Translate

الأحد، 19 فبراير 2023

كتاب الوصايا والتدبير والجنايات من بداية المجتهد لابن رشد


بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما). 

2*كتاب الوصايا 

@-والنظر فيها أولا ينقسم قسمين القسم الأول: النظر في الأركان. والثاني: في الأحكام. ونحن فإنما نتكلم من هذه فيما وقع فيها من المسائل المشهورة

3*القول في الأركان

@-والأركان أربعة: الموصي والموصى له، والموصى به، والوصية. أما الموصي فاتفقوا على أنه كل مالك صحيح الملك، ويصح عند مالك وصية السفيه والصبي الذي يعقل القرب؛ وقال أبو حنيفة لا تجوز وصية الصبي الذي لم يبلغ، وعن الشافعي القولان وكذلك وصية الكافر تصح عندهم إذا لم يوص بمحرم. وأما الموصى له فإنهم اتفقوا على أن الوصية لا تجوز لوارث لقوله عليه الصلاة والسلام "لا وصية لوارث" واختلفوا هل تجوز لغير القرابة؟ فقال جمهور العلماء: إنها تجوز لغير الأقربين مع الكراهية، وقال الحسن وطاوس: ترد الوصية على القرابة، وبه قال إسحق، وحجة هؤلاء ظاهر قوله تعالى {الوصية للوالدين والأقربين} والألف واللام تقتضي الحصر. واحتج الجمهور بحديث عمران بن حصين المشهور وهو "أن رجلا أعتق ستة أعبد له في مرضه عند موته لامال له غيرهم، فأقرع رسول الله ﷺ بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة" والعبيد غير القرابة. وأجمعوا - كما قلنا - أنها لا تجوز لوارث إذا لم يجزها الورثة. واختلفوا - كما قلنا - إذا أجازتها الورثة، فقال الجمهور: تجوز، وقال أهل الظاهر والمزني: لا تجوز. وسبب الخلاف هل المنع لعلة الورثة أو عبادة؟ فمن قال عبادة قال: لا تجوز وإن أجازها الورثة؛ ومن قال بالمنع لحق الورثة أجازها الورثة؛ وتردد هذا الخلاف راجع إلى تردد المفهوم من قوله عليه الصلاة والسلام "لا وصية لوارث" هل هو معقول المعنى أم ليس بمعقول؟ واختلفوا في الوصية للميت، فقال قوم: تبطل بموت الموصى له، وهم الجمهور؛ وقال قوم: لا تبطل وفي الوصية للقاتل خطأ وعمدا وفي هذا الباب فرع مشهور، وهو إذا أذن الورثة للميت هل لهم أن يرجعوا في ذلك بعد موته؟ فقيل لهم، وقيل ليس لهم، وقيل بالفرق بين أن يكون الورثة في عيال الميت أو لا يكونوا، أعني إنهم إن كانوا في عياله كان لهم الرجوع، والثلاثة الأقوال في المذهب.

 

3*القول في الموصى به والنظر في جنسه وقدره.

 

@-أما جنسه فإنهم اتفقوا على جواز الوصية في الرقاب، واختلفوا في المنافع فقال جمهور فقهاء الأمصار: ذلك جائز؛ وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة وأهل الظاهر: الوصية بالمنافع باطلة. وعمدة الجمهور أن المنافع في معنى الأموال. وعمدة الطائفة الثانية أن المنافع متنقلة إلى ملك الوارث، لأن الميت لا ملك له فلا تصح له وصية بما يوجد في ملك غيره، وإلى هذا القول ذهب أبو عمر بن عبد البر. وأما القدر فإن العلماء اتفقوا على أنه لا تجوز الوصية في أكثر من الثلث لمن ترك ورثة. واختلفوا فيمن لم يترك ورثة وفي القدر المستحب منها، هل هو الثلث أو دونه؟ وإنما صار الجميع إلى أن الوصية لا تجوز في أكثر من الثلث لمن له وارث بما ثبت عنه ﷺ "أنه عاد سعد بن أبي وقاص فقال له يا رسول الله: قد بلغ مني الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ فقال له رسول الله ﷺ: لا ، فقال له سعد: فالشطر؟ قال: لا، ثم قال رسول الله ﷺ: الثلث والثلث كثير إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" فصار الناس لمكان هذا الحديث إلى أن الوصية لا تجوز بأكثر من الثلث، واختلفوا في المستحب من ذلك، فذهب قوم إلى أنه ما دون الثلث، لقوله عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث "والثلث كثير" وقال بهذا كثير من السلف. قال قتادة: أوصى أبو بكر بالخمس، وأوصى عمر بالربع، والخمس أحب إلي. وأما من ذهب إلى أن المستحب هو الثلث فإنهم اعتمدوا على ما روي عن النبي ﷺ أنه قال "إن الله جعل لكم في الوصية ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم" وهذا الحديث ضعيف عند أهل الحديث. وثبت عن ابن عباس أنه قال: لوغض الناس في الوصية من الثلث إلى الربع لكان أحب إلي، لأن رسول الله ﷺ قال "الثلث والثلث كثير". وأما اختلافهم في جواز الوصية بأكثر من الثلث لمن لا وارث له، فإن مالكا لا يجيز ذلك والأوزاعي، واختلف فيه قول أحمد، وأجاز ذلك أبو حنيفة وإسحق، وهو قول ابن مسعود. وسبب الخلاف هل هذا الحكم خاص بالعلة التي علله بها الشارع أم ليس بخاص، وهو أن لا يترك ورثته عالة يتكففون الناس. كما قال عليه الصلاة والسلام "إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" فمن جعل هذا السبب خاصا وجب أن يرتفع الحكم بارتفاع هذه العلة؛ ومن جعل الحكم عبادة وإن كان قد علل بعلة، أو جعل جميع المسلمين في هذا المعنى بمنزلة الورثة قال: لا تجوز الوصية بإطلاق بأكثر من الثلث.

 

3*القول في المعنى الذي يدل عليه لفظ الوصية.

 

@-والوصية بالجملة هي هبة الرجل ماله لشخص آخر أو لأشخاص بعد موته أو عتق غلامه سواء صرح بلفظ الوصية أو لم يصرح به، وهذا العقد عندهم هو من العقود الجائزة باتفاق، أعني أن للموصي أن يرجع فيما أوصى به، إلا المدبر فإنهم اختلفوا فيه على ما سيأتي في كتاب التدبير، وأجمعوا على أنه لا يجب للموصى له إلا بعد موت الموصي. واختلفوا في قبول الموصى له هل هو شرط في صحتها أم لا؟ فقال مالك: قبول الموصى له إياها شرط في صحة الوصية؛ وروي عن الشافعي أنه ليس القبول شرطا في صحتها، ومالك شبهها بالهبة.

 

3*القول في الأحكام.

 

@-وهذه الأحكام منها لفظية، ومنها حسابية، ومنها حكمية. فمن مسائلهم المشهورة الحكمية اختلافهم في حكم من أوصى بثلث ماله لرجل وعين ما أوصى له به في ماله مما هو الثلث، فقال الورثة: ذلك الذي عين أكثر من الثلث، فقال مالك: الورثة مخيرون بين أن يعطوه ذلك الذي عينه الموصي أو يعطوه الثلث من جميع مال الميت؛ وخالفه في ذلك أبو حنيفة والشافعي وأبو ثور وأحمد وداود. وعمدتهم أن للوصية قد وجبت للموصى له بموت الموصي وقبوله إياها باتفاق، فكيف ينقل عن ملكه ما وجب له بغير طيب نفس منه وتغير الوصية. وعمدة مالك إمكان صدق الورثة فيما ادعوه، وما أحسن ما رأى أبو عمر بن عبد البر في هذه المسألة، وذلك أنه قال: إذا ادعى الورثة ذلك كلفوا بيان ما ادعوا، فإن ثبت ذلك أخذ منه الموصى له قدر الثلث من ذلك الشيء الموصى به وكان شريكا للورثة، وإن كان الثلث فأقل جبروا على إخراجه، وإذا لم يختلفوا في أن ذلك الشيء الموصى به هو فرق الثلث، فعند مالك أن الورثة مخيرون بين أن يدفعوا إليه ما وصى له به، أو يفرجوا له عن جميع ثلث مال الميت، إما في ذلك الشيء بعينه، وإما في جميع المال على اختلاف الرواية عن مالك في ذلك؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: له ثلث تلك العين ويكون بباقيه شريكا للورثة في جميع ما ترك الميت حتى يستوفي تمام الثلث. وسبب الخلاف أن الميت لما تعدى في أن جعل وصيته في شيء بعينه، فهل الأعدل في حق الورثة أن يخيروا بين إمضاء الوصية أو يفرجوا له إلى غاية ما يجوز للميت أن يخرج عنهم من ماله أو يبطل التعدي ويعود ذلك الحق مشتركا، وهذا هو الأولى إذا قلنا إن التعدي هو في التعيين لكونه أكثر من الثلث، أعني أن الواجب أن يسقط التعيين. وإما أن يكلف الورثة أن يمضوا التعيين أو يتخلوا عن جميع الثلث فهو حمل عليهم. ومن هذا الباب اختلافهم فيمن وجبت عليه زكاة فمات ولم يوص بها وإذا وصى بها فهل هي من الثلث، أو من رأس المال؟ فقال مالك: إذا لم يوص بها لم يلزمه الورثة إخراجها، وقال الشافعي: يلزم الورثة إخراجها من رأس المال، وإذا وصى بها، فعند مالك يلزم الورثة إخراجها وهي عنده من الثلث، وهي عند الشافعي في الوجهين من رأس المال شبهها بالدين لقول رسول الله ﷺ "فدين الله أحق أن يقضى" وكذلك الكفارات الواجبة والحج الواجب عنده، ومالك يجعلها من جنس الوصايا بالتوصية بإخراجها بعد الموت، ولا خلاف أنه لو أخرجها في الحياة أنها من رأس المال ولو كان في السياق، وكأن مالكا اتهمه هنا على الورثة، أعني في توصيته بإخراجها، قال: ولو أجيز هذا لجاز للإنسان أن يؤخر جميع زكاته طول عمره إذا دنا من الموت وصى بها فإذا زاحمت الوصايا الزكاة قدمت عند مالك على ما هو أضعف منها؛ وقال أبو حنيفة: هي وسائر الوصايا سواء، يريد في المحاصة. واتفق مالك وجميع أصحابه على أن الوصايا التي يضيق عنها الثلث إذا كانت مستوية أنها تتحاص في الثلث، وإذا كان بعضها أهم من بعض قدم الأهم. واختلفوا في الترتيب على ما هو مسطور في كتبهم. ومن مسائلهم الحسابية المشهورة في هذا الباب إذا أوصى لرجل بنصف ماله ولآخر بثلثيه ورد للورثة الزائد، فعند مالك والشافعي أنهما يقتسمان الثلث بينهما أخماسا؛ وقال أبو حنيفة: بل يقتسمان الثلث بالسوية. وسبب الخلاف هل الزائد على الثلث الساقط هل يسقط الاعتبار به في القسمة كما يسقط في نفسه بإسقاط الورثة؟ فمن قال يبطل في نفسه ولا يبطل الاعتبار به في القسمة إذا كان مشاعا قال: يقتسمون المال أخماسا؛ ومن قال يبطل الاعتبار به كما لو كان معينا قال: يقتسمون الباقي على السواء. ومن مسائلهم اللفظية في هذا الباب إذا أوصى بجزء من ماله وله مال يعلم به ومال لا يعلم به، فعند مالك أن الوصية تكون فيما علم به دون ما لم يعلم، وعند الشافعي تكون في المالين. وسبب الخلاف هل اسم المال الذي نطق به يتضمن ما علم وما لم يعلم، أو ما علم فقط؟ والمشهور عن مالك أن المدبر يكون في المالين إذا لم يخرج من المال الذي يعلم. وفي هذا الباب فروع كثيرة وكلها راجعة إلى هذه الثلاثة الأجناس، ولا خلاف بينهم أن للرجل أن يوصي بعد موته بأولاده وأن هذه خلافة جزئية كالخلافة العظمى الكلية التي للإمام أن يوصي بها. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

 

2*كتاب الفرائض.

 

@-والنظر في هذا الكتاب، فيمن يرث، وفيمن لا يرث. ومن يرث هل يرث دائما، أو مع وارث دون وارث؛ وإذا ورث مع غيره فكم يرث وكذلك إذا ورث وحده كم يرث؟ وإذا ورث مع وارث، فهل يختلف ذلك بحسب وارث وارث أو لا يختلف؟. والتعليم في هذا يمكن على وجوه كثيرة قد سلك أكثرها أهل الفرائض، والسبيل الحاضرة في ذلك بأن يذكر حكم جنس جنس من أجناس الورثة إذا انفرد ذلك الجنس وحكمه مع سائر الأجناس الباقية، مثال ذلك أن ينظر إلى الولد إذا انفرد كم ميراثه، ثم ينظر حاله مع سائر الأجناس الباقية من الوارثين. فأما الأجناس الوارثة فهي ثلاثة: ذو نسب وأصهار، وموالي. فأما ذوو النسب، فمنها متفق عليها، ومنها مختلف فيها. فأما المتفق عليها فهي الفروع: أعني الأولاد، والأصول: أعني الآباء والأجداد ذكورا كانوا أو إناثا، وكذلك الفروع المشاركة للميت في الأصل الأدنى: أعني الإخوة ذكورا أو إناثا، أو المشاركة الأدنى أو الأبعد في أصل واحد وهم الأعمام وبنو الأعمام، وذلك الذكور من هؤلاء خاصة فقط، وهؤلاء إذا فصلوا كانوا من الرجال عشرة ومن النساء سبعة؛ أما الرجال: فالابن وابن الابن وإن سفل والأب والجد أبو الأب وإن علا والأخ من أي جهة كان: أعني للأم والأب أو لأحدهما وابن الأخ وإن سفل والعم وابن العم وإن سفل والزوج ومولى النعمة. وأما النساء: فالابنة وابنة الابن وإن سفلت والأم والجدة وإن علت والأخت والزوجة والمولاة. وأما المختلف فيهم فهم ذوو الأرحام، وهم من لا فرض لهم في كتاب الله ولا هم عصبة، وهم بالجملة بنو البنات وبنات الإخوة وبنو الأخوات وبنات الأعمام والعم أخو الأب للأم فقط وبنو الأخوة للأم والعمات والخالات والأخوال؛ فذهب مالك والشافعي وأكثر فقهاء الأمصار وزيد بن ثابت من الصحابة إلى أنه لا ميراث لهم؛ وذهب سائر الصحابة وفقهاء العراق والكوفة والبصرة وجماعة العلماء من سائر الآفاق إلى توريثهم. والذين قالوا بتوريثهم اختلفوا في صفة توريثهم؛ فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى توريثهم على ترتيب العصبات، وذهب سائر من ورثهم إلى التنزيل، وهو أن ينزل كل من أدلى منهم بذي سهم أو عصبة بمنزلة السبب الذي أدلى به. وعمدة مالك ومن قال بقوله أن الفرائض لما كانت لا مجال للقياس فيها كان الأصل أن لا يثبت فيها شيء إلا بكتاب أو سنة ثابتة أو إجماع، وجميع ذلك معدوم في هذه المسألة. وأما الفرقة الثانية، فزعموا أن دليلهم على ذلك من الكتاب والسنة والقياس. أما الكتاب فقوله تعالى {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} وقوله تعالى {للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} واسم القرابة ينطلق على ذوي الأحارم، ويرى المخالف أن هذه مخصوصة بآيات المواريث. وأما السنة فاحتجوا بما خرجه الترمذي عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي عبيدة أن رسول الله ﷺ قال "الله ورسوله مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له". وأما من طريق المعنى فإن القدماء من أصحاب أبي حنيفة قالوا: إن ذوي الأرحام أولى من المسلمين لأنهم قد اجتمع لهم سببان: القرابة والإسلام، فأشبهوا تقديم الأخ الشقيق على الأخ للأب، أعني أن من اجتمع له سببان أولى ممن له سبب واحد. وأما أبو زيد ومتأخرو أصحابه فشبهوا الإرث بالولاية وقالوا: لما كانت ولاية التجهيز والصلاة والدفن للميت عند فقد أصحاب الفروض والعصبات لذوي الأرحام وجب أن يكون لهم ولاية الإرث، وللفريق الأول اعتراضات في هذه المقاييس فيها ضعف. وإذ قد تقرر هذا فلنشرع في ذكر جنس جنس من أجناس الوارثين، ونذكر من ذلك ما يجري مجرى الأصول من المسائل المشهورة المتفق عليها والمختلف فيها. @-(ميراث الصلب) وأجمع المسلمون على أن ميراث الولد من والدهم ووالدتهم إن كانوا ذكورا وإناثا معا هو أن للذكر منهم مثل حظ الأنثيين، وأن الابن الواحد إذا انفرد فله جميع المال، وأن البنات إذا انفردن فكانت واحدة أن لها النصف، وإن كن ثلاثا فما فوق ذلك فلهن الثلثان. واختلفوا في الاثنتين فذهب الجمهور إلى أن لهما الثلثين، وروي عن ابن عباس أنه قال: للبنتين النصف. والسبب في اختلافهم تردد المفهوم في قوله تعالى {فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك} هل حكم الاثنتين المسكوت عنه يلحق بحكم الثلاثة أو بحكم الواحدة؟ والأظهر من باب دليل الخطاب أنهما لاحقان بحكم الواحدة؛ وقد قيل إن المشهور عن ابن عباس مثل قول الجمهور وقد روي عن ابن عبد الله بن محمد بن عقيل عن حاتم بن عبد الله وعن جابر "أن النبي ﷺ أعطى البنتين الثلثين" قال فيما أحسب أبو عمر ابن عبد البر وعبد الله بن عقيل: قد قبل جماعة من أهل العلم حديثه وخالفهم آخرون. وسبب الاتفاق في هذه الجملة قوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} إلى قوله {وإن كانت واحدة فلها النصف} وأجمعوا من هذا الباب على أن بني البنين يقومون مقام البنين عند فقد البنين يرثون كما يرثون ويحجبون كما يحجبون، إلا شيء روي عن مجاهد أنه قال: ولد الابن لا يحجبون الزوج من النصف إلى الربع كما يحجب الولد نفسه ولا الزوجة من الربع إلى الثمن، ولا الأم من الثلث إلى السدس. وأجمعوا على أنه ليس لبنات الابن ميراث مع بنات الصلب إذا استكمل بنات المتوفي الثلثين. واختلفوا إذا كان مع بنات الابن ذكر ابن ابن في مرتبتهن أو أبعد منهن، فقال جمهور فقهاء الأمصار: إنه يعصب بنات الابن فيما فضل عن بنات الصلب فيقسمون المال للذكر مثل حظ الانثيين، وبه قال علي رضي الله عنه وزيد بن ثابت من الصحابة. وذهب أبو ثور وداود أنه إذا استكمل البنات الثلثين أن الباقي لابن الابن دون بنات الابن كن في مرتبة واحدة مع الذكر أو فوقه أو دونه. وكان ابن مسعود يقول في هذه {للذكر مثل حظ الانثيين} إلا أن يكون الحاصل للنساء أكثر من السدس فلا تعطي إلا السدس. وعمدة الجمهور عموم قوله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين} وأن ولد الولد ولد من طريق المعنى، وأيضا لما كان ابن الابن يعصب من في درجته في جملة المال فواجب أن يعصب في الفاضل من المال. وعمدة داود وأبي ثور حديث ابن عباس أن النبي ﷺ قال "اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله عز وجل، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر" ومن طريق المعنى أيضا أن بنت الابن لما لم ترث مفردة من الفاضل عن الثلثين كان أحرى أن لا ترث مع غيرها، وسبب اختلافهم تعارض القياس والنظر في الترجيح. وأما قول ابن مسعود فمبني على أصله في أن بنات الابن لما كن لا يرثن مع عدم الابن أكثر من السدس لم يجب لهن مع الغير أكثر مما وجب لهن مع الانفراد، وهي حجة قريبة من حجة داود، والجمهور على أن ذكر ولد الابن يعصبهن كان في درجتهن أو أطرف منهن. وشذ بعض المتأخرين فقال: لا يعصبهن إلا إذا كان في مرتبتهن. وجمهور العلماء على أنه إذا ترك المتوفي بنتا لصلب وبنت ابن أو بنات ابن ليس معهن ذكر أن لبنات الابن السدس تكملة الثلثين، وخالفت الشيعة في ذلك فقالت: لا ترث بنت الابن مع البنت شيئا كالحال في ابن الابن مع الابن، فالاختلاف في بنات الابن في موضعين: مع بني الابن، ومع البنات فيما دون الثلثين وفوق النصف. فالمتحصل فيهن إذا كن مع بني الابن أنه قيل يرثن، وقيل لا يرثن؛ وإذا قيل يرثن فقيل يرثن تعصيبا مطلقا، وقيل يرثن تعصيبا إلا أن يكون أكثر من السدس؛ وإذا قيل يرثن فقيل أيضا إذا كان ابن الابن في درجتهن وقيل كيفما كان، والمتحصل في وراثتهن مع عدم ابن الابن فيما فضل عن النصف إلى تكملة الثلثين قيل يرثن، وقيل لا يرثن. @-(ميراث الزوجات) وأجمع العلماء على أن ميراث الرجل من امرأته إذا لم تترك ولدا ولا ولد ابن النصف ذكرا كان الولد أو أنثى، إلا ما ذكرنا عن مجاهد، وأنها إن تركت ولدا فله الربع، وأن ميراث المرأة من زوجها إذا لم يترك الزوج ولد ولا ولد ابن الربع، فإن ترك ولدا أو ولد ابن فالثمن، وأنه ليس يحجبهن أحد عن الميراث ولا ينقصهن إلا الولد، وهذا لورود النص في قوله تعالى {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد} الآية. @-(ميراث الأب والأم) وأجمع العلماء على أن الأب إذا انفرد كان له جميع المال، وأنه إذا انفرد الأبوان كان للأم الثلث وللأب الباقي لقوله تعالى {وورثه أبواه فلأمه الثلث} وأجمعوا على أن فرض الأبوين من ميراث ابنهما إذا كان للابن ولد أو ولد ابن السدسان، أعني أن لكل واحد منهما السدس لقوله تعالى {ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد} والجمهور على أن الولد هو الذكر دون الأنثى وخالفهم في ذلك من شذ؛ وأجمعوا على أن الأب لا ينقص مع ذوي الفرائض من السدس وله ما زاد؛ وأجمعوا من هذا الباب على أن الأم يحجبها الإخوة من الثلث إلى السدس لقوله تعالى {فإن كان له أخوة فلأمه السدس} . واختلفوا في أقل ما يحجب الأم من الثلث إلى السدس من الأخوة، فذهب علي رضي الله عنه وابن مسعود إلى أن الأخوة الحاجبين هما اثنان فصاعدا، وبه قال مالك وذهب ابن عباس إلى أنهم ثلاثة فصاعدا، وأن الاثنين لا يحجبان الأم من الثلث إلى السدس، والخلاف آيل إلى أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع؛ فمن قال أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع ثلاثة قال: الإخوة الحاجبون ثلاثة فما فوق؛ ومن قال أقل ما ينطلق عليه اسم الجمع اثنان قال: الإخوة الحاجبون هما اثنان أعني في قوله تعالى {فإن كان له أخوة} ولا خلاف أن الذكر والأنثى يدخلان تحت اسم الإخوة في الآية وذلك عند الجمهور. وقال بعض المتأخرين لا أنقل الأم من الثلث إلى السدس بالأخوات المنفردات، لأنه زعم أنه ليس ينطلق عليهن اسم الإخوة إلا أن يكون معهن أخ لموضع تغليب المذكر على المؤنث، إذ اسم الإخوة هو جمع أخ، والأخ مذكر. واختلفوا من هذا الباب فيمن يرث السدس الذي تحجب عنه الأم بالإخوة، وذلك إذا ترك المتوفي أبوين وأخوة، فقال الجمهور: ذلك السدس للأب مع الأربعة الأسداس. وروي عن ابن عباس أن ذلك السدس للأخوة الذين حجبوا، وللأب الثلثان لأنه ليس في الأصول من يحجب ولا يأخذ ما حجب إلا الأخوة مع الآباء، وضعف قوم الإسناد بذلك عن ابن عباس، وقول ابن عباس هو القياس. واختلفوا من هذا الباب في التي تعرف بالغراوين، وهي فيمن ترك زوجة وأبوين، أو زوجا وأبوين؛ فقال الجمهور: في الأولى للزوجة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وهو الربع من رأس المال، وللأب ما بقي وهو النصف، وقالوا في الثانية: للزوج النصف وللأم ثلث ما بقي وهو السدس من رأس المال، وللأب ما بقي وهو السدسان، وهو قول زيد والمشهور من قول علي رضي الله عنه. وقال ابن عباس في الأولى: للزوجة الربع من رأس المال، وللأم الثلث منه أيضا لأنها ذات فرض، وللأب ما بقي لأنه عاصب؛ وقال أيضا في الثانية: للزوج النصف، وللأم الثلث لأنها ذات فرض مسمى، وللأب ما بقي، وبه قال شريح القاضي وداود وابن سيرين وجماعة. وعمدة الجمهور أن الأب والأم لما كانا إذا انفردا بالمال كان للأم الثلث وللأب الباقي، وجب أن يكون الحال كذلك فيما بقي من المال، كأنهم رأوا أن يكون ميراث الأم أكثر من ميراث الأب خروجا عن الأصول. وعمدة الفريق الآخر أن الأم ذات فرض مسمى والأب عاصب، والعاصب ليس له فرض محدود مع ذي الفروض، بل يقل ويكثر، وما عليه الجمهور من طريق التعليل أظهر، وما عليه الفريق الثاني مع عدم التعليل أظهر، وأعني بالتعليل ههنا أن يكون أحق سببي الإنسان أولى بالإيثار: أعني الأب من الأم. @-(ميراث الإخوة للأم) وأجمع العلماء على أن الإخوة للأم إذا انفرد الواحد منهم أن له السدس ذكرا كان أو أنثى وأنهم إن كانوا أكثر من واحد فهم شركاء في الثلث على السوية، للذكر منهم مثل حظ الأنثى سواء. وأجمعوا على أنهم لا يرثون مع أربعة: وهم الأب والجد أبو الأب وإن علا، والبنون ذكرانهم وإناثهم، وبنو البنين وإن سفلوا ذكرانهم وإناثهم، وهذا كله لقوله تعالى {وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت} الآية، وذلك أن الإجماع انعقد على أن المقصود بهذه الآية هم الإخوة للأم فقط. وقد قرئ "وله أخ أو أخت من أمه" وكذلك أجمعوا فيما أحسب ههنا على أن الكلالة هي فقد الأصناف الأربعة التي ذكرناها من النسب: أعني الآباء والأجداد والبنين وبني البنين. @-(ميراث الإخوة للأب والأم أو للأب) وأجمع العلماء على أن الإخوة للأب والأم أو للأب فقط يرثون في الكلالة أيضا. أما الأخت إذا انفردت فإن لها النصف وإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان، كالحال في البنات، وإنهم إن كانوا ذكورا وإناثا فللذكر مثل حظ الأنثيين كحال البنين مع البنات، وهذا لقوله تعالى {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} إلا أنهم اختلفوا في معنى الكلالة ههنا في أشياء واتفقوا منها في أشياء يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى ؛ فمن ذلك أنهم أجمعوا من هذا الباب على أن الإخوة للأب والأم ذكرانا كانوا أو إناثا أنهم لا يرثون مع الولد الذكر شيئا، ولا مع ولد الولد ولا مع الأب شيئا. واختلفوا فيما سوى ذلك؛ فمنها أنها اختلفوا في ميراث الإخوة للأب والأم مع البنت أو البنات، فذهب الجمهور إلى أنهن عصبة يعطون ما فضل عن البنات؛ وذهب داود بن علي الظاهري وطائفة إلى أن الأخت لا ترث مع البنت شيئا. وعمدة الجمهور في هذا الحديث ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال في ابنة وابنة ابن وأخت "إن للبنت النصف ولابنة الابن السدس تكميلة الثلثين وما بقي فللأخت". وأيضا من جهة النظر لما أجمعوا على توريث الإخوة مع البنات، فكذلك الأخوات. وعمدة الفريق الآخر ظاهر قوله تعالى {إن امرو هلك ليس له ولد وله أخت} فلم يجعل للأخت شيئا إلا مع عدم الولد، والجمهور حملوا اسم الولد ههنا على الذكور دون الإناث. وأجمع العلماء من هذا الباب على أن الأخوة للأب والأم يحجبون الإخوة للأب عن الميراث قياسا على بني الأبناء مع بني الصلب. قال أبو عمر: وقد روي ذلك في حديث حسن من رواية الآحاد العدول. عن علي رضي الله عنه قال "قضى رسول الله ﷺ أن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات" وأجمع العلماء على أن الأخوات للأب والأم إذا استكملن الثلثين فإنه ليس للأخوات للأب معهن شيء كالحال في بنات الابن مع بنات الصلب، وأنه إن كانت الأخت للأب والأم واحدة فللأخوات للأب ما كن بقية الثلثين وهو السدس. واختلفوا إذا كان مع الأخوات للأب ذكر، فقال الجمهور: يعصبهن ويقتسمون المال للذكر مثل حظ الأنثيين، كالحال في بنات الابن مع بنات الصلب؛ واشترط مالك أن يكون في درجتهن؛ وقال ابن مسعود: إذا استكمل الأخوات الشقائق الثلثين فالباقي للذكور من الإخوة للأب دون الإناث، وبه قال أبو ثور؛ وخالفه داود في هذه المسألة، مع موافقته له في مسألة بنات الصلب وبني البنين، فإن لم يستكملن الثلثين، فللذكر عنده من بني الأب مثل حظ الأنثيين، إلا أن يكون الحاصل للنساء أكثر من السدس كالحال في بنت الصلب مع بني الابن. وأدلة الفريقين في هذه المسألة هي تلك الأدلة بأعيانها. وأجمعوا على أن الإخوة للأب يقومون مقام الإخوة للأب والأم عند فقدهم، كالحال في بني البنين مع البنين، وأنه إذا كان معهن ذكر عصبهن، بأن يبدأ بمن له فرض مسمى، ثم يرثون الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين كالحال في البنين إلا في موضع واحد وهي الفريضة التي تعرف بالمشركة، فإن العلماء اختلفوا فيها، وهي امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وإخوتها لأمها وإخوتها لأبيها وأمها، فكان عمر وعثمان وزيد بن ثابت يعطون للزوج النصف وللأم السدس وللإخوة للأم الثلث، فيستغرقون المال فيبقى الإخوة للأب والأم بلا شيء، فكانوا يشركون الإخوة للأب والأم في الثلث مع الإخوة للأم يقتسمونه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. وبالتشريك قال من فقهاء الأمصار مالك والشافعي والثوري. وكان علي رضي الله عنه وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري لا يشركون إخوة الأب والأم في الثلث مع إخوة الأم في هذه الفريضة، ولا يوجبون لهم شيئا فيها، وقال به من فقهاء الأمصار: أبو حنيفة وابن أبي ليلى وأحمد وأبو ثور وداود وجماعة. وحجة الفريق الأول أن الأخوة للأب والأم يشاركون الإخوة للأم في السبب الذي به يستوجبون الإرث وهي الأم فوجب أن لا ينفردوا به دونهم، لأنه إذا اشتركوا في السبب الذي به يورثون وجب أن يشتركوا في الميراث. وحجة الفريق الثاني أن الإخوة الشقائق عصبة، فلاشيء لهم إذا أحاطت فرائض ذوي السهام بالميراث. وعمدتهم باتفاق الجميع على أن من ترك زوجا وأما وأخا واحدا لأم وإخوة شقائق عشرة أو أكثر أن الأخ للأم يستحق ههنا السدس كاملا، والسدس الباقي بين الباقين مع أنهم مشاركون له في الأم. فسبب الاختلاف في أكثر مسائل الفرائض هو تعارض المقاييس واشتراك الألفاظ فيما فيه نص. @-(ميراث الجد) وأجمع العلماء على أن الأب يحجب الجد وأنه يقوم مقام الأب عند عدم الأب مع البنين وأنه عاصب مع ذوي الفرائض. واختلفوا هل يقوم مقام الأب في حجب الإخوة الشقائق، أو حجب الإخوة للأب؟ فذهب ابن عباس وأبو بكر رضي الله عنهما وجماعة إلى أنه يحجبهم، وبه قال أبو حنيفة وأبو ثور والمزني وابن سريج من أصحاب الشافعي وداود وجماعة. واتفق علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزيد بن ثابت وابن مسعود على توريث الإخوة مع الجد، إلا أنهم اختلفوا في كيفية ذلك على ما أقوله بعد. وعمدة من جعل الجد بمنزلة الأب اتفاقهما في المعنى، أعني من قبل أن كليهما أب للميت، ومن اتفاقهما في كثير من الأحكام التي أجمعوا على اتفاقهما فيها حتى إنه قد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أما يتقي الله زيد ابن ثابت يجعل ابن الابن ابنا، ولا يجعل أب الأب أبا. وقد أجمعوا على أنه مثله في أحكام أخر سوى الفروض، منها أن شهادته لحفيده كشهادة الأب وأن الجد يعتق على حفيده كما يعتق الأب على الابن، وأنه لا يقتص له من جد كما لا يقتص له من أب. وعمدة من ورث الأخ مع الجد أن الأخ أقرب إلى الميت من الجد، لأن الجد أبو أبي الميت، والأخ ابن أبي الميت، والابن أقرب من الأب. وأيضا فما أجمعوا عليه من أن ابن الأخ يقدم على العم، وهو يدلي بالأب، والعم يدلي بالجد. فسبب الخلاف تعارض القياس في هذا الباب. فإن قيل: فأي القياسين أرجح بحسب النظر الشرعي؟ قلنا: قياس من ساوى بين الأب والجد، فإن الجد أب في المرتبة الثانية أو الثالثة، كما أن الابن ابن في المرتبة الثانية أو الثالثة، وإذا لم يحجب الابن الجد وهو يحجب الإخوة فالجد يجب أن يحجب من يحجب الابن، والأخ ليس بأصل للميت ولا فرع، وإنما هو مشارك له في الأصل، والأصل أحق بالشيء من المشارك له في الأصل، والجد ليس هو أصلا للميت من قبل الأب بل هو أصل أصله، والأخ يرث من قبل أنه فرع لأصل الميت، فالذي هو أصل لأصله أولى من الذي هو فرع لأصله، ولذلك لا معنى لقول من قال إن الأخ يدلي بالبنوة، والجد يدلي بالأبوة، فإن الأخ ليس ابنا للميت وإنما هو ابن أبيه، والجد أبو الميت، والبنوة إنما هي أقوى في الميراث من الأبوة في الشخص الواحد بعينه أعني الموروث. وأما البنوة التي تكون لأب موروث، فليس يلزم أن تكون في حق الموروث أقوى من الأبوة التي تكون لأب الموروث، لأن الأبوة التي لأب الموروث هي أبوة ما للموروث: أعني بعيدة، وليس البنوة التي لأب الموروث بنوة ما للموروث لا قريبة ولا بعيدة، فمن قال الأخ أحق من الجد، لأن الأخ يدلي بالشيء الذي من قبله كان الميراث بالبنوة وهو الأب والجد يدلي بالأبوة هو قول غالط مخيل، لأن الجد أب ما، وليس الأخ ابنا ما. وبالجملة الأخ لاحق من لواحق الميت، وكأنه أمر عارض والجد سبب من أسبابه، والسبب أملك للشيء من لاحقه. واختلف الذين ورثوا الجد مع الإخوة في كيفية ذلك. فتحصيل مذهب زيد في ذلك أنه لا يخلو أن يكون معه سوى الإخوة ذو فرض مسمى أو لا يكون، فإن لم يكن معه ذو فرض مسمى أعطى الأفضل له من اثنين، إما ثلث المال، وإما أن يكون كواحد من الإخوة الذكور، وسواء كان الإخوة ذكرانا أو إناثا أو الأمرين جميعا فهو مع الأخ الواحد يقاسمه المال، وكذلك مع الاثنين ومع الثلاثة والأربعة يأخذ الثلث، وهو مع الأخت الواحدة إلى الأربع يقاسمهن للذكر مثل حظ الأنثيين، ومع الخمس أخوات له الثلث، لأنه أفضل له من المقاسمة، فهذه هي حاله مع الإخوة فقط دون غيرهم. وأما إن كان معهم ذو فرض مسمى فإنه يبدأ بأهل الفروض فيأخذون فروضهم، فما بقي أعطى الأفضل له من ثلاث: إما ثلث ما بقي بعد حظوظ ذوي الفرائض، وإما أن يكون بمنزلة ذكر من الإخوة، وإما أن يعطي السدس من رأس المال لا ينقص منه، ثم ما بقي يكون للإخوة للذكر مثل حظ الأنثيين في الأكدرية على ما سنذكر مذهبه فيها مع سائر مذاهب العلماء. وأما علي رضي الله عنه فكان يعطي الجد الأحظى له من السدس أو المقاسمة، وسواء كان مع الجد والإخوة غيرهم من ذوي الفرائض أو لم يكن، وإنما لم ينقصه من السدس شيئا، لأنهم لما أجمعوا أن الأبناء لا ينقصونه منه شيئا كان أحرى أن لا ينقصه الإخوة. وعمدة قول زيد أنه لما كان يحجب الإخوة للأم فلم يحجب عما يجب لهم وهو الثلث، وبقول زيد قال مالك والشافعي والثوري وجماعة، وبقول علي رضي الله عنه قال أبو حنيفة. وأما الفريضة التي تعرف بالأكدرية وهي امرأة توفيت وتركت زوجا وأما وأختا شقيقة وجدا فإن العلماء اختلفوا فيها، فكان عمر رضي الله عنه وابن مسعود يعطيان للزوج النصف وللأم السدس وللأخت النصف وللجد السدس، وذلك على جهة العول. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وزيد يقولان للزوج النصف وللأم الثلث وللأخت النصف وللجد السدس فريضة، إلا أن زيدا يجمع سهم الأخت والجد، فيقسم ذلك بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وزعم بعضهم أن هذا ليس من قول زيد، وضعف الجميع التشريك الذي قال به زيد في هذه الفريضة، وبقول زيد قال مالك؛ وقيل إنما سميت الأكدرية لتكدر قول زيد فيها، وهذا كله على مذهب من يرى العول، وبالعول قال جمهور الصحابة وفقهاء الأمصار، إلا ابن عباس فإنه روي عنه أنه قال: أعال الفرائض عمر بن الخطاب، وايم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة، وقيل له: وأيها قدم الله، وأيها أخر الله؟ قال: كل فريضة لم يهبطها الله عز وجل عن موجبها إلا إلى فريضة أخرى فهي ما قدم الله، وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخر الله فالأول مثل الزوجة والأم، والمتأخر مثل الأخوات والبنات، قال: فإذا اجتمع الصنفان بدئ من قدم الله، فإن بقي شيء فلمن أخر الله، وإلا فلا شيء له، وقيل له: فهلا قلت هذا القول لعمر: قال: هبته. وذهب زيد إلى أنه إذا كان مع الجد والإخوة الشقائق إخوة لأب، أن الإخوة الشقائق يعادون الجد بالإخوة للأب، فيمنعونه بهم كثرة الميراث، ولا يرثون مع الإخوة الشقائق شيئا إلا أن يكون الشقائق أختا واحدة، فإنها تعادي الجد بأخوتها للأب ما بينهما (هكذا هذه العبارة بالأصول، ولينظر ما معناها ا هـ مصححه). وبين أن تستكمل فريضتها وهي النصف، وإن كان فيما يحاز لها ولإخوتها لأبيها فضل عن نصف رأس المال كله، فهو لإخوتها لأبيها للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن لم يفضل شيء على النصف فلا ميراث لهم، فأما علي رضي الله عنه فكان لا يلتفت هنا للأخوة للأب للإجماع، على أن الإخوة الشقائق يحجبونهم، ولأن هذا الفعل أيضا مخالف للأصول، أعني أن يحتسب بمن لا يرث، واختلف الصحابة رضي الله عنهم من هذا الباب في الفريضة التي تدعى الخرقاء، وهي أم وأخت وجد على خمسة أقوال. فذهب أبو بكر رضي الله عنه وابن عباس إلى أن للأم الثلث والباقي للجد وحجبوا به الأخت، وهذا على رأيهم في إقامة الجد مقام الأب. وذهب علي رضي الله عنه إلى أن للأم الثلث وللأخت النصف وما بقي للجد. وذهب عثمان إلى أن للأم الثلث وللأخت الثلث وللجد الثلث، وذهب ابن مسعود إلى أن للأخت النصف وللجد الثلث وللأم السدس، وكان يقول معاذ الله أن أفضل أما على جد. وذهب زيد إلى أن للأم الثلث وما بقي بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين. @-(ميراث الجدات) وأجمعوا على أن للجدة أم الأم السدس مع عدم الأم، وأن للجدة أيضا أم الأب عند فقد الأب السدس، فإن اجتمعا كان السدس بينهما. واختلفوا فيما سوى ذلك؛ فذهب زيد وأهل المدينة إلى أن الجدة أم الأم يفرض لها السدس فريضة، فإذا اجتمعت الجدتان كان السدس بينهما إذا كان قعددهما سواء، أو كانت أم الأب أقعد، فإن كانت أم الأم أقعد: أي أقرب إلى الميت كان لها السدس، ولم يكن للجدة أم الأب شيء، وقد روي عنه أيهما أقعد كان لها السدس، وبه قال علي رضي الله عنه، ومن فقهاء الأمصار أبو حنيفة والثوري وأبو ثور، وهؤلاء ليس يورثون إلا هاتين الجدتين المجتمع على توريثهما، وكان الأوزاعي وأحمد يورثان ثلاث جدات واحدة من قبل الأم واثنتان من قبل الأب أم الأب وأم أبي الأب: أعني الجد، وكان ابن مسعود يورث أربع جدات: أم الأم وأم الأب وأم أبي الأب: أعني الجد وأم أبي الأم: أعني الجد، وبه قال الحسن وابن سيرين. وكان ابن مسعود يشرك بين الجدات في السدس دنياهن وقصواهن ما لم تكن تحجبها بنتها أو بنت بنتها. وقد روي عنه أنه كان يسقط القصوى بالدنيا إذا كانتا من جهة واحدة. وروي عن ابن عباس أن الجدة كالأم إذا لم تكن أم، وهو شاذ عند الجمهور، ولكن له حظ من القياس. فعمدة زيد وأهل المدينة والشافعي، ومن قال بمذهب زيد ما رواه مالك أنه قال "جاءت الجدة إلى أبي بكر رضي الله عنه تسأله عن ميراثها، فقال أبو بكر: مالك في كتاب الله عز وجل شيء وما علمت لك في سنة رسول الله ﷺ شيئا فارجعي حتى أسأل الناس، فقال له المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله ﷺ أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقال: محمد بن مسلمة، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه أبو بكر لها، ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر ابن الخطاب تسأله ميراثها، فقال لها: مالك في كتاب الله عز وجل شيء، وما كان القضاء الذي قضى به إلا لغيرك، وما أنا بزائد في الفرائض، ولكنه ذلك السدس، فإن اجتمعتما فيه فهو لكما، وأيتكما انفردت به فهو لها" وروى مالك أيضا أنه أتت الجدتان إلى أبي بكر، فأراد أن يجعل السدس للتي من قبل الأم، فقال له رجل: أما إنك تترك التي لو ماتت وهو حي كان إياها يرث، فجعل أبو بكر السدس بينهما. قالوا: فواجب أن لا يتعدى في هذا هذه السنة وإجماع الصحابة. وأما عمدة من ورث الثلاث جدات فحديث ابن عيينة عن منصور عن إبراهيم " أن النبي ﷺ ورث ثلاث جدات: اثنتين من قبل الأب، وواحدة من قبل الأم" وأما ابن مسعود فعمدته القياس في تشبيهها بالجدة للأب لكن الحديث يعارضه. واختلفوا هل يحجب الجدة للأب ابنها وهو الأب؛ فذهب زيد إلى أنه يحجب، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وداود؛ وقال آخرون: ترث الجدة مع ابنها، وهو مروي عن عمر وابن مسعود وجماعة من الصحابة، وبه قال شريح وعطاء وابن سيرين وأحمد، وهو قول الفقهاء المصريين. وعمدة من حجب الجدة بابنها أن الجد لما كان محجوبا بالأب وجب أن تكون الجدة أولى بذلك. وأيضا فلما كانت أم الأم لا ترث بإجماع مع الأم شيئا كان كذلك أم الأب مع الأب. وعمدة الفريق الثاني ما روى الشعبي عن مسروق عن عبد الله قال: أول جدة أعطاها رسول الله ﷺ سدسا جدة مع ابنها وابنها حي قالوا: ومن طريق النظر لما كانت الأم وأم الأم لا يحجبن بالذكور كان كذلك حكم جميع الجدات، وينبغي أن يعلم أن مالكا لا يخالف زيدا إلا في فريضة واحدة، وهي امرأة هلكت وتركت زوجا وأما وإخوة لأم وإخوة لأب وأم وجدا، فقال مالك: للزوج النصف، وللأم السدس وللجد ما بقي وهو الثلث، وليس للإخوة الشقائق شيء؛ وقال زيد: للزوج النصف، وللأم السدس، وللجد السدس، وما بقي للإخوة الشقائق، فخالف مالك في هذه المسألة أصله من أن الجد لا يحجب الإخوة الشقائق ولا الإخوات للأب. وحجته أنه لما حجب الإخوة للأم عن الثلث الذي كانوا يستحقونه دون الشقائق كان هو أولى به. وأما زيد فعلى أصله في أنه لا يحجبهم.

 

3*باب في الحجب.

 

@-وأجمع العلماء على أن الأخ الشقيق يحجب الأخ للأب، وأن الأخ للأب يحجب بني الأخ الشقيق، وأن بني الأخ الشقيق يحجبون أبناء الأخ للأب، وبنو الأخ للأب أولى من بني ابن الأخ للأب والأم، وبنو الأخ للأب أولى من العم أخي الأب، وإبن العم أخي الأب الشقيق أولى من ابن العم أخي الأب للأب، وكل واحد من هؤلاء يحجبون بنيهم، ومن حجب منهم صنفا فهو يحجب من يحجبه ذلك الصنف. وبالجملة، أما الإخوة فالأقرب منهم يحجب الأبعد، فإذا استووا حجب منهم من أدلى بسببين أم وأب من أدلى بسبب واحد وهو الأب فقط؛ وكذلك الأعمام الأقرب منه يحجب الأبعد، فإن استووا حجب منهم من يدلي منهم إلى الميت بسببين من يدلي بسبب واحد، أعني أنه يحجب العم أخو الأب لأب وابن العم الذي هو أخو الأب لأب فقط. وأجمعوا على أن الإخوة الشقائق والإخوة للأب يحجبون الأعمام، لأن الإخوة بنو أب المتوفي، والأعمام بنو جده، والأبناء يحجبون بنيهم، والآباء أجدادهم، والبنون وبنوهم يحجبون الإخوة، والجد يحجب من فوقه من الأجداد بإجماع، والأب يحجب الإخوة ويحجب من تحجبه الإخوة، والجد يحجب الأعمام بإجماع والإخوة للأم، ويحجب بنو الإخوة الشقائق وبني الإخوة للأب، والبنات وبنات البنين يحجبن الإخوة للأم. واختلف العلماء فيمن ترك ابني عم أحدهما أخ للأم، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري: للأخ للأم السدس من جهة ما هو أخ لأم وهو في باقي المال مع ابن العم الآخر عصبة يقتسمونه بينهم على السواء، وهو قول علي رضي الله عنه وزيد وابن عباس؛ وقال قوم: المال كله لابن العم الذي هو أخ لأم يأخذ سدسه بالأخوة وبقيته بالتعصيب، لأنه قد أدلى بسببين. وممن قال بهذا القول من الصحابة ابن مسعود، ومن الفقهاء داود وأبو ثور والطبري، وهو قول الحسن وعطاء. واختلف العلماء في رد ما بقي من مال الورثة على ذوي الفرائض إذا بقيت من المال فضلة لم تستوفها الفرائض ولم يكن هناك من يعصب، فكان زيد لا يقول بالرد ويجعل الفاضل في بيت المال، وبه قال مالك والشافعي؛ وقال جل الصحابة بالرد على ذوي الفرائض ما عدا الزوج والزوجة وإن كانوا اختلفوا في كيفية ذلك، وبه قال فقهاء العراق من الكوفيين والبصريين. وأجمع هؤلاء الفقهاء على أن الرد يكون لهم بقدر سهامهم، فمن كان له نصف أخذ النصف مما بقي، وهكذا في جزء جزء. وعمدتهم أن قرابة الدين والنسب أولى من قرابة الدين فقط: أي أن هؤلاء اجتمع لهم سببان وللمسلمين سبب واحد. وهناك مسائل مشهورة الخلاف بين أهل العلم فيها تعلق بأسباب المواريث يجب أن نذكرها هنا، فمنها أنه أجمع المسلمون على أن الكافر لا يرث المسلم لقوله تعالى {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} ولما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم" واختلفوا في ميراث المسلم الكافر، وفي ميراث المسلم المرتد، فذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار إلى أنه لا يرث المسلم الكافر بهذا الأثر الثابت؛ وذهب معاذ بن جبل ومعاوية من الصحابة وسعيد ابن المسيب ومسروق من التابعين وجماعة إلى أن المسلم يرث الكافر، وشبهوا ذلك بنسائهم، فقالوا: كما يجوز لنا أن ننكح نساءهم ولا يجوز لنا أن ننكحهم نساءنا كذلك الإرث، ورووا في ذلك حديثا مسندا، قال أبو عمر: وليس بالقوى عند الجمهور، وشبهوه أيضا بالقصاص في الدماء التي لا تتكافأ. وأما مال المرتد إذا قتل أو مات، فقال جمهور فقهاء الحجاز هو لجماعة المسلمين ولا يرثه قرابته، وبه قال مالك والشافعي وهو قول زيد من الصحابة. وقال أبو حنيفة والثوري وجمهور الكوفيين وكثير من البصريين يرثه ورثته من المسلمين وهو قول ابن مسعود من الصحابة وعلي رضي الله عنهما. وعمدة الفريق الأول عموم الحديث، وعمدة الحنفية تخصيص العموم بالقياس، وقياسهم في ذلك هو أن قرابته أولى من المسلمين لأنهم يدلون بسببين: بالإسلام والقرابة، والمسلمون بسبب واحد، وهو الإسلام، وربما أكدوا بما يبقى لما له من حكم الإسلام بدليل أنه لا يؤخذ في الحال حتى يموت فكانت حياته معتبرة في بقاء ماله على ملكه، وذلك لا يكون إلا بأن يكون لماله حرمة إسلامية، ولذلك لم يجز أن يقر على الارتداد، بخلاف الكافر، وقال الشافعي وغيره يؤخذ بقضاء الصلاة إذا تاب من الردة في أيام الردة، والطائفة الأخرى تقول: يوقف ماله لأن له حرمة إسلامية، وإنما وقف رجاء أن يعود إلى الإسلام، وأن استيجاب المسلمين لماله ليس على طريق الإرث وشذت طائفة فقالت: ماله للمسلمين عندما يرتد، وأظن أن أشهب ممن يقول بذلك. وأجمعوا على توريث أهل الملة الواحدة بعضهم بعضا. واختلفوا في توريث الملل المختلفة، فذهب مالك وجماعة إلى أن أهل الملل المختلفة لا يتوارثون كاليهود والنصارى، وبه قال أحمد وجماعة؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور والثوري وداود وغيرهم: الكفار كلهم يتوارثون، وكان شريح وابن أبي ليلى وجماعة يجعلون الملل التي لا تتوارث ثلاثا: النصارى واليهود والصابئين ملة، والمجوس ومن لا كتاب له ملة، والإسلام ملة. وقد روي عن ابن أبي ليلى مثل قول مالك. وعمدة مالك ومن قال بقوله ما روى الثقات عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال "لا يتوارث أهل ملتين". وعمدة الشافعية والحنفية قوله عليه الصلاة والسلام "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" وذلك أن المفهوم من هذا بدليل الخطاب أن المسلم يرث المسلم والكافر يرث الكافر. والقول بدليل الخطاب فيه ضعف وخاصة هنا. واختلفوا في توريث الحملاء، والحملاء هم الذين يتحملون بأولادهم من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، أعني أنهم يولدون في بلاد الشرك ثم يخرجون إلى بلاد الإسلام وهم يدعون تلك الولادة الموجبة للنسب، وذلك على ثلاثة أقوال: قول إنهم يتوارثون بما يدعون من النسب، وهو قول جماعة من التابعين وإليه ذهب إسحاق. وقول إنهم لا يتوارثون إلا ببينة تشهد على أنسابهم، وبه قال شريح والحسن وجماعة. وقول إنهم لا يتوارثون أصلا وروي عن عمر الثلاثة الأقوال، إلا أن الأشهر عنه أنه كان لا يورث إلا من ولد في بلاد العرب وهو قول عثمان وعمر بن عبد العزيز. وأما مالك وأصحابه فاختلف في ذلك قولهم، فمنهم من رأى أن لا يورثون إلا ببينة، وهو قول ابن القاسم: ومنهم من رأى أن لا يورثون أصلا ولا بالبينة العادلة؛ وممن قال بهذا القول من أصحاب مالك عبد الملك بن الماجشون، وروى ابن القاسم عن مالك في أهل حصن نزلوا على حكم الإسلام، فشهد بعضهم لبعض أنهم يتوارثون، وهذا يتخرج منه أنهم يتوارثون بلا بينة، لأن مالكا لا يجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض قال: فأما إن سبوا فلا يقبل قولهم في ذلك وبنحو هذا التفصيل قال الكوفيون والشافعي وأحمد وأبو ثور، وذلك أنهم قالوا: إن خرجوا إلى بلاد الإسلام وليس لأحد عليهم يد قبلت دعواهم في أنسابهم، وأما إن أدركهم السبي والرق فلا يقبل قولهم إلا ببينة. ففي المسألة أربعة أقوال: اثنان طرفان، واثنان مفرقان. وجمهور العلماء من فقهاء الأمصار ومن الصحابة علي وزيد وعمر أن من لا يرث لا يحجب مثل الكافر والمملوك والقاتل عمدا، وكان ابن مسعود يحجب بهؤلاء الثلاثة دون أن يورثهم أعني بأهل الكتاب وبالعبيد وبالقاتلين عمدا، وبه قال داود وأبو ثور. وعمدة الجمهور أن الحجب في معنى الإرث وأنهما متلازمان. وحجة الطائفة الثانية أن الحجب لا يرتفع إلا بالموت. واختلف العلماء في الذين يفقدون في حرب أو غرق أو هدم ولا يدري من مات منهم قبل صاحبه كيف يتوارثون إذا كانوا أهل ميراث؟ فذهب مالك وأهل المدينة إلى أنهم لا يورث بعضهم من بعض، وأن ميراثهم جميعا لمن بقي من قرابتهم الوارثين أو لبيت المال إن لم تكن لهم قرابة ترث، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه فيما حكى عنه الطحاوي. وذهب علي وعمر رضي الله عنهما وأهل الكوفة وأبو حنيفة فيما ذكر غير الطحاوي عنه وجمهور البصريين إلى أنهم يتوارثون، وصفة تواريثهم عندهم أنهم يورثون كل واحد من صاحبه في أصل ماله دون ما ورث بعضهم من بعض، أعني أنه لا يضم إلى مال المورث ما ورث من غيره، فيتوارثون الكل على أنه مال واحد كالحال في الذين يعلم من تقدم بعضهم على بعض، مثال ذلك زوج وزوجة توفيا في حرب أو غرق أو هدم ولكل واحد منهما ألف درهم، فيورث الزوج من المرأة خمسمائة درهم، وتورث المرأة من الألف التي كانت بيد الزوج دون الخمسمائة التي ورث منها ربعها وذلك مائتان وخمسون. ومن مسائل هذا الباب اختلاف العلماء في ميراث ولد الملاعنة وولد الزنى. فذهب أهل المدينة وزيد بن ثابت إلى أن ولد الملاعنة كما يورث غير ولد الملاعنة، وأنه ليس لأمه إلا الثلث والباقي لبيت المال، إلا أن يكون له إخوة لأم، فيكون لهم الثلث أو تكون أمه مولاة فيكون باقي مالها لمواليها، وإلا فالباقي لبيت مال المسلمين، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه، إلا أن أبا حنيفة على مذهبه يجعل ذوي الأرحام أولى من جماعة المسلمين. وأيضا على قياس من يقول بالرد يرد على الأم بقية المال؛ وذهب علي وعمر وابن مسعود إلى أن عصبته عصبة أمه أعني الذي يرثونها. وروي عن علي وابن مسعود أنهم لا يجعلونه عصبته عصبة أمه إلا مع فقد الأم وكانوا ينزلون الأم بمنزلة الأب وبه قال الحسن وابن سيرين والثوري وابن حنبل وجماعة. وعمدة الفريق الأول عموم قوله تعالى {فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث} فقالوا: هذه أم وكل أم لها الثلث، فهذه لها الثلث. وعمدة الفريق الثاني ما روي من حديث ابن عمر عن النبي ﷺ "أنه ألحق ولد الملاعنة بأمه" وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال "جعل النبي ﷺ ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثته" وحديث واثلة بن الأسقع عن النبي ﷺ قال "المرأة تحوز ثلاثة أموال: عتيقها، ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه" وحديث مكحول عن النبي ﷺ بمثل ذلك خرج جميع ذلك أبو داود وغيره. قال القاضي: هذه الآثار المصير إليها واجب لأنها قد خصصت عموم الكتاب. والجمهور على أن السنة يخصص بها الكتاب، ولعل الفريق الأول لم تبلغهم هذه الأحاديث أو لم تصح عندهم، وهذا القول مروي عن ابن عباس وعثمان، وهو مشهور في الصدر الأول، واشتهاره في الصحابة دليل على صحة هذه الآثار، فإن هذا ليس يستنبط بالقياس، والله أعلم. ومن مسائل ثبوت النسب الموجب للميراث اختلافهم فيمن ترك ابنين وأقر أحدهم بأخ ثالث وأنكر الثاني؛ فقال مالك وأبو حنيفة: يجب عليه أن يعطيه حقه من الميراث يعنون المقر، ولا يثبت بقوله نسبه، وقال الشافعي: لا يثبت النسب ولا يجب على المقر أن يعطيه من الميراث شيئا. واختلف مالك وأبو حنيفة في القدر الذي يجب على الأخ المقر، فقال مالك يجب عليه ما كان يجب عليه لو أقر الأخ الثاني وثبت النسب؛ وقال أبو حنيفة: يجب عليه أن يعطيه نصف ما بيده، وكذلك الحكم عند مالك وأبي حنيفة فيمن ترك ابنا واحدا فأقر بأخ له آخر، أعني أنه لا يثبت النسب ويجب الميراث؛ وأما الشافعي فعنه في هذه المسألة قولان: أحدهما أنه لا يثبت النسب ولا يجب الميراث. والثاني يثبت النسب ويجب الميراث، وهو الذي عليه تناظر الشافعية في المسائل الطبلولية ويجعلها مسألة عامة، وهو أن كل من يحوز المال يثبت النسب بإقراره وإن كان واحدا أخا أو غير ذلك. وعمدة الشافعية في المسألة الأولى؛ وفي أحد قوليه في هذه المسألة، أعني القول الغير المشهور أن النسب لا يثبت إلا بشاهدي عدل، وحيث لا يثبت فلا ميراث، لأن النسب أصل والميراث فرع، وإذا لم يوجد الأصل لم يوجد الفرع. وعمدة مالك وأبي حنيفة أن ثبوت النسب حق متعد إلى الأخ المنكر، فلا يثبت عليه إلا بشاهدين عدلين، وأما حظه من الميراث الذي بيد المقر فإقراره فيه عامل لأنه حق أقر به على نفسه. والحق أن القضاء عليه لا يصح من الحاكم إلا بعد ثبوت النسب وأنه لا يجوز له بين الله تعالى وبين نفسه أن يمنع من يعرف أنه شريكه في الميراث حظه منه. وأما عمدة الشافعية في إثباتهم النسب بإقرار الواحد الذي يحوز له الميراث فالسماع والقياس. (يتبع...) @(تابع... 1): -وأجمع العلماء على أن الأخ الشقيق يحجب الأخ للأب، وأن الأخ للأب يحجب... ... أما السماع فحديث مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة المتفق على صحته قالت "كان عتبة بن أبي وقاص عهد إلى أخيه سعد بن أبي وقاص أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك، فلما كان عام الفتح أخذه سعد بن أبي وقاص وقال: ابن أخي قد كان عهد إلي فيه، فقام إليه عبد بن زمعة، فقال: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه، فتساوقاه إلى رسول الله ﷺ، فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي قد كان عهد إلي فيه، فقام إليه عبد بن زمعة فقال: أخي وابن وليدة أبي على فراشه، فقال رسول الله ﷺ: هو لك يا عبد بن زمعة، ثم قال رسول الله ﷺ: الولد للفراش وللعاهر الحجر، ثم قال لسودة بنت زمعة: احتجبي منه، لما رأى من شبهه بعتبة بن أبي وقاص قالت: فما رآها حتى لقي الله عز وجل، فقضى رسول الله ﷺ لعبد بن زمعة بأخيه وأثبت نسبه بإقراره إذا لم يكن هنالك وارث منازع له" وأما أكثر الفقهاء فقد أشكل عليهم معنى هذا الحديث لخروجه عندهم عن الأصل المجمع عليه في إثبات النسب، ولهم في ذلك تأويلات، وذلك أن ظاهر هذا الحديث أنه أثبت نسبه بإقرار أخيه به، والأصل أن لا يثبت نسب إلا بشاهدي عدل، ولذلك تأول الناس في ذلك تأويلات، فقالت طائفة: إنه إنما أثبت نسبه عليه الصلاة والسلام بقول أخيه، لأنه يمكن أن يكون قد علم تلك الأمة كان يطؤها زمعة بن قيس، وأنها كانت فراشا له، قالوا: ومما يؤكد ذلك أنه كان صهره، وسودة بنت زمعة كانت زوجته عليه الصلاة والسلام، فيمكن أن لا يخفى عليه أمرها، وهذا على القول بأن للقاضي أن يقضي بعلمه، ولا يليق هذا التأويل بمذهب مالك، لأنه لا يقضي القاضي عنده بعلمه، ويليق بمذهب الشافعي على قوله الآخر، أعني الذي لا يثبت فيه النسب. والذين قالوا بهذا التأويل قالوا: إنما أمر سودة بالحجبة احتياطا لشبهة الشبه، لا أن ذلك كان واجبا، وقال لمكان هذا بعض الشافعية: إن للزوج أن يحجب الأخت عن أخيها؛ وقالت طائفة: أمره بالاحتجاب لسودة دليل على أنه لم يلحق نسبه بقول عتبة ولا بعلمه بالفراش. وافترق هؤلاء في تأويل قوله عليه الصلاة والسلام "هو لك" فقالت طائفة: إنما أراد هو عبدك إذا كان ابن أمة أبيك، وهذا غير ظاهر لتعليل رسول الله ﷺ حكمه في ذلك بقوله "الولد للفراش وللعاهر الحجر" وقال الطحاوي: إنما أراد بقوله عليه الصلاة والسلام "هو لك يا عبد بن زمعة" أي يدك عليه بمنزلة ما هو يد اللاقط على اللقطة، وهذه التأويلات تضعف لتعليله عليه الصلاة والسلام حكمه بأن قال "الولد للفراش وللعاهر الحجر". وأما المعنى الذي يعتمده الشافعية في هذا المذهب، فهو أن إقرار من يحوز الميراث هو إقرار خلافة: أي إقرار من حاز خلافة الميت، وعند الغير أنه إقرار شهادة لا إقرار خلافة، يريد أن الإقرار الذي كان للميت انتقل إلى هذا الذي حاز ميراثه. واتفق الجمهور على أن أولاد الزنى لا يلحقون بآبائهم إلا في الجاهلية على ما روي عن عمر بن الخطاب على اختلاف في ذلك بين الصحابة؛ وشذ قوم فقالوا: يلتحق ولد الزنى في الإسلام، أعني الذي كان عن زنى في الإسلام. واتفقوا على أن الولد لا يلحق بالفراش في أقل من ستة أشهر، إما من وقت العقد، وإما من وقت الدخول، وأنه يلحق من وقت الدخول إلى أقصر زمان الحمل، أو إن كان قد فارقها واعتزلها. واختلفوا في أطول زمان الحمل الذي يلحق به الوالد الولد، فقال مالك: خمس سنين؛ وقال بعض أصحابه: سبع؛ وقال الشافعي: أربع سنين؛ وقال الكوفيون: سنتان: وقال محمد بن الحكم: سنة؛ وقال داود: ستة أشهر، وهذه المسألة مرجوع فيها إلى العادة والتجربة. وقول ابن عبد الحكم والظاهرية هو أقرب إلى المعتاد، والحكم إنما يجب أن يكون بالمعتاد لا بالنادر، ولعله أن يكون مستحيلا. وذهب مالك والشافعي إلى أن من تزوج امرأة ولم يدخل بها أو دخل بها بعد الوقت وأتت بولد لستة أشهر من وقت العقد لا من وقت الدخول أنه لا يلحق به إلا إذا أتت به لستة أشهر فأكثر من ذلك من وقت الدخول. وقال أبو حنيفة: هي فراش له ويلحقه الولد. وعمدة مالك أنها ليست بفراش إلا بإمكان الوطء وهو مع الدخول. وعمدة أبي حنيفة عموم قوله عليه الصلاة والسلام "الولد للفراش" وكأنه يرى أن هذا تعبد بمنزلة تغليب الوطء الحلال على الوطء الحرام في إلحاق الولد بالوطء الحلال. واختلفوا من هذا الباب في إثبات النسب بالقافة، وذلك عندما يطأ رجلان في طهر واحد بملك يمين أو بنكاح، ويتصور أيضا الحكم بالقافة في اللقيط الذي يدعيه رجلان أو ثلاثة. والقافة عند العرب: هم قوم كانت عندهم معرفة بفصول تشابه أشخاص الناس، فقال بالقافة من فقهاء الأمصار مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور والأوزاعي وأبي الحكم بالقافة، الكوفيون وأكثر أهل العراق، والحكم عند هؤلاء أنه إذا ادعى رجلان ولدا كان الولد بينهما، وذلك إذا لم يكن لأحدهما فراش، مثل أن يكون لقيطا، أو كانت المرأة الواحدة لكل واحد منهما فراشا مثل الأمة أو الحرة يطؤها رجلان في طهر واحد؛ وعند الجمهور من القائلين بهذا القول أنه يجوز أن يكون عندهم للابن الواحد أبوان فقط؛ وقال محمد صاحب أبي حنيفة: يجوز أن يكون ابنا لثلاثة إن ادعوه، وهذا كله تخليط وإبطال للمعقول والمنقول. وعمدة استدلال من قال بالقافة ما رواه مالك عن سليمان بن يسار أن عمر ابن الخطاب كان يليط أولاد الجاهلية بمن استلاطهم: أي بمن ادعاهم في الإسلام فأتى رجلان كلاهما يدعي ولد امرأة، فدعا قائفا فنظر إليه فقال القائف: لقد اشتركا فيه، فضربه عمر بالدرة، ثم دعا المرأة فقال: أخبرني بخبرك، فقالت: كان هذا لأحد الرجلين يأتي في إبل لأهلها فلا يفارقها حتى يظن ونظن أنه قد استمر بها حمل، ثم انصرف عنها فأهريقت عليه دما، ثم خلف هذا عليها: تعني الآخر، فلا أدري أيهما هو، فكبر القائف، فقال عمر للغلام: وال أيهما شئت. قالوا: فقضاء عمر بمحضر من الصحابة بالقافة من غير إنكار من واحد منهم هو كالإجماع. وهذا الحكم عند مالك إذا قضى القافة بالاشتراك أن يؤخر الصبي حتى يبلغ، ويقال له: وال أيهما شئت، ولا يلحق واحد باثنين، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو ثور: يكون ابنا لهما إذا زعم القائف أنهما اشتركا فيه؛ وعند مالك أنه ليس يكون ابنا للاثنين لقوله تعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى} واحتج القائلون بالقافة أيضا بحديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت "دخل رسول الله ﷺ مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تسمعي ما قال مجزز المدلجي لزيد وأسامة ورأى أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض" قالوا: وهذا مروي عن ابن عباس وعن أنس بن مالك، ولا مخالف لهم من الصحابة. وأما الكوفيون فقالوا: الأصل أن لا يحكم لأحد المتنازعين في الولد إلا أن يكون هنالك فراش لقوله عليه الصلاة والسلام "الولد للفراش" فإذا عدم الفراش أو اشتركا الفراش كان ذلك بينهما، وكأنهم رأوا ذلك بنوة شرعية لا طبيعية، فإنه ليس يلزم من قال: إنه لا يمكن أن يكون ابن واحد عن أبوين بالعقل أن لا يجوز وقوع ذلك في الشرع. وروي مثل قولهم عن عمر، ورواه عبد الرزاق عن علي؛ وقال الشافعي: لا يقبل في القافة إلا رجلان. وعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما مثل قول الشافعي، والثانية أنه يقبل قول قائف واحد. والقافة في المشهور عن مالك إنما يقضي بها في ملك اليمين فقط لا في النكاح؛ وروى ابن وهب عنه مثل قول الشافعي؛ وقال أبو عمر بن عبد البر: في هذا حديث حسن مسند أخذ به جماعة من أهل الحديث وأهل الظاهر، رواه الثوري عن صالح بن حي عن الشعبي عن زيد بن أرقم قال "كان علي باليمن فأتى بامرأة وطئها ثلاثة أناس في طهر واحد، فسأل كل واحد منهم أن يقر لصاحبه بالولد فأبى، فأقرع بينهم وقضى بالولد للذي أصابته القرعة وجعل عليه ثلثي الدية، فرفع ذلك إلى النبي ﷺ فأعجبه وضحك حتى بدت نواجذه "وفي هذا القول إنفاذ الحكم بالقافة وإلحاق الولد بالقرعة". واختلفوا في ميراث القاتل على أربعة أقوال: فقال قوم: لا يرث القاتل أصلا من قتله. وقال آخرون: يرث القاتل وهم الأقل. وفرق قوم بين الخطأ والعمد فقالوا: لا يرث في العمد شيئا ويرث في الخطأ إلا من الدية، وهو قول مالك وأصحابه. وفرق قوم بين أن يكون في العمد قتل بأمر واجب أو بغير واجب، مثل أن يكون من له إقامة الحدود، وبالجملة بين أن يكون ممن يتهم أو لا يتهم. وسبب الخلاف معارضة أصل الشرع في هذا المعنى للنظر المصلحي، وذلك أن النظر المصلحي يقتضي أن لا يرث لئلا يتذرع الناس من المواريث إلى القتل واتباع الظاهر، والتعبد يوجب أن لا يلتفت إلى ذلك، فإنه لو كان ذلك مما قصد لالتفت إليه الشارع {وما كان ربك نسيا} كما تقول الظاهرية. واختلفوا في الوارث الذي ليس بمسلم يسلم بعد موت مورثه السلم وقبل قسم الميراث، وكذلك إن كان مورثه على غير دين الإسلام، فقال الجمهور: إنما يعتبر في ذلك وقت الموت، فإن كان اليوم الذي مات فيه المسلم وارثه ليس بمسلم لم يرثه أصلا سواء أسلم قبل الميراث أو بعده، وكذلك إن كان مورثه على غير دين الإسلام وكان الوارث يوم مات غير مسلم ورثه ضرورة سواء كان إسلامه قبل القسم أو بعده. وقالت طائفة منهم الحسن وقتادة وجماعة: المعتبر في ذلك يوم القسم، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب. وعمدة كلا الفريقين قوله ﷺ "أيما دار أو أرض قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية، وأيما دار أو أرض أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام" فمن اعتبر وقت القسمة حكم للمقسوم في ذلك الوقت بحكم الإسلام، ومن اعتبر وجوب القسمة حكم في وقت الموت للمقسوم بحكم الإسلام. وروي من حديث عطاء "أن رجلا أسلم على ميراث على عهد رسول الله ﷺ قبل أن يقسم، فأعطاه رسول الله ﷺ نصيبه، وكذلك الحكم عندهم فيمن أعتق من الورثة بعد الموت وقبل القسم. فهذه هي المسائل المشهورة التي تتعلق بهذا الكتاب. قال القاضي: ولما كان الميراث إنما يكون بأحد ثلاثة أسباب: إما بنسب، أو صهر، أو ولاء، وكان قد قيل في الذي يكون بالنسب والصهر، فيجب أن نذكر ههنا الولاء، ولمن يجب، ومن يجب فيه ممن لا يجب، وما أحكامه؟.

 

3*باب في الولاء.

 

@-فأما من يجب له الولاء، ففيه مسائل مشهورة تجري مجرى الأصول لهذا الباب. @-(المسألة الأولى) أجمع العلماء على أن من أعتق عبده عن نفسه فإن ولاءه له وأنه يرثه إذا لم يكن له وارث، وأنه عصبة له إذا كان هنالك ورثة لا يحيطون بالمال. فأما كون الولاء للمعتق عن نفسه، فلما ثبت من قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة "إنما الولاء لمن أعتق" واختلفوا إذا أعتق عبد عن غيره؛ فقال مالك الولاء للمعتق عنه لا الذي باشر العتق، وقال أبو حنيفة والشافعي: إن أعتقه عن علم المعتق عنه، فالولاء للمعتق عنه، وإن أعتقه عن غير علمه، فالولاء للمباشر للعتق. وعمدة الحنفية والشافعية ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام "الولاء لمن أعتق" وقوله عليه الصلاة والسلام "الولاء لحمة كلحمة النسب" قالوا: فلما لم يجز أن يلحق نسب بالحر بغير إذنه، فكذلك الولاء، ومن طريق المعنى فلأن عتقه حرية وقعت في ملك المعتق، فوجب أن يكون الولاء له، أصله إذا أعتقه من نفسه. وعمدة مالك أنه إذا أعتقه عنه فقد ملكه إياه، فأشبه الوكيل؛ ولذلك اتفقوا على أنه إذا أذن له المعتق عنه كان ولاءه له لا للمباشر. وعند مالك أنه من قال لعبده: أنت حر لوجه الله وللمسلمين أن الولاء يكون للمسلمين، وعندهم يكون للمعتق. @-(المسألة الثانية) اختلف العلماء فيمن أسلم على يديه رجل هل يكون ولاءه له؟ فقال مالك والشافعي والثوري وداود وجماعة: لا ولاء له؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: له ولاءه إذا والاه، وذلك أن مذهبهم أن للرجل أن يوالي رجلا آخر فيرثه ويعقل عنه، وأن له أن ينصرف من ولاءه إلى ولاء غيره ما لم يعقل عنه؛ وقال غيره: بنفس الإسلام على يديه يكون له ولاءه. فعمدة الطائفة الأولى قوله ﷺ "إنما الولاء لمن أعتق" وإنما هذه هي التي يسمونها الحاصرة، وكذلك الألف واللام هي عندهم للحصر، ومعنى الحصر هو أن يكون الحكم خاصا بالمحكوم عليه لا يشاركه فيه غيره: أعني أن لا يكون ولاء بحسب مفهوم هذا القول إلا للمعتق فقط المباشر. وعمدة الحنفية في إثبات الولاء بالموالاة قوله تعالى {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون} وقوله تعالى {والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم} . وحجة من قال: الولاء يكون بنفس الإسلام فقط حديث تميم الداري قال "سألت رسول الله ﷺ عن المشرك يسلم على يد مسلم؟ فقال هو أحق الناس وأولاهم بحياته ومماته" وقضى به عمر بن عبد العزيز. وعمدة الفريق الأول أن قوله تعالى {والذين عاقدت أيمانكم} منسوخة بآية المواريث، وأن ذلك كان في صدر الإسلام، وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الولاء ولا هبته لثبوت نهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك إلا ولاء السائبة. @-(المسألة الثالثة) اختلف العلماء إذا قال السيد لعبده أنت سائبة، فقال مالك: ولاءه وعقله للمسلمين وجعله بمنزلة من أعتق عن المسلمين إلا أن يريد به معنى العتق فقط، فيكون ولاءه له؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: ولاءه للمعتق على كل حال، وبه قال أحمد وداود وأبو ثور؛ وقالت طائفة: له أن يجعل ولاءه حيث شاء، وإن لم يوال أحدا كان ولاءه للمسلمين، وبه قال الليث والأوزاعي؛ وكان إبراهيم والشعبي يقولان: لا بأس ببيع ولاء السائبة وهبته، وحجته هؤلاء هي الحجج المتقدمة في المسألة التي قبلها. وأما من أجاز بيعه فلا أعرف له حجة في هذا الوقت. @-(المسألة الرابعة) اختلف العلماء في ولاء العبد المسلم إذا أعتقه النصراني قبل أن يباع لمن يكون؟ فقال مالك وأصحابه: ولاؤه للمسلمين، فإن أسلم مولاه بعد ذلك لم يعد إليه ولاؤه ولا ميراثه؛ وقال الجمهور: ولاؤه لسيده، فإن أسلم كان له ميراثه. وعمدة الجمهور أن الولاء كالنسب، وأنه إذا أسلم الأب بعد إسلام الابن أنه يرثه، فكذلك العبد. وأما عمدة مالك فعموم قوله تعالى {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} فهو يقول: أنه لما لم يجب له الولاء يوم العتق لم يجب له فيما بعد. وأما إذا وجب له يوم العتق ثم طرأ عليه مانع من وجوبه فلم يختلفوا أنه إذا ارتفع ذلك المانع أنه يعود الولاء له. ولذلك اتفقوا أنه إذا أعتق النصراني الذمي عبده النصراني قبل أن يسلم أحدهما ثم أسلم العبد أن الولاء يرتفع، فإن أسلم المولى عاد إليه. وإن كانوا اختلفوا في الحربي يعتق عبده وهو على دينه، ثم يخرجان إلينا مسلمين، فقال مالك: هو مولاه يرثه؛ وقال أبو حنيفة: لا ولاء بينهما، وللعبد أن يوالي من شاء على مذهبه في الولاء والتحالف؛ وخالف أشهب مالكا فقال: إذا أسلم العبد قبل المولى لم يعد إلى المولى ولاءه أبدا؛ وقال ابن القاسم: يعود، وهو معنى قول مالك، لأن مالكا يعتبر وقت العتق، وهذه المسائل كلها هي مفروضة في القول لا تقع بعد، فإنه ليس من دين النصارى أن يسترق بعضهم بعضا، ولا من دين اليهود فيما يعتقدونه في هذا الوقت ويزعمون أنه من مللهم. @-(المسألة الخامسة) أجمع جمهور العلماء على أن النساء ليس لهن مدخل في رواثة الولاء إلا من باشرن عتقه بأنفسهن أو ما جر إليهن من باشرن عتقه، إما بولاء أو بنسب، مثل معتق معتقها أو ابن معتقها، وأنهن لا يرثن معتق من يرثنه إلا ما حكي عن شريح. وعمدته أنه لما كان لها ولاء ما أعتقت بنفسها كان لها ولاء ما أعتقه مورثها قياسا على الرجل، وهذا هو الذي يعرفونه بقياس المعنى، وهو أرفع مراتب القياس، وإنما الذي يوهنه الشذوذ. وعمدة الجمهور أن الولاء إنما وجب للنعمة التي كانت للمعتَق على المعتِق، وهذه النعمة إنما توجد فيمن باشر العتق، أو كان من سبب قوي من أسبابه، وهم العصبة. قال القاضي: وإذ قد تقرر من له ولاء ممن ليس له ولاء، فبقي النظر في ترتيب أهل الولاء في الولاء. فمن أشهر مسائلهم في هذا الباب المسألة التي يعرفونها بالولاء للكبر، مثال ذلك: رجل أعتق عبدا ثم مات ذلك الرجل وترك أخوين أو ابنين، ثم مات أحد الأخوين وترك ابنا، أو أحد الابنين، فقال الجمهور: في هذه المسألة أن حظ الأخ الميت من الولاء لا يرثه عنه ابنه، وهو راجع إلى أخيه لأنه أحق به من ابنه بخلاف الميراث، لأن الحجب في الميراث يعتبر بالقرب من الميت، وهنا بالقرب من المباشر العتق، وهو مروي عن عمر ابن الخطاب وعلي وعثمان وابن مسعود وزيد بن ثابت من الصحابة. وقال شريح وطائفة من أهل البصرة: حق الأخ الميت في هذه المسألة لبنيه. وعمدة هؤلاء تشبيه الولاء بالميراث. وعمدة الفريق الأول أن الولاء نسب مبدؤه من المباشر. ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب المسألة التي تعرف بجر الولاء، وصورتها أن يكون عبد له بنون من أمة، فأعتقت الأمة ثم أعتق العبد بعد ذلك، فإن العلماء اختلفوا لمن يكون ولاء البنين إذا أعتق الأب، وذلك أنهم اتفقوا على أن ولاءهم بعد عتق الأم إذا لم يمس المولود الرق في بطن أمه، وذلك يكون إذا تزوجها العبد بعد العتق وقبل عتق الأب هو لموالي الأم. واختلفوا إذا أعتق الأب هل يجر ولاءه بنيه لمواليه أم لا يجر؟ فذهب الجمهور ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم إلى أنه يجر، وبه قال علي رضي الله عنه وابن مسعود والزبير وعثمان ابن عفان. وقال عطاء وعكرمة وابن شهاب وجماعة: لا يجر ولاءه. وروي عن عمر، وقضى به عبد الملك بن مروان لما حدثه به قبيضة بن ذؤيب عن عمر بن الخطاب، وإن كان قد روي عن عمر مثل قول الجمهور. وعمدة الجمهور أن الولاء مشبه بالنسب، والنسب للأب دون الأم. وعمدة الفريق الثاني أن البنين لما كانوا في الحرية تابعين لأمهم كانوا في موجب الحرية تابعين لها، وهو الولاء، وذهب مالك إلى أن الجد يجر ولاء حفدته إذا كان أبوهم عبدا، إلا أن يعتق الأب، وبه قال الشافعي وخالفه في ذلك الكوفيون واعتمدوا في ذلك على أن ولاء الجد إنما يثبت لمعتق الجد على البنين من جهة الأب، وإذا لم يكن للأب ولاء فأحرى أن لا يكون للجد. وعمدة الفريق الثاني أن عبودية الأب هي كموته فوجب أن ينتقل الولاء إلى أبي الأب، ولا خلاف بين من يقول بأن الولاء للعصبة فيما أعلم أن الأبناء أحق من الآباء، وأنه لا ينتقل إلى العمود الأعلى إلا إذا فقد العمود الأسفل بخلاف الميراث، لأن البنوة عندهم أقوى تعصيبا من الأبوة، والأب أضعف تعصيبا، والإخوة وبنوهم أقعد عند مالك من الجد، وعند الشافعي وأبي حنيفة الجد أقعد منهم. وسبب الخلاف من أقرب نسبا وأقوى تعصيبا وليس يورث بالولاء جزء مفروض وإنما يورث تعصيبا، فإذا مات المولى الأسفل ولم يكن له ورثة أصلا، أو كان له ورثة لا يحيطون بالميراث كان عاصبه المولى الأعلى، وكذلك يعصب المولى الأعلى كل من للمولى الأعلى عليه ولادة نسب: أعني بناته وبنيه وبني بنيه. وفي هذا الباب مسألة مشهورة وهي: إذا ماتت امرأة ولها ولاء وولد وعصبة لمن ينتقل الولاء؟ فقالت طائفة: لعصبتها لأنهم الذين يعقلون عنها، والولاء للعصبة، وهو قول علي ابن أبي طالب؛ وقال قوم: لابنها، وهو قول عمر بن الخطاب، وعليه فقهاء الأمصار، وهو مخالف لأهل هذا السلف، لأن ابن المرأة ليس من عصبتها. تم كتاب الفرائض والولاء والحمد لله حق حمده. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

 

2*كتاب العتق.

 

@-والنظر في هذا الكتاب فيمن يصح عتقه ومن لا يصح، ومن يلزمه ومن لا يلزمه: أعني بالشرع، وفي ألفاظ العتق، وفي الإيمان به، وفي أحكامه وفي الشروط الواقعة فيه. ونحن فإنما نذكر من هذه الأبواب ما فيها من المسائل المشهورة التي يتعلق أكثرها بالمسموع. فأما من يصح عتقه، فإنهم أجمعوا على أنه يصح عتق المالك التام الملك الصحيح الرشيد القوي الجسم الغني غير العديم. واختلفوا في عتق من أحاط الدين بماله وفي عتق المريض وحكمه. فأما من أحاط الدين بماله، فإن العلماء اختلفوا في جواز عتقه، فقال أكثر أهل المدينة: مالك وغيره: لا يجوز ذلك، وبه قال الأوزاعي والليث؛ وقال فقهاء العراق: وذلك جائز حتى يحجر عليه الحاكم، وذلك عند من يرى التحجير منهم، وقد يتخرج عن مالك في ذلك الجواز قياسا على ما روي عنه في الرهن أنه يجوز، وإن أحاط الدين بمال الراهن ما لم يحجر عليه الحاكم. وعمدة من منع عتقه أن ماله في تلك الحال مستحق للغرماء، فليس له أن يخرج منه شيئا بغير عوض، وهي العلة التي بها يحجر الحاكم عليه التصرف والأحكام يجب أن توجد مع وجود عللها، وتحجير الحاكم ليس بعلة وإنما هو حكم واجب من موجبات العلة فلا اعتبار بوقوعه. وعمدة الفريق الثاني أنه قد انعقد بالإجماع على أن له أن يطأ جاريته ويحبلها ولا يرد شيئا مما أنفقه من ماله على نفسه وعياله حتى يضرب الحاكم على يديه فوجب أن يكون حكم تصرفاته هذا الحكم، وهذا هو قول الشافعي ولا خلاف عند الجميع أنه لا يجوز أن يعتق غير المحتلم ما لم تكن وصية منه، وكذلك المحجور؛ ولا يجوز عند العلماء عتقه لشيء من مماليكه إلا مالكا وأكثر أصحابه، فإنهم أجازوا عتقه لأم ولده. وأما المريض فالجمهور على أن عتقه إن صح وقع وإن مات كان من الثلث؛ وقال أهل الظاهر: هو مثل عتق الصحيح. وعمدة الجمهور حديث عمران بن الحصين أن رجلا أعتق ستة أعبد له، الحديث على ما تقدم. وأما من يدخل عليهم العتق كرها فهم ثلاثة من بعض العتق، وهذا متفق عليه في أحد قسميه واثنان مختلف فيهما وهما من ملك من يعتق عليه ومن مثل بعبده. فأما من بعض العتق فإنه ينقسم قسمين: أحدهما من وقع تبعيض العتق منه وليس له من العبد إلا الجزء المعتق. والثاني أن يكون يملك العبد كله ولكن بعض عتقه اختيارا منه. فأما العبد بين الرجلين يعتق أحدهما حظه منه فإن الفقهاء اختلفوا في حكم ذلك، فقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل: إن كان المعتق موسرا قوم عليه نصيب شريكه قيمة العدل، فدفع ذلك إلى شريكه وعتق الكل عليه وكان ولاؤه له، وإن كان المعتق معسرا لم يلزمه شيء وبقي المعتق بعضه عبدا وأحكامه أحكام العبد؛ وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان معسرا سعى العبد في قيمته للسيد الذي لم يعتق حظه منه وهو حر يوم أعتق حظه منه الأول ويكون ولاؤه للأول، وبه قال الأوزاعي وابن شبرمة وابن أبي ليلى وجماعة الكوفيين، إلا أن ابن شبرمة وابن أبي ليلى جعلا للعبد أن يرجع على المعتق بما سعى فيه متى أيسر. وأما شريك المعتق فإن الجمهور على أن له الخيار في أن يعتق أو يقوم نصيبه على المعتق؛ وقال أبو حنيفة: لشريك الموسر ثلاث خيارات: أحدها أن يعتق كما أعتق شريكه ويكون الولاء بينهما، وهذا لا خلاف فيه بينهم. والخيار الثاني أن تقوم عليه حصته. والثالث أن يكلف العبد السعي في ذلك إن شاء ويكون الولاء بينهما وللسيد المعتق عبده عنده إذا قوم عليه شريكه نصيبه أن يرجع على العبد فيسعى فيه ويكون الولاء كله للمعتق. وعمدة مالك والشافعي حديث ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال "من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة العدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق". وعمدة محمد وأبي يوسف صاحبي أبي حنيفة ومن يقول بقولهم حديث أبي هريرة أن النبي ﷺ قال "من أعتق شقصا له في عبده فخلاصه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال استسعى العبد غير مشقوق عليه" وكلا الحديثين خرجه أهل الصحيح البخاري ومسلم وغيرهما، ولكل طائفة منهم قول في ترجيح حديثه الذي أخذ به، فمما وهنت فيه الكوفية حديث ابن عمر أن بعض رواته شك في الزيادة المعارضة فيه لحديث أبي هريرة، وهو قوله "وإلا فقد عتق منه ما عتق" فهل هو من قوله عليه الصلاة والسلام، أم من قول نافع "وإن في ألفاظه أيضا بين رواته اضطرابا. ومما وهن به المالكيون حديث أبي هريرة أنه اختلف أصحاب قتادة فيه على قتادة في ذكر السعاية. وأما من طريق المعنى فاعتمدت المالكية في ذلك على أنه إنما لزم السيد التقويم إن كان له مال للضرر الذي أدخله على شريكه والعبد لم يدخل ضررا فليس يلزمه شيء. وعمدة الكوفيين من طريق المعنى أن الحرية حق شرعي لا يجوز تبعيضه، فإذا كان الشريك المعتق موسرا عتق الكل عليه، وإذا كان معسرا سعى العبد في قيمته وفيه مع هذا رفع الضرر الداخل على الشريك وليس فيه ضرر على العبد، وربما أتوا بقياس شبهي وقالوا: لما كان العتق يوجد منه في الشرع نوعان: نوع يقع بالاختيار، وهو إعتاق السيد عبده ابتغاء ثواب الله. ونوع يقع بغير اختبار، وهو أن يعتق على السيد من لا يجوز له بالشريعة ملكه وجب أن يكون العتق بالسعي كذلك. فالذي بالاختيار منه هو الكتابة. والذي هو داخل بغير اختيار هو السعي. واختلف مالك والشافعي في أحد قوليه إذا كان المعتق موسرا هل يعتق عليه نصيب شريكه بالحكم أو بالسراية؟ أعني أنه يسري وجوب عتقه عليه بنفس العتق؟ فقالت الشافعية: يعتق بالسراية؛ وقالت المالكية بالحكم؛ واحتجت المالكية بأنه لو كان واجبا بالسراية لسرى مع العدم واليسر. واحتجت الشافعية باللازم عن مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام "قوم عليه قيمة العدل" فقالوا: ما يجب تقويمه فإنما يجب بعد إتلافه فإذن بنفس العتق أتلف حظ صاحبه فوجب عليه تقويمه في وقت الإتلاف، وإن لم يحكم عليه بذلك حاكم، وعلى هذا فليس للشريك أن يعتق نصيبه، لأنه قد نفذ العتق وهذا بين. وقول أبي حنيفة في هذه المسألة مخالف لظاهر الحديثين، وقد روي فيها خلاف شاذ، فقيل عن ابن سيرين إنه جعل حصة الشريك في بيت المال؛ وقيل عن ربيعة فيمن أعتق نصيبا له في عبد أن العتق باطل؛ وقال قوم: لا يقوم على المعسر الكل، وينفذ العتق فيما أعتق؛ وقال قوم بوجوب التقويم على المعتق موسرا أو معسرا ويتبعه شريكه، وسقط العسر في بعض الروايات في حديث ابن عمر، وهذا كله خلاف الأحاديث، ولعلهم لم تبلغهم الأحاديث. واختلف قول مالك من هذا في فرع وهو إذا كان معسرا فأخر الحكم عليه بإسقاط التقويم حتى أيسر، فقيل يقوم، وقيل لا يقوم. واتفق القائلون بهذه الآثار على أن من ملك باختياره شقصا يعتق عليه من عبد: أنه يعتق عليه الباقي إن كان موسرا إلا إذا ملكه بوجه لا اختيار له فيه، وهو أن يملكه بميراث - فقال قوم: يعتق عليه في حال اليسر - وقال قوم: لا يعتق عليه؛ وقال قوم: في حال اليسر بالسعاية؛ وقال قوم: لا. وإذا ملك السيد جميع العبد فأعتق بعضه؛ فجمهور علماء الحجاز والعراق مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأحمد وابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن وأبو يوسف يقولون: يعتق عليه كله، وقال أبو حنيفة وأهل الظاهر: يعتق منه ذلك القدر الذي عتق ويسعى العبد في الباقي، وهو قول طاوس وحماد. وعمدة استدلال الجمهور أنه لما ثبتت السنة في إعتاق نصيب الغير على الغير لحرمة العتق كان أحرى أن يجب ذلك عليه في ملكه. وعمدة أبي حنيفة أن سبب وجوب العتق على المبعض للعتق هو الضرر الداخل على شريكه، فإذا كان ذلك كله ملكا له لم يكن هنالك ضرر. فسبب الخلاف من طريق المعنى هل علة هذا الحكم حرمة العتق، أعني أنه لا يقع فيه تبعيض، أو مضرة الشريك؟. واحتجت الحنفية بما رواه إسماعيل بن أمية عن أبيه عن جده أنه أعتق نصف عبده، فلم ينكر رسول الله ﷺ عتقه. ومن عمدة الجمهور ما رواه النسائي وأبو داود عن أبي المليح عن أبيه "أن رجلا من هذيل أعتق شقصا له من مملوك فتمم النبي عليه الصلاة والسلام عتقه وقال: ليس لله شريك" وعلى هذا فقد نص على العلة التي تمسك بها الجمهور، وصارت علتهم أولى، لأن العلة المنصوص عليها أولى من المستنبطة. فسبب اختلافهم تعارض الآثار في هذا الباب وتعارض القياس. وأما الإعتاق الذي يكون بالمثلة، فإن العلماء اختلفوا فيه، فقال مالك والليث والأوزاعي: من مثل بعبده أعتق عليه؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يعتق عليه؛ وشذ الأوزاعي فقال: من مثل بعبد غيره أعتق عليه والجمهور على أنه يضمن ما نقص من قيمة العبد، فمالك ومن قال بقوله اعتمد حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن زنباعا وجد غلاما له مع جارية، فقطع ذكره وجدع أنفه، فأتى النبي ﷺ فذكر ذلك له، فقال له النبي ﷺ: ما حملك على ما فعلت؟ فقال: فعل كذا وكذا، فقال النبي ﷺ: اذهب فأنت حر. وعمدة الفريق الثاني قوله ﷺ في حديث ابن عمر "من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته عتقه" قالوا: فلم يلزم العتق في ذلك وإنما ندب إليه. ولهم من طريق المعنى أن الأصل في الشرع هو أنه لا يكره السيد على عتق عبده إلا ما خصصه الدليل. وأحاديث عمرو بن شعيب مختلف في صحتها، فلم تبلغ من القوة أن يخصص بها مثل هذه القاعدة. وأما هل يعتق على الإنسان أحد من قرابته، وإن عتق فمن يعتق؟ فإنهم اختلفوا في ذلك، فجمهور العلماء على أنه يعتق على الرجل بالقرابة إلا داود وأصحابه، فإنهم لم يروا أن يعتق أحد على أحد من قبل قربى، والذين قالوا بالعتق اختلفوا فيمن يعتق ممن لا يعتق بعد اتفافهم على أنه يعتق على الرجل أبوه وولده؛ فقال مالك: يعتق على الرجل ثلاثة: أحدها أصوله: وهم الآباء والأجداد والجدات والأمهات وآباؤهم وأمهاتهم، وبالجملة كل من كان له على الإنسان ولادة. والثاني فروعه، وهم: الأبناء والبنات وولدهم ما سفلوا، وسواء في ذلك ولد البنين وولد البنات، وبالجملة كل من للرجل عليه ولادة بغير توسط أو بتوسط، ذكر أو أنثى. والثالث الفروع المشاركة له في أصله القريب وهم الإخوة، وسواء كانوا لأب وأم، أو لأب فقط، أو لأم فقط؛ واقتصر من هذا العمود على القريب فقط، فلم يوجب عتق بني الإخوة. وأما الشافعي فقال مثل قول مالك في العمودين الأعلى والأسفل، وخالفه في الإخوة فلم يوجب عتقهم. وأما أبو حنيفة فأوجب عتق كل ذي رحم محرم بالنسب كالعم والعمة والخال والخالة وبنات الأخ، ومن أشبههم ممن هو من الإنسان ذو محرم. وسبب اختلاف أهل الظاهر مع الجمهور اختلافهم في مفهوم الحديث الثابت، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "لا يجزي ولد عن والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه" خرجه مسلم والترمذي وأبو داود وغيرهم، فقال الجمهور: يفهم من هذا أنه إذا اشتراه وجب عليه عتقه، وأنه ليس يجب عليه شراؤه. وقالت الظاهرية: المفهوم من الحديث أنه ليس يجب عليه شراؤه ولا عتقه إذا اشتراه، قالوا: لأن إضافة عتقه إليه دليل على صحة ملكه له، ولو كان ما قالوا صوابا، لكان اللفظ إلا أن يشتريه فيعتق عليه. وعمدة الحنفية ما رواه قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي ﷺ قال "من ملك ذا رحم محرم فهو حر" وكأن هذا الحديث لم يصح عند مالك والشافعي؛ وقاس مالك الإخوة على الأبناء والآباء، ولم يلحقهم بهم الشافعي واعتمد الحديث المتقدم فقط، وقاس الأبناء على الآباء. وقد رامت المالكية أن تحتج لمذهبها بأن البنوة صفة هي ضد العبودية، وأنه ليس تجتمع معها لقوله تعالى {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا. إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا} وهذه العبودية هي معنى غير العبودية التي يحتجون بها، فإن هذه العبودية معقولة وبنوة معقولة. والعبودية التي بين المخلوقين والمولايية هي عبودية بالشرع لا بالطبع أعني بالوضع لا مجال للعقل كما يقولون فيها عندهم، وهو احتجاج ضعيف. وإنما أراد الله تعالى أن البنوة تساوي الأبوة في جنس الوجود أو في نوعه، أعني أن الموجودين اللذين أحدهما أب والآخر ابن هما متقاربان جدا، حتى أنهما إما أن يكونا من نوع واحد أو جنس واحد، وما دون الله من الموجودات فليس يجتمع معه سبحانه في جنس قريب ولا بعيد، بل التفاوت بينهما غاية التفاوت، فلم يصح أن يكون في الموجودات التي ههنا شيء نسبته إليه نسبة الأب إلى الابن، بل إن كان نسبة الموجودات إليه نسبة العبد إلى السيد كان أقرب إلى حقيقة الأمر من نسبة الابن إلى الأب لأن التباعد الذي بين السيد والعبد في المرتبة أشد من التباعد الذي بين الأب والابن، وعلى الحقيقة فلا شبه بين النسبتين؛ لكن لما لم يكن في الموجودات نسبة أشد تباعدا من هذه النسبة، أعني تباعد طرفيهما في الشرف والخسة ضرب المثال بها، أعني نسبة العبد للسيد، ومن لحظ المحبة التي بين الأب والابن والرحمة والرأفة الشفقة أجاز أن يقول في الناس إنهم أبناء الله على ظاهر شريعة عيسى. فهذه جملة المسائل المشهورة التي تتعلق بالعتق الذي يدخل على الإنسان بغير اختياره. (يتبع...) @(تابع... 1): -والنظر في هذا الكتاب فيمن يصح عتقه ومن لا يصح، ومن يلزمه ومن لا... ... وقد اختلفوا من أحكام العتق في مسألة مشهورة تتعلق بالسماع، وذلك أن الفقهاء اختلفوا فيمن أعتق عبيدا له في مرضه أو بعد موته ولا مال له غيرهم، فقال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وجماعة: إذا أعتق في مرضه ولا مال له سواهم قسموا ثلاثة أجزاء وعتق منهم جزء بالقرعة بعد موته، وكذلك الحكم في الوصية بعتقهم. وخالف أشهب وأصبغ مالكا في العتق المبتل في المرض فقالا جميعا إنما القرعة في الوصية. وأما حكم العتق المبتل فهو كحكم المدبر. ولا خلاف في مذهب مالك أن المدبرين في كلمة واحدة إذا ضاق عنهم الثلث أنه يعتق من كل واحد منهم بقدر حظه من الثلث. وقال أبو حنيفة وأصحابه في العتق المبتل: إذا ضاق عنه الثلث أنه يعتق من كل واحد منه ثلثه. وقال الغير: بل يعتق من الجميع ثلثه. فقوم من هؤلاء اعتبروا في ثلث الجميع القيمة، وهو مذهب مالك والشافعي؛ وقوم اعتبروا العدد. فعند مالك إذا كانوا ستة أعبد: مثلا عتق منهم الثلث بالقيمة كان الحاصل في ذلك اثنين منهم أو أقل أو أكثر، وذلك أيضا بالقرعة بعد أن يجبروا على القسمة أثلاثا؛ وقال قوم: بل المعتبر العدد، فإن كانوا ستة عتق منهم اثنان وإن كانوا مثلا سبعة عتق منهم اثنان وثلث. فعمدة أهل الحجاز ما رواه أهل البصرة عن عمران بن الحصين "أن رجلا أعتق ستة مملوكين عند موته ولم يكن له مال غيرهم فدعا رسول الله ﷺ فجزأهم أثلاثا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة" خرجه البخاري ومسلم مسندا، وأرسله مالك. وعمدة الحنفية ما جرت به عادتهم من رد الآثار التي تأتي بطرق الآحاد إذا خالفتها الأصول الثابتة بالتواتر. وعمدتهم أنه قد أوجب السيد لكل واحد منهم العتق تاما، فلو كان له مال لنفد بإجماع، فإذا لم يكن له مال وجب أن ينفذ لكل واحد منهم بقدر الثلث الجائز فعلى السيد فيه، وهذا الأصل ليس بيننا من قواعد الشرع في هذا الموضع، وذلك أنه يمكن أن يقال له إنه إذا أعتق من كل واحد منهم الثلث دخل الضرر على الورثة والعبيد المعتقين، وقد ألزم الشرع مبعض العتق أن يتم عليه، فلما لم يمكن ههنا أن يتمم عليه جمع في أشخاص بأعيانهم لكن متى اعتبرت القيمة في ذلك دون العدد أفضت إلى هذا الأصل، وهو تبعيض العتق، فلذلك كان الأولى أن يعتبر العدد وهو ظاهر الحديث، وكان الجزء المعتق في كل واحد منهم هو حق لله فوجب أن يجمع في أشخاص بأعيانهم أصله حق الناس. واختلفوا في مال العبد إذا أعتق لمن يكون، فقالت طائفة: المال للسيد؛ وقالت طائفة: ماله تبع له، وبالأول قال ابن مسعود من الصحابة، ومن الفقهاء أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحق، وبالثاني قال ابن عمر وعائشة والحسن وعطاء ومالك وأهل المدينة. والحجة لهم حديث ابن عمر أن النبي ﷺ قال "من أعتق عبدا فماله له إلا أن يشترط السيد ماله" وأما ألفاظ العتق، فإن منها صريحا ومنها كناية عند أكثر فقهاء الأمصار. أما الألفاظ الصريحة، فهو أن يقول: أنت حر، أو أنت عتيق وما تصرف من هذه، فهذه الألفاظ تلزم السيد بإجماع من العلماء. وأما الكناية فهي مثل قول السيد لعبده: لا سبيل لي عليك، أو لا ملك لي عليك، فهذه ينوي فيها سيد العبد، هل أراد به العتق أم لا؟ عند الجمهور. ومما اختلفوا فيه في هذا الباب إذا قال السيد لعبده: يا بني، أو لأمته يا بنتي، أو قال: يا أبي، أو يا أمي، فقال قوم وهم الجمهور: لا عتق يلزمه؛ وقال أبو حنيفة: يعتق عليه؛ وشذ زفر فقال: لو قال السيد لعبده: هذا ابني، عتق عليه وإن كان العبد له عشرون سنة وللسيد ثلاثون سنة. ومن هذا الباب اختلافهم فيمن قال لعبده: ما أنت إلا حر، فقال قوم: هو ثناء عليه وهم الأكثر؛ وقال قوم: هو حر، وهو قول الحسن البصري. ومن هذا الباب من نادى عبدا من عبيده باسمه، فاستجاب له عبد آخر، فقال له: أنت حر، وقال: إنما أردت الأول، فقيل يعتقان عليه جميعا، وقيل ينوي. واتفق على أن من أعتق ما في بطن أمته فهو حر دون الأم. واختلفوا فيمن أعتق أمة واستثنى ما في بطنها، فقالت طائفة: له استثناؤه؛ وقالت طائفة: هما حران. واختلفوا في سقوط العتق بالمشيئة، فقالت طائفة: لا استثناء فيه كالطلاق، وبه قال مالك؛ وقال قوم: يؤثر فيه الاستثناء كقولهم في الطلاق، أعني قول القائل لعبده: أنت حر إن شاء الله. وكذلك اختلفوا في وقوع العتق بشرط الملك، فقال مالك: يقع؛ وقال الشافعي وغيره: لا يقع، وحجتهم قوله عليه الصلاة والسلام: "لا عتق فيما لا يملك ابن آدم" وحجة الفرقة الثانية تشبيههم إياه باليمين. وألفاظ هذا الباب شبيهة بألفاظ الطلاق، وشروطه كشروطه، وكذلك الأيمان فيه شبيهة بأيمان الطلاق. وأما أحكامه فكثيرة: منها أن الجمهور على أن الأبناء تابعون في العتق والعبودية للأم، وشذ قوم فقالوا: إلا أن يكون الأب عربيا. ومنها اختلافهم في العتق إلى أجل؛ فقال قوم: ليس له أن يطأها إن كانت جارية ولا يبيع ولا يهب، وبه قال مالك؛ وقال قوم: له جميع ذلك، وبه قال الأوزاعي والشافعي واتفقوا على جواز اشتراط الخدمة على المعتق مدة معلومة بعد العتق وقبل العتق. واختلفوا فيمن قال لعبده: إن بعتك فأنت حر؛ فقال قوم: لا يقع عليه العتق لأنه إذا باعه لم يملك عتقه، وقال: إن باعه يعتق عليه، أعني من مال البائع إذا باعه، وبه قال مالك والشافعي، وبالأول قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري. وفروع هذا الباب كثيرة، وفي هذا كفاية. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

 

2*كتاب الكتابة

 

@-والنظر الكلي في الكتابة ينحصر في أركانها وشروطها وأحكامها. أما الأركان فثلاثة: العقد وشروطه وصفته، والعاقد، والمقعود عليه وصفاتهما ونحن نذكر المسائل المشهورة لأهل الأمصار في جنس جنس من هذه الأجناس. القول في مسائل العقد. @-فمن مسائل هذا الجنس المشهورة اختلافهم في عقد الكتابة: هل هو واجب أو مندوب إليه؟ فقال فقهاء الأمصار: إنه مندوب؛ وقال أهل الظاهر: هو واجب، واحتجوا بظاهر قوله تعالى {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا} والأمر على الوجوب. وأما الجمهور فإنهم لما رأوا أن الأصل هو أن لا يجبر أحد على عتق مملوكه حملوا هذه الآية على الندب لئلا تكون معارضة لهذا الأصل، وأيضا فإنه لما لم يكن للعبد أن يحكم له على سيده بالبيع له وهو خروج رقبته عن ملكه بعوض، فأحرى أن لا يحكم له عليه بخروجه عن غير عوض هو مالكه، وذلك أن كسب العبد هو للسيد، وهذه المسألة هي أقرب أن تكون من أحكام العقد من أن تكون من أركانه، وهذا العقد بالجملة هو أن يشتري العبد نفسه وماله من سيده بمال يكتسبه العبد. فأركان هذا العقد الثمن والمثمون والأجل والألفاظ الدالة على هذا العقد. فأما الثمن، فإنهم اتفقوا على أنه يجوز إذا كان معلوما بالعلم الذي يشترط في البيوع. واختلفوا إذا كان في لفظه إبهام ما، فقال أبو حنيفة ومالك: يجوز أن يكاتب عبده على جارية أو عبد من غير أن يصفهما ويكون له الوسط من العبيد؛ وقال الشافعي: لا يجوز حتى يصفه؛ فمن اعتبر في هذا طلب المعاينة شبهه بالبيوع؛ ومن رأى أن هذا العقد مقصوده المكارمة وعدم التشاح جوز فيه الغرر اليسير كحال اختلافهم في الصداق؛ ومالك يجيز بين العبد وسيده من جنس الربا ما لا يجوز بين الأجنبي والأجنبي من مثل بيع الطعام قبل قبضه، وفسخ الدين في الدين، وضع وتعجل؛ ومنع ذلك الشافعي وأحمد وعن أبي حنيفة القولان جميعا. وعمدة من أجازه أنه ليس بين السيد وعبده ربا، لأنه وماله له، وإنما الكتابة سنة على حدتها. وأما الأجل فإنهم اتفقوا على أنه يجوز أن تكون مؤجلة، واختلفوا في هل تجوز حالة، وذلك أيضا بعد اتفاقهم على أنها تجوز حالة على مال موجود عند العبد، وهي التي يسمونها قطاعه لا كتابة. وأما الكتابة فهي التي يشتري العبد فيها ماله ونفسه من سيده بمال يكتسبه. فموضع الخلاف إنما هو هل يجوز أن يشتري نفسه من سيده بمال حال ليس هو بيده؟ فقال الشافعي: هذا الكلام لغو، وليس يلزم السيد شيء منه؛ وقال متأخروا أصحاب مالك: قد لزمت الكتابة للسيد ويرفعه العبد إلى الحاكم فينجم عليه المال بحسب حال العبد. وعمدة المالكية أن السيد قد أوجب لعبده الكتابة، إلا أنه اشترط فيها شرطا يتعذر غالبا، فصح العقد وبطل الشرط. وعمدة الشافعية أن الشرط الفاسد يعود ببطلان أصل العقد كمن باع جاريته واشترط أن لا يطأها، وذلك أنه إذا لم يكن له مال حاضر أدى إلى عجزه، وذلك ضد مقصود الكتابة. وحاصل قول المالكية يرجع إلى أن الكتابة من أركانها أن تكون منجمة، وأنه إذا اشترط فيها ضد هذا الركن بطل الشرط وصح العقد. واتفقوا على أنه إذا قال السيد لعبده: لقد كاتبتك على ألف درهم فإذا أديتها فأنت حر أنه إذا أداها حر. واختلفوا إذا قال له: قد كاتبتك على ألف درهم وسكت هل يكون حرا دون أن يقول له: فإذا أديتها فأنت حر؟ فقال مالك وأبو حنيفة: هو حر، لأن اسم الكتابة لفظ شرعي، فهو يتضمن جميع أحكامه؛ وقال قوم: لا يكون حرا حتى يصرح بلفظ الأداء. واختلف في ذلك قول الشافعي. ومن هذا الباب اختلاف قول ابن القاسم ومالك فيمن قال لعبده: أنت حر وعليك ألف دينار، فاختلف المذهب في ذلك؛ فقال مالك: يلزمه وهو حر؛ وقال ابن القاسم: هو حر ولا يلزمه. وأما إن قال: أنت حر على أن عليك ألف دينار، فاختلف المذهب في ذلك فقال مالك: هو حر والمال عليه كغريم من الغرماء؛ وقيل العبد بالخيار، فإن اختار الحرية لزمه المال ونفذت الحرية وإلا بقي عبدا؛ وقيل إن قبل كانت كتابة يعتق إذا أدى، والقولان لابن القاسم؛ وتجوز الكتابة عند مالك على عمل محدود، وتجوز عنده الكتابة المطلقة، ويرد إلى أن كتابة مثله كالحال في النكاح، وتجوز الكتابة عنده على قيمة العبد، أعني كتابة مثله في الزمان والثمن، ومن هنا قيل إنه تجوز عنده الكتابة الحالة. واختلف هل من شرط هذا العقد أن يضع السيد من آخر أنجم الكتابة شيئا عن المكاتب لاختلافهم في مفهوم قوله تعالى {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} وذلك أن بعضهم رأى أن السادة هم المخاطبون بهذه الآية؛ ورأى بعضهم أنهم جماعة المسلمين ندبوا لعون المكاتبين، والذين رأوا ذلك اختلفوا هل ذلك على الوجوب أو على الندب؟ والذين قالوا بذلك اختلفوا في القدر الواجب، فقال بعضهم: ما ينطلق عليه اسم شيء، وبعضهم حده. وأما المكاتب ففيه مسائل: إحداها هل تجوز كتابة المراهق؟ وهل يجمع في الكتابة الواحدة أكثر من عبد واحد؟ وهل تجوز كتابة من يملك في العبد بعضه بغير إذن شريكه؟ وهل تجوز كتابة من لا يقدر على السعي؟ وهل تجوز كتابة من فيه بقية رق؟. فأما كتابة المراهق القوي على السعي الذي لم يبلغ الحلم، فأجازها أبو حنيفة، ومنعها الشافعي إلا للبالغ، وعن مالك القولان جميعا. فعمدة من اشترط البلوغ تشبيهها بسائر العقود. وعمدة من لم يشترطه أنه لا يجوز بين السيد وعبده ما لا يجوز بين الأجانب، وأن المقصود من ذلك هو القوة على السعي، وذلك موجود في غير البالغ. وأما هل يجمع في الكتابة الواحدة أكثر من عبد واحد؟ فإن العلماء اختلفوا في ذلك، ثم إذا قلنا بالجمع فهل يكون بعضهم حملاء عن بعض بنفس الكتابة حتى لا يعتق واحد منهم إلا بعتق جميعهم؟ فيه أيضا خلاف. فأما هل يجوز الجمع؟ فإن الجمهور على جواز ذلك، ومنعه قوم، وهو أحد قولي الشافعي. وأما هل يكون بعضهم حملاء عن بعض؟ فإن فيه لمن أجاز الجمع ثلاثة أقوال: فقالت طائفة: ذلك واجب بمطلق عقد الكتابة، أعني حمالة بعضهم عن بعض، وبه قال مالك وسفيان؛ وقال آخرون: لا يلزمه ذلك بمطلق العقد ويلزم بالشرط، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه؛ وقال الشافعي: لا يجوز ذلك لا بالشرط ولا بمطلق العقد، ويعتق كل واحد منهم إذا أدى قدر حصته. فعمدة من منع الشركة ما في ذلك من الغرر، لأن قدر ما يلزم واحدا واحدا من ذلك مجهول. وعمدة من أجازه أن الغرر اليسير يستخف في الكتابة، لأنه بين السيد وعبده، والعبد وماله لسيده. وأما مالك فحجته أنه لما كانت الكتابة واحدة وجب أن يكون حكمهم كحكم الشخص الواحد. وعمدة الشافعية أن حمالة بعضهم عن بعض لا فرق بينها وبين حمالة الأجنبيين؛ فمن رأى أن حمالة الأجنبيين في الكتابة لا تجوز قال: لا تجوز في هذا الموضع. وإنما منعوا حمالة الكتابة لأنه إذا عجز المكاتب لم يكن للحميل شيء يرجع عليه، وهذا كأنه ليس يظهر في حمالة العبيد بعضهم عن بعض، وإنما الذي يظهر في ذلك أن هذا الشرط هو سبب لأن يعجز من يقدر على السعي بعجز من لا يقدر عليه، فهو غرر خاص بالكتابة، إلا أن يقال أيضا إن الجمع يكون سببا لأنه يخرج حرا من لا يقدر من نفسه أن يسعى حتى يخرج حرا فهو كما يعود برق من يقدر على السعي، كذلك يعود بحرية من لا يقدر على السعي. وأما أبو حنيفة فشبهها بحمالة الأجنبي مع الأجنبي في الحقوق التي تجوز فيها الحمالة فألزمها بالشرط ولم يلزمها بغير شرط، وهو مع هذا أيضا لا يجير حمالة الكتابة. وأما العبد بين الشريكين فإن العلماء اختلفوا هل لأحدهما أن يكاتب نصيبه دون إذن صاحبه، فقال بعضهم: ليس له ذلك والكتابة مفسوخة، وما قبض منها هي بينهم على قدر حصصهم؛ وقالت طائفة: لا يجوز أن يكاتب الرجل نصيبه من عبده دون نصيب شريكه؛ وفرقت فرقة فقالت: يجوز بإذن شريكه ولا يجوز بغير إذن شريكه، وبالقول الأول قال مالك، وبالثاني قال ابن أبي ليلى وأحمد، وبالثالث قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وله قول آخر مثل قول مالك. وعمدة مالك أنه لو جاز ذلك لأدى إلى أن يعتق العبد كله بالتقويم على الذي كاتب حظه منه، وذلك لا يجوز إلا في تبعيض العتق؛ ومن رأى أن له أن يكاتبه رأى أن عليه أن يتم عتقه إذا أدى الكتابة إذا كان موسرا، فاحتجاج مالك هنا هو احتجاج بأصل لا يوافقه عليه الخصم، لكن ليس يمنع من صحة الأصل أن لا يوافقه عليه الخصم. وأما اشتراط الإذن فضعيف، وأبو حنيفة يرى في كيفية أداء المال للمكاتب إذا كانت الكتابة عن إذن شريكه أن كل ما أدى للشريك الذي كاتبه يأخذ منه الشريك الثاني نصيبه، ويرجع بالباقي على العبد فيسعى له فيه حتى يتم له ما كان كاتبه عليه، وهذا فيه بعد عن الأصول. وأما هل تجوز مكاتبة من لا يقدر على السعي فلا خلاف فيما أعلم بينهم أن شرط المكاتب أن يكون قويا على السعي لقوله تعالى {إن علمتم فيهم خيرا} وقد اختلف العلماء ما الخير الذي اشترطه الله في المكاتبين في قوله {إن علمتم فيهم خيرا} فقال الشافعي: الاكتساب والأمانة؛ وقال بعضهم: المال والأمانة؛ وقال آخرون: الصلاح والدين. وأنكر بعض العلماء أن يكاتب من لا حرفة له مخافة السؤال، وأجاز ذلك بعضهم لحديث بريرة "أنها كوتبت أن تسأل الناس" وكره أن تكاتب الأمة التي لا اكتساب لها بصناعة مخافة أن يكون ذلك ذريعة إلى الزنا؛ وأجاز مالك كتابة المدبرة وكل من فيه بقية رق إلا أم الولد إذ ليس له عند مالك أن يستخدمها.

 

3*القول في المكاتب.

 

@-وأما المكاتب فاتفقوا على أن من شرطه أن يكون مالكا صحيح الملك غير محجور عليه صحيح الجسم. واختلفوا هل للمكاتب أن يكاتب عنده أم لا؟ وسيأتي هذا فيما يجوز من أفعال المكاتب مما لا يجوز؛ ولم يجز مالك أن يكاتب العبد المأذون له في التجارة، لأن الكتابة عتق ولا يجوز له أن يعتق؛ وكذلك لا يجوز كتابة من أحاط الدين بماله، إلا أن يجيز الغرماء ذلك إذا كان في ثمن كتابته إن بيعت (هكذا ببعض النسخ، وفي بعضها إسقاط لفظ: إن بيعت. ا هـ مصححه). مثل ثمن رقبته. وأما كتابة المريض، فإنها عنده في الثلث توقف حتى يصح فتجوز أو يموت فتكون من الثلث كالعتق سواء، وقد قيل: إن حابى كان ذلك وإن لم يحاب سعى، فإن أدى وهو في المرض عتق، وتجوز عنده كتابة النصراني المسلم، ويباع عليه كما يباع عليه العبد المسلم عنده فهذه هي مشهورات المسائل التي تتعلق بالأركان، أعني المكاتب والمكاتب والكتابة. وأما الأحكام فكثيرة، وكذلك الشروط التي تجوز فيها من التي لا تجوز. ويشبه أن تكون أجناس الأحكام الأولى في هذا العقد هو أن يقال متى يعتق المكاتب ومتى يعجز فيرق، وكيف حاله إن مات قبل أن يعتق أو يرق، ومن يدخل معه في حال الكتابة ممن لا يدخل، وتمييز ما بقي عليه من حجر الرق مما لم يبق عليه. فلنبدأ بذكر مسائل الأحكام المشهورة التي في جنس من هذه الأجناس الخمسة. @-الجنس الأول. فأما متى يخرج من الرق؟ فإنهم اتفقوا على أنه يخرج من الرق إذا أدى جميع الكتابة، واختلفوا إذا عجز عن البعض وقد أدى البعض، فقال الجمهور: هو عبد ما بقي من كتابته شيء، وإنه يرق إذا عجز عن البعض. وروي عن السلف المتقدم سوى هذا القول الذي عليه الجمهور أقوال أربعة: أحدها أن المكاتب يعتق بنفس الكتابة. والثاني أنه يعتق منه بقدر ما أدى. والثالث أنه يعتق إن أدى النصف فأكثر. والرابع إن أدى الثلث وإلا فهو عبد. وعمدة الجمهور ما خرجه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال "أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلا عشرة أواق فهو عبد، وأيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة فهو عبد". وعمدة من رأى أنه يعتق بنفس عقد الكتابة تشبيهه إياه بالبيع، فكأن المكاتب اشترى نفسه من سيده، فإن عجز لم يكن له إلا أن يتبعه بالمال، كما لو أفلس من اشتراه منه إلى أجل وقد مات. وعمدة من رأى أنه يعتق منه بقدر ما أدى ما رواه يحيى بن كثير عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال "يؤدي المكاتب بقدر ما أدى دية حر وبقدر ما رق منه دية عبد" خرجه النسائي، والخلاف فيه من قبل عكرمة، كما أن الخلاف في أحاديث عمرو بن شعيب من قبل أنه روى من صحيفة، وبهذا القول قال علي، أعني بحديث ابن عباس. وروي عن عمر بن الخطاب أنه إذا أدى الشطر عتق. وكان ابن مسعود يقول: إذا أدى الثلث. وأقوال الصحابة وإن لم تكن حجة، فالظاهر أن التقدير إذا صدر منهم أنه محمول على أن في ذلك سنة بلغتهم. وفي المسألة قول خامس: إذا أدى الثلاثة الأرباع عتق، وبقي عديما في باقي المال. وقد قيل إن أدى القيمة فهو غريم، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت. والأشهر عن عمر وأم سلمة هو مثل قول الجمهور، وقول هؤلاء هو الذي اعتمده فقهاء الأمصار، وذلك أنه صحت الرواية في ذلك عنهم صحة لا شك فيها، روى ذلك مالك في موطئه. وأيضا فهو أحوط لأموال السادات، ولأن في المبيعات يرجع في عين المبيع له إذا أفلس المشتري. @-الجنس الثاني. وأما متى يرق، فإنهم اتفقوا على أنه إنما يرق إذا عجز إما عن البعض وإما عن الكل بحسب ما قدمنا اختلافهم. واختلفوا هل للعبد أن يعجز نفسه إذا شاء من غير سبب، أم ليس له ذلك إلا بسبب؟ فقال الشافعي: الكتابة عقد لازم في حق العبد وهي في حق السيد غير لازمة؛ وقال مالك وأبو حنيفة: الكتابة عقد لازم من الطرفين: أي بين العبد والسيد. وتحصيل مذهب مالك في ذلك أن العبد والسيد لا يخلو أن يتفقا على التعجيز أو يختلفا، ثم إذا اختلفا فإما أن يريد السيد التعجيز ويأباه العبد، أو بالعكس، أعني أن يريد به السيد البقاء على الكتابة، ويريد العبد التعجيز. فأما إذا اتفقا على التعجيز فلا يخلو الأمر من قسمين: أحدهما أن يكون دخل في الكتابة ولد أو لا يكون، فإن كان دخل ولد في الكتابة فلا خلاف عنده أنه لا يجوز التعجيز. وإن لم يكن له ولد ففي ذلك روايتان: إحداهما أنه لا يجوز إذا كان له مال، وبه قال أبو حنيفة؛ والأخرى أنه يجوز له ذلك. فأما إن طلب العبد التعجيز وأبى السيد لم يكن ذلك للعبد إن كان معه مال أو كانت له قوة على السعي. وأما إن أراد السيد التعجيز وأباه العبد، فإنه لا يعجزه عنده إلا بحكم حاكم، وذلك بعد أن يثبت السيد عند الحاكم أنه لا مال له ولا قدرة على الأداء. ونرجع إلى عمدة أدلتهم في أصل الخلاف في المسألة، فعمدة الشافعي ما روي أن بريرة جاءت إلى عائشة تقول لها: "إني أريد أن تشتريني تعتقيني فقالت لها: إن أراد أهلك، فجاءت أهلها فباعوها وهي مكاتبة" خرجه البخاري. وعمدة المالكية تشبيههم الكتابة بالعقود اللازمة، ولأن حكم العبد في هذا المعنى يجب أن يكون كحكم السيد وذلك أن العقود من شأنها أن يكون اللزوم فيها أو الخيار مستويا في الطرفين، وأما أن يكون لازما من طرف وغير لازم من الطرف الثاني فخارج عن الأصول، وعللوا حديث بريرة بأن الذي باع أهلها كانت كتابتها لا رقبتها. والحنفية تقول: لما كان المغلب في الكتابة حق العبد، وجب أن يكون العقد لازما في حق الآخر المغلب عليه وهو السيد أصله النكاح، لأنه غير لازم في حق الزوج لمكان الطلاق الذي بيده وهو لازم في حق الزوجة، والمالكية تعترض هذا بأن تقول إنه عقد لازم فيما وقع به العوض، إذ كان ليس له أن يسترجع الصداق. @-الجنس الثالث. وأما حكمه إذا مات قبل أن يؤدي الكتابة، فاتفقوا على أنه إذا مات دون ولد قبل أن يؤدي من الكتابة شيئا أنه يرق. واختلفوا إذا مات عن ولد فقال مالك: حكم ولده كحكمه، فإن ترك مالا فيه وفاء للكتابة أدوه وعتقوا، وإن لم يترك مالا وكانت لهم قوة على السعي بقوا على نجوم أبيهم حتى يعجزوا أو يعتقوا، وإن لم يكن عندهم لا مال ولا قدرة على السعي رقوا، وأنه إن فضل عن الكتابة شيء من ماله ورثوه على حكم ميراث الأحرار، وأنه ليس يرثه إلا ولده الذين هم في الكتابة معه دون سواهم من وارثيه إن كان له وارث غير الولد الذي معه في الكتابة. وقال أبو حنيفة: إنه يرثه بعد أداء كتابته من المال الذي ترك جميع أولاده الذين كاتب عليهم أو ولدوا في الكتابة وأولاده الأحرار وسائر ورثته. وقال الشافعي: لا يرثه بنوه الأحرار ولا الذين كاتب عليهم أو ولدوا في الكتابة، وماله لسيده وعلى أولاده الذين كاتب عليهم أن يسعوا من الكتابة في مقدار حظوظهم منها، وتسقط حصة الأب عنهم، وبسقوط حصة الأب عنهم قال أبو حنيفة وسائر الكوفيين. والذين قالوا بسقوطها قال بعضهم: تعتبر القيمة، وهو قول الشافعي؛ وقيل بالثمن؛ وقيل حصته على مقدار الرءوس. وإنما قال هؤلاء بسقوط حصة الأب عن الأبناء الذين كاتب عليهم لا الذين ولدوا في الكتابة، لأن من ولد له أولاد في الكتابة فهم تبع لأبيهم. وعمدة مالك أن المكاتبين كتابة واحدة بعضهم حملاء عن بعض، ولذلك من عتق منهم أو مات لم تسقط حصته عن الباقي. وعمدة الفريق الثاني أن الكتابة لا تضمن. وروى مالك عن عبد الملك بن مروان في موطئه مثل قول الكوفيين. وسبب اختلافهم ماذا يموت عليه المكاتب؟ فعند مالك أنه يموت مكاتبا؛ وعند أبي حنيفة أنه يموت حرا؛ وعند الشافعي أنه يموت عبدا. وعلى هذه الأصول بنوا الحكم فيه. فعمدة الشافعية أن العبودية والحرية ليس بينهما وسط، وإذا مات المكاتب فليس حرا بعد، لأن حريته إنما تجب بأداء كتابته وهو لم يؤدها بعد، فقد بقي أنه مات عبدا لأنه لا يصح أن يعتق الميت. وعمدة الحنفية أن العتق قد وقع بموته مع وجود المال الذي كاتب عليه، لأنه ليس له أن يرق نفسه، والحرية يجب أن تكون حاصلة له بوجود المال لا بدفعه إلى السيد. وأما مالك فجعل موته على حالة متوسطة بين العبودية والحرية وهي الكتابة، فمن حيث لم يورث أولاده الأحرار منه جعل له حكم العبيد، ومن حيث لم يورث سيده ماله حكم له بحكم الأحرار، والمسألة في حد الاجتهاد. ومما يتعلق بهذا الجنس اختلافهم في أم ولد المكاتب إذا مات المكاتب وترك بنين لا يقدرون على السعي وأرادت الأم أن تسعى عليهم، فقال مالك: لها ذلك؛ وقال الشافعي والكوفيون: ليس لها ذلك. وعمدتهم أن أم الولد إذا مات المكاتب مال من مال السيد؛ وأما مالك فيرى أن حرمة الكتابة التي لسيدها صائرة إليها وإلى بنيها. ولم يختلف قول مالك أن المكاتب إذا ترك بنين صغارا لا يستطيعون السعي، وترك أم ولد لا تستطيع السعي أنها تباع ويؤدي منها باقي الكتابة. وعند أبي يوسف ومحمد بن الحسن أنه لا يجوز بيع المكاتب لأم ولده، ويجوز عند أبي حنيفة والشافعي. واختلف أصحاب مالك في أم ولد المكاتب إذا مات المكاتب وترك بنين ووفاه كتابته، هل تعتق أم ولده أم لا؟ فقال ابن القاسم: إذا كان معها ولد عتقت وإلا رقت؛ وقال أشهب: تعتق على كل حال؛ وعلى أصل الشافعي كل ما ترك المكاتب مال من مال سيده لا ينتفع به البنون في أداء ما عليه من كتابته كانوا معه في عقد الكتابة، أو كانوا ولدوا في الكتابة، وإنما عليهم السعي؛ وعلى أصل أبي حنيفة يكون حرا ولابد؛ ومذهب ابن القاسم كأنه استحسان. @-الجنس الرابع. وهو النظر فيمن يدخل معه في عقد الكتابة ومن لا يدخل. واتفقوا من هذا الباب على أن ولد المكاتب لا يدخل في كتابة المكاتب إلا بالشرط، لأنه عبد آخر لسيده. وكذلك اتفقوا على دخول ما ولد له في الكتابة فيها. واختلفوا في أم الولد على ما تقدم. وكذلك اختلفوا في دخول ماله أيضا بمطلق العقد، فقال مالك: يدخل ماله في الكتابة؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يدخل؛ وقال الأوزاعي: يدخل بالشرط، أعني إذا اشترطه المكاتب، وهذه المسألة مبنية على: هل يملك العبد أم لا يملك، وعلى هل يتبعه ماله في العتق أم لا؟ وقد تقدم ذلك. @-الجنس الخامس. وهو النظر فيما يحجر فيه على المكاتب مما لا يحجر، وما بقي من أحكام العبد فيه. فنقول : إنه قد أجمع العلماء من هذا الباب على أنه ليس للمكاتب أن يهب من ماله شيئا له قدر ولا يعتق ولا يتصدق بغير إذن سيده، فإنه محجور عليه في هذه الأمور وأشباهها، أعني أنه ليس له أن يخرج من يده شيئا من غير عوض. واختلفوا من هذا الباب في فروع منها أنه إذا لم يعلم السيد بهبته أو بعتقه إلا بعد أداء كتابته، فقال مالك وجماعة من العلماء إن ذلك نافذ ومنعه بعضهم. وعمدة من منعه أن ذلك وقع في حالة لا يجوز وقوعه فيها فكان فاسدا. وعمدة من أجازه أن السبب المانع من ذلك قد ارتفع وهو مخافة أن يعجز العبد. وسبب اختلافهم هل إذن السيد من شرط لزوم العقد أو من شرط صحته؟ فمن قال من شرط الصحة لم يجزه وإن عتق؛ ومن قال من شرط لزومه قال يجوز إذا عتق لأنه وقع عقدا صحيحا، فلما ارتفع الإذن المرتقب فيه صح العقد كما لو أذن هذا كله عند من أجاز عتقه إذا أذن السيد، فإن الناس اختلفوا أيضا في ذلك بعد اتفاقهم على أنه لا يجوز عتقه إذا لم يأذن السيد، فقال قوم: ذلك جائز؛ وقال قوم: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة، وبالجواز قال مالك؛ وعن الشافعي في ذلك القولان جميعا. والذين أجازوا ذلك اختلفوا في ولاء المعتق لمن يكون، فقال مالك: إن مات المكاتب قبل أن يعتق كان ولاء عبده لسيده، وإن مات وقد عتق المكاتب كان له ولاؤه له؛ وقال قوم من هؤلاء: بل ولاؤه على كل حال لسيده. وعمدة من لم يجز عتق المكاتب أن الولاء يكون للمعتق، لقوله عليه الصلاة والسلام "إنما الولاء لمن أعتق" ولا ولاء للمكاتب في حين كتابته فلم يصح عتقه. وعمدة من رأى أن الولاء للسيد أن عبد عبده بمنزلة عبده؛ ومن فرق بين ذلك فهو استحسان. ومن هذا الباب اختلافهم في هل للمكاتب أن ينكح أو يسافر بغير إذن سيده؟ فقال جمهورهم: ليس له أن ينكح إلا بإذن سيده؛ وأباح بعضهم النكاح له. وأما السفر فأباحه له جمهورهم ومنعه بعضهم، وبه قال مالك وأباحه سحنون من أصحاب مالك، ولم يجز للسيد أن يشترطه على المكاتب، وأجازه ابن القاسم في السفر القريب. والعلة في منع النكاح أنه يخاف أن يكون ذلك ذريعة إلى عجزه. والعلة في جواز السفر أن به يقوى على التكسب في أداء كتابته. وبالجملة فللعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال: أحدها أن للمكاتب أن يسافر بإذن سيده وبغير إذنه، ولا يجوز أن يشترط عليه أن لا يسافر، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. والقول الثاني إنه ليس له أن يسافر إلا بإذن سيده، وبه قال مالك. والثالث أن بمطلق عقد الكتابة له أن يسافر إلا أن يشترط عليه سيده أن لا يسافر، وبه قال أحمد والثوري وغيرهما. ومن هذا الباب اختلافهم في هل للمكاتب أن يكاتب عبدا له؟ فأجاز ذلك مالك ما لم يرد به المحاباة، وبه قال أبو حنيفة والثوري. وللشافعي قولان: أحدهما إثبات الكتابة، والآخر إبطالها. وعمدة الجماعة أنها عقد معاوضة المقصود منه طلب الربح فأشبه سائر العقود المباحة من البيع والشراء. وعمدة الشافعية أن الولاء لمن أعتق ولا ولاء للمكاتب، لأنه ليس بحر. واتفقوا على أنه لا يجوز للسيد انتزاع شيء من ماله ولا الانتفاع منه بشيء. واختلفوا في وطء السيد أمته المكاتبة، فصار الجمهور إلى منع ذلك؛ وقال أحمد وداود وسعيد بن المسيب من التابعين ذلك جائز إذا اشترطه عليها. وعمدة الجمهور أنه وطء تقع الفرقة فيه إلى أجل آت فأشبه النكاح إلى أجل. وعمدة الفريق الثاني تشبيهها بالمدبرة. وأجمعوا على أنها إن عجزت حل وطؤها. واختلف الذين منعوا ذلك إذا وطئها هل عليه حد أم لا؟ فقال جمهورهم: لا حد عليه لأنه وطء بشبهة؛ وقال بعضهم: عليه الحد. واختلفوا في إيجاب الصداق لها، والعلماء فيما أعلم على أنه في أحكامه الشرعية على حكم العبد مثل الطلاق والشهادة والحد وغير ذلك مما يختص به العبيد. ومن هذا الباب اختلافهم في بيعه؛ فقال الجمهور: لا يباع المكاتب إلا بشرط أن يبقى على كتابته عند مشتريه؛ وقال بعضهم: بيعه جائز ما لم يؤد شيئا من كتابته، لأن بريرة بيعت ولم تكن أدت من كتابتها شيئا؛ وقال بعضهم: إذا رضي المكاتب بالبيع جاز، وهو قول الشافعي، لأن الكتابة عنده ليست بعقد لازم في حق العبد، واحتج بحديث بريرة إذ بيعت وهي مكاتبة. وعمدة من لم يجز بيع المكاتب ما في ذلك من نقض العهد، وقد أمر الله تعالى بالوفاء به، وهذه المسألة مبنية على هل الكتابة عقد لازم أم لا؟ وكذلك اختلفوا في بيع الكتابة، فقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يجوز ذلك، وأجازها مالك ورأى الشفعة فيها للمكاتب، ومن أجاز ذلك شبه بيعها ببيع الدين، ومن لم يجز ذلك رآه من باب الغرر؛ وكذلك شبه مالك الشفعة فيها بالشفعة في الدين، وفي ذلك أثر عن النبي ﷺ، أعني في الشفعة في الدين؛ ومذهب مالك في بيع الكتابة أنها إن كانت بذهب أنها تجوز بعرض معجل لا مؤجل لما يدخل في ذلك من الدين بالدين. وإن كانت الكتابة بعرض كان شراؤها بذهب أو فضة معجلين أو بعرض مخالف، وإذا أعتق فولاؤه للمكاتب لا للمشتري. ومن هذا الباب اختلافهم هل للسيد أن يجبر العبد على الكتابة أم لا؟. وأما شروط الكتابة فمنها شرعية هي من شروط صحة العقد، وقد تقدمت عند ذكر أركان الكتابة. ومنها شروط بحسب التراضي، وهذه الشروط منها ما يفسد العقد، ومنها ما إذا تمسك به أفسدت العقد وإذا تركت صح العقد، ومنها شروط جائزة غير لازمة، ومنها شروط لازمة، وهذه كلها هي مبسوطة في كتب الفروع، وليس كتابنا هذا كتاب فروع، وإنما هو كتاب أصول. والشروط التي تفسد العقد بالجملة هي الشروط التي هي ضد شروط الصحة المشروعة في العقد. والشروط الجائزة هي التي لا تؤدي إلى إخلال بالشروط المصححة للعقد ولا تلازمها، فهذه الجملة ليس يختلف الفقهاء فيها، وإنما يختلفون في الشروط لاختلافهم فيما هو منها شرط من شروط الصحة أو ليس منها، وهذا يختلف بحسب القرب والبعد من إخلالها بشروط الصحة، ولذلك جعل مالكا جنسا ثالثا من الشروط، وهي الشروط التي إن تمسك بها المشترط فسد العقد، وإن لم يتمسك بها جاز، وهذا ينبغي أن تفهمه في سائر العقود الشرعية. فمن مسائلهم المشهورة في هذا الباب إذا اشترط في الكتابة شرطا من خدمة أو سفر أو نحوه وقوي على أداء نجومه قبل محل أجل الكتابة هل يعتق أم لا؟ فقال مالك وجماعة: ذلك الشرط باطل، ويعتق إذا أدى جميع المال؛ وقالت طائفة: لا يعتق حتى يؤدي جميع المال، ويأتي بذلك الشرط وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أعتق رقيق الإمارة وشرط عليهم أن يخدموا الخليفة بعد ثلاث سنين. ولم يختلفوا أن العبد إذا أعتقه سيده على أن يخدمه سنين أنه لا يتم عتقه إلا بخدمة تلك السنين، ولذلك القياس قول من قال: إن الشرط لازم. فهذه المسائل الواقعة المشهورة في أصول هذا الكتاب. وههنا مسائل تذكر في هذا الكتاب وهي من كتب أخرى، وذلك أنها إذا ذكرت في هذا الكتاب ذكرت على أنها فروع تابعة للأصول فيه، وإذا ذكرت في غيره ذكرت على أنها أصول، ولذلك كان الأولى ذكرها في هذا الكتاب. فمن ذلك اختلافهم إذا زوج السيد بنته من مكاتبه، ثم مات السيد وورثته البنت، فقال مالك والشافعي: ينفسخ النكاح لأنها ملكت جزءا منه، وملك يمين المرأة محرم عليها بإجماع؛ وقال أبو حنيفة: يصح النكاح، لأن الذي ورثت إنما هو مال في ذمة المكاتب لا رقبة المكاتب، وهذه المسألة هي أحق بكتاب النكاح. ومن هذا الباب اختلافهم إذا مات المكاتب وعليه دين وبعض الكتابة هل يحاص سيده الغرماء أم لا؟ فقال الجمهور: لا يحاص الغرماء؛ وقال شريح وابن أبي ليلى وجماعة: يضرب السيد مع الغرماء. وكذلك اختلفوا إذا أفلس وعليه دين يغترق ما بيده، هل يتعدى ذلك إلى رقبته؟ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: لا سبيل لهم إلى رقبته؛ وقال الثوري وأحمد: يأخذونه إلا أن يفتكه السيد. واتفقوا على أنه إذا عجز عن عقل الجنايات أنه يسلم فيها إلا أن يعقل عنه سيده، والقول في هل يحاص سيده الغرماء أو لا يحاص هو من كتاب التفليس، والقول في جنايته هو من باب الجنايات. ومن مسائل الأقضية التي هي فروع في هذا الباب وأصل في باب الأقضية اختلافهم في الحكم عند اختلاف السيد والمكاتب في مال الكتابة؛ فقال مالك وأبو حنيفة: القول قول المكاتب؛ وقال الشافعي ومحمد وأبو يوسف يتحالفان ويتفاسخان قياسا على المتبايعين، وفروع هذا الباب كثيرة، لكن الذي حضر منها الآن في الذكر هو ما ذكرناه، ومن وقعت له من هذا الباب مسائل مشهورة الخلاف بين فقهاء الأمصار وهي قريبة من المسموع، فينبغي أن تثبت في هذا الموضع إذ كان القصد إنما هو إثبات المسائل المشهورة التي وقع الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار مع المسائل المنطوق بها في الشرع وذلك أن قصدنا في هذا الكتاب كما قلنا غير مرة: إنما هو أن نثبت المسائل المنطوق بها في الشرع المتفق عليها والمختلف فيها، ونذكر من المسائل المسكوت عنها التي شهر الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار، فإن معرفة هذين الصنفين من المسائل هي التي تجري للمجتهد مجرى الأصول في المسكوت عنها وفي النوازل التي لم يشتهر الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار سواء نقل فيها مذهب عن واحد منهم أو لم ينقل، ويشبه أن يكون من تدرب في هذه المسائل وفهم أصول الأسباب التي أوجبت خلاف الفقهاء فيها أن يقول ما يجب في نازلة نازلة من النوازل، أعني أن يكون الجواب فيها على مذهب فقيه فقيه من فقهاء الأمصار، أعني في المسألة الواحدة بعينها، ويعلم حيث خالف ذلك الفقيه أصله وحيث لم يخالف، وذلك إذا نقل عنه في ذلك فتوى. فأما إذا لم ينقل عنه في ذلك فتوى أو لم يبلغ ذلك الناظر في هذه الأصول فيمكنه أن يأتي بالجواب بحسب أصول الفقيه الذي يفتي على مذهبه، وبحسب الحق الذي يؤديه إليه اجتهاده، ونحن نروم إن شاء الله بعد فراغنا من هذا الكتاب أن نضع في مذهب مالك كتابا جامعا لأصول مذهبه ومسائله المشهورة التي تجري في مذهبه مجرى الأصول للتفريع عليها، وهذا هو الذي عمله ابن القاسم في المدونة، فإنه جاوب فيما لم يكن عنده فيها قول مالك على قياس ما كان عنده في ذلك الجنس من مسائل مالك التي هي فيها جارية مجرى الأصول لما جبل عليه الناس من الاتباع والتقليد في الأحكام والفتوى، بيد أن في قوة هذا الكتاب أن يبلغ به الإنسان كما قلنا رتبة الاجتهاد إذا تقدم، فعلم من اللغة العربية وعلم من أصول الفقه ما يكفيه في ذلك، ولذلك رأينا أن أخص الأسماء بهذا الكتاب أن نسميه كتاب: [بداية المجتهد وكفاية المقتصد]

 

كتاب التدبير

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

 

2*كتاب التدبير

 

@-والنظر في التدبير: في أركانه، وفي أحكامه. أما الأركان فهي أربعة: المعنى، واللفظ، والمدبِر، والمدبَر. وأما الأحكام فصنفان: أحكام العقد، وأحكام المدبر. @-(الركن الأول) فنقول: أجمع المسلمون على جواز التدبير، وهو أن يقول السيد لعبده: أنت حر عن دبر مني، أو يطلق فيقول: أنت مدبر، وهذان هما عندهم لفظا التدبير باتفاق. والناس في التدبير والوصية على صنفين: منهم من لم يفرق بينهما، ومنهم من فرق بين التدبير والوصية بأن جعل التدبير لازما والوصية غير لازمة. والذين فرقوا بينهما اختلفوا في مطلق لفظ الحرية بعد الموت هل يتضمن معنى الوصية؟ أو حكم التدبير؟ أعني إذا قال: أنت حر بعد موتي، فقال مالك: إذا قال وهو صحيح: أنت حر بعد موتي فالظاهر أنه وصية، والقول قوله في ذلك؛ ويجوز رجوعه فيها إلا أن يريد التدبير. وقال أبو حنيفة: الظاهر من هذا القول التدبير وليس له أن يرجع فيه، وبقول مالك قال ابن القاسم، وبقول أبي حنيفة قال أشهب قال: إلا أن يكون هنالك قرينة تدل على الوصية، مثل أن يكون على سفر أو يكون مريضا، وما أشبه ذلك من الأحوال التي جرت العادة أن يكتب الناس فيها وصاياهم، فعلى قول من لا يفرق بين الوصية والتدبير، وهو قول الشافعي ومن قال بقوله هذا اللفظ هو من ألفاظ صريح التدبير. وأما على مذهب من يفرق فهو إما من كنايات التدبير، وإما ليس من كناياته ولا من صريحه، وذلك أن ما يحمله على الوصية فليس هو عنده من كناياته ولا من صريحه، ومن يحمله على التدبير وينويه في الوصية فهو عنده من كناياته. وأما المدبر فإنهم اتفقوا على أن الذي يقبل هذا العقد هو كل عبد صحيح العبودية ليس يعتق على سيده سواء ملك كله أو بعضه. واختلفوا في حكم من ملك بعضا فدبره، فقال مالك: يجوز ذلك، وللذي لم يدبر حظه خياران: أحدهما أن يتقاوماه، فإن اشتراه الذي دبره كان مدبرا كله، وإن لم يشتره انتقض التدبير والخيار الثاني أن يقومه عليه الشريك؛ وقال أبو حنيفة: للشريك الذي لم يدبر ثلاث خيارات: إن شاء استمسك بحصته، وإن شاء استسعى العبد في قيمة الحصة التي له فيه وإن شاء قومها على شريكه إن كان موسرا، وإن كان معسرا استسعى العبد؛ وقال الشافعي: يجوز التدبير ولا يلزم شيء من هذا كله، ويبقى العبد المدبر نصفه أو ثلثه على ما هو عليه، فإذا مات مدبره عتق منه ذلك الجزء ولم يقوم الجزء الباقي منه على السيد على ما يفعل في سنة العتق، لأن المال قد صار لغيره وهم الورثة، وهذه المسألة هي من الأحكام لا من الأركان، أعني أحكام المدبر فلتثبت في الأحكام. وأما المدبر فاتفقوا على أن من شروطه أن يكون مالكا تام الملك غير محجور عليه سواء كان صحيحا أو مريضا، وإن من شرطه أن لا يكون ممن أحاط الدين بماله، لأنهم اتفقوا على أن الدين يبطل التدبير. واختلفوا في تدبير السفيه. فهذه هي أركان هذا الباب. وأما أحكامه فأصولها راجعة إلى أجناس خمسة: أحدها: مما يخرج المدبر، هل من رأس المال أو الثلث؟. والثاني: ما يبقى فيه من أحكام الرق مما ليس يبقى فيه، أعني ما دام مدبرا. والثالث: ما يتبعه في الحرية مما ليس يتبعه. والرابع: مبطلات التدبير الطارئة عليه. والخامس: في أحكام تبعيض التدبير. @-الجنس الأول. فأما مماذا يخرج المدبر إذا مات المدبر، فإن العلماء اختلفوا في ذلك؟ فذهب الجمهور إلى أنه يخرج من الثلث؛ وقالت طائفة: هو من رأس المال معظمهم أهل الظاهر؛ فمن رأى أنه من الثلث شبهه بالوصية، لأنه حكم يقع بعد الموت. وقد روي حديث عن النبي ﷺ أنه قال "المدبر من الثلث" إلا أنه أثر ضعيف عند أهل الحديث، لأنه رواه علي بن طيبان عن نافع عن عبد الله بن عمر، وعلي بن طيبان متروك الحديث عند أهل الحديث. ومن رآه من رأس المال شبهه بالشيء يخرجه الإنسان من ماله في حياته فأشبه الهبة. واختلف القائلون بأنه من الثلث في فروع، وهو إذا دبر الرجل غلاما له في صحته، وأعتق في مرضه الذي مات عنه غلاما آخر فضاق الثلث عن الجمع بينهما؛ فقال مالك: يقدم المدبر لأنه كان في الصحة؛ وقال الشافعي: يقدم المعتق المبتل، لأنه لا يجوز له رده، ومن أصله أنه يجوز عنده رد التدبير، وهذه المسألة هي أحق بكتاب الوصايا. @-وأما الجنس الثاني. فأشهر مسألة فيه هي هل للمدبر أن يبيع المدبر أم لا؟ فقال مالك وأبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة: ليس للسيد أن يبيع مدبره؛ وقال الشافعي وأحمد وأهل الظاهر وأبو ثور: له أن يرجع فيبيع مدبره؛ وقال الأوزاعي: لا يباع إلا من رجل يريد عتقه. واختلف أبو حنيفة ومالك من هذه المسألة في فروع وهو إذا بيع فأعتقه المشتري، فقال مالك: ينفذ العتق؛ وقال أبو حنيفة والكوفيون البيع مفسوخ سواء أعتقه المشتري أو لم يعتقه وهو أقيس من جهة أنه ممنوع عبادة. فعمدة من أجاز بيعه ما ثبت من حديث جابر "أن النبي ﷺ باع مدبرا" وربما شبهوه بالوصية. وأما عمدة المالكية فعموم قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} لأنه عتق إلى أجل فأشبه أم الولد أو أشبه العتق المطلق. فكان سبب الاختلاف ههنا معارضة القياس للنص، أو العموم للخصوص. ولا خلاف بينهم أن المدبر أحكامه في حدوده وطلاقه وشهادته وسائر أحكامه أحكام العبيد. واختلفوا من هذا الباب في جواز وطء المدبرة، فجمهور العلماء على جواز وطئها؛ وروي عن ابن شهاب منع ذلك؛ وعن الأوزاعي كراهية ذلك إذا لم يكن وطئها قبل التدبير. وعمدة الجمهور تشبيهها بأم الولد؛ ومن لم يجز ذلك شبهها بالمعتقة إلى أجل؛ ومنع وطء المعتقة إلى أجل شبهها بالمنكوحة إلى أجل، وهي المتعة. واتفقوا على أن السيد في المدبر الخدمة، ولسيده أن ينتزع ماله منه متى شاء كالحال في العبد؛ قال مالك: إلا أن يمرض مرضا مخوفا فيكره له ذلك. @-الجنس الثالث. فأما ما يتبعه في التدبير مما لا يتبعه، فإن مسائلهم المشهورة في هذا الباب اختلافهم في ولد المدبرة الذين تلدهم بعد تدبير سيدها من نكاح أو زنى، فقال الجمهور: ولدها بعد تدبيرها بمنزلتها يعتقون بعتقها ويرقون برقها: وقال الشافعي في قوله المختار عند أصحابه إنهم لا يعتقون بعتقها. وأجمعوا على أنه إذا أعتقها سيدها في حياته أنهم يعتقون بعتقها. وعمدة الشافعية أنهم إذا لم يعتقوا في العتق المنجز فأحرى أن لا يعتقوا في العتق المؤجل بالشرط. واحتج أيضا بإجماعهم على أن الموصي لها بالعتق لا يدخل فيه بنوها؛ والجمهور رأوا أن التدبير حرمة ما، فأوجبوا اتباع الولد تشبيها بالكتابة، وقول الجمهور مروي عن عثمان وابن مسعود وابن عمر، وقول الشافعي مروي عن عمر ابن عبد العزيز وعطاء بن أبي رباح ومكحول. وتحصيل مذهب مالك في هذا أن كل امرأة فولدها تبع لها، إن كانت حرة فحرة، وإن كانت مكاتبة فمكاتب وإن كانت مدبرة فمدبر، أو معتقة إلى أجل فمعتق إلى أجل، وكذلك أم الولد ولدها بمنزلتها، وخالف في ذلك أهل الظاهر، وكذلك المعتق بعضه عند مالك. وأجمع العلماء على أن كل ولد من تزويج فهو تابع لأمه في الرق والحرية وما بينهما من العقود المفضية إلى الحرية إلا ما اختلفوا فيه من التدبير ومن أمة زوجها عربي. وأجمعوا على أن كل ولد من ملك يمين أنه تابع لأبيه، إن حرا فحرا، وإن عبدا فعبدا، وإن مكاتبا فمكاتبا. واختلفوا في المدبر إذا تسرى فولد له فقال مالك: حكمه حكم الأب: يعني أنه المدبر؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة: ليس يتبعه ولده في التدبير. وعمدة مالك الإجماع على أن الولد من ملك اليمين تابع للأب ما عدا المدبر، وهو من باب قياس موضع الخلاف على موضع الإجماع. وعمدة الشافعية أن ولد المدبر مال من ماله، ومال المدبر للسيد انتزاعه منه وليس يسلم له أنه مال من ماله، ويتبعه في الحرية ماله عند مالك. @-الجنس الرابع. وأما النظر في تبعيض التدبير فقد قلنا فيمن دبر له حظا في عبده دون أن يدبر شريكه ونقله إلى هذا الموضع أولا، فلينقل إليه. وأما من دبر جزءا من عبد هو له كله، فإنه يقضي عليه بتدبير الكل، قياسا على من بعض العتق عند مالك. @-وأما الجنس الخامس وهو مبطلات التدبير. فمن هذا الباب اختلافهم في إبطال الدين للتدبير؛ فقال مالك والشافعي: الدين يبطله؛ وقال أبو حنيفة: ليس يبطله ويسعى في الدين، وسواء كان الدين مستغرقا للقيمة أو لبعضها. ومن هذا الباب اختلافهم في النصراني يدبر عبدا له نصرانيا، فيسلم العبد قبل موت سيده، فقال الشافعي: يباع عليه ساعة يسلم ويبطل تدبيره؛ وقال مالك: يحال بينه وبين سيده ويخارج على سيده النصراني، ولا يباع عليه حتى يبين أمر سيده، فإن مات عتق المدبر ما لم يكن عليه دين يحيط بماله؛ وقال الكوفيون: إذا أسلم مدبر النصراني قوِّم وسعى العبد في قيمته، ومدبر الصحة يقدم عند مالك على مدبر المرض إذا ضاق الثلث عنهما. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

 

2*كتاب أمهات الأولاد

 

@-وأصول هذا الكتاب النظر في هل تباع أم الولد أم لا؟ وإن كانت لا تباع فمتى تكون أم ولد، وبماذا تكون أم ولد، وما يبقى فيها لسيدها من أحكام العبودية، ومتى تكون حرة؟. @-(أما المسألة الأولى) فإن العلماء اختلفوا فيها سلفهم وخلفهم، فالثابت عن عمر رضي الله عنه أنه قضى بأنها لا تباع وأنها حرة من رأس مال سيدها إذا مات. وروي مثل ذلك عن عثمان، وهو قول أكثر التابعين وجمهور فقهاء الأمصار، وكان أبو بكر الصديق وعلي رضوان الله عليهما وابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري يجيزون بيع أم الولد، وبه قالت الظاهرية من فقهاء الأمصار. وقال جابر وأبو سعيد: "كنا نبيع أمهات الأولاد والنبي عليه الصلاة والسلام فينا لا يرى بذلك بأسا" واحتجوا بما روي عن جابر أنه قال "كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، ثم نهانا عمر عن بيعهن" ومما اعتمد عليه أهل الظاهر في هذه المسألة النوع من الاستدلال الذي يعرف باستصحاب حال الإجماع، وذلك أنهم قالوا: لما انعقد الإجماع على أنها مملوكة قبل الولادة، وجب أن تكون كذلك بعد الولادة إلى أن يدل الدليل على غير ذلك، وقد تبين في كتب الأصول قوة هذا الاستدلال، وأنه لا يصح عند من يقول بالقياس، وإنما يكون ذلك دليلا بحسب رأي من ينكر القياس، وربما احتج الجمهور عليهم بمثل احتجاجهم، وهو الذي يعرفونه بمقابلة الدعوى بالدعوى، وذلك أنهم يقولون: أليس تعرفون أن الإجماع قد انعقد على منع بيعها في حال حملها، فإذا كان ذلك وجب أن يستصحب حال هذا الإجماع بعد وضع الحمل، إلا أن المتأخرين من أهل الظاهر أحدثوا في هذا الأصل نقضا، وذلك أنهم لا يسلمون منع بيعها حاملا. ومما اعتمده الجمهور في هذا الباب من الأثر ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في مارية سريته لما ولدت إبراهيم "أعتقها ولدها" ومن ذلك حديث ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال "أيما امرأة ولدت من سيدها فإنها حرة إذا مات" وكلا الحديثين لا يثبت عند أهل الحديث، حكى ذلك أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله، وهو من أهل هذا الشأن، وربما قالوا أيضا من طريق المعنى أنها قد وجبت لها حرمة وهو اتصال الولد بها وكونه بعضا منها، وحكو هذا التعليل عن عمر رضي الله عنه حين رأى أن لا يبعن فقال: خالطت لحومنا لحومهن، ودماؤنا دماؤهن. وأما متى تكون أم ولد، فإنهم اتفقوا على أنها تكون أم ولد إذا ملكها قبل حملها منه. واختلفوا إذا ملكها وهي حامل منه أو بعد أن ولدت منه، فقال مالك: لا تكون أم ولد إذا ولدت منه قبل أن يملكها ثم ملكها وولدها؛ وقال أبو حنيفة: تكون أم ولد. واختلف قول مالك إذا ملكها وهي حامل، والقياس أن تكون أم ولد في جميع الأحوال إذ كان ليس من مكارم الأخلاق أن يبيع المرء أم ولده، وقد قال عليه الصلاة والسلام "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وأما بماذا تكون أم ولد؟ فإن مالكا قال: كل ما وضعت مما يعلم أنه ولد كانت مضغة أو علقة؛ وقال الشافعي: لابد أن يؤثر في ذلك شيء مثل الخلقة والتخطيط. واختلافهم راجع إلى ما ينطلق عليه اسم الولادة أو ما يتحقق أنه مولود. وأما ما يبقى فيها من أحكام العبودية، فإنهم اتفقوا على أنها في شهادتها وحدودها وديتها وأرش جراحها كالأمة. وجمهور من منع بيعها ليس يرون ههنا سببا طارئا عليها يوجب بيعها إلا ما روي عن عمر بن الخطاب أنها إذا زنت رقت. واختلف قول مالك والشافعي هل لسيدها استخدامها طول حياته واغتلاله إياها؟ فقال مالك: ليس له ذلك، وإنما له فيها الوطء فقط؛ وقال الشافعي: له ذلك وعمدة مالك أنه لما لم يملك رقبتها بالبيع لم يملك إجارتها، إلا أنه يرى أن إجارة بنيها من غيره جائزة، لأن حرمتهم عنده أضعف. وعمدة الشافعي انعقاد الإجماع على أنه يجوز له وطؤها. فسبب الخلاف تردد إجارتها بين أصلين: أحدهما وطؤها. والثاني بيعها. فيجب أن يرجح أقوى الأصلين شبها. وأما متى تكون حرة، فإنه لا خلاف بينهم أن آن ذلك الوقت هو إذا مات السيد، ولا أعلم الآن أحدا قال تعتق من الثلث، وقياسها على المدبر ضعيف على قول من يقول: إن المدبر يعتق من الثلث. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

 

2*كتاب الجنايات.

 

@-والجنايات التي لها حدود مشروعة أربع جنايات على الأبدان والنفوس والأعضاء وهو المسمى قتلا وجرحا، وجنايات على الفروج وهو المسمى زنى وسفاحا، وجنايات على الأموال، وهذه ما كان منها مأخوذا بحرب سمى حرابة إذا كان بغير تأويل، وإن كان بتأويل سمى بغيا مأخوذا على وجه المغافصة [قال في القاموس: غافَصَهُ: فاجأَهُ، وأخَذَهُ على غِرَّة. وقال (في باب "هزؤ"): ... غافص الرجل مغافصة وغفاصا: أخذه على غرة بمساءة. دار الحديث] من حرز يسمى سرقة، وما كان منها بعلو مرتبة وقوة سلطان سمى غصبا؛ وجنايات على الأعراض، وهو المسمى قذفا؛ وجنايات بالتعدي على استباحة ما حرمه الشرع من المأكول والمشروب، وهذه إنما يوجد فيها حد في هذه الشريعة في الخمر فقط، وهو حد متفق عليه بعد صاحب الشرع صلوات الله عليه، فلنبتدئ منها بالحدود التي في الدماء فنقول: إن الواجب في إتلاف النفوس والجوارح هو إما قصاص وإما مال، وهو الذي يسمى الدية، فإذا النظر أولا في هذا الكتاب ينقسم إلى قسمين: النظر في القصاص، والنظر في الدية. والنظر في القصاص ينقسم إلى القصاص في النفوس، وإلى القصاص في الجوارح. والنظر أيضا في الديات ينقسم إلى النظر في ديات النفوس، وإلى النظر في ديات قطع الجوارح والجراح. فينقسم أولا هذا الكتاب إلى كتابين: أولهما يرسم عليه كتاب القصاص. والثاني يرسم عليه كتاب الديات.

 

 

كتاب الجنايات

 

 

كتاب الجنايات. @-والجنايات التي لها حدود مشروعة أربع جنايات على الأبدان والنفوس والأعضاء وهو المسمى قتلا وجرحا، وجنايات على الفروج وهو المسمى زنى وسفاحا، وجنايات على الأموال، وهذه ما كان منها مأخوذا بحرب سمى حرابة إذا كان بغير تأويل، وإن كان بتأويل سمى بغيا مأخوذا على وجه المغافصة [قال في القاموس: غافَصَهُ: فاجأَهُ، وأخَذَهُ على غِرَّة. وقال (في باب "هزؤ"): ... غافص الرجل مغافصة وغفاصا: أخذه على غرة بمساءة. دار الحديث] من حرز يسمى سرقة، وما كان منها بعلو مرتبة وقوة سلطان سمى غصبا؛ وجنايات على الأعراض، وهو المسمى قذفا؛ وجنايات بالتعدي على استباحة ما حرمه الشرع من المأكول والمشروب، وهذه إنما يوجد فيها حد في هذه الشريعة في الخمر فقط، وهو حد متفق عليه بعد صاحب الشرع صلوات الله عليه، فلنبتدئ منها بالحدود التي في الدماء فنقول: إن الواجب في إتلاف النفوس والجوارح هو إما قصاص وإما مال، وهو الذي يسمى الدية، فإذا النظر أولا في هذا الكتاب ينقسم إلى قسمين: النظر في القصاص، والنظر في الدية. والنظر في القصاص ينقسم إلى القصاص في النفوس، وإلى القصاص في الجوارح. والنظر أيضا في الديات ينقسم إلى النظر في ديات النفوس، وإلى النظر في ديات قطع الجوارح والجراح. فينقسم أولا هذا الكتاب إلى كتابين: أولهما يرسم عليه كتاب القصاص. والثاني يرسم عليه كتاب الديات.

 

2*كتاب القصاص

 

@-وهذا الكتاب ينقسم إلى قسمين: الأول: النظر في القصاص في النفوس. والثاني: النظر في القصاص في الجوارح، فلنبدأ من القصاص في النفوس.

 

3*كتاب القصاص في النفوس.

 

@-والنظر أولا في هذا الكتاب ينقسم إلى قسمين: إلى النظر في الموجب، أعني الموجب للقصاص. وإلى النظر في الواجب، أعني القصاص وفي إبداله إن كان له بدل. فلنبدأ أولا بالنظر في الموجب، والنظر في الموجب يرجع إلى النظر في صفة القتل والقاتل التي يجب بمجموعها والمقتول القصاص، فإنه ليس أي قاتل اتفق يقتص منه، ولا بأي قتل اتفق، ولا من أي مقتول اتفق، بل من قاتل محدود بقتل محدود ومقتول محدود، فإذ كان المطلوب في هذا الباب إنما هو العدل. فلنبدأ من النظر في القاتل، ثم في القتل، ثم في المقتول.

 

4*القول في شروط القاتل.

 

@-فنقول: إنهم اتفقوا على أن القاتل الذي يقاد منه يشترط فيه باتفاق أن يكون عاقلا بالغا مختارا للقتل مباشرا غير مشارك له فيه غيره واختلفوا في المكرَه والمكرِه، وبالجملة الآمر والمباشر، فقال مالك والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وجماعة: القتل على المباشر دون الآمر، ويعاقب الآمر؛ وقالت طائفة: يقتلان جميعا، وهذا إذا لم يكن هنالك إكراه ولا سلطان للآمر على المأمور. وأما إذا كان للآمر سلطان على المأمور، أعني المباشر، فإنهم اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال: فقال قوم: يقتل الآمر دون المأمور، ويعاقب المأمور، وبه قال داود وأبو حنيفة، وهو أحد قولي الشافعي. وقال قوم: يقتل المأمور دون الآمر وهو أحد قولي الشافعي وقال قوم: يقتلان جميعا، وبه قال مالك. فمن لم يوجب حدا على المأمور اعتبر تأثير الإكراه في إسقاط كثير من الواجبات في الشرع، لكون المكره يشبه من لا اختيار له. ومن رأى عليه القتل غلب عليه حكم الاختيار، وذلك أن المكره يشبه من جهة المختار، ويشبه من جهة المضطر المغلوب، مثل الذي يسقط من علو، والذي تحمله الريح من موضع إلى موضع. ومن رأى قتلهم جميعا لم يعذر المأمور بالإكراه ولا الآمر بعدم المباشرة. ومن رأى قتل الآمر فقط شبه المأمور بالآلة التي لا تنطق. ومن رأى الحد على غير المباشر اعتمد أنه ليس ينطلق عليه اسم قاتل إلا بالاستعارة. وقد اعتمدت المالكية في قتل المكره على القتل بالقتل بإجماعهم على أنه لو أشرف على الهلاك من مخمصة لم يكن له أن يقتل إنسانا فيأكله. وأما المشارك للقاتل عمدا في القتل، فقد يكون القتل عمدا وخطأ، وقد يكون القاتل مكلفا وغير مكلف، وسنذكر العمد عند قتل الجماعة بالواحد. وأما إذا اشترك في القتل عامد ومخطئ أو مكلف وغير مكلف، مثل عامد وصبي أو مجنون، أو حر وعبد في قتل عبد عند من لا يقيد من الحر بالعبد، فإن العلماء اختلفوا في ذلك، فقال مالك والشافعي: على العامد القصاص، وعلى المخطئ والصبي نصف الدية؛ إلا أن مالكا يجعله على العاقلة؛ والشافعي في ماله على ما يأتي، وكذلك قالا في الحر والعبد يقتلان العبد عمدا أن العبد يقتل، وعلى الحر نصف القيمة، وكذلك الحال في المسلم والذمي يقتلان جميعا. وقال أبو حنيفة إذا اشترك من يجب القصاص عليه مع من لا يجب عليه القصاص، فلا قصاص على واحد منهما وعليهما الدية، وعمدة الحنفية أن هذه شبهة، فإن القتل لا يتبعض وممكن أن تكون إفاتة نفسه من فعل الذي لا قصاص عليه كإمكان ذلك ممن عليه القصاص، وقد قال عليه الصلاة والسلام "ادرءوا الحدود بالشبهات" وإذا لم يكن الدم وجب بدله، وهو الدية. وعمدة الفريق الثاني النظر إلى المصلحة التي تقتضي التغليظ لحوطة الدماء، فكأن كل واحد منهما انفرد بالقتل فله حكم نفسه، وفيه ضعف في القياس. وأما صفة الذي يجب به القصاص، فاتفقوا على أنه العمد، وذلك أنهم أجمعوا على أن القتل صنفان: عمد، وخطأ. واختلفوا في هل بينهما وسط أم لا؟ وهو الذي يسمونه شبه العمد، فقال به جمهور فقهاء الأمصار. والمشهور عن مالك نفيه إلا في الابن مع أبيه؛ وقد قيل أنه يتخرج عنه في ذلك رواية أخرى، وبإثباته قال عمر ابن الخطاب وعلي وعثمان وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعري والمغيرة، ولا مخالف لهم من الصحابة؛ والذين قالوا به فرقوا فيما هو شبه العمد مما ليس بعمد، وذلك راجع في الأغلب إلى الآلات التي يقع بها القتل، وإلى الأحوال التي كان من أجلها الضرب؛ فقال أبو حنيفة: كل ما عدا الحديد من القضب أو النار وما يشبه ذلك فهو شبه العمد؛ وقال أبو يوسف ومحمد: شبه العمد ما لا يقتل مثله؛ وقال الشافعي: شبه العمد ما كان عمدا في الضرب خطأ في القتل: أي ما كان ضربا لم يقصد به القتل فتولد عنه القتل. والخطأ ما كان خطأ فيهما جميعا. والعمد ما كان عمدا فيهما جميعا، وهو حسن. فعمدة من نفى شبه العمد أنه لا واسطة بين الخطأ والعمد، أعني بين أن يقصد القتل أو لا يقصده. وعمدة من أثبت الوسط أن النيات لا يطلع عليها إلا الله تبارك وتعالى وإنما الحكم بما ظهر. فمن قصد ضرب آخر بآلة لا تقتل غالبا كان حكمه كحكم الغالب، أعني حكم من قصد القتل فقتل بلا خلاف. ومن قصد ضرب رجل بعينه بآلة لا تقتل غالبا كان حكمه مترددا بين العمد والخطأ هذا في حقنا لا في حق الآمر نفسه عند الله تعالى. أما شبهة العمد فمن جهة ما قصد ضربه. وأما شبهه للخطأ فمن جهة أنه ضرب بما لا يقصد به القتل. وقد روي حديث مرفوع إلى النبي ﷺ أنه قال "ألا إن قتل الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا والحجر ديته مغلظة مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها" إلا أنه حديث مضطرب عند أهل الحديث لا يثبت من جهة الإسناد فيما ذكره أبو عمر بن عبد البر، وإن كان أبو داود وغيره قد خرجه، فهذا النحو من القتل عند من لا يثبته يجب به القصاص، وعند من أثبته تجب به الدية، ولا خلاف في مذهب مالك أن الضرب يكون على وجه الغضب والنائرة يجب به القصاص. واختلف في الذي يكون عمدا على جهة اللعب، أو على جهة الأدب لمن أبيح له الأدب. وأما الشرط الذي يجب به القصاص في المقتول، فهو أن يكون مكافئا لدم القاتل. والذي به تختلف النفوس هو الإسلام والكفر والحرية والعبودية والذكورية والأنوثية والواحد والكثير. واتفقوا على أن المقتول إذا كان مكافئا للقاتل في هذه الأربعة أنه يجب القصاص. واختلفوا في هذه الأربعة إذا لم تجتمع. أما الحر إذا قتل العبد عمدا، فإن العلماء اختلفوا فيه، فقال مالك والشافعي والليث وأحمد وأبو ثور: لا يقتل الحر بالعبد؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: يقتل الحر بالعبد إلا عبد نفسه؛ وقال قوم: يقتل الحر بالعبد سواء كان عبد القاتل أو عبد غير القاتل، وبه قال النخعي؛ فمن قال لا يقتل الحر بالعبد احتج بدليل الخطاب المفهوم من قوله تعالى {كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد} ومن قال يقتل الحر بالعبد احتج بقوله عليه الصلاة والسلام "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم" فسبب الخلاف معارضة العموم لدليل الخطاب، ومن فرق فضعيف. ولا خلاف بينهم أن العبد يقتل بالحر، وكذلك الأنقص بالأعلى. ومن الحجة أيضا لمن قال: يقتل الحر بالعبد ما رواه عن سمرة أن النبي ﷺ قال "من قتل عبده قتلناه به" ومن طريق المعنى قالوا: ولما كان قتله محرما كقتل الحر، وجب أن يكون القصاص فيه كالقصاص في الحر، وأما قتل المؤمن بالكافر الذمي، فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: فقال قوم: لا يقتل مؤمن بكافر، وممن قال به الشافعي والثوري وأحمد وداود وجماعة. وقال قوم: يقتل به، وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى. وقال مالك والليث: لا يقتل به إلا أن يقتله غيلة، وقتل الغيلة أن يضجعه فيذبحه وبخاصة على ماله. فعمدة الفريق الأول ما روي من حديث علي أنه سأله قيس بن عبادة والأشتر هل عهد إليه رسول الله ﷺ عهدا لم يعهده إلى الناس قال: لا، إلا ما في كتابي هذا، وأخرج كتابا من قراب سيفه فإذا فيه "المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" خرجه أبو داود. وروي أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال "لا يقتل مؤمن بكافر" واحتجوا في ذلك بإجماعهم على أنه لا يقتل مسلم بالحربي الذي أمن. وأما أصحاب أبي حنيفة فاعتمدوا في ذلك آثارا منها حديث يرويه ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الرحمن السلماني قال "قتل رسول الله ﷺ رجلا من أهل القبلة برجل من أهل الذمة وقال: أنا أحق من وفى بعهده" ورووا ذلك عن عمر، قالوا: وهذا مخصص لعموم قوله عليه الصلاة والسلام "لا يقتل مؤمن بكافر" أي أنه أريد به الكافر الحربي دون الكافر المعاهد، وضعف أهل الحديث حديث عبد الرحمن السلماني وما رووا من ذلك عن عمر. وأما من طريق القياس فإنهم اعتمدوا على إجماع المسلمين في أن يد المسلم تقطع إذا سرق من مال الذمي، قالوا: فإذا كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم فحرمة دمه كحرمة دمه، فسبب الخلاف تعارض الآثار والقياس. وأما قتل الجماعة بالواحد، فإن جمهور فقهاء الأمصار قالوا تقتل الجماعة بالواحد، منهم مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وغيرهم، سواء كثرت الجماعة أو قلت، وبه قال عمر حتى روي أنه قال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا. وقال داود وأهل الظاهر لا تقتل الجماعة بالواحد، وهو قول ابن الزبير، وبه قال الزهري، وروي عن جابر. وكذلك عند هذه الطائفة لا تقطع أيد بيد، أعني إذا اشترك اثنان فما فوق ذلك في قطع يد؛ وقال مالك والشافعي: تقطع الأيدي باليد؛ وفرقت الحنفية بين الأنفس والأطراف فقالوا: تقتل الأنفس بالنفس، ولا يقطع بالطرف إلا طرف واحد، وسيأتي هذا في باب القصاص من الأعضاء. فعمدة من قتل بالواحد الجماعة النظر إلى المصلحة، فإنه مفهوم أن القتل إنما شرع لنفي القتل كما نبه عليه الكتاب في قوله تعالى {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} وإذا كان ذلك كذلك فلو لم تقتل الجماعة بالواحد لتذرع الناس إلى القتل بأن يتعمدوا قتل الواحد بالجماعة، لكن للمعترض أن يقول: إن هذا إنما كان يلزم لو لم يقتل من الجماعة أحد، فأما إن قتل منهم واحد وهو الذي من قتله يظن إتلاف النفس غالبا على الظن، فليس يلزم أن يبطل الحد حتى يكون سببا للتسليط على إذهاب النفوس. وعمدة من قتل الواحد بالواحد قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين} وأما قتل الذكر بالأنثى، فإن ابن المنذر وغيره ممن ذكر الخلاف حكى أنه إجماع، إلا ما حكي عن علي من الصحابة، وعن عثمان البتي أنه إذا قتل الرجل بالمرأة كان على أولياء المرأة نصف الدية. وحكى القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى عن الحسن البصري، أنه لا يقتل الذكر بالأنثى، وحكاه الخطابي في معالم السنن، وهو شاذ، ولكن دليله قوي لقوله تعالى {والأنثى بالأنثى} وإن كان يعارض دليل الخطاب ههنا للعموم الذي في قوله تعالى {وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس} لكن يدخله أن هذا الخطاب وارد في غير شريعتنا، وهي مسألة مختلف فيها، أعني هل شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟ والاعتماد في قتل الرجل بالمرأة هو النظر إلى المصلحة العامة. واختلفوا من هذا الباب في الأب والابن، فقال مالك: لا يقاد الأب بالابن إلا أن يضجعه فيذبحه، فأما إن حذفه بسيف أو عصا فقتله لم يقتل، وكذلك الجد عنده مع حفيده. وقال أبو حنيفة والشافعي والثوري: لا يقاد الوالد بولده ولا الجد بحفيده إذا قتله بأي وجه كان من أوجه العمد، وبه قال جمهور العلماء. وعمدتهم حديث ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "لا تقام الحدود في المساجد ولا يقاد بالولد الوالد". وعمدة مالك عموم القصاص بين المسلمين. وسبب اختلافهم ما رووه عن يحيى بن سعيد عن عمرو بن شعيب أن رجلا من بني مدلج يقال له قتادة حذف ابنا له بالسيف فأصاب ساقه، فنزى جرحه فمات، فقدم سراقة بن جعشم على عمر ابن الخطاب فذكر ذلك له، فقال له عمر: اعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك، فلما قدم عليه عمر أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة، ثم قال: أين أخو المقتول، فقال: ها أنا ذا، قال: خذها، فإن رسول الله ﷺ قال "ليس لقاتل شيء" فإن مالكا حمل هذا الحديث على أنه لم يكن عمدا محضا، وأثبت منه شبه العمد فيما بين الابن والأب. وأما الجمهور فحملوه على ظاهره من أنه عمد لإجماعهم أن من حذف آخر بسيف فقتله فهو عمد. وأما مالك فرأى ما للأب من التسلط على تأديب ابنه ومن المحبة له أن حمل القتل الذي يكون في أمثال هذه الأحوال على أنه ليس بعمد، ولم يتهمه إذ كان ليس بقتل غيلة، فإنما يحمل فاعله على أنه قصد القتل من جهة غلبة الظن وقوة التهمة، إذ كانت النيات لا يطلع عليها إلا الله تعالى، فمالك لم يتهم الأب حيث اتهم الأجنبي، لقوة المحبة التي بين الأب والابن. والجمهور إنما عللوا درء الحد عن الأب لمكان حقه على الابن، والذي يجيء على أصول أهل الظاهر أن يقاد، فهذا هو القول في الموجب.

 

4*وأما القول في الموجب.

 

@-فاتفقوا على أن لولي الدم أحد شيئين: القصاص، أو العفو إما على الدية وإما على غير الدية. واختلفوا هل الانتقال من القصاص إلى العفو على أخذ الدية هو حق واجب لولي الدم دون أن يكون في ذلك خيار للمقتص منه، أم لا تثبت الدية إلا بتراضي الفريقين، أعني الولي والقاتل، وأنه إذا لم يرد المقتص منه أن يؤدي الدية لم يكن لولي الدم إلا القصاص مطلقا أو العفو، فقال مالك: لا يجب للولي إلا أن يقتص أو يعفو عن غير دية إلا أن يرضى بإعطاء الدية للقاتل، وهي رواية ابن القاسم عنه، وبه قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وجماعة؛ وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود وأكثر فقهاء المدينة من أصحاب مالك وغيره: ولي الدم بالخيار إن شاء اقتص وإن شاء أخذ الدية، رضي القاتل أو لم يرض، وروى ذلك أشهب عن مالك، إلا أن المشهور عنه هي الرواية الأولى. فعمدة مالك في الرواية المشهورة حديث أنس ابن مالك في قصة سن الربيع أن رسول الله ﷺ قال "كتاب الله القصاص" فعلم بدليل الخطاب أنه ليس له إلا القصاص. وعمدة الفريق الثاني حديث أبي هريرة الثابت "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين بين أن يأخذ الدية وبين أن يعفو" هما حديثان متفق على صحتهما، لكن الأول ضعيف الدلالة في أنه ليس له إلا القصاص. والثاني نص في أن له الخيار والجمع بينهما يمكن إذا رفع دليل الخطاب من ذلك، فإن كان الجمع واجبا وممكنا فالمصير إلى الحديث الثاني واجب؛ والجمهور على أن الجمع واجب إذا أمكن وأنه أولى من الترجيح، وأيضا فإن الله عز وجل يقول {ولا تقتلوا أنفسكم} وإذا عرض على المكلف فداء نفسه بمال فواجب عليه أن يفديها، أصله إذا وجد الطعام في مخمصة بقيمة مثله وعنده ما يشتريه، أعني أنه يقضى عليه بشرائه فكيف بشراء نفسه؟ ويلزم على هذه الرواية إذا كان للمقتول أولياء صغار وكبار أن يؤخر القتل إلى أن يكبر الصغار فيكون لهم الخيار، ولا سيما إذا كان الصغار يحجبون الكبار مثل البنين مع الإخوة. وقال القاضي: وقد كانت وقعت هذه المسألة بقرطبة حياة جدي رحمه الله، فأفتى أهل زمانه بالرواية المشهورة، وهو أن لا ينتظر الصغير، فأفتى هو رحمه الله بانتظاره على القياس، فشنع أهل زمانه ذلك عليه لما كانوا عليه من شدة التقليد حتى اضطر أن يضع في ذلك قولا ينتصر فيه لهذا المذهب وهو موجود بأيدي الناس، والنظر في هذا الباب هو في قسمين: في العفو والقصاص. والنظر في العفو في شيئين: أحدهما فيمن له العفو ممن ليس له، وترتيب أهل الدم في ذلك، وهل يكون له العفو على الدية أم لا؟ وقد تكلمنا في: هل له العفو على الدية. وأما من لهم العفو بالجملة فهم الذين لهم القيام بالدم، والذين لهم القيام بالدم هم العصبة عند مالك وعند غيره: كل من يرث، وذلك أنهم أجمعوا على أن المقتول عمدا إذا كان له بنون بالغون فعفا أحدهم أن القصاص قد بطل ووجبت الدية. واختلفوا في اختلاف البنات مع البنين في العفو أو في القصاص. وكذلك الزوجة أو الزوج والأخوات، فقال مالك: ليس للبنات ولا الأخوات قول مع البنين والإخوة في القصاص أو ضده، ولا يعتبر قولهن مع الرجال، وكذلك الأمر في الزوجة والزوج؛ وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد والشافعي كل وارث يعتبر قوله في إسقاط القصاص وفي إسقاط حظه من الدية، وفي الأخذ به قال الشافعي الغائب منهم والحاضر والصغير والكبير سواء. وعمدة هؤلاء اعتبارهم الدم بالدية. وعمدة الفريق الأول أن الولاية إنما هي للذكران دون الإناث. واختلف العلماء في المقتول عمدا إذا عفا عن دمه قبل أن يموت هل ذلك جائز على الأولياء؟ وكذلك في المقتول خطأ إذا عفا عن الدية، فقال قوم: إذا عفا المقتول عن دمه في العمد مضى ذلك، وممن قال بذلك مالك وأبو حنيفة والأوزاعي، وهذا أحد قولي الشافعي؛ وقالت طائفة أخرى: لا يلزم عفوه، وللأولياء القصاص أو العفو، وممن قال به أبو ثور وداود، وهو قول الشافعي بالعراق. وعمدة هذه الطائفة أن الله خير الولي في ثلاث: إما العفو، وإما القصاص، وإما الدية. وذلك عام في كل مقتول سواء عفا عن دمه قبل الموت أو لم يعف. وعمدة الجمهور أن الشيء الذي جعل للولي إنما هو حق المقتول، فناب فيه منابه وأقيم مقامه، فكان المقتول أحق بالخيار من الذي أقيم مقامه بعد موته. وقد أجمع العلماء على أن قوله تعالى {فمن تصدق به فهو كفارة له} أن المراد بالمتصدق ههنا هو المقتول يتصدق بدمه. وإنما اختلفوا على من يعود الضمير في قوله {فهو كفارة له} فقيل على القاتل لمن رأى له توبة، وقيل على المقتول من ذنوبه وخطاياه. وأما اختلافهم في عفو المقتول خطأ عن الدية فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور فقهاء الأمصار: إن عفوه من ذلك في ثلثه إلا أن يجيزه الورثة؛ وقال قوم: يجوز في جميع ماله، وممن قال به طاوس والحسن. وعمدة الجمهور أنه واهب مالا له بعد موته فلم يجز إلا في الثلث، أصله الوصية. وعمدة الفرقة الثانية أنه إذا كان له أن يعفو عن الدم فهو أحرى أن يعفو عن المال، وهذه المسألة هي أخص بكتاب الديات. واختلف العلماء إذا عفا المجروح عن الجراحات، فمات منها هل للأولياء أن يطالبوا بدمه أم لا؟ فقال مالك: لهم ذلك إلا أن يقول عفوت عن الجراحات وعما تئول إليه؛ وقال أبو يوسف ومحمد إذا عفا عن الجراحة ومات فلا حق لهم، والعفو عن الجراحات عفو عن الدم؛ وقال قوم: بل تلزمهم الدية إذا عفا عن الجراحات مطلقا، وهؤلاء اختلفوا، فمنهم من قال: تلزم الجارح الدية كلها، واختاره المزني من أقوال الشافعي؛ ومنهم من قال: يلزم من الدية ما بقي منها بعد إسقاط دية الجرح الذي عفا عنه، وهو قول الثوري. وأما من يرى أنه لا يعفو عن الدم فليس يتصور معه خلاف في أنه لا يسقط ذلك طلب الولي الدية، لأنه إذا كان عفوه عن الدم لا يسقط حق الولي، فأحرى أن لا يسقط عفوه عن الجرح. واختلفوا في القاتل عمدا يعفى عنه، هل يبقى للسلطان فيه حق أم لا؟ فقال مالك والليث: إنه يجلد مائة ويسجن سنة، وبه قال أهل المدينة، وروي ذلك عن عمر؛ وقالت طائفة: الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور: لا يجب عليه ذلك؛ وقال أبو ثور: إلا أن يكون يعرف بالشر فيؤدبه الإمام على قدر ما يرى. ولا عمدة للطائفة الأولى إلا أثر ضعيف. وعمدة الطائفة الثانية ظاهر الشرع وأن التحديد في ذلك لا يكون إلا بتوقيف، ولا توقيف ثابت في ذلك.

 

4*القول في القصاص.

 

@-والنظر في القصاص هو في صفة القصاص، وممن يكون؟ ومتى يكون؟ فأما صفة القصاص في النفس، فإن العلماء اختلفوا في ذلك، فمنهم من قال: يقتص من القاتل على الصفة التي قتل، فمن قتل تغريقا قتل تغريقا، ومن قتل بضرب بحجر قتل بمثل ذلك، وبه قال مالك والشافعي، قالوا: إلا أن يطول تعذيبه بذلك فيكون السيف له أروح. واختلف أصحاب مالك فيمن حرق آخر، هل يحرق مع موافقتهم لمالك في احتذاء صورة القتل؟ وكذلك فيمن قتل بالسهم؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: بأي وجه قتله لم يقتل إلا بالسيف. وعمدتهم ما روى الحسن عن النبي ﷺ أنه قال "لاقود إلا بحديدة". وعمدة الفريق الأول حديث أنس "أن يهوديا رضخ رأس امرأة بحجر، فرضخ النبي ﷺ رأسه بحجر، أو قال: بين حجرين" وقوله {كتب عليكم القصاص في القتلى} والقصاص يقتضي المماثلة وأما ممن يكون القصاص فالظاهر أنه من ولي الدم، وقد قيل إنه لا يمكن منه لمكان العداوة مخافة أن يجور فيه. وأما متى يكون القصاص فبعد ثبوت موجباته، والإعذار إلى القاتل في ذلك إن لم يكن مقرا. واختلفوا هل من شرط القصاص أن لا يكون الموضع الحرم. وأجمعوا على أن الحامل إذا قَتَلت عمدا أنه لا يقاد منها حتى تضع حملها. واختلفوا في القاتل بالسيف والجمهور على وجوب القصاص؛ وقال بعض أهل الظاهر: لا يقتص منه من أجل أنه عليه الصلاة والسلام سم هو وأصحابه، فلم يتعرض لمن سمه. كمل كتاب القصاص في النفس. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

 

3*كتاب الجراح.

 

@-والجراح صنفان: منها ما فيه القصاص أو الدية أو العفو. ومنها ما فيه الدية أو العفو. ولنبدأ بما فيه القصاص، والنظر أيضا ها هنا في شروط الجارح والجرح الذي به يحق القصاص والمجروح، وفي الحكم الواجب الذي هو القصاص، وفي بدله إن كان له بدل.

 

4*القول في الجارح.

 

@-ويشترط في الجارح أن يكون مكلفا كما يشترط ذلك في القاتل، وهو أن يكون بالغا عاقلا، والبلوغ يكون بالاحتلام والسن بلا خلاف، وإن كان الخلاف في مقداره، فأقصاه ثمانية عشر سنة، وأقله خمسة عشر سنة، وبه قال الشافعي، ولا خلاف أن الواحد إذا قطع عضو إنسان واحد اقتص منه إذا كان مما فيه القصاص. واختلفوا إذا قطعت جماعة عضوا واحدا، فقال أهل الظاهر: لا تقطع يدان في يد؛ وقال مالك والشافعي: تقطع الأيدي باليد الواحدة، كما تقتل عندهم الأنفس بالنفس الواحدة؛ وفرقت الحنفية بين النفس والأطراف، فقالوا: لا تقطع أعضاء بعضو، وتقتل أنفس بنفس، وعندهم أن الأطراف تتبعض، وإزهاق النفس لا يتبعض. واختلف في الإنبات، فقال الشافعي: هو بلوغ بإطلاق. واختلف المذهب فيه في الحدود، هل هو بلوغ فيها أم لا؟ والأصل في هذا كله حديث بني قريظة "أنه ﷺ قتل منهم من أنبت وجرت عليه المواسي" كما أن الأصل في السن حديث ابن عمر أنه عرضه يوم الخندق وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يقبله وقبله يوم أحد وهو ابن خمس عشرة سنة.

 

4*القول في المجروح.

 

@-وأما المجروح فإنه يشترط فيه أن يكون دمه مكافئا لدم الجارح والذي يؤثر في التكافؤ العبودية والكفر. أما العبد والحر فإنهم اختلفوا في وقوع القصاص بينهما في الجرح كاختلافهم في النفس؛ فمنهم من رأى أنه لا يقتص من الحر للعبد، ويقتص للحر من العبد كالحال في النفس؛ ومنهم من رأى أنه يقتص لكل واحد منهما من كل واحد، ولم يفرق بين الجرح والنفس؛ ومنهم من فرق فقال: يقتص من الأعلى للأدنى في النفس والجرح؛ ومنهم من قال: يقتص من النفس دون الجرح، وعن مالك الروايتان. والصواب كما يقتص من النفس أن يقتص من الجرح، فهذه هي حال العبيد مع الأحرار. وأما حال العبيد بعضهم مع بعض، فإن للعلماء فيهم ثلاثة أقوال: أحدها أن القصاص بينهم في النفس وما دونها، وهو قول الشافعي وجماعة، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وهو قول مالك. والقول الثاني أنه لا قصاص بينهم لا في النفس ولا في الجرح وأنهم كالبهائم، وهو قول الحسن وابن شبرمة وجماعة. والثالث أن القصاص بينهم في النفس دون ما دونها، وبه قال أبو حنيفة والثوري، وروي ذلك عن ابن مسعود. وعمدة الفريق الأول قوله تعالى {والعبد بالعبد} . وعمدة الحنفية ما روي عن عمران بن الحصين "أن عبدا لقوم فقراء قطع أذن عبد لقوم أغنياء، فأتوا رسول الله ﷺ فلم يقتص منه" فهذا هو حكم النفس.

 

4*القول في الجرح.

 

@-وأما الجرح فإنه يشترط فيه أن يكون على وجه العمد، أعني الجرح الذي يجب فيه القصاص، والجرح لا يخلو أن يكون يتلف جارحة من جوارح المجروح أو لا يتلف، فإن كان مما يتلف جارحة فالعمد فيه هو أن يقصد ضربه على وجه الغضب بما يجرح غالبا. وأما إن جرحه على وجه اللعب أو اللعب بما لا يجرح به غالبا أو على وجه الأدب، فيشبه أن يكون فيه الخلاف الذي يقع في القتل الذي يتولد عن الضرب في اللعب والأدب بما لا يقتل غالبا، فإن أبا حنيفة يعتبر الآلة حتى يقول إن القاتل بالمثقل لا يقتل وهو شذوذ منه، أعني بالخلاف هل فيه القصاص أو الدية إن كان الجرح مما فيه الدية. وأما إن كان الجرح قد أتلف جارحة من جوارح المجروح، فمن شرط القصاص فيه العمد أيضا بلا خلاف، وفي تمييز العمد منه من غير العمد خلاف. أما إذا ضربه على العضو نفسه فقطعه وضربه بآلة تقطع العضو غالبا، أو ضربه على وجه النائرة فلا خلاف أن فيه القصاص. وأما إن ضربه بلطمة أو سوط أو ما أشبه ذلك مما الظاهر منه أنه لم يقصد إتلاف العضو مثل أن يلطمه فيفقأ عينه، فالذي عليه الجمهور أنه شبه العمد ولا قصاص فيه، وفيه الدية مغلظة في ماله وهي رواية العراقيين عن مالك، والمشهور في المذهب أن ذلك عمد وفيه القصاص إلا في الأب مع ابنه؛ وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى أن شبه العمد إنما هو في النفس لا في الجرح. وأما إن جرحه فأتلف عضوا على وجه اللعب ففيه قولان: أحدهما وجوب القصاص، والثاني نفيه. وما يجب على هذين القولين ففيه القولان قبل الدية مغلظة، وقيل دية الخطأ، أعني فيما فيه دية، وكذلك إذا كان على وجه الأدب ففيه الخلاف. وأما ما يجب في جراح العمد إذا وقعت على الشروط التي ذكرناها فهو القصاص لقوله تعالى {والجروح قصاص} وذلك فيما أمكن القصاص فيه منها، وفيما وجد منه محل القصاص ولم يخش منه تلف النفس، وإنما صاروا لهذا لما روي "أن رسول الله ﷺ رفع القود في المأمومة والمنقلة والجائفة" فرأى مالك ومن قال بقوله أن هذا حكم ما كان في معنى هذه من الجراح التي هي متالف، مثل كسر عظم الرقبة والصلب والصدر والفخذ وما أشبه ذلك. وقد اختلف قول مالك في المنقلة، فمرة قال بالقصاص، ومرة قال بالدية؛ وكذلك الأمر عند مالك فيما لا يمكن فيه التساوي في القصاص مثل الاقتصاص من ذهاب بعض النظر أو بعض السمع، ويمنع القصاص أيضا عند مالك عدم المثل مثل أن يفقأ أعمى عين بصير. واختلفوا من هذا في الأعور يفقأ عين الصحيح عمدا، فقال الجمهور: إن أحب الصحيح أن يستقيد منه فله القود، واختلفوا إذا عفا عن القود، فقال قوم: إن أحب فله الدية كاملة ألف دينار، وهو مذهب مالك، وقيل ليس له إلا نصف الدية، وبه قال الشافعي، وهو أيضا منقول عن مالك، ويقول الشافعي قال ابن القاسم، وبالقول الآخر قال المغيرة من أصحابه وابن دينار. وقال الكوفيون: ليس للصحيح الذي فقئت عينه إلا القود أو ما اصطلحا عليه؛ وقد قيل لا يستقيد من الأعور وعليه الدية كاملة، روي هذا عن ابن المسيب وعن عثمان. وعمدة صاحب هذا القول أن عين الأعور بمنزلة عينين، فمن فقأها في واحدة فكأنه اقتص من اثنين في واحدة، وإلى نحو هذا ذهب من رأى أنه إذا ترك القود أنه له دية كاملة، ويلزم حامل هذا القول أن لا يستقيد ضرورة؛ ومن قال بالقود وجعل الدية نصف الدية فهو أحرز لأصله، فتأمله فإنه بين بنفسه والله أعلم. وأما هل المجروح مخير بين القصاص وأخذ الدية، أم ليس له إلا القصاص فقط إلا أن يصطلحا على أخذ الدية ففيه القولان عن مالك مثل القولين في القتل، وكذلك أحد قولي مالك في الأعور يفقأ عين الصحيح: أن الصحيح يخير بين أن يفقأ عين الأعور أو يأخذ الدية ألف دينار أو خمسمائة على الاختلاف في ذلك. وأما متى يستقاد من الجرح؟ فعند مالك أنه لا يستقاد من جرح إلا بعد اندماله، وعند الشافعي على الفور؛ فالشافعي تمسك بالظاهر، ومالك رأى أن يعتبر ما يئول إليه أمر الجرح مخافة أن يفضي إلى إتلاف النفس. واختلف العلماء في المقتص من الجرح يموت المقتص من ذلك الجرح، فقال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد لا شيء على المقتص، وروي عن علي وعمر مثل ذلك، وبه قال أحمد وأبو ثور وداود؛ وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وجماعة: إذا مات وجب على عاقلة المقتص الدية؛ وقال بعضهم: هي في ماله. وقال عثمان البتي: يسقط عنه من الدية قدر الجراحة التي اقتص منها، وهو قول ابن مسعود. فعمدة الفريق الأول إجماعهم على أن السارق إذا مات من قطع يده أنه لا شيء على الذي قطع يده. وعمدة أبي حنيفة أنه قتل خطأ وجبت فيه الدية؛ ولا يقاد عند مالك في الحر الشديد ولا البرد الشديد، ويؤخر ذلك مخافة أن يموت المقاد منه؛ وقد قيل إن المكان شرط في جواز القصاص وهو غير الحرم، فهذا هو حكم العمد في الجنايات على النفس وفي الجنايات على أعضاء البدن، وينبغي أن نصير إلى حكم الخطأ في ذلك، ونبتدئ بحكم الخطأ في النفس.

 

2*كتاب الديات في النفوس.

 

@-والأصل في هذا الباب قوله تعالى {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا} والديات تختلف في الشريعة بحسب اختلاف الدماء. وبحسب اختلاف الذين تلزمهم الدية، وأيضا تختلف بحسب العمد إذا رضي بها إما الفريقان، وإما من له القود على ما تقدم من الاختلاف. والنظر في الدية هو في موجبها، أعني في أي قتل تجب، ثم في نوعها وفي قدرها، وفي الوقت الذي تجب فيه، وعلى من تجب. فأما في أي قتل تجب، فإنهم اتفقوا على أنها تجب في قتل الخطأ وفي العمد الذي يكون من غير مكلف مثل المجنون والصبي، وفي العمد الذي تكون حرمة المقتول فيه ناقصة عن حرمة القاتل، مثل الحر والعبد ومن قتل الخطأ ما اتفقوا على أنه خطأ. ومنه ما اختلفوا فيه، وقد تقدم صدر من ذلك، وسيأتي بعد ذلك اختلافهم في تضمين الراكب والسائق والقائد. وأما قدرها ونوعها، فإنهم اتفقوا على أن دية الحر المسلم على أهل الإبل مائة من الإبل، وهي في مذهب مالك ثلاث ديات: دية الخطأ، ودية العمد إذا قبلت، ودية شبه العمد. وهي عند مالك في الأشهر عنه مثل فعل المدلجي بابنه. وأما الشافعي فالدية عنده اثنان فقط: مخففة ومغلظة. فالمخففة دية الخطأ، والمغلظة دية العمد ودية شبه العمد. وأما أبو حنيفة فالديات عنده اثنان أيضا: دية الخطأ، ودية شبه العمد، وليس عنده دية في العمد، وإنما الواجب عنده في العمد ما اصطلحا عليه وهو حال عليه غير مؤجل، وهو معنى قول مالك المشهور، لأنه إذا لم تلزمه الدية عنده إلا باصطلاح فلا معنى لتسميتها دية إلا ما روي عنه أنها تكون مؤجلة كدية الخطأ فههنا يخرج حكمها عن حكم المال المصطلح عليه، ودية العمد عنده أرباع: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، وهو قول ابن شهاب وربيعة، والدية المغلظة عنده أثلاثا: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة وهي الحوامل، ولا تكون المغلظة عنده في المشهور إلا في مثل فعل المدلجي بابنه؛ وعند الشافعي أنها تكون في شبه العمد أثلاثا أيضا، وروى ذلك أيضا عن عمر وزيد بن ثابت؛ وقال أبو ثور: الدية في العمد إذا عفا ولي الدم أخماسا كدية الخطأ. واختلفوا في أسنان الإبل في دية الخطأ، فقال مالك والشافعي: هي أخماس: عشرون ابنة مخاض، وعشرون ابنة لبون، وعشرون ابن لبون ذكرا، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وهو مروي عن ابن شهاب وربيعة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، أعني التخميس، إلا أنهم جعلوا مكان ابن لبون ذكر ابن مخاض ذكرا، وروي عن ابن مسعود الوجهان جميعا؛ وروي عن سيدنا علي أنه جعلها أرباعا، أسقط منها الخمس والعشرين بني لبون. وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز، ولا حديث في ذلك مسند، فدل على الإباحة - والله أعلم - كما قال أبو عمر بن عبد البر. وخرج البخاري والترمذي عن ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال "في دية الخطأ عشرون بنت مخاض وعشرون ابن مخاض ذكور وعشرون بنات لبون وعشرون جذعة وعشرون حقة" واعتل لهذا الحديث أبو عمر بأنه روى عن حنيف ابن مالك عن ابن مسعود وهو مجهول قال: وأحب إلي في ذلك الرواية عن علي، لأنه لم يختلف في ذلك عليه كما اختلف على ابن مسعود. وخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رسول الله ﷺ قضى أن من قتل خطأ فديته مائة من الإبل: ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة بني لبون ذكر" قال أبو سليمان الخطابي هذا الحديث لا أعرف أحدا من الفقهاء المشهورين قال به وإنما قال أكثر العلماء إن دية الخطأ أخماس، وإن كانوا اختلفوا في الأصناف؛ وقد روي أن دية الخطأ مربعة عن بعض العلماء وهم الشعبي والنخعي والحسن البصري، وهؤلاء جعلوها: خمسا وعشرين جذعة، وخمسا وعشرين حقة، وخمسا وعشرين بنات لبون، وخمسا وعشرين بنات مخاض، كما روي عن علي وخرجه أبو داود، وإنما صار الجمهور إلى تخميس دية الخطأ: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون بني مخاض ذكر، وإن كان لم يتفقوا على بني المخاض لأنها لم تذكر في أسنان فيها، وقياس من أخذ بحديث التخميس في الخطأ وحديث التربيع في شبه العمد إن ثبت هذا. النوع الثالث أن يقول في دية العمد بالتثليث كما قد روي ذلك الشافعي، ومن لم يقل بالتثليث شبه العمد بما دونه. فهذا هو مشهور أقاويلهم في الدية التي تكون من الإبل على أهل الإبل. وأما أهل الذهب والورق فإنهم اختلفوا أيضا فيما يجب من ذلك عليهم؛ فقال مالك: على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم؛ وقال أهل العراق: على أهل الورق عشرة آلاف درهم؛ وقال الشافعي بمصر: لا يؤخذ من أهل الذهب ولا من أهل الورق إلا قيمة الإبل بالغة ما بلغت، وقوله بالعراق مثل قول مالك. وعمدة مالك تقويم عمر بن الخطاب المائة من الإبل على أهل الذهب بألف دينار، وعلى أهل الورق باثني عشر ألف درهم. وعمدة الحنفية ما رووا أيضا عن عمر أنه قوم الدينار بعشرة دراهم، وإجماعهم على تقويم المثقال بها في الزكاة. وأما الشافعي فيقول: إن الأصل في الدية إنما هو مائة بعير، وعمر إنما جعل فيها ألف دينار على أهل الذهب، واثني عشر ألف درهم على أهل الورق، لأن ذلك كان قيمة الإبل من الذهب والورق في زمانه، والحجة له ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال كانت الديات على عهد رسول الله ﷺ ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب على النصف من دية المسلمين. قال: فكان ذلك حتى استخلف عمر، فقام خطيبا فقال: إن الإبل قد غلت، ففرضها عمر على أهل الورق اثني ألف درهم، وعلى أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاة ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وترك دية أهل الذمة لم يرفع فيها شيئا. واحتج بعض الناس لمالك لأنه لو لو كان تقويم عمر بدلا لكان دينا بدين، لإجماعهم أن الدية في الخطأ مؤجلة لثلاث سنين؛ ومالك وأبو حنيفة وجماعة متفقون على أن الدية لا تؤخذ إلا من الإبل أو الذهب أو الورق. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن والفقهاء السبعة المدنيون: يوضع على أهل الشاة ألفا شاة، وعلى أهل البقر مائتا بقرة، وعلى أهل البرود مائتا حلة، وعمدتهم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده المتقدم، وما أسنده أبو بكر بن أبي شبية عن عطاء "أن رسول الله ﷺ وضع الدية على الناس في أموالهم ما كانت على أهل الإبل مائة بعير، وعلى أهل الشاة ألفا شاة، وعلى أهل البقر مائتا بقرة، وعلى أهل البرود مائتا حلة" وما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الأجناد أن الدية كانت على عهد رسول الله ﷺ مائة بعير. قال: فإن كان الذي أصابه من الأعراب فديته من الإبل لا يكلف الأعرابي الذهب ولا الورق، فإن لم يجد الأعرابي مائة من الإبل فعد لها من الشاة ألف شاة. ولأن أهل العراق أيضا رووا عن عمر مثل حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نصا. وعمدة الفريق الأول أنه لو جاز أن تقوم بالشاة والبقر لجاز أن تقوم بالطعام على أهل الطعام، وبالخيل على أهل الخيل، وهذا لا يقول به أحد. والنظر في الدية كما قلت هو في نوعها، وفي مقدارها، وعلى من تجب، وفيما تجب، ومتى تجب؟. أما نوعها ومقدارها فقد تكلمنا فيه في الذكور الأحرار المسلمين. وأما على من تجب؟ فلا خلاف بينهم أن دية الخطأ تجب على العاقلة وأنه حكم مخصوص من عموم قوله تعالى {ولا تزر وازرة وزر أخرى} ومن قوله عليه الصلاة والسلام لأبي زمنة لولده "لا يجني عليك ولا تجني عليه". وأما دية العمد فجمهورهم على أنها ليست على العاقلة لما روي عن ابن عباس ولا مخالف له من الصحابة أنه قال: لا تحمل العاقلة عمدا ولا إعترافا ولا صلحا في عمد، وجمهورهم على أنها لا تحمل من أصاب نفسه خطأ؛ وشذ الأوزاعي فقال: من ذهب يضرب العدو فقتل نفسه فعلى عاقلته الدية، وكذلك عندهم في قطع الأعضاء. وروي عن عمر أن رجلا فقأ عين نفسه خطأ، فقضى له عمر بديتها على عاقلته. واختلفوا في دية شبه العمد، وفي الدية المغلظة على قولين: واختلفوا في دية ما جناه المجنون والصبي على من تجب؟ فقال مالك وأبو حنيفة وجماعة إنه كله يحمل على العاقلة؛ وقال الشافعي عمد الصبي في ماله. وسبب اختلافهم تردد فعل الصبي بين العامد والمخطئ؛ فمن غلب عليه شبه العمد أوجب الدية في ماله؛ ومن غلب عليه شبه الخطأ أوجبها على العاقلة، وكذلك اختلفوا إذا اشترك في القتل عامد وصبي، والذين أوجبوا على العامد القصاص وعلى الصبي الدية اختلفوا على من تكون؟ فقال الشافعي: على أصله في مال الصبي؛ وقال مالك: على العاقلة؛ وأما أبو حنيفة فيرى أن لا قصاص بينهما. وأما متى تجب؟ فإنهم اتفقوا على أن دية الخطأ مؤجلة في ثلاث سنين، وأما دية العمد فحالة إلا أن يصطلحا على التأجيل. وأما من هم العاقلة، فإن جمهور العلماء من أهل الحجاز اتفقوا على أن العاقلة هي بالقرابة من قبل الأب، وهم العصبة دون أهل الديوان، وتحمل الموالي العقل عند جمهورهم إذا عجزت عنه العصبة، إلا داود فإنه لم ير الموالي عصبة، وليس فيما يجب على واحد واحد منهم حد عند مالك؛ وقال الشافعي: على الغني دينار وعلى الفقير نصف دينار، وهي عند الشافعي مرتبة على القرابة بحسب قربهم، فالأقرب من بني أبيه، ثم من بني جده، ثم من بني أبية؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه: العاقلة هم أهل ديوانه إن كان من أهل ديوان. وعمدة أهل الحجاز أنه تعاقل الناس في زمان رسول الله ﷺ وفي زمان أبي بكر ولم يكن هناك ديوان؛ وإنما كان الديوان في زمن عمر بن الخطاب. واعتمد الكوفيون حديث جبير بن مطعم عن النبي ﷺ أنه قال "لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا قوة". وبالجملة فتمسكوا في ذلك بنحو تمسكهم في وجوب الولاء للحلفاء. واختلفوا في جناية من لا عصبة له ولا موالي وهم السائبة إذا جنوا خطأ هل يكون عليه عقل أم لا؟، وإن كان فعلى من يكون؟ فقال من لم يجعل لهم موالي: ليس على السائبة عقل، وكذلك من لم يجعل العقل على الموالي، وهو داود وأصحابه. وقال: من جعل ولاءه لمن أعتقه عليه عقله، وقال: من جعل ولاءه للمسلمين عقله في بيت المال، ومن قال إن للسائبة أن يوالي من شاء جعل عقله لمن ولاه، وكل هذه الأقاويل قد حكيت عن السلف. والديات تختلف بحسب اختلاف المودى فيه، والمؤثر في نقصان الدية هي الأنوثة والكفر والعبودية. أما دية المرأة فإنهم اتفقوا على أنها على النصف من دية الرجل في النفس فقط. واختلفوا فيما دون النفس من الشجاج والأعضاء على ما سيأتي القول فيه في ديات الجروح والأعضاء. وأما دية أهل الذمة إذا قتلوا خطأ، فإن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها ديتهم على النصف من دية المسلم ذكرانهم على النصف من ذكران المسلمين، ونساؤهم على النصف من نسائهم، وبه قال مالك وعمر بن عبد العزيز، وعلى هذا تكون دية جراحهم على النصف من دية المسلمين. والقول الثاني أن ديتهم ثلث دية المسلم، وبه قال الشافعي، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعثمان ابن عفان، وقال به جماعة من التابعين. والقول الثالث: أن ديتهم مثل دية المسلمين، وبه قال أبو حنيفة والثوري وجماعة، وهو مروي عن ابن مسعود، وقد روي عن عمر وعثمان، وقال به جماعة من التابعين. فعمدة الفريق الأول ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ أنه قال "دية الكافر على النصف من دية المسلم" وعمدة الحنفية عموم قوله تعالى {وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة} .ومن السنة ما رواه معمر عن الزهري قال: دية اليهودي والنصراني وكل ذمي مثل دية المسلم. قال: وكانت على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي حتى كان معاوية، فجعل في بيت المال نصفها، وأعطى أهل المقتول نصفها، ثم قضى عمر بن عبد العزيز بنصف الدية ألغى الذي جعله معاوية في بيت المال، قال الزهري: فلم يقض لي أن أذكر بذلك عمر بن عبد العزيز فأخبره أن الدية كانت تامة لأهل الذمة. (يتبع...) @(تابع... 1): -والأصل في هذا الباب قوله تعالى {ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة... ... وأما إذا قتل العبد خطأ أو عمدا على من لا يرى القصاص فيه، فقال قوم: عليه قيمته بالغة ما بلغت وإن زادت على دية الحر، وبه قال مالك والشافعي وأبو يوسف، وهو قول سعيد ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز. وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يتجاوز بقيمة العبد الدية؛ وقالت طائفة من فقهاء الكوفة: فيه الدية، ولكن لا يبلغ به دية الحر ينقص منها شيئا. وعمدة الحنفية أن الرق حال نقص، فوجب أن لا تزيد قيمته على دية الحر. وعمدة من أوجب فيه الدية ولكن ناقصة عن دية الحر أنه مكلف ناقص، فوجب أن يكون الحكم ناقصا عن الحر لكن واحدا بالنوع أصله الحد في الزنى والقذف والخمر والطلاق، ولو قيل فيه إنها تكون على النصف من دية الحر لكان قولا له وجه: أعني في دية الخطأ، لكن لم يقل به أحد. وعمدة مالك أنه مال قد أتلف فوجب فيه القيمة، أصله سائر الأموال. واختلف في الواجب في العبد على من يجب؟ فقال أبو حنيفة: هو على عاقلة القاتل، وهو الأشهر عن الشافعي؛ وقال مالك: هو على القاتل نفسه. وعمدة مالك تشبيه العبد بالعروض. وعمدة الشافعي قياسه على الحر. ومما يدخل في هذا الباب من أنواع الخطأ دية الجنين، وذلك لأن سقوط الجنين عن الضرب ليس هو عمدا محضا، وإنما هو عمد في أمه خطأ فيه. والنظر في هذا الباب هو أيضا في الواجب في ضروب الأجنة وفي صفة الجنين الذي يجب فيه الواجب، وعلى من تجب، ولمن يجب، وفي شروط الوجوب. فأما الأجنة فإنهم اتفقوا على أن الواجب في جنين الحرة وجنين الأمة من سيدها هو غرة لما ثبت عنه ﷺ من حديث أبي هريرة وغيره "أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها" فقضى فيه رسول الله ﷺ بغرة عبد أو وليدة" واتفقوا على أن قيمة الغرة الواجبة في ذلك عند من رأى أن الغرة في ذلك محدودة بالقيمة وهو مذهب الجمهور هي نصف عشر دية أمه؛ إلا أن من رأى أن الدية الكاملة على أهل الدراهم هي عشرة آلاف درهم قال: دية الجنين خمسمائة درهم؛ ومن رأى أنها اثنا عشر ألف درهم قال: ستمائة درهم؛ والذين لم يحدوا في ذلك حدا أو لم يحدوها من جهة القيمة وأجازوا إخراج قيمتها عنها قالوا: الواجب في ذلك قيمة الغرة بالغة ما بلغت؛ وقال داود وأهل الظاهر: كل ما وقع عليه اسم غرة أجزأ، ولا يجزئ عنده القيمة في ذلك فيما أحسب. واختلفوا في الواجب في جنين الأمة وفي جنين الكتابية؛ فذهب مالك والشافعي إلى أن جنين الأمة عشر قيمة أمه ذكرا كان أو أنثى يوم يجنى عليه؛ وفرق قوم بين الذكر والأنثى، فقال قوم: إن كان أنثى فيه عشر قيمة أمه، وإن كان ذكرا فعشر قيمته لو كان حيا، وبه قال أبو حنيفة، ولا خلاف عندهم أن جنين الأمة إذا سقط حيا أن فيه قيمته؛ وقال أبو يوسف: في جنين الأمة إذا سقط ميتا منها ما نقص من قيمة أمه. وأما جنين الذمية، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: فيه عشر دية أمه، لكن أبو حنيفة على أصله في أن دية الذمي دية المسلم، والشافعي على أصله في أن دية الذمي ثلث دية المسلم، ومالك على أصله في أن دية الذمي نصف دية المسلم. وأما صفة الجنين الذي تجب فيه فإنهم اتفقوا على أن من شروطه أن يخرج الجنين ميتا ولا تموت أمه من الضرب. واختلفوا إذا ماتت أمه من الضرب ثم سقط الجنين ميتا، فقال مالك والشافعي: لا شيء فيه؛ وقال أشهب: فيه الغرة، وبه قال الليث وربيعة والزهري. واختلفوا من هذا الباب في فروع، وهي العلامة التي تدل على سقوطه حيا أو ميتا. فذهب مالك وأصحابه إلى أن علامة الحياة الاستهلال بالصياح أو البكاء؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأكثر الفقهاء: كل ما علمت به الحياة في العادة من حركة أو عطاس أو تنفس فأحكامه أحكام الحي، وهو الأظهر. واختلفوا من هذا الباب في الخلقة التي توجب الغرة، فقال مالك: كل ما طرحته من مضغة أو علقة مما يعلم أنه ولد ففيه الغرة، وقال الشافعي: لا شيء فيه حتى تستبين الخلقة. والأجود أن يعتبر نفخ الروح فيه، أعني أن يكون تجب فيه الغرة إذا علم أن الحياة قد كانت وجدت فيه. وأما على من تجب؟ فإنهم اختلفوا في ذلك؛ فقالت طائفة منهم مالك والحسن بن حي والحسن البصري: هي في مال الجاني؛ وقال آخرون: هي على العاقلة، وممن قال بذلك الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجماعة. وعمدتهم أنها جناية خطأ فوجبت على العاقلة. وما روي أيضا عن جابر بن عبد الله "أن النبي ﷺ جعل في الجنين غرة على العاقلة الضارب وبدأ بزوجها وولدها". وأما مالك فشبهها بدية العمد إذا كان الضرب عمدا. وأما لمن تجب؟ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: هي لورثة الجنين، وحكمها حكم الدية في أنها موروثة؛ وقال ربيعة والليث: هي للأم خاصة، وذلك أنهم شبهوا جنينها بعضو من أعضائها، ومن الواجب الذي اختلفوا فيه في الجنين مع وجوب الغرة وجوب الكفارة، فذهب الشافعي إلى أن فيه الكفارة واجبة؛ وذهب أبو حنيفة إلى أنه ليس فيه كفارة واستحسنها مالك ولم يوجبها. فأما الشافعي فإنه أوجبها لأن الكفارة عنده واجبة في العمد والخطأ. وأما أبو حنيفة فإنه غلب عليه حكم العمد، والكفارة لا تجب عنده في العمد. وأما مالك فلما كانت الكفارة لا تجب عنده في العمد وتجب في الخطأ، وكان هذا مترددا عنده بين العمد والخطأ استحسن فيه الكفارة ولم يوجبها. ومن أنواع الخطأ المختلف فيه، اختلافهم في تضمين الراكب والسائق والقائد؛ فقال الجمهور: هم ضامنون لما أصابت الدابة، واحتجوا في ذلك بقضاء عمر على الذي أجرى فرسه فوطئ آخر بالعقل. وقال أهل الظاهر: لا ضمان على أحد في جرح العجماء، واعتمدوا الأثر الثابت فيه عنه ﷺ من حديث أبي هريرة أنه قال عليه الصلاة والسلام "جرح العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس" فحمل الجمهور الحديث على أنه لم يكن بالدابة راكب ولا سائق ولا قائد، لأنهم رأوا أنه إذا أصابت الدابة أحدا وعليها راكب أو لها قائد أو سائق، فإن الراكب لها أو السائق أو القائد هو المصيب ولكن خطأ. واختلف الجمهور فيما أصابت الدابة برجلها، فقال مالك: لا شيء فيه إن لم يفعل صاحب الدابة بالدابة شيئا يبعثها به على أن ترمح برجلها؛ وقال الشافعي: يضمن الراكب ما أصابت بيدها أو برجلها، وبه قال ابن شبرمة وابن أبي ليلى، وسويا بين الضمان برجلها أو بغير رجلها، وبه قال أبو حنيفة، إلا أنه استثنى الرمحة بالرجل أو بالذنب، وربما احتج من لم يضمن رجل الدابة بما روي عنه ﷺ "الرجل جبار" ولم يصح هذا الحديث عند الشافعي ورده. وأقاويل العلماء فيمن حفر بئرا فوقع فيه إنسان متقاربة؛ قال مالك: إن حفر في موضع جرت العادة الحفر في مثله لم يضمن وإن تعدى في الحفر ضمن؛ وقال الليث: إن حفر في أرض يملكها لم يضمن وإن حفر فيما لا يملك ضمن، فمن ضمن عنده فهو من نوع الخطأ. وكذلك اختلفوا في الدابة الموقوفة، فقال بعضهم: إن أوقفها بحيث يجب له أن يوقفها لم يضمن، وإن لم يفعل ضمن، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة: يضمن على كل حال، وليس يبرئه أن يربطها بموضع يجوز له أن يربطها فيه، كما لا يبرئه ركوبها من ضمان ما أصابته وإن كان الركوب مباحا. واختلفوا في الفارسين يصطدمان فيموت كل واحد منهما؛ فقال مالك وأبو حنيفة وجماعة: على كل واحد منهما دية الآخر وذلك على العاقلة؛ وقال الشافعي وعثمان البتي: على كل واحد منهما نصف دية صاحبه، لأن كل واحد منهما مات من فعل نفسه وفعل صاحبه. وأجمعوا على أن الطبيب إذا أخطأ لزمته الدية، مثل أن يقطع الحشفة في الختان، وما أشبه ذلك، لأنه في معنى الجاني خطأ؛ وعن مالك رواية: أنه ليس عليه شيء، وذلك عنده إذا كان من أهل الطب، ولا خلاف أنه إذا لم يكن من أهل الطب أنه يضمن لأنه متعد، وقد ورد في ذلك مع الإجماع حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ قال "من تطبب ولم يعلم منه قبل ذلك الطب فهو ضامن" والدية فيما أخطأه الطبيب عند الجمهور على العاقلة، ومن أهل العلم من جعله في مال الطبيب، ولا خلاف أنه إذا لم يكن من أهل الطب أنها في ماله على ظاهر حديث عمرو بن شعيب. ولا خلاف بينهم أن الكفارة التي نص الله عليها في قتل الحر خطأ واجبة. واختلفوا في قتل العمد هل فيه كفارة؟ وفي قتل العبد خطأ، فأوجبها مالك في قتل الحر فقط في الخطأ دون العمد وأوجبها الشافعي في العمد من طريق الأولى والأحرى؛ وعند مالك أن العمد في هذا حكمه حكم الخطأ. واختلفوا في تغليظ الدية في الشهر الحرام وفي البلد الحرام؛ فقال مالك وأبو حنيفة وابن أبي ليلى: لا تغلظ الدية فيهما؛ وقال الشافعي: تغلظ فيهما في النفس وفي الجراح. وروي عن القاسم بن محمد وابن شهاب وغيرهم أنه يزاد فيها مثل ثلثها، وروي ذلك عن عمر، وكذلك عن الشافعي من قتل ذا رحم محرم. وعمدة مالك وأبي حنيفة عموم الظاهر في توقيت الديات، فمن ادعى في ذلك تخصيصا فعليه الدليل مع أنهم قد أجمعوا على أنه لا تغلظ الكفارة فيمن قتل فيهما. وعمدة الشافعي أن ذلك مروي عن عمر وعثمان وابن عباس، وإذا روي عن الصحابة شيء مخالف للقياس وجب حمله على التوقيف، ووجه مخالفته للقياس أن التغليظ فيما وقع خطأ بعيد عن أصوال الشرع، وللفريق الثاني أن يقول إنه قد ينقدح في ذلك قياس لما ثبت في الشرع من تعظيم الحرم واختصاصه بضمان الصيود فيه.

 

2*كتاب الديات فيما دون النفس.

 

@-والأشياء التي تجب فيها الدية فيما دون النفس هي شجاج وأعضاء، فلنبدأ بالقول في الشجاج، والنظر في هذا الباب في محل الوجوب وشرطه وقدره الواجب، وعلى من تجب؟ ومتى تجب؟ ولمن تجب؟ فأما محل الوجوب فهي الشجاج أو قطع الأعضاء، والشجاج عشرة في اللغة والفقه: أولها الدامية وهي التي تدمي الجلد، ثم الخارصة وهي التي تشق الجلد، ثم الباضعة وهي التي تبضع اللحم: أي تشقه، ثم المتلاحمة وهي التي أخذت في اللحم، ثم السمحاق وهي التي تبلغ السمحاق وهو الغشاء الرقيق بين اللحم والعظم ويقال لها: الملطاء بالمد والقصر، ثم الموضحة وهي التي توضح العظم: أي تكشفه، ثم الهاشمة وهي التي تهشم العظم، ثم المنقلة وهي التي يطير العظم منها، ثم المأمومة وهي التي تصل أم الدماغ، ثم الجائفة وهي التي تصل إلى الجوف، وأسماء هذه الشجاج مختصة بما وقع بالوجه منها والرأس دون سائر البدن، واسم الجرح يختص بما وقع في البدن، فهذه أسماء هذه الشجاج. فأما أحكامها أعني الواجب فيها، فاتفق العلماء على أن العقل واقع في عمد الموضحة وما دون الموضحة خطأ. واتفقوا على أنه ليس فيما دون الموضحة خطأ عقل، وإنما فيها حكومة، قال بعضهم: أجرة الطبيب، إلا ما روي عن عمر وعثمان أنهما قضيا في السمحاق بنصف دية الموضحة، وروي عن علي أنه قضى فيها بأربع من الإبل، وروي عن زيد بن ثابت أنه قال: في الدامية بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة، وفي السمحاق أربعة، والجمهور من فقهاء الأمصار على ما ذكرنا؛ وذلك أن الأصل في الجراح الحكومة إلا ما وقتت فيه السنة حدا؛ ومالك يعتبر في إلزام الحكومة فيما دون الموضحة أن تبرأ على شين، والغير من فقهاء الأمصار يلزم فيها الحكومة برئت على شين أو لم تبرأ فهذه هي أحكام ما دون الموضحة. فأما الموضحة فجميع الفقهاء على أن فيها إذا كانت خطأ خمسا من الإبل، وثبت ذلك عن رسول الله ﷺ في كتابه لعمرو بن حزم، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال "في الموضحة خمس" يعني من الإبل. واختلف العلماء في موضع الموضحة من الجسد بعد اتفاقهم على ما قلنا، أعني على وجوب القصاص في العمد ووجوب الدية في الخطأ منها، فقال مالك: لا تكون الموضحة إلا في جهة الرأس والجبهة والخدين واللحى الأعلى، ولا تكون في اللحى الأسفل لأنه في حكم العنق ولا في الأنف؛ وأما الشافعي وأبو حنيفة فالموضحة عندهما في جميع الوجه والرأس؛ والجمهور على أنها لا تكون في الجسد وقال الليث وطائفة: تكون في الجنب؛ وقال الأوزاعي: إذا كانت في الجسد كانت من دينها في الوجه والرأس. وروي عن عمر أنه قال: في موضحة الجسد نصف عشر دية ذلك العضو. وغلظ بعض العلماء في موضحة الوجه تبرأ على شين، فرأى فيها مثل نصف عقلها زائدا على عقلها، وروى ذلك مالك عن سليمان بن يسار، واضطرب قول مالك في ذلك، فمرة قال بقول سليمان بن يسار، ومرة قال: لا يزاد فيها على عقلها شيء، وبه قال الجمهور؛ وقد قيل عن مالك إنه قال: إذا شانت الوجه كان فيها حكومة من غير توقيف، ومعنى الحكومة عند مالك ما نقص من قيمته أن لو كان عمدا. وأما الهاشمة ففيها عند الجمهور عشر الدية، وروي ذلك عن زيد بن ثابت، ولا مخالف له من الصحابة ؛وقال بعض العلماء: الهاشمة هي المنقلة وشذ. وأما المنقلة فلا خلاف أن فيها عشر الدية ونصف العشر إذا كانت خطأ، فأما إذا كانت عمدا، فجمهور العلماء على أن ليس فيها قود لمكان الخوف. وحكي عن ابن الزبير أنه أقاد منها ومن المأمومة. وأما الهاشمة في العمد. فروى ابن القاسم عن مالك أنه ليس فيها قود. ومن أجاز القود من المنقلة كان أحرى أن يجيز ذلك من الهاشمة. وأما المأمومة فلا خلاف أنه لا يقاد منها وأن فيها ثلث الدية إلا ما حكي عن ابن الزبير. وأما الجائفة فاتفقوا على أنها من جراح الجسد لا من جراح الرأس وأنها لا يقاد منها وأن فيها ثلث الدية وأنها جائفة متى وقعت في الظهر والبطن. واختلفوا إذا وقعت في غير ذلك من الأعضاء فنفذت إلى تجويفه، فحكى مالك عن سعيد بن المسيب أن في كل جراحة نافذة إلى تجويف عضو من الأعضاء - أي عضو كان - ثلث دية ذلك العضو. وحكى ابن شهاب أنه كان لا يرى ذلك وهو الذي اختاره مالك لأن القياس عنده في هذا لا يسوغ؛ وإنما سنده في ذلك الاجتهاد من غير توقيف وأما سعيد فإنه قاس ذلك على الجائفة على نحو ما روي عن عمر في موضحة الجسد. وأما الجراحات التي تقع في سائر الجسد فليس في الخطأ منها إلا الحكومة.

 

3*القول في ديات الأعضاء.

 

@-والأصل فيما فيه من الأعضاء إذا قطع خطأ مال محدود، وهو الذي يسمى دية، وكذلك من الجراحات والنفوس حديث عمرو بن حزم عن أبيه أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله ﷺ لعمرو بن حزم في العقول "إن في النفس مائة من الإبل، وفي الأنف إذا استوعب جدعا مائة من الإبل، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة مثلها وفي العين خمسون، وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون، وفي كل أصبع مما هناك عشر من الإبل، وفي السن والموضحة خمس" وكل هذا مجمع عليه إلا السن والإبهام، فإنهم اختلفوا فيها على ما سنذكره، ومنها ما اتفقوا عليه مما لم يذكر ههنا قياسا على ما نذكر فنقول: إن العلماء أجمعوا على أن في الشفتين الدية كاملة، والجمهور على أن في كل واحدة منهما نصف الدية؛ وروي عن قوم من التابعين أن في السفلى ثلثي الدية لأنها تحبس الطعام والشراب، وبالجملة فإن حركتها والمنفعة بها أعظم من حركة الشفة العليا، وهو مذهب زيد بن ثابت. وبالجملة فجماعة العلماء وأئمة الفتوي متفقون على أن في كل زوج من الإنسان الدية ما خلا الحاجبين وثديي الرجل. واختلفوا في الأذنين متى تكون فيهما الدية؟ فقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري والليث: إذا اصطلمتا كان فيهما الدية، ولم يشترطوا إذهاب السمع، بل جعلوا في ذهاب السمع الدية مفردة. وأما مالك فالمشهور عنده أنه لا تجب في الأذنين الدية إلا إذا ذهب سمعهما، فإن لم يذهب ففيه حكومة. وروي عن أبي بكر أنه قضى في الأذنين بخمس عشرة من الإبل وقال: إنهما لا يضران السمع ويسترهما الشعر أو العمامة. وروي عن عمر وعلي وزيد أنهم قضوا في الأذن إذا اصطلمت نصف الدية. وأما الجمهور من العلماء فلا خلاف عندهم أن في ذهاب السمع الدية. وأما الحاجبان ففيهما عند مالك والشافعي حكومة؛ وقال أبو حنيفة: فيهما الدية، وكذلك في أشفار العين؛ وليس عند مالك في ذلك إلا حكومة. وعمدة الحنفية ما روي عن ابن مسعود أنه قال: في كل اثنين من الإنسان الدية وتشبيههما بما أجمعوا عليه من الأعضاء المثناة. وعمدة مالك أنه لا مجال فيه للقياس وإنما طريقه التوقيف، فما لم يثبت من قبل السماع فيه دية فالأصل أن فيه حكومة، وأيضا فإن الحواجب ليست أعضاء لها منفعة ولا فعل بين، أعني ضروريا في الخلقة. وأما الأجفان فقيل في كل جفن منها ربع الدية، وبه قال الشافعي والكوفي، لأنه لا بقاء للعين دون الأجفان، وفي الجفنين الأسفلين عند غيرهما الثلث وفي الأعليين الثلثان. وأجمعوا على أن من أصيب من أطرافه أكثر من ديته أن له ذلك، مثل أن تصاب عيناه وأنفه فله ديتان. وأما الأنثيان فأجمعوا أيضا على أن فيهما الدية، وقال جميعهم: إن في كل واحدة منهما نصف الدية، إلا ما روي عن سعيد بن المسيب أنه قال: في البيضة اليسرى ثلثا الدية لأن الولد يكون منها وفي اليمنى ثلث الدية، فهذه مسائل الأعضاء المزدوجة. وأما المفردة فإن جمهورهم على أن في اللسان خطأ الدية، وذلك مروي عن النبي ﷺ، وذلك إذا قطع كله أو قطع منه ما يمنع الكلام، فإن لم يقطع منه ما منع الكلام ففيه حكومة. واختلفوا في القصاص فيه عمدا؛ فمنهم من لم ير فيه قصاصا وأوجب الدية، وهم مالك والشافعي والكوفي، لكن الشافعي يرى الدية في مال الجاني، والكوفي ومالك على العاقلة؛ وقال الليث وغيره: في اللسان عمدا القصاص. وأما الأنف فأجمعوا على أنه إذا أوعب جدعا على أن فيه الدية على ما في الحديث وسواء عند مالك ذهب الشم أو لم يذهب، وعنده أنه إذا ذهب أحدهما ففيه الدية، وفي ذهاب أحدهما بعد الآخر الدية الكاملة. وأجمعوا على أن في الذكر الصحيح الذي يكون به الوطء الدية كاملة. واختلفوا في ذكر العنين والخصي، كما اختلفوا في لسان الأخرس وفي اليد الشلاء؛ فمنهم من جعل فيها الدية؛ ومنهم من جعل فيها حكومة؛ ومنهم من قال: في ذكر الخصي والعنين ثلث الدية؛ والذي عليه الجمهور أن فيه حكومة. وأقل ما تجب فيه الدية عند مالك قطع الحشفة؛ ثم في باقي الذكر حكومة وأما عين الأعور فللعلماء فيه قولان أحدهما أن فيه الدية كاملة، وإليه ذهب مالك وجماعة من أهل المدينة، وبه قال الليث، وقضى به عمر بن عبد العزيز وهو قول ابن عمر؛ وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري: فيها نصف الدية كما في عين الصحيح وهو مروي عن جماعة من التابعين. وعمدة الفريق الأول أن العين الواحدة للأعور بمنزلة العينين جميعا لغير الأعور. وعمدة الفريق الثاني حديث عمرو ابن حزم: أعني عموم قوله "وفي العين نصف الدية، وقياسا أيضا على إجماعهم أنه ليس على من قطع يد من له يد واحدة إلا نصف الدية. فسبب اختلافهم في هذا معارضة العموم للقياس، ومعارضة القياس للقياس ومن أحسن ما قيل فيمن ضرب عين رجل فأذهب بعض بصرها ما روي من ذلك عن علي رضي الله عنه أنه أمر بالذي أصيب بصره بأن عصبت عينه الصحيحة، وأعطى رجلا بيضة فانطلق بها وهو ينظر إليها حتى لم يبصرها، فخط عند أول ذلك خطا في الأرض ثم أمر بعينه المصابة فعصبت وفتحت الصحيحة، وأعطى رجلا البيضة بعينها فانطلق بها وهو ينظر إليها حتى خفيت عنه، فخط أيضا عند أول ما خفيت عنه في الأرض خطا، ثم علم ما بين الخطين من المسافة، وعلم مقدار ذلك من منتهى رؤية العين الصحيحة، فأعطاه قدر ذلك من الدية. ويختبر صدقه في مسافة إدراك العين العليلة والصحيحة بأن يختبر ذلك منه مرارا شتى في مواضع مختلفة، فإن خرجت مسافة تلك المواضع التي ذكر واحدة علمنا أنه صادق. واختلف العلماء في الجناية على العين القائمة الشكل التي ذهب بصرها؛ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: فيها حكومة؛ وقال زيد بن ثابت: فيها عشر الدية مائة دينار؛ وحمل ذلك الشافعي على أنه كان ذلك من زيد تقويما لا تقويتا. وروي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس أنهما قضيا في العين القائمة الشكل واليد الشلاء والسن السوداء في كل واحدة منهما ثلث الدية. وقال مالك: تتم دية السن باسودادها ثم في قلعها بعد اسودادها دية. واختلف العلماء في الأعور يفقأ عين الصحيح عمدا؛ فقال الجمهور: فله القود، وإن عفا فله الدية، وقال قوم: كاملة؛ وقال قوم: نصفها، وبه قال الشافعي وابن القاسم، وبكلا القولين قال مالك، وبالدية كاملة قال المغيرة من أصحابه وابن دينار. وقال الكوفيون: ليس للصحيح الذي فقئت عينه إلا القود أو ما اصطلحوا عليه. وعمدة من رأى جميع الدية عليه إذا عفا عن القود أنه يجب عليه دية ما ترك له وهي العين العوراء، وهي دية كاملة عند كثير من أهل العلم. ومذهب عمر وعثمان وابن عمر أن عين الأعور إذا فقئت وجب فيها ألف دينار، لأنها في حقه في معنى العينين كليتهما إلا العين الواحدة، فإذا تركها له وجبت عليه ديتها. وعمدة أولئك البقاء على الأصل؛ أعني أن في العين الواحدة نصف الدية. وعمدة أبي حنيفة أن العمد ليس فيه دية محدودة، وهذه المسألة قد ذكرت في باب القود في الجراح. وقال جمهور العلماء وأئمة الفتوى: مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وغيرهم: إن في كل أصبع عشرا من الإبل وإن الأصابع في ذلك سواء وإن في كل أنملة ثلث العشر إلا ماله من الأصابع أنملتان كالإبهام؛ ففي أنملته خمس من الإبل، وعمدتهم في ذلك ما جاء في حديث عمرو بن حزم أن رسول الله ﷺ: "قال وفي كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل" وخرج عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رسول الله ﷺ قضى في الأصابع بعشر العشر" وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس وهي عندهم على أهل الورق بحسب ما يرى واحد واحد منهم في الدية من الورق، فهي عند من يرى أنها اثنا عشر ألف درهم عشرها، وعند من يرى أنها عشرة آلاف عشرها. وروي عن السلف المتقدم اختلاف في عقل الأصابع، فروي عن عمر بن الخطاب أنه قضى في الإبهام والتي تليها بعقل نصف الدية، وفي الوسطى بعشر فرائض، وفي التي تليها بتسع، وفي الخنصر بست. وروي عن مجاهد أنه قال في الإبهام خمسة عشر من الإبل، وفي التي تليها عشر، وفي الوسطى عشر، وفي التي تليها ثمان، وفي الخنصر سبع وأما الترقوة والضلع، ففيهما عند جمهور فقهاء الأمصار حكومة، وروي عن بعض السلف فيها توقيت. وروي عن مالك أن عمر بن الخطاب قضى في الضرس بجمل، والضلع بجمل، وفي الترقوة بجمل. وقال سعيد بن جبير في الترقوة بعيران. وقال قتادة: أربعة أبعرة. وعمدة فقهاء الأمصار أن ما لم يثبت فيه عن النبي ﷺ توقيت فليس فيه إلا حكومة. وجمهور فقهاء الأمصار على أن في كل سن من أسنان الفم خمسا من الإبل، وبه قال ابن عباس. وروى مالك عن عمر أنه قضى في الضرس بجمل وذلك فيما لم يكن منها في مقدم الفم. وأما التي في مقدم الفم فلا خلاف أن فيها خمسا من الإبل. وقال سعيد بن المسيب: في الأضراس بعيران. وروي عن عبد الملك بن مروان أن مروان بن الحكم اعترض في ذلك على ابن عباس فقال: أتجعل مقدم الأسنان مثل الأضراس؟ فقال ابن عباس: لو لم يعتبر ذلك إلا بالأصابع عقلها سواء، وعمدة الجمهور في مثل ذلك ما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "في السن خمس" وذلك من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، واسم السن ينطلق على التي في مقدم الفم ومؤخره، وتشبيهها أيضا بالأصابع التي استوت ديتها وإن اختلفت منافعها. وعمدة من خالف بينهما أن الشرع يوجد فيه تفاضل الديات لتفاضل الأعضاء مع أنه يشبه أن يكون من صار إلى ذلك من الصدر الأول إنما صار إليه عن توقيف، وجميع هذه الأعضاء التي تثبت الدية فيها خطأ فيها القود في قطع ما قطع وقلع ما قلع. واختلفوا في كسر ما كسر منها مثل الساق والذراع هل فيه قود أم لا؟ فذهب مالك وأصحابه إلى أن القود في كسر جميع العظام إلا الفخذ والصلب، وقال الشافعي والليث: لا قصاص في عظم من العظام يكسر، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه استثنى السن. وروي عن ابن عباس أنه لا قصاص في عظم، وكذلك عن عمر. قال أبو عمر بن عبد البر: ثبت أن النبي ﷺ أقاد في السن المكسورة من حديث أنس قال: وقد روي من حديث آخر أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقدر من العظم المقطوع في غير المفصل إلا أنه ليس بالقوي. وروي عن مالك أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أقاد من كسر الفخذ. واتفقوا على أن دية المرأة نصف دية الرجل في النفس. واختلفوا في ديات الشجاج وأعضائها؛ فقال جمهور فقهاء المدينة: تساوي المرأة الرجل في عقلها من الشجاج والأعضاء إلى أن تبلغ ثلث الدية، فإذا بلغت ثلث الدية عادت ديتها إلى النصف من دية الرجل، أعني دية أعضائها من أعضائه، مثال ذلك أن في كل أصبع من أصابعها عشرا من الإبل، وفي اثنين منها عشرون، وفي ثلاثة ثلاثون، وفي أربعة عشرون، وبه قال مالك وأصحابه والليث بن سعد، ورواه مالك عن سعيد بن المسيب وعن عروة بن الزبير، وهو قول زيد بن ثابت ومذهب عمر بن عبد العزيز؛ وقالت طائفة: بل دية جراحة المرأة مثل دية جراحة الرجل إلى الموضحة، ثم تكون ديتها على النصف من دية الرجل وهو الأشهر من قولي ابن مسعود، وهو مروي عن عثمان، وبه قال شريح وجماعة؛ وقال قوم: بل دية المرأة في جراحها وأطرافها على النصف من دية الرجل في قليل ذلك وكثيره، وهو قول علي رضي الله عنه، وروي ذلك عن ابن مسعود، إلا أن الأشهر عنه ما ذكرناه أولا، وبهذا القول قال أبو حنيفة والشافعي والثوري. وعمدة قائل هذا القول أن الأصل هو أن دية المرأة نصف دية الرجل فواجب التمسك بهذا الأصل حتى يأتي دليل من السماع الثابت، إذ القياس في الديات لا يجوز وبخاصة لكون القول بالفرق بين القليل والكثير مخالفا للقياس ولذلك قال ربيعة لسعيد ما يأتي ذكره عنه، ولا اعتماد للطائفة الأولى إلا مراسيل، وما روي عن سعيد بن المسيب حين سأله ربيعة بن أبي عبد الرحمن كم في أربع من أصابعها؟ قال عشرون، قلت حين عظم جرحها واشتدت بليتها نقص عقلها، قال: أعراقي أنت؟ قلت بل عالم متثبت أو جاهل متعلم، قال: هي السنة. وروي أيضا عن النبي عليه الصلاة والسلام من مرسل عمرو ابن شعيب عن أبيه وعكرمة. وقد رأى قوم أن قول الصحابي إذا خالف القياس وجب العمل به، لأنه يعلم أنه لم يترك القول به إلا عن توقيف، لكن في هذا ضعف إذ كان يمكن أن يترك القول به إما لأنه لا يرى القياس، وإما لأنه عارضه في ذلك قياس ثان أو قلد في ذلك غيره. فهذه حال ديات جراح الأحرار والجنايات على أعضائها الذكور منها والإناث. وأما جراح العبيد وقطع أعضائهم، فإن العلماء اختلفوا فيها على قولين: فمنهم من رأى أن في جراحهم وقطع أعضائهم ما نقص من ثمن العبد؛ ومنهم من رأى أن الواجب في ذلك من قيمته قدر ما في ذلك الجراح من ديته، فيكون في موضحته نصف عشر قيمته، وفي عينه نصف قيمته، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وهو قول عمر وعلي؛ وقال مالك: يعتبر في ذلك كله ما نقص من ثمنه إلا موضحته ومنقلته ومأمومته، ففيها من ثمنه قدر ما فيها في الحر من ديته. وعمدة الفريق الأول تشبيهه بالعروض. وعمدة الفريق الثاني تشبيهه بالحر إذ هو مسلم ومكلف ولا خلاف بينهم أن دية الخطأ من هذه إذا جاوزت الثلث على العاقلة. واختلف فيما دون ذلك، فقال مالك وفقهاء المدينة السبعة وجماعة: إن العاقلة لا تحمل من ذلك إلا الثلث فما زاد؛ وقال أبو حنيفة: تحمل من ذلك العشر فما فوقه من الدية الكاملة؛ وقال الثوري وابن شبرمة: الموضحة فما زاد على العاقلة وقال الشافعي وعثمان البتي: تحمل العاقلة القليل والكثير من دية الخطأ. وعمدة الشافعي هي أن الأصل هو أن العاقلة هي التي تحمل دية الخطأ فمن خصص من ذلك شيئا فعليه الدليل، ولا عمدة للفريق المتقدم إلا أن ذلك معمول به ومشهور، وهنا انقضى هذا الكتاب والحمد لله حق حمده. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

 

2*كتاب القسامة.

 

@-اختلف العلماء في القسامة في أربعة مواضع تجري مجرى الأصول لفروع هذا الباب: المسألة الأولى: هل يجب الحكم بالقسامة أم لا؟. الثانية؛ إذا قلنا بوجوبها هل يجب بها الدم أو الفدية أو دفع مجرد الدعوى. المسألة الثالثة: هل يبدأ بالأيمان فيها المدعون أو المدعى عليهم، وكم عدد الحالفين من الأولياء؟ المسألة الرابعة: فيما يعد لوثا يجب به أن يبدأ المدعون بالأيمان. @-(المسألة الأولى) أما وجوب الحكم بها على الجملة فقال به جمهور فقهاء الأمصار: مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وسفيان وداود وأصحابهم وغير ذلك من فقهاء الأمصار؛ وقالت طائفة من العلماء سالم بن عبد الله وأبو قلابة وعمر بن عبد العزيز وابن علية: لا يجوز الحكم بها. عمدة الجمهور ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث حويصة ومحيصة وهو حديث متفق على صحته من أهل الحديث، إلا أنهم مختلفون في ألفاظه على ما سيأتي بعد. وعمدة الفريق النافي لوجوب الحكم بها أن القسامة مخالفة لأصول الشرع المجمع على صحتها: فمنها أن الأصل في الشرع أن لا يحلف أحد إلا على ما علم قطعا أو شاهد حسا، وإذا كان ذلك كذلك، فكيف يقسم أولياء الدم وهم لم يشاهدوا القتل بل قد يكونون في بلد والقتل في بلد آخر، ولذلك روى البخاري عن أبي قلابة أن عمر بن عبد العزيز أبرز سريره يوما للناس ثم أذن لهم فدخلوا عليه فقال: ما تقولون في القسامة؟ فأضب القوم وقالوا: نقول أن القسامة القود بها حق قد أقاد بها الخلفاء، وقال ما تقول يا أبا قلابة ونصبني للناس، فقلت: يا أمير المؤمنين عندك أشراف العرب ورؤساء الأجناد، أرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا على رجل أنه زنى بدمشق ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا قلت: أفرأيت لو أن خمسين رجلا شهدوا عندك على رجل أنه سرق بحمص ولم يروه أكنت تقطعه؟ قال: لا. وفي بعض الروايات: قلت: فما بالهم إذا شهدوا أنه قتله بأرض كذا وهم عندك أقدت بشهادتهم؟ قال: فكتب عمر بن عبد العزيز في القسامة: إنهم إن أقاموا شاهدي عدل أن فلانا قتله فأقده، ولا يقتل بشهادة الخمسين الذين أقسموا. قالوا: ومنها أن من الأصول أن الأيمان ليس لها تأثير في إشاطة الدماء. ومنها أن من الأصول "أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر" ومن حجتهم أنهم لم يروا في تلك الأحاديث أن رسول الله ﷺ حكم بالقسامة وإنما كانت حكما جاهليا فتلطف لهم رسول الله ﷺ ليريهم كيف لا يلزم الحكم بها على أصول الإسلام، ولذلك قال لهم: أتحلفون خمسين يمينا: أعني لولاة الدم وهم الأنصار؟ قالوا: كيف نحلف ولم نشاهد؟ قال: فيحلف لكم اليهود، قالوا: كيف نقبل أيمان قوم كفار؟ قالوا: فلو كانت السنة أن يحلفوا وإن لم يشهدوا لقال لهم رسول الله ﷺ هي السنة. قال: وإذا كانت هذه الآثار غير نص في القضاء بالقسامة والتأويل يتطرق إليها فصرفها بالتأويل إلى الأصول أولى. وأما القائلون بها وبخاصة مالك فرأى أن سنة القسامة سنة منفردة بنفسها مخصصة للأصول كسائر السنن المخصصة، وزعم أن العلة في ذلك حوطة الدماء، وذلك أن القتل لما كان يكثر وكان يقل قيام الشهادة عليه لكون القاتل إنما يتحرى بالقتل مواضع الخلوات جعلت هذه السنة حفظا للدماء، لكن هذه العلة تدخل عليه في قطاع الطريق والسراق، ذلك أن السارق تعسر الشهادة عليه، وكذلك قاطع الطريق، فلهذا أجاز مالك شهادة المسلوبين على السالبين مع مخالفة ذلك للأصول، وذلك أن المسلوبين مدعون على سلبهم والله أعلم. @-(المسألة الثانية) اختلف العلماء القائلون بالقسامة فيما يجب بها، فقال مالك وأحمد يستحق بها الدم في العمد والدية في الخطأ؛ وقال الشافعي والثوري وجماعة: تستحق بها الدية فقط؛ وقال بعض الكوفيين: لا يستحق بها إلا دفع الدعوى على الأصل في أن اليمين إنما تجب على المدعى عليه؛ وقال بعضهم: بل يحلف المدعى عليه ويغرم الدية، فعلى هذا إنما يستحق منها دفع القود فقط، فيكون فيها يستحق المقسمون أربعة أقوال. فعمدة مالك ومن قال بقوله ما رواه من حديث ابن أبي ليلى عن سهل بن أبي حثمة وفيه فقال لهم رسول الله ﷺ "تحلفون وتستحقون دم صاحبكم" وكذلك ما رواه من مرسل بشير بن بشار وفيه: فقال رسول الله ﷺ "أتحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم أو قاتلكم". وأما عمدة من أوجب بها الدية فقط، فهو أن الأيمان يوجد لها تأثير في استحقاق الأموال أعني في الشرع مثل ما ثبت من الحكم في الأموال باليمين والشاهد، ومثل ما يجب المال بنكول المدعى عليه أو بالنكول وقلبها على المدعي عند من يقول بقلب اليمين مع النكول مع أن حديث مالك عن ابن أبي ليلى ضعيف لأنه رجل مجهول لم يروا عنه غير مالك. وقيل فيه أيضا أنه لم يسمع من سهل. وحديث بشير ابن بشار قد اختلف في إسناده، فأرسله مالك وأسنده غيره. قال القاضي: يشبه أن تكون هذه العلة هي السبب في أن لم يخرج البخاري هذيين الحديثين، واعتضد عندهم القياس في ذلك بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا قود بالقسامة، ولكن يستحق بها الدية. وأما الذين قالوا إنما يستحق بها دفع الدعوى فقط، فعمدتهم أن الأصل هو أن الأيمان على المدعى عليه، والأحاديث التي نذكرها فيما بعد إن شاء الله. @-(المسألة الثالثة) واختلف القائلون بالقسامة، أعني الذين قالوا إنها يستوجب بها مال أو دم فيمن يبدأ بالأيمان الخمسين على ما ورد في الآثار؛ فقال الشافعي وأحمد وداود بن علي وغيرهم: يبدأ المدعون؛ وقال فقهاء الكوفة والبصرة وكثير من أهل المدينة: بل يبدأ المدعى عليهم بالأيمان وعمدة من بدأ بالمدعين حديث مالك عن ابن أبي ليلى عن سهل بن أبي حثمة ومرسله عن بشير بن يسار. وعمدة من رأى التبدئة بالمدعى عليهم ما خرجه البخاري عن سعيد بن عبيد الطائي عن بشير بن يسار أن رجلا من الأنصار يقال له سهل بن حثمة وفيه "فقال رسول الله ﷺ: تأتون بالبينة على من قتله" قالوا: ما لنا بينة، قال: فيحلفون لكم، قالوا: ما نرضى بأيمان يهود، وكره رسول الله ﷺ أن يبطل دمه، فواداه بمائة بعير من إبل الصدقة" قال القاضي: وهذا نص في أنه لا يستوجب بالأيمان الخمسين إلا دفع الدعوى فقط. واحتجوا أيضا بما خرجه أبو داود أيضا عن أبي سلمة بن أبي عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجال من كبراء الأنصار "أن رسول الله ﷺ قال ليهود وبدأ بهم: أيحلف منكم خمسون رجلا خمسين يمينا؟ فأبوا، فقال للأنصار: احلفوا، فقالوا: أنحلف على الغيب يا رسول الله؟ فجعلها رسول الله ﷺ دية على يهود" لأنه وجد بين أظهرهم، وبهذا تمسك من جعل اليمين في حق المدعى عليه وألزمهم الغرم مع ذلك، وهو حديث صحيح الإسناد، لأنه رواه الثقات عن الزهري عن أبي سلمة، وروى الكوفيون ذلك عن عمر، أعني أنه قضى على المدعى عليهم باليمين والدية. وخرج مثله أيضا من تبدئة اليهود بالأيمان عن رافع بن خديج، واحتج هؤلاء القوم على مالك بما روي عن ابن شهاب الزهري عن سليمان بن يسار وعراك بن مالك أن عمر بن الخطاب قال للجهني الذي ادعى دم وليه على رجل من بني سعد وكان أجرى فرسه فوطئ على أصبع الجهني فترى فيها فمات، فقال عمر للذي ادعى عليهم: أتحلفون بالله خمسين يمينا ما مات منها؟ فأبوا أن يحلفوا وتحرجوا، فقال للمدعين: احلفوا، فأبوا فقضى عليهم بشطر الدية. قالوا: وأحاديثنا هذه أولى من التي روي فيها تبدئة المدعين بالأيمان، لأن الأصل شاهد لأحاديثنا من أن اليمين على المدعى عليه. قال أبو عمر: والأحاديث المتعارضة في ذلك مشهورة. @-(المسألة الرابعة) وهي موجب القسامة عند القائلين بها، أجمع جمهور العلماء القائلون بها أنها لا تجب إلا بشبهة. واختلفوا في الشبهة ما هي؟ فقال الشافعي: إذا كانت الشبهة في معنى الشبهة التي قضى بها رسول الله ﷺ بالقسامة وهو أن يوجد قتيل في محلة قوم لا يخالطهم غيرهم، وبين أولئك القوم، وبين قوم المقتول عداوة كما كانت العداوة بين الأنصار واليهود، وكانت خيبر دار اليهود مختصة بهم، ووجد فيها القتيل من الأنصار، قال: وكذلك لو وجد في ناحية قتيل وإلى جانبه رجل مختضب بالدم، وكذلك لو دخل على نفر في بيت فوجد بينهم قتيلا وما أشبه هذه الشبه مما يغلب على ظن الحكام أن المدعي محق لقيام تلك الشبهة؛ وقال مالك بنحو من هذا، أعني إن القسامة لا تجب إلا بلوث والشاهد الواحد عنده إذا كان عدلا لوث باتفاق عند أصحابه، واختلفوا إذا لم يكن عدلا. وكذلك وافق الشافعي في قرينة الحال المخيلة مثل أن يوجد قتيل متشحطا بدمه وبقربه إنسان بيده حديدة مدماة، إلا أن مالكا يرى أن وجود القتيل في المحلة ليس لوثا، وإن كانت هنالك عداوة بين القوم الذين منهم القتيل وبين أهل المحلة، وإذا كان ذلك كذلك لم يبق ههنا شيء يجب أن يكون أصلا لاشتراط اللوث في وجوبها، ولذلك لم يقل بها قوم؛ وقال أبو حنيفة وصاحباه: إذا وجد قتيل في محلة قوم وبه أثر وجبت القسامة على أهل المحلة؛ ومن أهل العلم من أوجب القسامة بنفس وجود القتيل في المحلة دون سائر الشرائط التي اشترط الشافعي، ودون وجود الأثر بالقتيل الذي اشترطه أبو حنيفة، وهو مروي عن عمر وعلي وابن مسعود، وقال به الزهري وجماعة من التابعين وهو مذهب ابن حزم قال: القسامة تجب متى وجد قتيل لا يعرف من قتله أينما وجد، فادعى ولاة الدم على رجل وحلف منهم خمسون رجلا خمسين يمينا، فإن هم حلفوا على العمد فالقود وإن حلفوا على الخطأ فالدية، وليس يحلف عنده أقل من خمسين رجلا، وعند مالك رجلان فصاعدا من أولئك. وقال داود: لا أقضي بالقسامة إلا في مثل السبب الذي قضى به رسول الله ﷺ. وانفرد مالك والليث من بين فقهاء الأمصار القائلين بالقسامة، فجعلا قول المقتول فلان قتلني لوثا يوجب القسامة، وكل قال بما غلب على ظنه أنه شبهة يوجب القسامة ولمكان الشبهة رأى تبدئة المدعين بالأيمان من رأى ذلك منهم، فإن الشبه عند مالك تنقل اليمين من المدعى عليه إلى المدعي، إذ سبب تعليق الشرع عنده اليمين بالمدعى عليه، إنما هو لقوة شبهته فيما ينفيه عن نفسه، وكأنه شبه ذلك اليمين مع الشاهد في الأموال. وأما القول بأن نفس الدعوى شبهة فضعيف ومفارق للأصول والنص لقوله عليه الصلاة والسلام "لو يعطى الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه" وهو حديث ثابت من حديث ابن عباس، وخرجه مسلم في صحيحه، وما احتجت به المالكية من قصة بقرة بني إسرائيل فضعيف، لأن التصديق هنالك أسند إلى الفعل الخارق للعادة. واختلف الذين أوجبوا القود بالقسامة هل يقتل بها أكثر من واحد؟ فقال مالك: لا تكون القسامة إلا على واحد، وبه قال أحمد بن حنبل؛ وقال أشهب: يقسم على الجماعة ويقتل منها واحد يعينه الأولياء، وهو ضعيف؛ وقال المغيرة المخزومي: كل من أقسم عليه قتل؛ وقال مالك والليث: إذا شهد اثنان عدلان أن إنسانا ضرب آخر وبقي المضروب أياما بعد الضرب ثم مات أقسم أولياء المضروب إنه مات من ذلك الضرب وقيد به، وهذا كله ضعيف. واختلفوا في القسامة في العبد، فبعض أثبتها، وبه قال أبو حنيفة تشبيها بالحر، وبعض نفاها تشبيها بالبهيمة، وبها قال مالك، والدية عندهم فيها في مال القاتل، ولا يحلف فيها أقل من خمسين رجلا خمسين يمينا عند مالك، ولا يحلف عنده أقل من اثنين في الدم ويحلف الواحد في الخطأ، وإن نكل عنده أحد من ولاة الدم بطل القود وصحت الدية في حق من لم ينكل، أعني حظه منها. وقال الزهري: إن نكل منهم أحد بطلت الدية في حق الجميع، وفروع هذا الباب كثيرة. قال القاضي: والقول في القسامة هو داخل فيما ثبتت به الدماء، وهو في الحقيقة جزء من كتاب الأقضية، ولكن ذكرناه هنا على عادتهم، وذلك أنه إذا ورد قضاء خاص بجنس من أجناس الأمور الشرعية رأوا أن الأولى أن يذكر في ذلك الجنس. وأما القضاء الذي يعم أكثر من واحد من أجناس الأشياء التي يقع فيها القضاء فيذكر في كتاب الأقضية، وقد تجدهم يفعلون الأمرين جميعا كما فعل مالك في الموطأ، فإنه ساق فيه الأقضية من كل كتاب. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما).

 

2*كتاب في أحكام الزنى

 

@-والنظر في أصول هذا الكتاب في حد الزنا، وفي أصناف الزناة، وفي العقوبات لكل صنف صنف منهم، وفيما تثبت به هذه الفاحشة.

 

3*الباب الأول في حد الزنى.

 

@-فأما الزنى فهو كل وطء وقع على غير نكاح ولا شبهة نكاح ولا ملك يمين، وهذا متفق عليه بالجملة من علماء الإسلام، وإن كانوا اختلفوا فيما هو شبهة تدرأ الحدود مما ليس بشبهة دارئة، وفي ذلك مسائل نذكر منها أشهرها، فمنها الأمة يقع عليها الرجل وله فيها شرك، فقال مالك: يدرأ عنه الحد وإن ولدت ألحق الولد به وقومت عليه، وبه قال أبو حنيفة وقال بعضهم يعزر؛ وقال أبو ثور: عليه الحد كاملا إذا علم الحرمة. وحجة الجماعة قوله عليه الصلاة والسلام "ادرءوا الحدود بالشبهات" والذين درءوا الحدود اختلفوا هل يلزمه من صداق المثل بقدر نصيبه أم لا يلزم. وسبب الخلاف: هل ذلك الذي يغلب منها حكمه على الجزء الذي لا يملك أم حكم الذي لا يملك يغلب على حكم الذي يملك؟ فإن حكم ما ملك الحلية، وحكم ما لم يملك الحرمية. ومنها اختلافهم في الرجل المجاهد يطأ جارية من المغنم، فقال قوم: عليه الحد؛ ودرأ قوم عنه الحد وهو أشبه. والسبب في هذه وفي التي قبلها واحد، والله أعلم. ومنها أن يحل رجل لرجل وطء خادمه، فقال مالك: يدرأ عنه الحد؛ وقال غيره: يعزر؛ وقال بعض الناس: بل هي هبة مقبوضة والرقبة تابعة للفرج. ومنها الرجل يقع على جارية ابنه أو ابنته، فقال الجمهور: لا حد عليه لقوله عليه الصلاة والسلام لرجل خاطبه: "أنت ومالك لأبيك" ولقوله عليه الصلاة والسلام "لا يقاد الوالد بالولد" ولإجماعهم على أنه لا يقطع فيما سرق من مال ولده، ولذلك قالوا: تقوم عليه حملت أم لم تحمل لأنها قد حرمت على ابنه فكأنه استهلكها. ومن الحجة لهم أيضا إجماعهم على أن الأب لو قتل ابن ابنه لم يكن للابن أن يقتص من أبيه، وكذلك كل من كان الابن له وليا. ومنها الرجل يطأ جارية زوجته، اختلف العلماء فيه على أربعة أقوال، فقال مالك والجمهور: عليه الحد كاملا؛ وقالت طائفة ليس عليه الحد وتقوم عليه فيغرمها لزوجته إن كانت طاوعته، وإن كانت استكرهها قومت عليه وهي حرة، وبه قال أحمد وإسحاق، وهو قول ابن مسعود، والأول قول عمر، ورواه مالك في الموطأ عنه. وقال قوم: عليه مائة جلدة فقط سواء كان محصنا أم ثيبا: وقال قوم: عليه التعزير. فعمدة من أوجب عليه الحد أنه وطئ دون ملك تام ولا شركة ملك ولا نكاح فوجب الحد. وعمدة من درأ الحد ما ثبت أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قضى في رجل وطئ جارية امرأته أنه إن كان استكرهها فهي حرة وعليه مثلها لسيدتها، وإن كانت طاوعته فهي له، وعليه لسيدتها مثلها، وأيضا فإن له شبهة في مالها بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: تنكح المرأة لثلاث، فذكر مالها" ويقوى هذا المعنى على أصل من يرى أن المرأة محجور عليها من زوجها فيما فوق الثلث، أو في الثلث فما فوقه، وهو مذهب مالك. ومنها ما يراه أبو حنيفة من درء الحد عن واطئ المستأجرة، والجمهور على خلاف ذلك، وقوله في ذلك ضعيف ومرغوب عنه، وكأنه رأى أن هذه المنفعة أشبهت سائر المنافع التي استأجرها عليها، فدخلت الشبهة وأشبه نكاح المتعة. ومنها درء الحد عمن امتنع اختلف فيه أيضا. وبالجملة فالأنكحة الفاسدة داخلة في هذا الباب، وأكثرها عند مالك تدرأ بالحد إلا ما انعقد منها على شخص مؤبد التحريم بالقرابة مثل الأم وما أشبه ذلك، مما لا يعذر فيه بالجهل.

 

3*الباب الثاني في أصناف الزناة وعقوباتهم.

 

@-والزناة الذين تختلف العقوبة باختلافهم أربعة أصناف: محصنون ثيب وأبكار وأحرار وعبيد وذكور وإناث. والحدود الإسلامية ثلاثة: رجم، وجلد، وتغريب. فأما الثيب الأحرار المحصنون، فإن المسلمين أجمعوا على أن حدهم الرجم إلا فرقة من أهل الأهواء فإنهم رأوا أن حد كل زان الجلد، وإنما صار الجمهور للرجم لثبوت أحاديث الرجم، فخصصوا الكتاب بالسنة أعني قوله تعالى {الزانية والزاني} الآية. واختلفوا في موضعين: أحدهما هل يجلدون مع الرجم أم لا؟ والموضع الثاني في شروط الإحصان. @-(أما المسألة الأولى) فإن العلماء اختلفوا هل يجلد من وجب عليه الرجم قبل الرجم أم لا؟ فقال الجمهور: لا جلد على من وجب عليه الرجم؛ وقال الحسن البصري وإسحاق وأحمد وداود: الزاني المحصن يجلد ثم يرجم. عمدة الجمهور "أن رسول الله ﷺ رجم ماعزا، ورجم امرأة من جهينة، ورجم يهوديين وامرأة من عامر من الأزد، كل ذلك مخرج في الصحاح ولم يروا أنه جلد واحدا منهم. ومن جهة المعنى أن الحد الأصغر ينطوي في الحد الأكبر، وذلك أن الحد إنما وضع للزجر فلا تأثير للزجر بالضرب مع الرجم. وعمدة الفريق الثاني عموم قوله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} فلم يخص محصن من غير محصن. واحتجوا أيضا بحديث علي رضي الله عنه، خرجه مسلم وغيره أن عليا رضي الله عنه جلد شراحة الهمذاني يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسوله. وحديث عبادة بن الصامت، وفيه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم بالحجارة" وأما الإحصان فإنهم اتفقوا على أنه من شرط الرجم. واختلفوا في شروطه فقال مالك: البلوغ والإسلام والحرية والوطء في عقد صحيح، وحالة جائز فيها الوطء، والوطء المحظور عنده هو الوطء في الحيض أو في الصيام، فإذا زنى بعد الوطء الذي بهذه الصفة وهو بهذه الصفات فحده عنده الرجم، ووافق أبو حنيفة مالكا في هذه الشروط إلا في الوطء المحظور؛ واشترط في الحرية أن تكون من الطرفين، أعني أن يكون الزاني والزانية حرين، ولم يشترط الإسلام الشافعي. وعمدة الشافعي ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر، وهو حديث متفق عليه "أن النبي ﷺ رجم اليهودية واليهودي اللذين زنيا" إذ رفع إليه أمرهما اليهود، والله تعالى يقول {وإن حكمت فاحكم بينهما بالقسط} . وعمدة مالك من طريق المعنى أن الإحصان عنده فضيلة ولا فضيلة مع عدم الإسلام، وهذا مبناه على أن الوطء في نكاح صحيح هو مندوب إليه، فهذا هو حكم الثيب. وأما الأبكار فإن المسلمين أجمعوا على أن حد البكر في الزنى الجلد مائة لقوله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} واختلفوا في التغريب مع الجلد؛ فقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تغريب أصلا؛ وقال الشافعي: لا بد من التغريب مع الجلد لكل زان ذكرا كان أو أنثى، حرا كان أو عبدا؛ وقال مالك: يغرب الرجل ولا تغرب المرأة، وبه قال الأوزاعي؛ ولا تغريب عند مالك على العبيد. فعمدة من أوجب التغريب على الإطلاق حديث عبادة بن الصامت المتقدم وفيه "البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام" وكذلك ما خرج أهل الصحاح عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنهما قالا "إن رجلا من الأعراب أتى النبي عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله، فقال الخصم وهو أفقه منه: نعم اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم، فقال له النبي ﷺ: قل، قال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديته بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: أما الوليدة والغنم فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها أنيس فاعترفت، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بها فرجمت". ومن خصص المرأة من هذا العموم فإنما خصصه بالقياس، لأنه رأى أن المرأة تعرض بالغربة لأكثر من الزنى، وهذا من القياس المرسل، أعني المصلحي الذي كثيرا ما يقول به مالك. وأما عمدة الحنفية فظاهر الكتاب، وهو مبني على رأيهم أن الزيادة على النص نسخ وأنه ليس ينسخ الكتاب بأخبار الآحاد. ورووا عن عمر وغيره أنه حد ولم يغرب. وروى الكوفيون عن أبي بكر وعمر أنهم غربوا. وأما حكم العبيد في هذه الفاحشة، فإن العبيد صنفان: ذكور، وإناث أما الإناث فإن العلماء أجمعوا على أن الأمة إذا تزوجت وزنت أن حدها خمسون جلدة لقوله تعالى {فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} واختلفوا إذا لم تتزوج، فقال جمهور فقهاء الأمصار: حدها خمسون جلدة؛ وقالت طائفة: لا حد عليها، وإنما عليها تعزير فقط، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب؛ وقال قوم: لاحد على الأمة أصلا، والسبب في اختلافهم الاشتراك الذي في اسم الإحصان في قوله تعالى {فإذا أحصن} فمن فهم من الإحصان التزوج وقال بدليل الخطاب قال: لا تجلد غير المتزوجة؛ ومن فهم من الإحصان الإسلام جعله عاما في المتزوجة وغيرها. واحتج من لم ير على غير المتزوجة حدا بحديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، فقال: "إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير". وأما الذكر من العبيد، ففقهاء الأمصار على أن حد العبد نصف حد الحر قياسا على الأمة؛ وقال أهل الظاهر: بل حده مائة جلدة مصيرا إلى عموم قوله تعالى {فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} ولم يخصص حرا من عبد. ومن الناس من درأ عنه قياسا على الأمة وهو شاذ. وروي عن ابن عباس. فهذا هو القول في أصناف الحدود وأصناف المحدودين والشرائط الموجبة للحد في واحد واحد منهم، ويتعلق بهذا القول في كيفية الحدود، وفي وقتها. فأما كيفيتها فمن مشهور المسائل الواقعة في هذا الجنس اختلافهم في الحفر للمرجوم، فقالت طائفة: يحفر له، وروي ذلك عن علي في شراحة الهمدانية حين أمر برجمها، وبه قال أبو ثور، وفيه "فلما كان يوم الجمعة أخرجها فحفر لها حفيرة فأدخلت فيها وأحدق الناس بها يرمونها، فقال: ليس هكذا الرجم إني أخاف أن يصيب بعضكم بعضا، ولكن صفوا كما تصفون في الصلاة، ثم قال: الرجم رجمان: رجم سر ورجم علانية، فما كان منه إقرار فأول من يرجم الإمام ثم الناس؛ وما كان ببينة فأول من يرجم البينة ثم الإمام ثم الناس. وقال مالك وأبو حنيفة: لا يحفر للمرجوم، وخير في ذلك الشافعي؛ وقيل عنه: يحفر للمرأة فقط. وعمدتهم ما خرج البخاري ومسلم من حديث جابر، قال جابر: فرجمناه بالمصلى، فلما أذْلَقَتْهُ الحجارة فر، فأدركناه بالحرة فرضخناه. وقد روى مسلم أنه حفر له في اليوم الرابع حفر. وبالجملة فالأحاديث في ذلك مختلفة. قال أحمد: أكثر الأحاديث على أن لا حفر؛ وقال مالك: يضرب في الحدود الظهر وما يقاربه؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: يضرب سائر الأعضاء ويتقى الفرج والوجه؛ وزاد أبو حنيفة الرأس؛ ويجرد الرجل عند مالك في ضرب الحدود كلها، وعند الشافعي وأبي حنيفة ما عدا القذف على ما سيأتي بعد؛ ويضرب عند الجمهور قاعدا ولا يقام قائما لمن قال: إنه يقام لظاهر الآية، ويستحب عند الجميع أن يحضر الإمام عند إقامة الحدود طائفة من الناس لقوله تعالى {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} . واختلفوا فيما يدل عليه اسم الطائفة، فقال مالك: أربعة، وقيل ثلاثة، وقيل اثنان، وقيل سبعة، وقيل ما فوقها. أما الوقت، فإن الجمهور على أنه لا يقام في الحر الشديد ولا في البرد، ولا يقام على المريض؛ وقال قوم: يقام، وبه قال أحمد وإسحاق، واحتجا بحديث عمر أنه أقام الحد على قدامة وهو مريض. وسبب الخلاف معارضة أهل الظواهر للمفهوم من الحد، وهو أن يقام حيث لا يغلب على ظن المقيم له فوات نفس المحدود؛ فمن نظر إلى الأمر بإقامة الحدود مطلقا من غير استثناء قال: يحد المريض؛ ومن نظر إلى المفهوم من الحد قال: لا يحد المريض حتى يبرأ، وكذلك الأمر في شدة الحر والبرد.

 

3*الباب الثالث وهو معرفة ما تثبت به هذه الفاحشة.

 

@-وأجمع العلماء على أن الزنى يثبت بالإقرار وبالشهادة. واختلفوا في ثبوته بظهور الحمل في النساء الغير المتزوجات إذا ادعين الاستكراه. وكذلك اختلفوا في شروط الإقرار وشروط الشهادة. فأما الإقرار فإنهم اختلفوا فيه في موضعين: أحدهما عدد مرات الإقرار الذي يلزم به الحد. والموضع الثاني هل من شرطه أن لا يرجع عن الإقرار حتى يقام عليه الحد؟ أما عدد الإقرار الذي يجب به الحد، فإن مالكا والشافعي يقولان: يكفي في وجوب الحد عليه اعترافه به مرة واحدة، وبه قال أبو داود وأبو ثور والطبري وجماعة؛ وقال أبو حنيفة وأصحابه وابن أبي ليلى: لا يجب الحد إلا بأقارير أربعة مرة بعد مرة، وبه قال أحمد وإسحاق، وزاد أبو حنيفة وأصحابه: في مجالس متفرقة. وعمدة مالك والشافعي ما جاء في حديث أبي هريرة وزيد بن خالد من قوله عليه الصلاة والسلام "اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها" ولم يذكر عددا. وعمدة الكوفيين ما ورد من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام "أنه رد ماعزا حتى أقر أربع مرات ثم أمر برجمه" وفي غيره من الأحاديث قالوا: وما ورد في بعض الروايات أنه أقر مرة ومرتين وثلاثا تقصير، ومن قصر فليس بحجة على من حفظ. @-(وأما المسلة الثانية) وهي من اعترف بالزنى ثم رجع، فقال جمهور العلماء يقبل رجوعه، إلا ابن أبي ليلى وعثمان البتي؛ وفصل مالك فقال: إن رجع إلى شبهة قبل رجوعه. وأما إن رجع إلى غير شبهة فعنه في ذلك روايتان: إحداهما يقبل وهي الرواية المشهورة. والثانية لا يقبل رجوعه، وإنما صار الجمهور إلى تأثير الرجوع في الإقرار لما ثبت من تقريره ﷺ ماعزا وغيره مرة بعد مرة لعله يرجع، ولذلك لا يجب على من أوجب سقوط الحد بالرجوع أن يكون التمادي على الإقرار شرطا من شروط الحد. وقد روي من طريق "أن ماعزا لما رجم ومسته الحجارة هرب فاتبعوه، فقال لهم: ردوني إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقتلوه رجما وذكروا ذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه" ومن هنا تعلق الشافعي بأن التوبة تسقط الحدود، والجمهور على خلافه، وعلى هذا يكون عدم التوبة شرطا ثالثا في وجوب الحد. وأما ثبوت الزنى بالشهود فإن العلماء اتفقوا على أنه يثبت الزنى بالشهود، وأن العدد المشترط في الشهود أربعة بخلاف سائر الحقوق لقوله تعالى {ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} وأن من صفتهم أن يكونوا عدولا، وأن من شرط هذه الشهادة أن تكون بمعاينة فرجه في فرجها، وأنها تكون بالتصريح لا بالكناية، وجمهورهم على أن من شرط هذه الشهادة أن لا تختلف لا في زمان ولا في مكان إلا ما حكي عن أبي حنيفة من مسألة الزوايا المشهورة، وهو أن يشهد كل واحد من الأربعة أنه رآها في ركن من البيت يطؤها غير الركن الذي رآه فيه الآخر. وسبب الخلاف هل تلفق الشهادة المختلفة بالمكان أم لا تلفق كالشهادة المختلفة بالزمان؟ فإنهم أجمعوا على أنها لا تلفق، والمكان أشبه شيء بالزمان. والظاهر من الشرع قصده إلى التوثق في ثبوت هذا الحد أكثر منه في سائر الحدود. وأما اختلافهم في إقامة الحدود بظهور الحمل مع دعوى الاستكراه، فإن طائفة أوجبت فيه الحد على ما ذكره مالك في الموطأ من حديث عمر، وبه قال مالك، إلا أن تكون جاءت بأمارة على استكراهها، مثل أن تكون بكرا فتأتي وهي تدمى، أو تفضح نفسها بأثر الاستكراه، وكذلك عنده الأمر إذا ادعت الزوجية إلا أن تقيم البينة على ذلك، ما عدا الطارئة، فإن ابن القاسم قال: إذا ادعت الزوجية وكانت طارئة قبل قولها؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يقام عليها الحد بظهور الحمل مع دعوى الاستكراه وكذلك مع دعوى الزوجية، وإن لم تأت في دعوى الاستكراه بأمارة، ولا في دعوى الزوجية ببينة لأنها بمنزلة من أقر ثم ادعى الاستكراه. ومن الحجة لهم ما جاء في حديث شراحة أن عليا رضي الله عنه قال لها: استكرهت؟ قالت: لا. قال: فلعل رجلا أتاك في نومك. قالوا: وروى الأثبات عن عمر أنه قبل قول امرأة دعت أنها ثقيلة النوم وإن رجلا طرقها فمضى عنها ولم تدر من هو بعد. ولا خلاف بين أهل الإسلام أن المستكرهة لا حد عليها، وإنما اختلفوا في وجوب الصداق لها. وسبب الخلاف هل الصداق عوض عن البضع أو هو نحلة؟ فمن قال عوض عن البضع أوجبه في البضع في الحلية والحرمية؛ ومن قال إنه نحلة خص الله به الأزواج لم يوجبه. وهذا الأصل كاف في هذا الكتاب، والله الموفق للصواب. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

 

2*كتاب القذف.

 

@-والنظر في هذا الكتاب: في القذف، والقاذف، والمقذوف، وفي العقوبة الواجبة فيه، وبماذا تثبت. والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء} الآية. فأما القاذف فإنهم اتفقوا على أن من شرطه وصفين: وهما البلوغ والعقل، وسواء كان ذكرا أو أنثى، حرا أو عبدا، مسلما أو غير مسلم. وأما المقذوف فاتفقوا على أن من شرطه أن يجتمع فيه خمسة أوصاف وهي البلوغ والحرية والعفاف والإسلام، وأن يكون معه آلة الزنى، فإن انخرم من هذه الأوصاف وصف لم يجب الحد، والجمهور بالجملة على اشتراط الحرية في المقذوف، ويحتمل أن يدخل في ذلك خلاف، ومالك يعتبر في سن المرأة أن تطيق الوطء. وأما القذف الذي يجب به الحد، فاتفقوا على وجهين: أحدهما أن يرمي القاذف المقذوف بالزنى، والثاني أن ينفيه عن نسبه إذا كانت أمه حرة مسلمة. واختلفوا إن كانت كافرة أو أمة، فقال مالك: سواء كانت حرة أو أمة أو مسلمة أو كافرة يجب الحد. وقال إبراهيم النخعي: لا حد عليه إذا كانت أم المقذوف أمة أو كتابية، وهو قياس قول الشافعي وأبي حنيفة. واتفقوا أن القذف إذا كان بهذين المعنيين أنه إذا كان بلفظ صريح وجب الحد، واختلفوا إن كان بتعريض، فقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى: لا حد في التعريض، إلا أن أبا حنيفة والشافعي يريان فيه التعزير، وممن قال بقولهم من الصحابة ابن مسعود؛ وقال مالك وأصحابه: في التعريض الحد، وهي مسألة وقعت في زمان عمر، فشاور عمر فيها الصحابة، فاختلفوا فيها عليه، فرأى عمر فيها الحد. وعمدة مالك أن الكناية قد تقوم بعرف العادة، والاستعمال مقام النص الصريح، وإن كان اللفظ فيها مستعملا في غير موضعه أعني مقولا بالاستعارة. وعمدة الجمهور أن الاحتمال الذي في الاسم المستعار شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، والحق أن الكناية قد تقوم في مواضع مقام النص، وقد تضعف في مواضع، وذلك أنه إذا لم يكثر الاستعمال لها والذي يندرئ به الحد عن القاذف أن يثبت زنى المقذوف بأربعة شهود باجماع، والشهود عند مالك إذا كانوا أقل من أربعة قذفة وعند غيره ليسوا بقذفة، وإنما اختلف المذهب في الشهود الذين يشهدون على شهود الأصل. والسبب في اختلافهم هل يشترط في نقل شهادة كل واحد منهم عدد شهود الأصل أم يكفي في ذلك اثنان على الأصل المعتبر فيما سوى القذف إذ كانوا ممن لا يستقل بهم نقل الشهادة من قبل العدد. وأما الحد فالنظر فيه في جنسه وتوقيته ومسقطه أما جنسه، فإنهم اتفقوا على أنه ثمانون جلدة للقاذف الحر لقوله تعالى {ثمانين جلدة} . واختلفوا في العبد يقذف الحر: كم حده؟ فقال الجمهور من فقهاء الأمصار حده نصف حد الحر، وذلك أربعون جلدة، وروي ذلك عن الخلفاء الأربعة، وعن ابن عباس: وقالت طائفة: حده حد الحر، وبه قال ابن مسعود من الصحابة وعمر بن عبد العزيز وجماعة من فقهاء الأمصار: أبو ثور والأوزاعي وداود وأصحابه من أهل الظاهر. فعمدة الجمهور قياس حده في القذف على حده في الزنى. وأما أهل الظاهر فتمسكوا في ذلك بالعموم ولما أجمعوا أيضا أن حد الكتابي ثمانون، فكان العبد أحرى بذلك. وأما التوقيت فإنهم اتفقوا على أنه إذا قذف شخصا واحدا مرار كثيرة، فعليه حد واحد إذا لم يحد بواحد منها، وأنه إذ قذف فحد ثم قذفه ثانية حد حدا ثانيا واختلفوا إذا قذف جماعة، فقالت طائفة: ليس عليه إلا حد واحد جمعهم في القذف أو فرقهم، وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري وأحمد وجماعة وقال قوم: بل عليه لكل واحد حد، وبه قال الشافعي والليث وجماعة حتى روي عن الحسن بن حيى أنه قال: إن قال إنسان: من دخل هذه الدار فهو زان جلد الحد لكل من دخلها؛ وقالت طائفة إن جمعهم في كلمة واحدة مثل أن يقول لهم يا زناة فحد واحد، وإن قال لكل واحد منهم يا زاني فعليه لكل إنسان منهم حد. فعمدة من لم يوجب على قاذف الجماعة إلا حدا واحدا حديث أنس وغيره أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فرفع ذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام فلاعن بينهما ولم يحده لشريك، وذلك إجماع من أهل العلم فيمن قذف زوجته برجل. وعمدة من رأى أن الحد لكل واحد منهم أنه حق للآدميين، وأنه لو عفا بعضهم ولم يعف الكل لم يسقط الحد. وأما من فرق بين قذفهم في كلمة واحدة أو كلمات أو في مجلس واحد أو في مجالس، فلأنه رأى أنه واجب أن يتعدد الحد بتعدد القذف، لأنه إذا اجتمع تعدد المقذوف وتعدد القذف كان أوجب أن يتعدد الحد، وأما سقوطه فإنهم اختلفوا في سقوطه بعفو القاذف، فقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: لا يصح العفو: أي لا يسقط الحد؛ وقال الشافعي: يصح العفو أي يسقط الحد بلغ الإمام أو لم يبلغ؛ وقال قوم: إن بلغ الإمام لم يجز العفو، وإن لم يبلغه جاز العفو. واختلف قول مالك في ذلك، فمرة قال بقول الشافعي، ومرة قال: يجوز إذا لم يبلغ الإمام، وإن بلغ لم يجز إلا أن يريد بذلك المقذوف الستر على نفسه، وهو المشهور عنه. والسبب في اختلافهم هل هو حق لله؟ أو حق للآدميين، أو حق لكليهما؟ فمن قال حق لله لم يجز العفو كالزنى؛ ومن قال حق للآدميين أجاز العفو؛ ومن قال لكليهما وغلب حق الإمام إذا وصل إليه قال بالفرق بين أن يصل الإمام أو لا يصل، وقياسا على الأثر الوارد في السرقة. وعمدة من رأى أنه حق للآدميين وهو الأظهر أن المقذوف إذا صدقه فيما قذفه به سقط عنه الحد. وأما من يقيم الحد فلا خلاف أن الإمام يقيمه في القذف. واتفقوا على أنه يجب على القاذف مع الحد سقوط شهادته ما لم يتب. واختلفوا إذا تاب؛ فقال مالك: تجوز شهادته، وبه قال الشافعي؛ وقال أبو حنيفة: لا تجوز شهادته أبدا. والسبب في اختلافهم هل الاستثناء يعود إلى الجملة المتقدمة أو يعود إلى أقرب مذكور، وذلك في قوله تعالى {ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا} فمن قال يعود إلى أقرب مذكور قال: التوبة ترفع الفسق ولا تقبل شهادته؛ ومن رأى أن الاستثناء يتناول الأمرين جميعا قال: التوبة ترفع الفسق ورد الشهادة. وكون ارتفاع الفسق مع رد الشهادة أمر غير مناسب في الشرع: أي خارج عن الأصول، لأن الفسق متى ارتفع قبلت الشهادة. واتفقوا على أن التوبة لا ترفع الحد. وأما بماذا يثبت؟ فإنهم اتفقوا على أنه يثبت بشاهدين عدلين حرين ذكرين. واختلف في مذهب مالك: هل يثبت بشاهد ويمين وبشهادة النساء؟ وهل تلزم في الدعوى فيه يمين؟ وإن نكل فهل يحد بالنكول ويمين المدعي؟ فهذه هي أصول هذا الباب التي تنبني عليه فروعه. قال القاضي: وإن أنسأ الله في العمر فسنضع كتابا في الفروع على مذهب مالك بن أنس مرتبا ترتيبا صناعيا، إذ كان المذهب المعمول به في هذه الجزيرة، التي هي جزيرة الأندلس حتى يكون به القارئ مجتهدا في مذهب مالك، لأن إحصاء جميع الروايات عندي شيء ينقطع العمر دونه.

 

3*باب في شرب الخمر.

 

@-والكلام في هذه الجناية: في الموجب، والواجب، وبماذا تثبت هذه الجناية؟ فأما الموجب، فاتفقوا على أنه شرب الخمر دون إكراه قليلها وكثيرها واختلفوا في المسكرات من غيرها؛ فقال أهل الحجاز: حكمها حكم الخمر في تحريمها وإيجاب الحد على من شربها قليلا كان أو كثيرا أو لم يسكر؛ وقال أهل العراق: المحرم منها هو السكر، وهو الذي يوجب الحد. وقد ذكرنا عمدة أدلة الفريقين في كتاب الأطعمة والأشربة. وأما الواجب فهو الحد والتفسيق إلا أن تكون التوبة، والتفسيق في شارب الخمر باتفاق وإن لم يبلغ حد السكر، وفيمن بلغ حد السكر فيما سوى الخمر. واختلف الذين رأوا تحريم قليل الأنبذة في وجوب الحد، وأكثر هؤلاء على وجوبه، إلا أنهم اختلفوا في مقدار الحد الواجب؛ فقال الجمهور: الحد في ذلك ثمانون؛ وقال الشافعي وأبو ثور وداود: الحد في ذلك أربعون، هذا في حد الحر. وأما حد العبد فاختلفوا فيه؛ فقال الجمهور: هو على النصف من حد الحر؛ وقال أهل الظاهر: حد الحر والعبد سواء، وهو أربعون؛ وعند الشافعي عشرون؛ وعند من قال ثمانون أربعون. فعمدة الجمهور تشاور عمر والصحابة لما كثر في زمانه شرب الخمر، وإشارة علي عليه بأن يجعل الحد ثمانين قياسا على حد الفرية، فإنه كما قيل عنه رضي الله عنه "إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى" وعمدة الفريق الثاني أن النبي ﷺ لم يحد في ذلك حدا، وإنما كان يضرب فيها بين يديه بالنعال ضربا غير محدود، وأن أبا بكر رضي الله عنه شاور أصحاب رسول الله ﷺ: كم بلغ ضرب رسول الله ﷺ لشُراب الخمر؟ فقدروه بأربعين. وروي عن أبي سعيد الخدري "أن رسول الله ﷺ ضرب في الخمر بنعلين أربعين" فجعل عمر مكان كل نعل سوطا. وروي من طريق آخر عن أبي سعيد الخدري ما هو أثبت من هذا، وهو "أن رسول الله ﷺ ضرب في الخمر أربعين" وروي هذا عن علي عن النبي عليه الصلاة والسلام من طريق أثبت، وبه قال الشافعي وأما من يقيم هذا الحد فاتفقوا على أن الإمام يقيمه، وكذلك الأمر في سائر الحدود واختلفوا في إقامة السادات الحدود على عبيدهم، فقال مالك: يقيم السيد على عبده حد الزنى وحد القذف إذا شهد عنده الشهود، ولا يفعل ذلك بعلم نفسه، ولا يقطع في السرقة إلا الإمام، وبه قال الليث، وقال أبو حنيفة: لا يقيم الحدود على العبيد إلا الإمام؛ وقال الشافعي: يقيم السيد على عبده جميع الحدود، وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور. فعمدة مالك الحديث المشهور "أن رسول الله ﷺ سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال: إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير" وقوله عليه الصلاة والسلام "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها". وأما الشافعي فاعتمد مع هذه الأحاديث ما روي عنه ﷺ من حديث عنه أنه قال "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" ولأنه أيضا مروي عن جماعة من الصحابة ولا مخالف لهم، منهم ابن عمر وابن مسعود وأنس. وعمدة أبي حنيفة الإجماع على أن الأصل في إقامة الحدود هو السلطان. وروي عن الحسن وعمر بن عبد العزيز وغيرهم أنهم قالوا: الجمعة والزكاة والفئ والحكم إلى السلطان. @-(فصل) وأما بماذا يثبت هذا الحد، فاتفق العلماء على أنه يثبت بالإقرار وبشهادة عدلين. واختلفوا في ثبوته بالرائحة، فقال مالك وأصحابه وجمهور أهل الحجاز: يجب الحد بالرائحة إذا شهد بها عند الحاكم شاهدان عدلان؛ وخالفه في ذلك الشافعي وأبو حنيفة وجمهور أهل العراق وطائفة من أهل الحجاز وجمهور علماء البصرة فقالوا: لا يثبت الحد بالرائحة. فعمدة من أجاز الشهادة على الرائحة تشبيهها بالشهادة على الصوت والخط. وعمدة من لم يثبتها اشتباه الروائح، والحد يدرأ بالشبهة. (بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما).

 

2*كتاب السرقة.

 

@-والنظر في هذا الكتاب في حد السرقة، وفي شروط المسروق الذي يجب به الحد، وفي صفات السارق الذي يجب عليه الحد، وفي العقوبة، وفيما تثبت به هذه الجناية. فأما السرقة، فهي أخذ مال الغير مستترا من غير أن يؤتمن عليه، وإنما قلنا هذا لأنهم أجمعوا أنه ليس في الخيانة ولا في الاختلاس قطع إلا إياس بن معاوية، فإنه أوجب في الخلسة القطع، وذلك مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام. وأوجب أيضا قوم القطع على من استعار حليا أو متاعا ثم جحده لمكان حديث المرأة المخزومية المشهور "أنها كانت تستعير الحلى، وأن رسول الله ﷺ قطعها لموضع جحودها" وبه قال أحمد وإسحاق والحديث حديث عائشة قالت "كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بقطع يدها، فأتى أسامة أهلها فكلموه، فكلم أسامة النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أسامة لا أراك تتكلم في حد من حدود الله، ثم قام النبي عليه الصلاة والسلام خطيبا فقال: "وإنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعتها" ورد الجمهور هذا الحديث لأنه مخالف للأصول، وذلك أن المعار مأمون وأنه لم يأخذ بغير إذن فضلا أن يأخذ من حرز، قالوا: وفي الحديث حذف، وهو أنها سرقت مع أنها جحدت، ويدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام "إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه" قالوا: وروى هذا الحديث الليث بن سعد عن الزهري بإسناده، فقال فيه: إن المخزومية سرقت، قالوا: وهذا يدل على أنها فعلت الأمرين جميعا الجحد والسرقة. وكذلك أجمعوا على أنه ليس على الغاصب ولا على المكابر المغالب قطع إلا أن يكون قاطع طريق شاهرا للسلاح على المسلمين مخيفا للسبيل، فحكمه حكم المحارب على ما سيأتي في حد المحارب. وأما السارق الذي يجب عليه حد السرقة، فإنهم اتفقوا على أن من شرطه أن يكون مكلفا، وسواء كان حرا أو عبدا، ذكرا أو أنثى، أو مسلما، أو ذميا، إلا ما روي في الصدر الأول من الخلاف في قطع يد العبد الآبق إذا سرق، وروي ذلك عن ابن عباس وعثمان ومروان وعمر ابن عبد العزيز، ولم يختلف فيه بعد العصر المتقدم؛ فمن رأى أن الإجماع ينعقد بعد وجود الخلاف في العصر المتقدم كانت المسألة عنده قطعية، ومن لم ير ذلك تمسك بعموم الأمر بالقطع، ولا عبرة لمن لم ير القطع على العبد الآبق إلا تشبيهه سقوط الحد عنه بسقوط شطره، أعني الحدود التي تتشطر في حق العبيد، وهو تشبيه ضعيف. وأما المسروق فإن له شرائط مختلفا فيها؛ فمن أشهرها اشتراط النصاب، وذلك أن الجمهور على اشتراطه، إلا ما روي عن الحسن البصري أنه قال: القطع في قليل المسروق وكثيره، لعموم قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيدهما} الآية. وربما احتجوا بحديث أبي هريرة خرجه البخاري ومسلم عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده" وبه قالت الخوارج وطائفة من المتكلمين. والذين قالوا باشتراط النصاب في وجوب القطع وهم الجمهور اختلفوا في قدره اختلافا كثيرا، إلا أن الاختلاف المشهور من ذلك الذي يستند إلى أدلة ثابتة، وهو قولان: أحدهما قول فقهاء الحجاز مالك والشافعي وغيرهم. والثاني قول فقهاء العراق. وأما فقهاء الحجاز فأوجبوا القطع في ثلاثة دراهم من الفضة، وربع دينار من الذهب. واختلفوا فيما تقوم به سائر الأشياء المسروقة مما عدا الذهب والفضة، فقال مالك في المشهور: تقوم بالدراهم لا بالربع دينار، أعني إذا اختلفت الثلاثة دراهم مع الربع دينار لاختلاف الصرف، مثل أن يكون الربع دينار في وقت درهمين ونصفا؛ وقال الشافعي: الأصل في تقويم الأشياء هو الربع دينار، وهو الأصل أيضا للدراهم فلا يقطع عنده في الثلاثة دراهم إلا أن تساوي ربع دينار. وأما مالك فالدنانير والدراهم عند كل واحد منهما معتبر بنفسه وقد روى بعض البغداديين عنه أنه ينظر في تقويم العروض إلى الغالب في نقود أهل ذلك البلد، فإن كان الغالب الدراهم قومت بالدراهم، وإن كان الغالب الدنانير قومت بالربع دينار، وأظن أن في المذهب من يقول إن الربع دينار يقوم بالثلاثة دراهم، وبقول الشافعي في التقويم قال أبو ثور والأوزاعي وداود، وبقول مالك المشهور قال أحمد: أعني بالتقويم بالدراهم. وأما فقهاء العراق فالنصاب الذي يجب القطع فيه هو عندهم عشرة دراهم لا يجب في أقل منه. وقد قال جماعة منهم ابن أبي ليلى وابن شبرمة: لا تقطع اليد في أقل من خمسة دراهم، وقد قيل في أربعة دراهم، وقال عثمان البتي: في درهمين. فعمدة فقهاء الحجاز ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم "وحديث عائشة أوقفه مالك وأسنده البخاري ومسلم إلى النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا" وأما عمدة فقهاء العراق فحديث ابن عمر المذكور، قالوا: ولكن قيمة المجن هو عشرة دراهم وروي ذلك في أحاديث. وقد خالف ابن عمر في قيمة المجن من الصحابة كثير ممن رأى القطع في المجن كابن عباس وغيره. وقد روى محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله ﷺ عشرة دراهم. قالوا: وإذا وجد الخلاف في ثمن المجن وجب أن لا تقطع اليد إلا بيقين، وهذا الذي قالوه هو كلام حسن لولا حديث عائشة، وهو الذي اعتمده الشافعي في هذه المسألة وجعل الأصل هو الربع دينار. وأما مالك فاعتضد عنده حديث ابن عمر بحديث عثمان الذي رواه، وهو أنه قطع في أترجة قومت بثلاثة دراهم، والشافعي يعتذر عن حديث عثمان من قبل أن الصرف كان عندهم في ذلك الوقت اثنا عشرة درهما (هكذا هذه العبارة بجميع الأصول، ولينظر ما معناها ا هـ مصححه) والقطع في ثلاثة دراهم أحفظ للأموال، والقطع في عشرة دراهم أدخل في باب التجاوز والصفح عن يسير المال وشرف العضو، والجمع بين حديث ابن عمر وحديث عائشة وفعل عثمان ممكن على مذهب الشافعي وغير ممكن على مذهب غيره، فإن كان الجمع أولى من الترجيح فمذهب الشافعي أولى المذاهب، فهذا هو أحد الشروط المشترطة بالقطع. واختلفوا من هذا الباب في فرع مشهور وهو إذا سرقت الجماعة ما يجب فيه القطع، أعني نصابا دون أن يكون حظ كل واحد منهم نصابا، وذلك أن يخرجوا النصاب من الحرز معا، مثل أن يكون عدلا أو صندوقا يساوي النصاب؛ فقال مالك: يقطعون جميعا، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور؛ وقال أبو حنيفة: لا قطع عليهم حتى يكون ما أخذه كل واحد منهم نصابا؛ فمن قطع الجميع رأى العقوبة إنما تتعلق بقدر مال المسروق: أي أن هذا القدر من المال المسروق هو الذي يوجب القطع لحفظ المال؛ ومن رأى أن القطع إنما علق بهذا القدر لا بما دونه لمكان حرمة اليد قال: لا تقطع أيد كثيرة فيما أوجب فيه الشرع قطع يد واحدة. واختلفوا متى يقدر المسروق؛ فقال مالك: يوم السرقة؛ وقال أبو حنيفة: يوم الحكم عليه بالقطع. وأما الشرط الثاني في وجوب هذا الحد فهو الحرز، وذلك أن جميع فقهاء الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وأصحابهم متفقون على اشتراط الحرز في وجوب القطع، وإن كان قد اختلفوا فيما هو حرز مما ليس بحرز. والأشبه أن يقال في حد الحرز إنه ما شأنه أن تحفظ به الأموال كي يعسر أخذها مثل الإغلاق والحظائر وما أشبه ذلك، وفي الفعل الذي إذا فعله السارق اتصف بالإخراج من الحرز على ما سنذكره بعد؛ وممن ذهب إلى هذا مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأصحابهم؛ وقال أهل الظاهر وطائفة من أهل الحديث: القطع على من سرق النصاب وإن سرقه من غير حرز. فعمدة الجمهور حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل، فإذا أواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن" ومرسل مالك أيضا عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي بمعنى حديث عمرو بن شعيب. وعمدة أهل الظاهر عموم قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} الآية. قالوا: فوجب أن تحمل الآية على عمومها، إلا ما خصصته السنة الثابتة من ذلك، وقد خصصت السنة الثابتة المقدار الذي يقطع فيه من الذي لا يقطع فيه. وردوا حديث عمرو بن شعيب لموضع الاختلاف الواقع في أحاديث عمرو بن شعيب، وقال أبو عمر بن عبد البر: أحاديث عمرو بن شعيب العمل بها واجب إذا رواها الثقات. وأما الحرز عند الذين أوجبوه فإنهم اتفقوا منه على أشياء واختلفوا في أشياء، مثل اتفاقهم على أن باب البيت وغلقه حرز، واختلافهم في الأوعية. ومثل اتفاقهم على أن من سرق من دار غير مشتركة السكنى أنه لا يقطع حتى يخرج من الدار، واختلافهم في الدار المشتركة، فقال مالك وكثير ممن اشترط الحرز: تقطع يده إذا أخرج من البيت؛ وقال أبو يوسف ومحمد: لا قطع عليه إلا إذا أخرج من الدار. ومنها اختلافهم في القبر هل هو حرز حتى يجب القطع على النباش، أو ليس بحرز؟ فقال مالك والشافعي وأحمد وجماعة: هو حرز، وعلى النباش القطع، وبه قال عمر بن عبد العزيز؛ وقال أبو حنيفة: لا قطع عليه، وكذلك قال سفيان الثوري، وروي ذلك عن زيد بن ثابت. والحرز عند مالك بالجملة هو كل شيء جرت العادة بحفظ ذلك الشيء المسروق فيه، فمرابط الدواب عنده أحراز، وكذلك الأوعية، وما على الإنسان من اللباس، فالإنسان حرز لكل ما عليه أو هو عنده. وإذا توسد النائم شيئا فهو حرز له على ما جاء في حديث صفوان بن أمية وسيأتي بعد، وما أخذه من المنتبه فهو اختلاس. ولا يقطع عند مالك سارق ما كان على الصبي من الحلي أو غيره إلا أن يكون معه حافظ يحفظه؛ ومن سرق من الكعبة شيئا لم يقطع عنده، وكذلك من المساجد؛ وقد قيل في المذهب إنه أن سرق منها ليلا قطع. وفروع هذا الباب كثيرة فيما هو حرز وما ليس بحرز. واتفق القائلون بالحرز على أن كل من سمي مخرجا للشيء من حرزه وجب عليه القطع، وسواء كان داخل الحرز أو خارجه. وإذا ترددت التسمية وقع الخلاف، مثل اختلاف المذهب إذا كان سارقان: أحدهما داخل البيت، والآخر خارجه، فقرب أحدهما المتاع المسروق إلى ثقب في البيت فتناوله الآخر، فقيل القطع على الخارج المتناول له؛ وقيل: لا قطع على واحد منهما؛ وقيل القطع على المقرب للمتاع من الثقب. والخلاف في هذا كله آيل إلى انطلاق اسم المخرج من الحرز عليه أو لانطلاقه. فهذا هو القول في الحرز واشتراطه في وجوب القطع، ومن رمى بالمسروق من الحرز ثم أخذه خارج الحرز قطع، وقد توقف مالك فيه إذا أخذ بعد رميه وقبل أن يخرج؛ وقال ابن القاسم: يقطع. @-(فصل) وأما جنس المسروق، فإن العلماء اتفقوا على أن كل متملك غير ناطق يجوز بيعه وأخذ العوض منه، فإنه يجب في سرقته القطع ما عدا الأشياء الرطبة المأكولة، والأشياء التي أصلها مباحة فإنهم اختلفوا في ذلك، فذهب الجمهور إلى أن القطع في كل متموَّل يجوز بيعه وأخذ العوض فيه؛ وقال أبو حنيفة: لا قطع في الطعام ولا فيما أصله مباح كالصيد والحطب والحشيش. فعمدة الجمهور عموم الآية الموجبة للقطع وعموم الآثار الواردة في اشتراط النصاب. وعمدة أبي حنيفة في منعه القطع في الطعام الرطب قوله عليه الصلاة والسلام "لا قطع في ثمر ولا كُثْر" وذلك أن هذا الحديث روي هكذا مطلقا من غير زيادة. وعمدته أيضا في منع القطع فيما أصله مباح الشبهة التي فيه لكل مالك، وذلك أنهم اتفقوا على أن من شرط المسروق الذي يجب فيه القطع أن لا يكون للسارق فيه شبهة ملك. واختلفوا فيما هو شبهة تدرأ الحد مما ليس بشبهة، وهذا هو أيضا أحد الشروط المشترطة في المسروق هو في ثلاثة مواضع: في جنسه، وقدره، وشروطه، وستأتي هذه المسألة فيما بعد. واختلفوا من هذا الباب أعني من النظر في جنس المسروق في المصحف فقال مالك والشافعي: يقطع سارقه؛ وقال أبو حنيفة: لا يقطع، ولعل هذا من أبي حنيفة بناء على أنه لا يجوز بيعه، أو أن لكل أحد فيه حقا إذ ليس بمال. واختلفوا من هذا الباب فيمن سرق صغيرا مملوكا أعجميا ممن لا يفقه ولا يعقل الكلام، فقال الجمهور: يقطع. وأما إن كان كبيرا يفقه فقال مالك: يقطع، وقال أبو حنيفة: لا يقطع. واختلفوا في الحر الصغير، فعند مالك أن سارقه يقطع؛ ولا يقطع عند أبي حنيفة، وهو قول ابن الماجشون من أصحاب مالك. واتفقوا كما قلنا أن شبهة الملك القوية تدرأ هذا الحد. واختلفوا فيما هو شبهة يدرأ من ذلك مما لا يدرأ منها، فمنها العبد يسرق مال سيده؛ فإن الجمهور من العلماء على أنه لا يقطع؛ وقال أبو ثور: يقطع ولم يشترط شرطا؛ وقال أهل الظاهر: يقطع إلا أن يأتمنه سيده. واشترط مالك في الخادم الذي يجب أن يدرأ عنه الحد أن يكون يلي الخدمة لسيده بنفسه؛ والشافعي مرة اشترط هذا ومرة لم يشترطه. وبدرء الحد قال عمر رضي الله عنه وابن مسعود ولا مخالف لهما من الصحابة. ومنها أحد الزوجين يسرق من مال الآخر، فقال مالك: إذا كان كل واحد ينفرد ببيت فيه متاعه فالقطع على من سرق من مال صاحبه؛ وقال الشافعي: الاحتياط أن لا قطع على أحد الزوجين لشبهة الاختلاط وشبهة المال، وقد روي عنه مثل قول مالك، واختاره المزني. ومنها القرابات، فمذهب مالك فيها أن لا يقطع الأب فيما سرق من مال الابن فقط لقوله عليه الصلاة والسلام "أنت ومالك لأبيك" ويقطع كل ما سواهم من القرابات؛ وقال الشافعي: لا يقطع عمود النسب الأعلى والأسفل: يعني الأب والأجداد والأبناء وأبناء الأبناء؛ وقال أبو حنيفة: لا يقطع ذو الرحم المحرمة، وقال أبو ثور: تقطع يد كل من سرق إلا ما خصصه الإجماع. ومنها اختلافهم فيمن سرق من الغنم أو من بيت المال؛ فقال مالك: يقطع؛ وقال عبد الملك من أصحابه: لا يقطع. فهذا هو القول في الأشياء التي يجب بها ما يجب في هذا الجناية.

 

3*القول في الواجب.

 

@-وأما الواجب في هذه الجناية إذا وجدت بالصفات التي ذكرنا، أعني الموجودة في السارق وفي الشيء المسروق وفي صفة السرقة، فإنهم اتفقوا على أن الواجب فيه القطع من حيث هي جناية، والغرم إذا لم يجب القطع. واختلفوا هل يجمع الغرم مع القطع؟ فقال قوم: عليه الغرم مع القطع، وبه قال الشافعي وأحمد والليث وأبو ثور وجماعة؛ وقال قوم: ليس عليه غرم إذا لم يجد المسروق منه متاعه بعينه، وممن قال بهذا القول أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وجماعة؛ وفرق مالك وأصحابه فقال: إن كان موسرا أتبع السارق بقيمة المسروق، وإن كان معسرا لم يتبع به إذا أثرى، واشترط مالك دوام اليسر إلى يوم القطع فيما حكى عنه ابن القاسم. فعمدة من جمع بين الأمرين أنه اجتمع في السرقة حقان: حق لله، وحق للآدمي، فاقتضى كل حق موجبه، وأيضا فإنهم لما أجمعوا على أخذه منه إذا وجد بعينه لزم إذا لم يوجد بعينه عنده أن يكون في ضمانه قياسا على سائر الأموال الواجبة. وعمدة الكوفيين حديث عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ قال "لا يغرم السارق إذا أقيم عليه الحد" وهذا الحديث مضعف عند أهل الحديث. قال أبو عمر: لأنه عندهم مقطوع، قال: وقد وصله بعضهم وخرجه النسائي. والكوفيون يقولون: إن اجتماع حقين في حق واحد مخالف للأصول، ويقولون إن القطع هو بدل من الغرم، ومن هنا يرون أنه إذا سرق شيئا ما فقطع فيه ثم سرقه ثانيا أنه لا يقطع فيه. وأما تفرقة مالك فاستحسان على غير قياس. وأما القطع فالنظر في محله وفيمن سرق وقد عدم المحل. أما محل القطع فهو اليد اليمنى باتفاق من الكوع، وهو الذي عليه الجمهور؛ وقال قوم: الأصابع فقط. فأما إذا سرق من قد قطعت يده اليمنى في السرقة، فإنهم اختلفوا في ذلك فقال أهل الحجاز والعراق: تقطع رجله اليسرى بعد اليد اليمنى؛ وقال بعض أهل الظاهر وبعض التابعين: تقطع اليد اليسرى بعد اليمنى، ولا يقطع منه غير ذلك. واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة بعد اتفاقهم على قطع الرجل اليسرى بعد اليد اليمنى، هل يقف القطع إن سرق ثالثة أم لا؟ فقال سفيان وأبو حنيفة: يقف القطع في الرجل، وإنما عليه في الثالثة الغرم فقط؛ وقال مالك والشافعي: إن سرق ثالثة قطعت يده اليسرى، ثم إن سرق رابعة قطعت رجله اليمنى، وكلا القولين مروي عن عمر وأبي بكر، أعني قول مالك وأبي حنيفة. فعمدة من لم ير إلا قطع اليد قوله تعالى {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} ولم يذكر الأرجل إلا في المحاربين فقط. وعمدة من قطع الرجل بعد اليد ما روي "أن النبي ﷺ أتى بعبد سرق فقطع يده اليمنى، ثم الثانية فقطع رجله، ثم أتى به في الثالثة فقطع يده اليسرى، ثم أتى به في الرابعة فقطع رجله" وروي هذا من حديث جابر بن عبد الله، وفيه "ثم أخذه الخامسة فقتله" إلا أنه منكر عند أهل الحديث، ويرده قوله عليه الصلاة والسلام "هن فواحش وفيهن عقوبة" ولم يذكر قتلا. وحديث ابن عباس "أن النبي عليه الصلاة والسلام قطع الرجل بعد اليد" وعند مالك أنه يؤدب في الخامسة، فإذا ذهب محل القطع من غير سرقة بأن كانت اليد شلاء، فقيل في المذهب ينتقل القطع إلى اليد اليسرى، وقيل إلى الرجل. واختلف في موضع القطع من القدم، فقيل يقطع من المفصل الذي في أصل الساق، وقيل يدخل الكعبان في القطع، وقيل لا يدخلان، وقيل إنها تقطع من المفصل الذي في وسط القدم. واتفقوا على أن لصاحب السرقة أن يعفو عن السارق ما لم يرفع ذلك إلى الإمام لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله ﷺ قال "تعافوا الحدود بينكم فما بلغني من حد فقد وجب" وقوله عليه الصلاة والسلام "لو كانت فاطمة بنت محمد لأقمت عليها الحد" وقوله لصفوان "هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟". واختلفوا في السارق يسرق ما يجب فيه القطع فيرفع إلى الإمام وقد وهبه صاحب السرقة ما سرقه، أو يهبه له بعد الرفع وقبل القطع؛ فقال مالك والشافعي: عليه الحد، لأنه قد رفع إلى الإمام وقال أبو حنيفة وطائفة: لا حد عليه. فعمدة الجمهور حديث مالك عن ابن شهاب عن صفوان بن عبد الله بن صفوان بن أمية أنه قيل له "إن من لم يهاجر هلك، فقدم صفوان بن أمية إلى المدينة، فنام في المسجد وتوسد رداءه فجاء سارق فأخذ رداءه، فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى رسول الله ﷺ، فأمر به رسول الله ﷺ أن تقطع يده، فقال صفوان: لم أرد هذا يا رسول الله هو عليه صدقة، فقال رسول الله ﷺ: فهلا قبل أن تأتيني به".

 

3*القول فيما تثبت به السرقة.

 

@-واتفقوا على أن السرقة تثبت بشاهدين عدلين، وعلى أنها تثبت بإقرار الحر. واختلفوا في إقرار العبد؛ فقال جمهور فقهاء الأمصار: إقراره على نفسه موجب لحده، وليس يوجب عليه غرما؛ وقال زفر: لا يجب إقرار العبد على نفسه بما يوجب قتله ولا قطع يده لكونه مالا لمولاه، وبه قال شريح والشافعي وقتادة وجماعة، وإن رجع عن الإقرار إلى شبهة قبل رجوعه. وإن رجع إلى غير شبهة فعن مالك في ذلك روايتان، هكذا حكى البغداديون عن المذهب، وللمتأخرين في ذلك تفصيل ليس يليق بهذا الغرض، وإنما هو لائق بتفريع المذهب.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع ابن حجر الهيتمي الباب الثاني{الجزء الثاني}

كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع/الباب الثاني المحتويات  القسم الأول: اللعب بالنرد  القسم [الثاني]: اللعب بالشِّطرَنج  القسم الثالث: ...