهم في ذلك فلا معنى لإعادته. وأما المثقل فاختلفوا في الصيد به مثل الصيد بالمعراض والحجر؛ فمن العلماء من لم يجز من ذلك إلا ما أدركت ذكاته؛ ومنهم من أجازه على الإطلاق؛ ومنهم من فرق بين ما قتله المعراض أو الحجر بثقله أو بحده إذا خرق جسد الصيد فأجازه إذا خرق ولم يجزه إذا لم يخرق، وبهذا القول قال مشاهير الفقهاء الأمصار الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد والثوري وغيرهم. وهو راجع إلى أنه لا ذكاة إلا بمحدد. وسبب اختلافهم معارضة الأصول في هذا الباب بعضها بعضا، ومعارضة الأثر لها، وذلك أن من الأصول في هذا الباب أن الوقيذ محرم بالكتاب والإجماع، ومن أصوله أن العقر ذكاة الصيد؛ فمن رأى أن ما قتل المعراض وقيذ منعه على الإطلاق؛ ومن رآه عقرا مختصا بالصيد وأن الوقيذ غير معتبر فيه أجازه على الإطلاق؛ ومن فرق بين ما خرق من ذلك أو لم يخرق فمصيرا إلى حديث عدي ابن حاتم المتقدم وهو الصواب. وأما الحيوان الجارح فالاتفاق والاختلاف فيه منه متعلق بالنوع والشرط، ومنه ما يتعلق بالشرط. فأما النوع الذي اتفقوا عليه فهو الكلاب ما عدا الكلب الأسود، فإنه كرهه قوم منهم الحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة؛ وقال أحمد: ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما، وبه قال إسحاق. وأما الجمهور فعلى إجازة صيده إذا كان معلما. وسبب اختلافهم معارضة القياس للعموم، وذلك أن عموم قوله تعالى {وما علمتم من الجوارح مكلبين} يقتضي تسوية جميع الكلاب في ذلك "وأمره عليه الصلاة والسلام بقتل الكلب الأسود البهيم" يقتضي في ذلك القياس أن لا يجوز اصطياده على رأي من رأى أن النهي يدل على فساد المنهى عنه، وأما الذي اختلفوا فيه من أنواع الجوارح فيما عدا الكلب ومن جوارح الطيور وحيواناتها الساعية؛ فمنهم من أجاز جميعها إذا علمت حتى السنور كما قال ابن شعبان، وهو مذهب مالك وأصحابه، وبه قال فقهاء الأمصار وهو مروي عن ابن عباس، أعني أن ما قبل التعليم من جميع الجوارح فهو آلة لذكاة الصيد. وقال قوم: لا اصطياد بجارح ما عدا الكلب ولا باز ولا صقر ولا غير ذلك إلا ما أدركت ذكاته، وهو قول مجاهد؛ واستثنى بعضهم من الطيور الجارحة البازي فقط فقال: يجوز صيده وحده. وسبب اختلافهم في هذا الباب شيئان: أحدهما قياس سائر الجوارح على الكلاب، وذلك أنه قد يظن أن النص إنما ورد في الكلاب، أعني قوله تعالى {وما علمتم من الجوارح مكلبين} إلا أن يتأول أن لفظه مكلبين مشتقة من كلب الجارح لا من لفظ الكلب، ويدل على هذا عموم اسم الجوارح الذي في الآية، فعلى هذا يكون سبب الاختلاف الاشتراك الذي في لفظه مكلبين. والسبب الثاني هل من شرط الإمساك الإمساك على صاحبه أم لا؟ وإن كان من شرطه فهل يوجد في غير الكلب أو لا يوجد؟ فمن قال لا يقاس سائر الجوارح على الكلاب وأن لفظه مكلبين هي مشتقة من اسم الكلب لا من اسم غير الكلب أو أنه لا يوجد الإمساك إلا في الكلب: أعني على صاحبه وأن ذلك شرط قال: لا يصاد بجارح سوى الكلب؛ ومن قاس على الكلب سائر الجوارح ولم يشترط في الإمساك الإمساك على صاحبه قال: يجوز صيد سائر الجوارح إذا قبلت التعليم. وأما من استثنى من ذلك البازي فقط فمصيرا إلى ما روي عن عدي بن حاتم أنه قال "سألت رسول الله ﷺ عن صيد البازي فقال: ما أمسك عليك فكل" خرجه الترمذي فهذه هي أسباب اتفاقهم واختلافهم في أنواع الجوارح. وأما الشروط المشترطة في الجوارح فإن منها ما اتفقوا عليه وهو التعليم بالجملة لقوله تعالى {وما علمتم من الجوارح مكلبين} وقوله عليه الصلاة والسلام "إذا أرسلت كلبك المعلم" واختلفوا في صفة التعليم وشروطه، فقال قوم: التعليم ثلاثة أصناف: أحدها أن تدعو الجارح فيجيب. والثاني أن تشيله فينشلى. والثالث أن تزجره فيزدجر. ولا خلاف بينهم في اشتراط هذه الثلاثة في الكلب، وإنما اختلفوا في اشتراط الانزجار في سائر الجوارح، فاختلفوا أيضا في هل من شرطه أن لا يأكل الجارح؟ فمنهم من اشترطه على الإطلاق؛ ومنهم من اشترطه في الكلب فقط؛ وقول مالك: إن هذه الشروط الثلاثة شرط في الكلاب وغيرها؛ وقال ابن حبيب من أصحابه: ليس يشترط الانزجار فيما ليس يقبل ذلك من الجوارح مثل البزاة والصقور، وهو مذهب مالك، أعني أنه ليس من شرط الجارح لا كلب ولا غيره أن لا يأكل، واشترطه بعضهم في الكلب ولم يشترطه فيما عداه من جوارح الطيور؛ ومنهم من اشترطه كما قلنا في الكل؛ والجمهور على جواز أكل صيد البازي والصقر وإن أكل، لأن تضريته إنما تكون بالأكل. فالخلاف في هذا الباب راجع إلى موضعين: أحدهما هل من شرط التعليم أن ينزجر إذا زجر؟ والثاني هل من شرطه ألا يأكل؟. وسبب الخلاف في اشتراط الأكل أو عدمه شيئان: أحدهما اختلاف الآثار في ذلك. والثاني هل إذا أكل فهو ممسك أم لا؟ فأما الآثار فمنها حديث عدي بن حاتم المتقدم وفيه "فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه" والحديث المعارض لهذا حديث أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله ﷺ "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل، قلت: وإن أكل منه يا رسول الله؟ قال: وإن أكل" فمن جمع بين الحديثين بأن حمل حديث عدي بن حاتم على الندب وهذا على الجواز قال: ليس من شرطه ألا يأكل؛ ومن رجح حديث عدي بن حاتم إذ هو حديث متفق عليه وحديث أبي ثعلبة مختلف فيه، ولذلك لم يخرجه الشيخان البخاري ومسلم وقال من شرط الإمساك أن لا يأكل بدليل الحديث المذكور قال: إن أكل الصيد لم يؤكل، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحق والثوري، وهو قول ابن عباس، ورخص في أكل مما أكل الكلب كما قلنا مالك وسعيد بن مالك وابن عمر وسليمان. وقالت المالكية المتأخرة إنه ليس الأكل بدليل على أنه لم يمسك لسيده ولا الإمساك لسيده بشرط في الذكاة، لأن نية الكلب غير معلومة، وقد يمسك لسيده ثم يبدو له فيمسك لنفسه، وهذا الذي قالوه خلاف النص في الحديث وخلاف ظاهر الكتاب، وهو قوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} وللإمساك على سيد الكلب طريق تعرف به، وهو العادة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام "فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه". وأما اختلافهم في الازدجار فليس له سبب إلا اختلافهم في قياس سائر الجوارح في ذلك على الكلب، لأن الكلب الذي لا يزدجر لا يسمى معلما باتفاق، فأما سائر الجوارح إذا لم تنزجر هل تسمى معلمة أم لا؟ ففيه التردد وهو سبب الخلاف. 3*الباب الثالث في معرفة الذكاة المختصة بالصيد وشروطها.

@-واتفقوا على أن الذكاة المختصة بالصيد هي العقر. واختلفوا في شروطها اختلافا كثيرا، وإذا اعتبرت أصولها التي هي أسباب الاختلاف سوى الشروط المشترطة في الآلة وفي الصائد وجدتها ثمانية شروط: اثنان يشتركان في الذكاتين أعني ذكاة المصيد وغير المصيد وهي النية والتسمية. وستة تختص بهذه الذكاة: أحدها أنها لم تكن الآلة أو الجارح الذي أصاب الصيد قد أنفذ مقاتله فإنه يجب أن يذكى بذكاة الحيوان الإنسي إذا قدر عليه قبل أن يموت مما أصابه من الجارح أو من الضرب. وأما إن كان قد أنفذ مقاتله فليس يجب ذلك وإن كان قد يستحب. والثاني أن يكون الفعل الذي أصيب به الصيد مبدؤه من الصائد لا من غيره: أعني لا من الآلة كالحال في الحبالة، ولا من الجارح كالحال فيما يصيب الكلب الذي ينشلى من ذاته. والثالث أن لا يشاركه في العقر من ليس عقره ذكاة. والرابع أن لا يشك في عين الصيد الذي أصابه وذلك عند غيبته عن عينه. والخامس أن لا يكون الصيد مقدورا عليه في وقت الإرسال عليه. والسادس أن لا يكون موته من رعب من الجارح أو بصدمه منه. فهذه هي أصول الشروط التي من قبل اشتراطها أو لا اشتراطها عرض الخلاف بين الفقهاء، وربما اتفقوا على وجوب بعض هذه الشروط، ويختلفون في وجودها في نازلة نازلة، كاتفاق المالكية على أن من شرط الفعل أن يكون مبدؤه من الصائد، واختلافهم إذا أفلت الجارح من يده أو خرج بنفسه، ثم أغراه هل يجوز ذلك الصيد أم لا لتردد هذه الحال بين أن يوجد لها هذا الشرط أو لا يوجد كاتفاق أبي حنيفة ومالك على أن من شرطه إذا أدرك غير منفوذ المقاتل أن يذكى إذا قدر عليه قبل أن يموت. واختلافهم بين أن يخلصه حيا فيموت في يده قبل أن يتمكن من ذكاته، فإن أبا حنيفة منع هذا وأجازه مالك ورآه مثل الأول، أعني إذا لم يقدر على تخليصه من الجارح حتى مات لتردد هذه الحال بين أن يقال أدركه غير منفوذ المقاتل وفي غير يد الجارح فأشبه المفرط أو لم يشبهه فلم يقع منه تفريط. وإذا كانت هذه الشروط هي أصول الشروط المشترطة في الصيد مع سائر الشروط المذكورة في الآلة والصائد نفسه على ما سيأتي يجب أن يذكر منها ما اتفقوا منه عليه وما اختلفوا فيه، وأسباب الخلاف في ذلك وما يتفرع عنها من مشهور مسائلهم. فنقول: أما التسمية والنية فقد تقدم الخلاف فيهما وسببه في كتاب الذبائح، ومن قبل اشتراط النية في الذكاة لم يجز عند من اشترطها إذا أرسل الجارح على صيد وأخذ آخر ذكاة ذلك الصيد لم يرسل عليه، وبه قال مالك؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور: ذلك جائز ويؤكل؛ ومن قبل هذا أيضا اختلف أصحاب مالك في الإرسال على صيد غير مرئي، كالذي يرسل على ما في غيضة أو من وراء أكمة ولا يدري هل هنالك شيء أم لا؟ لأن القصد في هذا يشوبه شيء من الجهل. وأما الشرط الأول الخاص بذكاة الصيد من الشروط الستة التي ذكرناها وهو أن عقر الجارح له إذا لم ينفذ مقاتله، إنما يكون إذا لم يدركه المرسل حيا، فباشتراطه قال جمهور العلماء لما جاء في حديث عدي بن حاتم في بعض رواياته أنه قال عليه الصلاة والسلام "وإن أدركته حيا فاذبحه" وكان النخعي يقول: إذا أدركته حيا ولم يكن معك حديدة فأرسل عليه الكلاب حتى تقتله، وبه قال الحسن البصري مصيرا لعموم قوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} ومن قبل هذا الشرط قال مالك: لا يتوانى المرسل في طلب الصيد، فإن توانى فأدركه ميتا، فإن كان منفوذ المقاتل بسهم حل أكله وإلا لم يحل من أجل أنه لو لم يتوان لكان يمكن أن يدركه حيا غير منفود المقاتل. وأما الشرط الثاني وهو أن يكون الفعل مبدؤه من القانص ويكون متصلا حتى يصيب الصيد، فمن قبل اختلافهم فيه اختلفوا فيما تصيبه الحبالة والشبكة إذا أنقذت المقاتل بمحدد فيها، فمنع ذلك مالك والشافعي والجمهور، ورخص فيه الحسن البصري؛ ومن هذا الأصل لم يجز مالك الصيد الذي أرسل عليه الجارح فتشاغل بشيء آخر ثم عاد إليه من قبل نفسه. وأما الشرط الثالث وهو أن لا يشاركه في العقر من ليس عقره ذكاة له، فهو شرط مجمع عليه فيما أذكر، لأنه لا يدري من قتله. وأما الشرط الرابع وهو أن لا يشك في عين الصيد ولا في قتل جارحة له، فمن قبل ذلك اختلفوا في أكل الصيد إذا غاب مصرعه، فقال مالك مرة: لا بأس بأكل الصيد إذا غاب عنك مصرعه إذا وجدت به أثرا من كلبك أو كان به سهمك ما لم يبت، فإذا بات فإني أكرهه. وبالكراهية قال الثوري؛ وقال عبد الوهاب: إذا بات الصيد من الجارح لم يؤكل، وفي السهم خلاف؛ وقال ابن الماجشون: يؤكل فيهما جميعا إذا وجد منفوذ المقاتل؛ وقال مالك في المدونة: لا يؤكل فيهما جميعا إذا بات وإن وجد منفوذ المقاتل؛ وقال الشافعي: القياس أن لا تأكله إذا غاب عنك مصرعه؛ وقال أبو حنيفة: إذا توارى الصيد والكلب في طلبه فوجده المرسل مقتولا جاز أكله ما لم يترك الكلب الطلب، فإن تركه كرهنا أكله. وسبب اختلافهم شيئان اثنان: الشك العارض في عين الصيد أو في زكاته. والسبب الثاني اختلاف الآثار في هذا الباب، فروى مسلم والنسائي والترمذي وأبو داود عن أبي ثعلبة عن النبي عليه الصلاة والسلام في الذي يدرك صيده بعد ثلاث فقال "كل ما لم ينتن" وروى مسلم عن أبي ثعلبة أيضا عن النبي عليه الصلاة والسلام قال "إذا رميت سهمك فغاب عنك مصرعه فكل ما لم يبت" وفي حديث عدي بن حاتم أنه قال عليه الصلاة والسلام "إذا وجدت سهمك فيه ولم تجد فيه أثر سبع وعلمت أن سهمك قتله فكل". ومن هذا الباب اختلافهم في الصيد يصاد بالسهم أو يصيبه الجارح فيسقط في ماء أو يتردى من مكان عال، فقال مالك: لا يؤكل لأنه لا يدري من أي الأمرين مات، إلا أن يكون السهم قد أنقذ مقاتله ولا يشك أن منه مات، وبه قال الجمهور؛ وقال أبو حنيفة: لا يؤكل إن وقع في ماء منفوذ المقاتل، ويؤكل إن تردى. وقال عطاء: لا يؤكل أصلا إذا أصيبت المقاتل وقع في ماء أو تردى من موضع عال لإمكان أن يكون زهوق نفسه من قبل التردي أو من الماء قبل زهوقها من قبل إنقاذ المقاتل. وأما موته من صدم الجارح له، فإن ابن القاسم منعه قياسا على المثقل، وأجازه أشهب لعموم قوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} ولم يختلف المذهب أن ما مات من خوف الجارح أنه غير مذكي. وأما كونه في حين الإرسال غير مقدور عليه، فإنه اشترط فيما علمت متفق عليه. وذلك يوجد إذا كان الصيد مقدورا على أخذه باليد دون خوف أو غرر. إما من قبل أنه قد نشب في شيء أو تعلق بشيء أو رماه أحد فكسر جناحه أو ساقه، وفي هذا الباب فروع كثيرة من قبل تردد بعض الأحوال بين أن يرصف فيها الصيد بأنه مقدور عليه أو غير مقدور عليه، مثل أن تضطره الكلاب فيقع في حفرة، فقيل في المذهب يؤكل، وقيل لا يؤكل. واختلفوا في صفة العقر إذا ضرب الصيد فأبين منه عضو، فقال قوم: يؤكل الصيد ما بان منه؛ وقال قوم: يؤكلان جميعا؛ وفرق قوم بين أن يكون ذلك العضو مقتلا أو غير مقتل، فقالوا: إن كان مقتلا أكلا جميعا، وإن كان غير مقتل أكل الصيد ولم يؤكل العضو، وهو معنى قول مالك: وإلى هذا يرجع خلافهم في أن يكون القطع بنصفين أو يكون أحدهما أكبر من الثاني. وسبب اختلافهم معارضة قوله عليه الصلاة والسلام "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" لعموم قوله تعالى {فكلوا مما أمسكن عليكم} ولعموم قوله تعالى {تناله أيديكم ورماحكم} فمن غلب حكم الصيد وهو العقر مطلقا قال: يؤكل الصيد والعضو المقطوع من الصيد، وحمل الحديث على الإنسي؛ ومن حمله على الوحشي والإنسي معا واستثنى من ذلك العموم بالحديث العضو المقطوع فقال: يؤكل الصيد دون العضو البائن، ومن اعتبر في ذلك الحياة المستقرة، أعني في قوله وهي حية فرق بين أن يكون العضو مقتلا أو غير مقتل. 3*الباب الرابع في شروط القانص.

@-وشروط القانص هي شروط الذابح نفسه، وقد تقدم ذلك في كتاب الذبائح المتفق عليها والمختلف فيها، ويخص الاصطياد في البر شرط زائد وهو أن لا يكون محرما، ولا خلاف في ذلك لقوله تعالى {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما} فإن اصطاد محرم فهل يحل ذلك الصيد للحلال أم هو ميتة لا يحل لأحد أصلا؟ اختلف فيه الفقهاء، فذهب مالك إلى أنه ميتة، وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور إلى أنه يجوز لغير المحرم أكله. وسبب اختلافهم هو الأصل المشهور. وهو هل النهي يعود بفساد المنهي أم لا؟ وذلك بمنزلة ذبح السارق والغاصب. واختلفوا من هذا الباب في كلب المجوس المعلم، فقال مالك: الاصطياد به جائز، فإن المعتبر الصائد لا الآلة، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وغيرهم؛ وكرهه جابر بن عبد الله والحسن وعطاء ومجاهد والثوري، لأن الخطاب في قوله تعالى {وما علمتم من الجوارح مكلبين} متوجه نحو المؤمنين، وهذا كاف بحسب المقصود من هذا الكتاب، والله الموفق للصواب. 2*كتاب العقيقة

@-والقول المحيط بأصول هذا الكتاب ينحصر في ستة أبواب: الأول: في معرفة حكمها. الثاني: في معرفة محلها. الثالث: في معرفة من يعق عنه وكم يعق. الرابع: في معرفة وقت هذا النسك. الخامس: في سن هذا النسك وصفته. السادس: حكم لحمها وسائر آجزائها. @-فأما حكمها؛ فذهبت طائفة منهم الظاهرية إلى أنها واجبة، وذهب الجمهور إلى أنها سنة، وذهب أبو حنيفة إلى أنها ليست فرضا ولا سنة؛ وقد قيل إن تحصيل مذهبه أنها عنده تطوع. وسبب اختلافهم تعارض مفهوم الآثار في هذا الباب، وذلك أن ظاهر حديث سمرة وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام "كل غلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويماط عنه الأذى" يقتضي الوجوب، وظاهر قوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل عن العقيقة فقال "لا أحب العقوق ومن ولد له ولد فأحب أن ينسك عن ولده فليفعل" يقتضي الندب أو الإباحة، فمن فهم منه الندب قال: العقيقة سنة؛ ومن فهم الإباحة قال: ليست بسنة ولا فرض وخرج الحديثين أبو داود؛ ومن أخذ بحديث سمرة أوجبها. وأما محلها فإن جمهور العلماء على أنه لا يجوز في العقيقة إلا ما يجوز في الضحايا من الأزواج الثمانية. وأما مالك فاختار فيها الضأن على مذهبه في الضحايا، واختلف قوله هل يجزي فيها الإبل والبقر أو لا يجزي؟ وسائر الفقهاء على أصلهم أن الإبل أفضل من البقر والبقر أفضل من الغنم. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب والقياس. أما الأثر فحديث ابن عباس "أن رسول الله ﷺ عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا" وقوله عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان" خرجهما أبو داود. وأما القياس فلأنهما نسك، فوجب أن يكون الأعظم فيها أفضل قياسا على الهدايا. وأما من يعق عنه، فإن جمهورهم على أنه يعق عن الذكر والأنثى الصغيرين فقط؛ وشذ الحسن فقال: لا يعق عن الجارية؛ وأجاز بعضهم أن يعق عن الكبير. ودليل الجمهور على تعلقها بالصغير قوله عليه الصلاة والسلام "يوم سابعه". ودليل من خالف ما روي عن أنس "أن النبي عليه الصلاة والسلام عق عن نفسه بعد ما بعث بالنبوة" ودليلهم أيضا على تعلقها بالأنثى قوله عليه الصلاة والسلام "عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان". ودليل من اقتصر بها على الذكر قوله عليه الصلاة والسلام "كل غلام مرتهن بعقيقته". وأما العدد فإن الفقهاء اختلفوا أيضا في ذلك، فقال مالك: يعق عن الذكر والأنثى بشاة شاة؛ وقال الشافعي وأبو ثور وأبو داود وأحمد: يعق عن الجارية شاة وعن الغلام شاتان. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب. فمنها حديث أم كرز الكعبية خرجه أبو داود قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول في العقيقة "عن الغلام شاتان مكافأتان، وعن الجارية شاة" والمكافأتان: المتماثلتان. وهذا يقتضي الفرق في ذلك بين الذكر والأنثى، وما روي "أنه عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا" يقتضي الاستواء بينهما. وأما وقت هذا النسك فإن جمهور العلماء على أنه يوم سابع المولود ومالك لا يعد في الأسبوع اليوم الذي ولد فيه إن ولد نهارا، وعبد الملك بن الماجشون يحتسب به. وقال ابن القاسم في العقيقة: إن عق ليلا لم يجزه. واختلف أصحاب مالك في مبدأ وقت الإجزاء، فقيل وقت الضحايا: أعني ضحى؛ وقيل بعد الفجر قياسا على قول مالك في الهدايا، ولاشك أن من أجاز الضحايا ليلا أجاز هذه ليلا؛ وقد قيل يجوز في السابع الثاني والثالث. وأما سن هذا النسك وصفته فسن الضحايا وصفتها الجائزة، أعني أنه يتقي فيها من العيوب ما يتقي في الضحايا، ولا أعلم في هذا خلافا في المذهب ولا خارجا منه. وأما حكم لحمها وجلدها وسائر أجزائها فحكم لحم الضحايا في الأكل والصدقة ومنع البيع، وجميع العلماء على أنه كان يدمي رأس الطفل في الجاهلية بدمها وأنه نسخ في الإسلام، وذلك لحديث بريدة الأسلمي قال "كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح له شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الإسلام كنا نذبح ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران" وشذ الحسن وقتادة فقالا: يمس رأس الصبي بقطنة قد غمست في الدم واستحب كسر عظامها لما كانوا في الجاهلية يقطعونها من المفاصل. واختلف في حلاق رأس المولود يوم السابع، والصدقة بوزن شعره فضة، فقيل هو مستحب، وقيل هو غير مستحب، والقولان عن مالك، والاستحباب أجود، وهو قول ابن حبيب لما رواه مالك في الموطأ "أن فاطمة بنت رسول الله ﷺ حلقت شعر الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم، وتصدقت بزنة ذلك فضة". 2*كتاب الأطعمة والأشربة

@-والكلام في أصول هذا الكتاب يتعلق بجملتين: الجملة الأولى: نذكر فيها المحرمات في حال الاختيار. الجملة الثانية: نذكر فيها أحوالها في حال الاضطرار. 3*(الجملة الأولى)

@-والأغذية الإنسانية نبات وحيوان. فأما الحيوان الذي يغتذى به، فمنه حلال في الشرع، ومنه حرام، وهذا منه بري ومنه بحري. والمحرمة منها ما تكون محرمة لعينها، ومنها ما تكون لسبب وارد عليها. وكل هذه منها ما اتفقوا عليه، ومنها ما اختلفوا فيه. فأما المحرمة لسبب وارد عليها فهي بالجملة تسعة: الميتة، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، وكل ما نقصه شرط من شروط التذكية من الحيوان الذي التذكية شرط في أكله، والجلالة، والطعام الحلال يخالطه نجس. فأما الميتة فاتفق العلماء على تحريم ميتة البر، واختلفوا في ميتة البحر على ثلاثة أقوال: فقال قوم: هي حلال بإطلاق؛ وقال قوم: هي حرام بإطلاق؛ وقال قوم: ما طفا من السمك حرام، وما جزر عنه البحر فهو حلال. وسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب، ومعارضة عموم الكتاب لبعضها معارضة كلية، وموافقته لبعضها موافقة جزئية، ومعارضة بعضها لبعض معارضة جزئية. فأما العموم فهو قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة} . وأما الآثار المعارضة لهذا العموم معارضة كلية فحديثان: الواحد متفق عليه، والآخر مختلف فيه. أما المتفق عليه فحديث جابر، وفيه "إن أصحاب رسول الله ﷺ وجدوا حوتا يسمى العنبر، أو دابة قد جزر عنه البحر فأكلوا منه بضعة وعشرين يوما أو شهرا، ثم قدموا على رسول الله ﷺ فأخبروه فقال: هل معكم من لحمه شيء: فأرسلوا منه إلى رسول الله ﷺ فأكله" وهذا إنما يعارض الكتاب معارضة كلية بمفهومه لا بلفظه. وأما الحديث الثاني المختلف فيه، فما رواه مالك عن أبي هريرة "أنه سئل عن ماء البحر فقال: هوالطهور ماؤه الحل ميتته". وأما الحديث الموافق للعموم موافقة جزئية فما روى إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام قال "ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما طفا فلا تأكلوه" وهو حديث أضعف عندهم من حديث مالك. وسبب ضعف حديث مالك أن في رواته من لا يعرف، وأنه ورد من طريق واحد؛ قال أبو عمر بن عبد البر: بل رواته معروفون وقد ورد من طرق. وسبب ضعف حديث جابر أن الثقات أوقفوه على جابر؛ فمن رجح حديث جابر هذا على حديث أبي هريرة لشهادة عموم الكتاب له لم يستثن من ذلك إلا ما جزر عنه البحر إذ لم يرد في ذلك تعارض؛ ومن رجح حديث أبي هريرة قال بالإباحة مطلقا. وأما من قال بالمنع مطلقا فمصيرا إلى ترجيح عموم الكتاب، وبالإباحة مطلقا قال مالك والشافعي، وبالمنع مطلقا قال أبو حنيفة وقال قوم غير هؤلاء بالفرق. وأما الخمسة التي ذكر الله مع الميتة فلا خلاف أن حكمها عندهم حكم الميتة. وأما الجلاَّلة وهي التي تأكل النجاسة فاختلفوا في أكلها. وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر. أما الأثر فما روي: أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن لحوم الجلاَّلة وألبانها" خرجه أبو داود عن ابن عمر. وأما القياس المعارض لهذا، فهو أن ما يرد جوف الحيوان ينقلب إلى لحم ذلك الحيوان وسائر أجزائه، فإذا قلنا أن لحم الحيوان حلال، وجب أن يكون لما ينقلب من ذلك حكم ما ينقلب إليه، وهو اللحم كما لو انقلب ترابا، أو كانقلاب الدم لحما، والشافعي يحرم الجلاَّلة، ومالك يكرهها. وأما النجاسة تخالط الحلال فالأصل فيه الحديث المشهور من حديث أبي هريرة وميمونة "أنه سئل عليه الصلاة والسلام عن الفأرة تقع في السمن فقال: إن كان جامدا فاطرحوها وما حولها وكلوا الباقي، وإن كان ذائبا فأريقوه أو لا تقربوه" وللعلماء في النجاسة تخالط المطعومات الحلال مذهبان: أحدهما من يعتبر في التحريم المخالطة فقط وإن لم يتغير للطعام لون ولا رائحة ولا طعم من قبل النجاسة التي خالطته وهو المشهور والذي عليه الجمهور. والثاني مذهب من يعتبر في ذلك التغير، وهو قول أهل الظاهر ورواية عن مالك. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم الحديث، وذلك أن منهم من جعله من باب الخاص أريد به الخاص وهم أهل الظاهر فقالوا: هذا الحديث يمر على ظاهره، وسائر الأشياء يعتبر فيها تغيرها بالنجاسة أو لا تغيرها بها؛ ومنهم من جعله من باب الخاص أريد به العام وهم الجمهور فقالوا: المفهوم منه أن بنفس مخالطة النجس ينجس الحلال، إلا أنه لم يتعلل لهم الفرق بين أن يكون جامدا أو ذائبا لوجود المخالطة في هاتين الحالتين وإن كانت في إحدى الحالتين أكثر: أعني في حالة الذوبان؛ ويجب على هذا أن يفرق بين المخالطة القليلة والكثيرة، فلما لم يفرقوا بينهما فكأنهم اقتصروا من بعض الحديث على ظاهره، ومن بعضه على القياس عليه، ولذلك أقرته الظاهرية كله على ظاهره. وأما المحرمات لعينها، فمنها ما اتفقوا أيضا عليه، ومنها ما اختلفوا فيه. فأما المتفق منها عليه فاتفق المسلمون منها على اثنين: لحم الخنزير، والدم. فأما الخنزير فاتفقوا على تحريم شحمه ولحمه وجلده، واختلفوا في الانتفاع بشعره وفي طهارة جلده مدبوغا وغير مدبوغ، وقد تقدم ذلك في كتاب الطهارة. وأما الدم فاتفقوا على تحريم المسفوح منه من الحيوان المذكى، واختلفوا في غير المسفوح منه. وكذلك اختلفوا في دم الحوت؛ فمنهم من رآه نجسا؛ ومنهم من لم يره نجسا، والاختلاف في هذا كله موجود في مذهب مالك وخارجا عنه. وسبب اختلافهم في غير المسفوح معارضة الإطلاق للتقييد، وذلك أن قوله تعالى {حرمت عليكم الميتة والدم} يقتضي تحريم مسفوح الدم وغيره، وقوله تعالى {أو دما مسفوحا} يقتضي بحسب دليل الخطاب تحريم المسفوح فقط؛ فمن رد المطلق إلى المقيد اشترط في التحريم السفح؛ ومن رأى أن الإطلاق يقتضي حكما زائدا على التقييد، وأن معارضة المقيد للمطلق إنما هو من باب دليل الخطاب، والمطلق عام، والعام أقوى من دليل الخطاب قضى بالمطلق على المقيد، وقال: يحرم قليل الدم وكثيره. والسفح المشترط في حرمية الدم إنما هو دم الحيوان المذكى، أعني أنه الذي يسيل عند التذكية من الحيوان الحلال الأكل. وأما أكل دم يسيل من الحيوان الحي فقليله وكثيره حرام؛ وكذلك الدم من الحيوان المحرم الأكل، وإن ذكى فقليله وكثيره حرام، ولا خلاف في هذا. وأما سبب اختلافهم في دم الحوت فمعارضة العموم للقياس. أما العموم فقوله تعالى {والدم} . وأما القياس فما يمكن أن يتوهم من كون الدم تابعا في التحريم لميتة الحيوان، أعني أن ما حرم ميتته حرم دمه، وما حل ميتته حل دمه، ولذلك رأى مالك أن ما لا دم له فليس بميتة. قال القاضي: وقد تكلمنا في هذه المسألة في كتاب الطهارة، ويذكر الفقهاء في هذا حديثا مخصصا لعموم الدم قوله عليه الصلاة والسلام "أحلت لنا ميتتان ودمان" وهذا الحديث في غالب ظني ليس هو في الكتب المشهورة من كتب الحديث. وأما المحرمات لعينها المختلف فيها فأربعة: أحدها لحوم السباع من الطير ومن ذوات الأربع. والثاني ذوات الحافر الإنسية. والثالث لحوم الحيوان المأمور بقتله في الحرم. والرابع لحوم الحيوانات التي تعافها النفوس وتستخبثها بالطبع. وحكى أبو حامد عن الشافعي أنه يحرم لحم الحيوان المنهي عن أكله قال: كالخطاف والنحل فيكون هذا جنسا خامسا من المختلف فيه. @-(فأما المسألة الأولى) وهي السباع ذوات الأربع، فروى ابن القاسم عن مالك أنها مكروهة، وعلى هذا القول عول جمهور أصحابه وهو المنصور عندهم؛ وذكر مالك في الموطأ ما دليله أنها عنده محرمة، وذلك أنه قال بعقب حديث أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" وعلى ذلك الأمر عندنا، وإلى تحريمها ذهب الشافعي وأشهب وأصحاب مالك وأبو حنيفة، إلا أنهم اختلفوا في جنس السباع المحرمة فقال أبو حنيفة: كل ما أكل اللحم فهو سبع حتى الفيل والضبع واليربوع عنده من السباع، وكذلك السنور؛ وقال الشافعي: يؤكل الضبع والثعلب، وإنما السباع المحرمة التي تعدو على الناس كالأسد والنمر والذئب، وكلا القولين في المذهب، وجمهورهم على أن القرد لا يؤكل ولا ينتفع به؛ وعند الشافعي أيضا أن الكلب حرام لا ينتفع به، لأنه فهم من النهي عن سؤره نجاسة عينه. وسبب اختلافهم في تحريم لحوم السباع من ذوات الأربع معارضة الكتاب للآثار، وذلك أن ظاهر قوله {قل لا أجد فيما أوحي إلى إلا محرما على طاعم يطعمه} الآية، أن ما عدا المذكور في هذه الآية حلال، وظاهر حديث أبي ثعلبة الخشني أنه قال "نهى رسول الله ﷺ عن أكل كل ذي ناب من السباع إن السباع محرمة" هكذا رواه البخاري ومسلم. وأما مالك فما رواه في هذا المعنى من طريق أبي هريرة هو أبين في المعارضة وهو أن رسول الله ﷺ قال "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" وذلك أن الحديث الأول قد يمكن الجمع بينه وبين الآية بأن يحمل النهي المذكور فيه على الكراهية. وأما حديث أبي هريرة فليس يمكن الجمع بينه وبين الآية إلا أن يعتقد أنه ناسخ للآية عند من رأى أن الزيادة نسخ وأن القرآن ينسخ بالسنة المتواترة. فمن جمع بين حديث أبي ثعلبة والآية حمل حديث لحوم السباع على الكراهية. ومن رأى أن حديث أبي هريرة يتضمن زيادة على ما في الآية حرم لحوم السباع، ومن اعتقد أن الضبع والثعلب محرمان فاستدلا بعموم لفظ السباع؛ ومن خصص من ذلك العادية فمصيرا لما روى عبد الرحمن ابن عمار قال: سألت جابر بن عبد الله عن الضبع آكلها؟ قال: نعم، قلت: أصيد هي؟ قال: نعم، قلت: فأنت سمعت ذلك من رسول ﷺ؟ قال: نعم. وهذا الحديث وإن كان انفرد به عبد الرحمن فهو ثقة عند جماعة أئمة الحديث، ولما ثبت من إقراره عليه الصلاة والسلام على أكل الضب بين يديه. وأما سباع الطير، فالجمهور على أنها حلال لمكان الآية المتكررة وحرمها قوم لما جاء في حديث ابن عباس أنه قال "نهى رسول الله ﷺ عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل مخلب من الطير" إلا أن هذا الحديث لم يخرجه الشيخان، وإنما ذكره أبو داود. @-(وأما المسألة الثانية) وهي اختلافهم في ذوات الحافر الإنسي: أعني الخيل والبغال والحمير، فإن جمهور العلماء على تحريم لحوم الحمر الإنسية، إلا ما روي عن ابن عباس وعائشة أنهما كانا يبيحانها، وعن مالك أنه كان يكرهها، رواية ثانية مثل قول الجمهور؛ وكذلك الجمهور على تحريم البغال، وقوم كرهوها ولم يحرموها، وهو مروي عن مالك. وأما الخيل فذهب مالك وأبو حنيفة وجماعة إلى أنها محرمة؛ وذهب الشافعي وأبو يوسف ومحمد وجماعة إلى إباحتها. والسبب في اختلافهم في الحمر الإنسية معارضة الآية المذكورة للأحاديث الثابتة في ذلك من حديث جابر وغيره قال "نهى رسول الله ﷺ يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل" فمن جمع بين الآية وهذا الحديث حملها على الكراهية؛ ومن رأى النسخ قال بتحريم الحمر أو قال بالزيادة دون أن يوجب عنده نسخا، وقد احتج من لم ير تحريمها بما روي عن أبي إسحق الشيباني عن ابن أبي أوفى قال "أصبنا حمرا مع رسول الله ﷺ بخيبر وطبخناها، فنادى منادي رسول الله ﷺ أن أكفئوا القدور بما فيها". قال ابن إسحق: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: إنما نهي عنها لأنها كانت تأكل الجلة. وأما اختلافهم في البغال، فسببه معارضة دليل الخطاب في قوله تعالى {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} وقوله مع أن ذلك من الأنعام {لتركبوا منها ومنها تأكلون} للآية الحاصرة للمحرمات، لأنه يدل مفهوم الخطاب فيها أن المباح في البغال إنما هو الركوب مع قياس البغل أيضا على الحمار. وأما سبب اختلافهم في الخيل فمعارضة دليل الخطاب في هذه الآية لحديث جابر، ومعارضة قياس الفرس على البغل والحمار له، لكن إباحة لحم الخيل نص في حديث جابر فلا ينبغي أن يعارض بقياس ولا بدليل خطاب. @-(وأما المسألة الثالثة) وهي اختلافهم في الحيوان المأمور بقتله في الحرم وهي الخمس المنصوص عليها: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور، فإن قوما فهموا من الأمر بالقتل لها مع النهي عن قتل البهائم المباحة الأكل أن العلة في ذلك هو كونها محرمة، وهو مذهب الشافعي؛ وقوما فهموا من ذلك معنى التعدي لا معنى التحريم، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وجمهور أصحابهما. وأما الجنس الرابع، وهو الذي تستخبثه النفوس كالحشرات والضفادع والسرطانات والسلحفات وما في معناها، فإن الشافعي حرمها وأباحها الغير؛ ومنهم من كرهها فقط. وسبب اختلافهم اختلافهم في مفهوم ما ينطلق عليه اسم الخبائث في قوله تعالى {ويحرم عليهم الخبائث} فمن رأى أنها المحرمات بنص الشرع لم يحرم من ذلك ما تستخبثه النفوس مما لم يرد فيه نص؛ ومن رأى أن الخبائث هي ما تستخبثه النفوس قال: هي محرمة. وأما ما حكاه أبو حامد عن الشافعي في تحريمه الحيوان المنهي عن قتله كالخطاف والنحل زعم فإني لست أدري أين وقعت الآثار الواردة في ذلك، ولعلها في غير الكتب المشهورة عندنا. وأما الحيوان البحري، فإن العلماء أجمعوا على تحليل ما لم يكن منه موافقا بالاسم لحيوان في البر محرم، فقال مالك: لا بأس بأكل جميع حيوان البحر، إلا أنه كره خنزير الماء وقال: أنتم تسمونه خنزيرا، وبه قال ابن أبي ليلى والأوزاعي ومجاهد وجمهور العلماء، إلا أن منهم من يشترط في غير السمك التذكية، وقد تقدم ذلك. وقال الليث بن سعد: أما إنسان الماء وخنزير الماء فلا يؤكلان على شيء من الحالات. وسبب اختلافهم هو هل يتناول لغة أو شرعا اسم الخنزير والإنسان خنزير الماء وإنسانه، وعلى هذا يجب أن يتطرق الكلام إلى كل حيوان في البحر مشارك بالاسم في اللغة أو في العرف لحيوان محرم في البر مثل الكلب عند من يرى تحريمه، والنظر في هذه المسألة يرجع إلى أمرين: أحدهما هل هذه الأسماء لغوية؟ والثاني هل للاسم المشترك عموم أم ليس له؟ فإن إنسان الماء وخنزيره يقالان مع خنزير البر وإنسانه باشتراك الاسم، فمن سلم أن هذه الأسماء لغوية ورأى أن للاسم المشترك عموما لزمه أن يقول بتحريمها، ولذلك توقف مالك في ذلك وقال: أنتم تسمونه خنزيرا. فهذه حال الحيوان المحرم الأكل في الشرع والحيوان المباح الأكل. وأما النبات الذي هو غذاء فكله حلال إلا الخمر وسائر الأنبذة المتخذة من العصارات التي تتخمر ومن العسل نفسه. أما الخمر فإنهم اتفقوا على تحريم قليلها وكثيرها: أعني التي هي من عصير العنب. وأما الأنبذة فإنهم اختلفوا في القليل منها الذي لا يسكر، وأجمعوا على أن المسكر منها حرام، فقال جمهور فقهاء الحجاز وجمهور المحدثين: قليل الأنبذة وكثيرها المسكرة حرام. وقال العراقيون إبراهيم النخعي من التابعين وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وشريك وابن شبرمة وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفيين وأكثر علماء البصرين: إن المحرم من سائر الأنبذة المسكرة هو السكر نفسه لا العين. وسبب اختلافهم تعارض الآثار والأقيسة في هذا الباب، فللحجازيين في تثبيت مذهبهم طريقتان: الطريقة الأولى الآثار الواردة في ذلك. والطريقة الثانية تسمية الأنبذة بأجمعها خمرا. فمن أشهر الآثار التي تمسك بها أهل الحجاز ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت "سئل رسول الله ﷺ عن البتع وعن نبيذ العسل؟ فقال: كل شراب أسكر فهو حرام" خرجه البخاري. وقال يحيى بن معين: هذا أصح حديث روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في تحريم المسكر؛ ومنها أيضا ما خرجه مسلم عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" فهذان حديثان صحيحان. أما الأول فاتفق الكل عليه. وأما الثاني فانفرد بتصحيحه مسلم. وخرج الترمذي وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله ﷺ قال "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وهو نص في موضع الخلاف. وأما الاستدلال الثاني من أن الأنبذة كلها تسمى خمرا، فلهم في ذلك طريقتان: إحداهما من جهة إثبات الأسماء بطريق الاشتقاق، والثاني من جهة السماع. فأما التي من جهة الاشتقاق فإنهم قالوا إنه معلوم عند أهل اللغة أن الخمر إنما سميت خمرا لمخامرتها العقل، فوجب لذلك أن ينطلق اسم الخمر لغة على كل ما خامر العقل. وهذه هي الطريقة من إثبات الأسماء فيها اختلاف بين الأصوليين، وهي غير مرضية عند الخراسانيين. وأما الطريقة الثانية التي من جهة السماع، فإنهم قالوا إنه وإن لم يسلم لنا أن الأنبذة تسمى في اللغة خمرا شرعا، واحتجوا في ذلك بحديث ابن عمر المتقدم، وبما روي أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة" وما روي أيضا عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال "إن من العنب خمرا، وإن من العسل خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن الحنطة خمرا وأنا أنهاكم عن كل مسكر" فهذه هي عمدة الحجازيين في تحريم الأنبذة. وأما الكوفيون فإنهم تمسكوا لمذهبهم بظاهر قوله تعالى {ومن ثمر النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا} وبآثار رووها في هذا الباب، وبالقياس المعنوي. أما احتجاجهم بالآية فإنهم قالوا: السكر هو المسكر ولو كان محرم العين لما سماه الله رزقا حسنا. وأما الآثار التي اعتمدوها في هذا الباب، فمن أشهرها عندهم حديث أبي عون الثقفي عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام قال "حرمت عليكم الخمر لعينها" والسكر من غيرها وقالوا: هذا نص لا يحتمل التأويل، وضعفه أهل الحجاز لأن بعض رواته روى "والمسكر من غيرها" ومنها حديث شريك عن سماك بن حرب بإسناده عن أبي بردة بن نيار قال: قال رسول الله ﷺ "إني كنت نهيتكم عن الشراب في الأوعية فاشربوا فيما بدا لكم ولا تسكروا" خرجها الطحاوي. ورووا عن ابن مسعود أنه قال: شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم، ثم شهدت تحليله فحفظت ونسيتم. ورووا عن أبي موسى قال "بعثني رسول الله ﷺ أنا ومعاذا إلى اليمن، فقلنا: يا رسول الله إن بها شرابين يصنعان من البر والشعير: أحدهما يقال له المزر، والآخر يقال له البتع، فما نشرب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: اشربا ولا تسكرا" خرجه الطحاوي أيضا إلى غير ذلك من الآثار التي ذكروها في هذا الباب. وأما احتجاجهم من جهة النظر فإنهم قالوا: قد نص القرآن أن علة التحريم في الخمر إنما هي الصد عن ذكر الله ووقوع العداوة والبغضاء كما قال تعالى {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة} وهذه العلة توجد في القدر المسكر لا فيما دون ذلك، فوجب أن يكون ذلك القدر هو الحرام إلا ما انعقد عليه الإجماع من تحريم قليل الخمر وكثيرها، قالوا: وهذا النوع من القياس يلحق بالنص، وهو القياس الذي ينبه الشرع على العلة فيه. وقال المتأخرون من أهل النظر: حجة الحجازيين من طريق السمع أقوى، وحجة العراقيين من طريق القياس أظهر. وإذا كان هذا كما قالوا فيرجع الخلاف إلى اختلافهم في تغليب الأثر على القياس، أو تغليب القياس على الأثر إذا تعارضا، وهي مسألة مختلف فيها، لكن الحق أن الأثر إذا كان نصا ثابتا، فالواجب أن يغلب على القياس. وأما إذا كان ظاهر اللفظ محتملا للتأويل فهنا يتردد النظر هل يجمع بينهما بأن يتأول اللفظ أو يغلب ظاهر اللفظ على مقتضى القياس؟ وذلك مختلف بحسب قوة لفظ من الألفاظ الظاهرة، وقوة قياس من القياسات التي تقابلها ولا يدرك الفرق بينهما إلا بالذوق العقلي كما يدرك الموزون من الكلام من غير الموزون، وربما كان الذوقان على التساوي؛ ولذلك كثر الاختلاف في هذا النوع حتى قال كثير من الناس: كل مجتهد مصيب. قال القاضي: والذي يظهر لي والله أعلم أن قوله عليه الصلاة والسلام "كل مسكر حرام" وإن كان يحتمل أن يراد به القدر المسكر لا الجنس المسكر، فإن ظهوره في تعليق التحريم بالجنس أغلب على الظن من تعليقه بالقدر لمكان معارضة ذلك القياس له على ما تأوله الكوفيون، فإنه لا يبعد أن يحرم الشارع قليل المسكر وكثيره سدا للذريعة وتغليظا، مع أن الضرر إنما يوجد في الكثير، وقد ثبت من حال الشرع بالإجماع أنه اعتبر في الخمر الجنس دون القدر الواجب، فوجب كل ما وجدت فيه علة الخمر أن يلحق بالخمر، وأن يكون على من زعم وجود الفرق إقامة الدليل على ذلك، هذا إن لم يسلموا لنا صحة قوله عليه الصلاة والسلام "ما أسكر كثيره فقليله حرام" فإنهم إن سلموه لم يجدوا انفكاكا فإنه نص في موضع الخلاف، ولا يصح أن تعارض النصوص بالمقاييس، وأيضا فإن الشرع قد أخبر أن في الخمر مضرة ومنفعة، فقال تعالى {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} وكان القياس إذا قصد الجمع بين انتقاء المضرة ووجود المنفعة أن يحرم كثيرها ويحلل قليلها؛ فلما غلب الشرع حكم المضرة على المنفعة في الخمر ومنع القليل منها والكثير، وجب أن يكون الأمر كذلك في كل ما يوجد فيه على تحريم الخمر، إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي. واتفقوا على أن الانتباذ حلال ما لم تحدث فيه الشدة المطربة الخمرية لقوله عليه الصلاة والسلام "فانتبذوا وكل مسكر حرام"، ولما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام "أنه كان ينتبذ، وأنه كان يريقه في اليوم الثاني أو الثالث" واختلفوا في ذلك في مسئلتين: إحداهما: في الأواني التي ينتبذ فيها. والثانية: في انتباذ شيئين مثل البسر والرطب، والتمر والزبيب. @-(فأما المسألة الأولى) فإنهم أجمعوا على جواز الانتباذ في الأسقية، واختلفوا فيما سواها؛ فروى ابن القاسم عن مالك أنه كره الانتباذ في الدباء والمزفت ولم يكره غير ذلك؛ وكره الثوري الانتباذ في الدباء والحنتم والنقير والمزفت؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا بأس بالانتباذ في جميع الظروف والأواني. وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب، وذلك أنه ورد من طريق ابن عباس النهي عن الانتباذ في الأربع التي كرهها الثوري وهو حديث ثابت. وروى مالك عن ابن عمر في الموطأ "أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن الانتباذ في الدباء والمزفت" وجاء في حديث جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام من طريق شريك عن سماك أنه قال "كنت نهيتكم أن تنبذوا في الدباء والحنتم والنقير والمزفت فانتبذوا ولا أحل مسكرا" وحديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مالك في الموطأ، وهو أنه عليه الصلاة والسلام قال "كنت نهيتكم عن الانتباذ فانتبذوا، وكل مسكر حرام". فمن رأى أن النهي المتقدم الذي نسخ إنما كان نهيا عن الانتباذ في هذه الأواني إذ لم يعلم ههنا نهي متقدم غير ذلك قال: يجوز الانتباذ في كل شيء؛ ومن قال إن النهي المتقدم الذي نسخ إنما كان نهيا عن الانتباذ مطلقا قال: بقي النهي عن الانتباذ في هذه الأواني؛ فمن اعتمد في ذلك حديث ابن عمر قال بالآيتين المذكورتين فيه؛ ومن اعتمد في ذلك حديث ابن عباس قال بالأربعة، لأنه يتضمن مزيدا، والمعارضة بينه وبين حديث ابن عمر إنما هي من باب دليل الخطاب. وفي كتاب مسلم النهي عن الانتباذ في الحنتم، وفيه أنه رخص لهم فيه إذا كان غير مزفت. @-(وأما المسألة الثانية) وهي انتباذ الخليطين، فإن الجمهور قالوا بتحريم الخليطين من الأشياء التي من شأنها أن تقبل الانتباذ؛ وقال قوم: بل الانتباذ مكروه؛ وقال قوم: هو مباح؛ وقال قوم: كل خليطين فهما حرام وإن لم يكونا مما يقبلان الانتباذ فيما أحسب الآن. والسبب في اختلافهم ترددهم في هل النهي الوارد في ذلك هو على الكراهة أو على الحظر؟ وإذا قلنا إنه على الحظر، فهل يدل على فساد المنهى عنه أم لا؟ وذلك أنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام "أنه نهى عن أن يخلط التمر والزبيب، والزهو والرطب، والبسر والزبيب" وفي بعضها أنه قال عليه الصلاة والسلام "لا تنتبذوا الزهو والزبيب جميعا، ولا التمر والزبيب جميعا، وانتبذوا كل واحد منهما على حدة" فيخرج في ذلك بحسب التأويل الأقاويل الثلاثة: قول بتحريمه، وقول بتحليله مع الإثم في الانتباذ، وقول بكراهية ذلك. وأما من قال إنه مباح، فلعله اعتمد في ذلك عموم الأثر بالانتباذ في حديث أبي سعيد الخدري. وأما من منع كل خليطين، فإما أن يكون ذهب إلى أن علة المنع هو الاختلاط لا ما يحدث عن الاختلاط من الشدة في النبيذ، وإما أن يكون قد تمسك بعموم ما ورد أنه نهى عن الخليطين؛ وأجمعوا على أن الخمر إذا تخللت من ذاتها جاز أكلها. واختلفوا إذا قصد تخليلها على ثلاثة أقوال: التحريم، والكراهية، والإباحة. وسبب اختلافهم معارضة القياس للأثر واختلافهم في مفهوم الأثر، وذلك أن أبا داود خرج من حديث أنس بن مالك أن أبا طلحة "سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن أيتام ورثوا خمرا، فقال: أهرقها، قال: أفلا أجعلها خلا؟ قال: لا" فمن فهم من المنع سد ذريعة حمل ذلك على الكراهية؛ ومن فهم النهي لغير علة قال بالتحريم؛ ويخرج على هذا أن لا تحريم أيضا على مذهب من يرى أن النهي لا يعود بفساد المنهي. والقياس المعارض لحمل الخل على التحريم أنه قد علم من ضرورة الشرع أن الأحكام المختلفة إنما هي للذوات المختلفة، وأن الخمر غير ذات الخل، والخل بإجماع حلال، فإذا انتقلت ذات الخمر إلى ذات الخل وجب أن يكون حلالا كيفما انتقل. 3*(الجملة الثانية: في استعمال المحرمات في حال الاضطرار)

@-والأصل في هذا الباب قوله تعالى {وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه} والنظر في هذا الباب في السبب المحلل وفي جنس الشيء المحلل وفي مقداره. فأما السبب، فهو ضرورة التغذي: أعني إذا لم يجد شيئا حلالا يتغذى به، وهو لا خلاف فيه. وأما السبب الثاني طلب البرء، وهذا المختلف فيه؛ فمن أجازه احتج بإباحة النبي عليه الصلاة والسلام الحرير لعبد الرحمن بن عوف لمكان حكة به؛ ومن منعه فلقوله عليه الصلاة والسلام "إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها". وأما جنس الشيء المستباح فهو كل شيء محرم مثل الميتة وغيرها؛ والاختلاف في الخمر عندهم هو من قبل التداوي بها لا من قبل استعمالها في التغذي، ولذلك أجازوا للعطشان أن يشربها إن كان منها ري، وللشرق أن يزيل شرقه بها. وأما مقدار ما يؤكل من الميتة وغيرها فإن مالكا قال: حد ذلك الشبع والتزود منها حتى يجد غيرها؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يأكل منها إلا ما يمسك الرمق، وبه قال بعض أصحاب مالك. وسبب الاختلاف هل المباح له في الاضطرار هو جميعها أم ما يمسك الرمق فقط؟ والظاهر أنه جميعها لقوله تعالى {فمن اضطر غير باغ ولا عاد} واتفق مالك والشافعي على أنه لا يحل للمضطر أكل الميتة إذا كان عاصيا بسفره لقوله تعالى {غير باغ ولا عاد} وذهب غيره إلى جواز ذلك. (انتهى كتاب الأطعمة والأشربة) تم الجزء الأول من كتاب (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) ويليه: الجزء الثاني، وأوله: كتاب النكاح



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع ابن حجر الهيتمي الباب الثاني{الجزء الثاني}

كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع/الباب الثاني المحتويات  القسم الأول: اللعب بالنرد  القسم [الثاني]: اللعب بالشِّطرَنج  القسم الثالث: ...