Translate

الاثنين، 20 فبراير 2023

رسالة في قصة شعيب عليه السلام | رسالة في المعاني المستنبطة من سورة الإنسان | رسالة في قوله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة | رسالة في تحقيق التوكل | رسالة في تحقيق الشكر | رسالة في معنى كون الرب عادلا وفي تنزهه عن الظلم | رسالة في دخول الجنة | رسالة في الجواب عمن يقول إن صفات الرب نسب وإضافات وغير ذلك | رسالة في تحقيق مسألة علم الله | رسالة في الجواب عن سؤال عن الحلاج هل كان صديقا أو زنديقا | رسالة في الرد على ابن عربي في دعوى إيمان فرعون | رسالة في التوبة | رسالة في الصفات الاختيارية | شرح كلمات من فتوح الغيب | قاعدة في المحبة

ملحوظة فصلت بين الرسائل بخط افقي وجعلت عددهم في عنوان الكتاب 

  بينهم 

 رسائل بن تيمية
1.رسالة في قصة شعيب عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
أما بعد فقد ذكر الله سبحانه وتعالى قصة شعيب النبي ﷺ في غير موضع من كتابه وإرساله إلى أهل مدين وقال في موضع آخر كذب أصحاب الأيكة المرسلين سورة الشعراء 176 فأكثر الناس يقولون إنهم أهل مدين ومن الناس من يجعلها قصتين
شيخ مدين لم يكن شعيبا
وذكر في قصة موسى أنه ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما الآية سورة القصص 23 إلى آخر القصة فموسى عليه السلام قضى أكمل الأجلين ولم يذكر عن هذا الشيخ أنه كان شعيبا ولا أنه كان نبيا ولا عند أهل الكتابين أنه كان نبيا ولا نقل عن أحد من الصحابة أن هذا الشيخ الذي صاهر موسى كان شعيبا النبي لا عن ابن عباس ولا غيره بل المنقول عن الصحابة أنه لم يكن هو شعيب
قال سنيد بن داود شيخ البخاري في تفسيره بإسناده عن ابن عباس قال اسمه يثرى قال حجاج وقال غيره يثرون وعن شعيب الجبائي أنه قال اسم الجاريتين ليا وصغوره وامرأة موسى صغوره ابنة يثرون كاهن مدين والكاهن الحبر وفي رواية عن ابن عباس أن اسمه يثرون أو يثرى
وقال ابن جرير اسم إحدى الجاريتين ليا ويقال شرفا والأخرى صغورة وقال أيضا وأما أبوهما فمختلف في اسمه فقال بعضهم اسمه يثرون وقال ابن مسعود الذي استأجر موسى ابن أخي شعيب يثرون وقال أبو عبيدة هو يثرون ابن أخي شعيب النبي ﷺ
وقال آخرون اسمه يثرى وهو منقول عن ابن عباس
وقال الحسن يقولون هو شعيب النبي لا ولكنه سيد أهل الماء يومئذ
قال ابن جرير وهذا لا يدرك علمه إلا بخبر عن معصوم ولا خبر في ذلك
وقيل اسمه أثرون
فهذه كتب التفسير التي تروي بالأسانيد المعروفة عن النبي ﷺ والتابعين لم يذكر فيها عن أحد أنه شعيب النبي ﷺ ولكن نقلوا بالأسانيد الثابتة عن الحسن البصري أنه قال يقولون إنه شعيب وليس بشعيب ولكنه سيد الماء يومئذ
فالحسن يذكر أنه شعيب عمن لا يعرف ويرد عليهم ذلك ويقول ليس هو شعيب
وإن كان الثعلبي قد ذكر أنه شعيب فلا يلتفت إلى قوله فإنه ينقل الغث والسمين فمن جزم بأنه شعيب النبي فقد قال ما ليس له به علم وما لم ينقل عن النبي ﷺ ولا عن الصحابة ولا عمن يحتج بقوله من علماء المسلمين وخالف في ذلك ما ثبت عن ابن عباس والحسن البصري مع مخالفته أيضا لأهل الكتابين فإنهم متفقون على أنه ليس هو شعيب النبي فإن ما في التوراة التي عند اليهود والإنجيل الذي عند النصارى أن اسمه يثرون وليس لشعيب النبي عندهم ذكر في التوراة
كان شعيب عربيا وموسى عبرانيا
وقد ذكر غير واحد من العلماء أن شعيبا كان عربيا بل قد روي عن أبي ذر مرفوعا إلى النبي ﷺ رواه أبو حاتم وغيره أن شعيبا كان عربيا وكذلك هود وصالح وموسى كان عبرانيا فلم يكن يعرف لسانه
وظاهر القرآن يدل على مخاطبة موسى للمرأتين وأبيهما بغير ترجمان
وإنما شبهة من ظن ذلك أنه وجد في القرآن قصة شعيب وإرساله إلى أهل مدين ووجد في القرآن مجيء موسى إلى مدين ومصاهرته لهذا فظن أنه هو
والقرآن يدل أن الله أهلك قوم شعيب بالظلة فحينئذ لم يبق في مدين من قوم شعيب أحد وشعيب لا يقيم بقريه ليس بها أحد وقد ذكروا أن الأنبياء كانوا إذا هلكت أممهم ذهبوا إلى مكة فأقامة بها إلى الموت كما ذكر أن قبر شعيب بمكة وقبر هود بمكة وكذلك غيرهما
وموسى لما جاء إلى مدين كانت معمورة بهذا الشيخ الذي صاهره ولم يكن هؤلاء قوم شعيب المذكورين في القرآن بل ومن قال إنه كان ابن أخي شعيب أو ابن عمه لم ينقل ذلك عن ثبت والنقل الثابت عن ابن عباس لا يعارض بمثل قول هؤلاء
وما يذكرونه في عصا موسى وأن شعيبا أعطاه إياها وقيل أعطاه إياها هذا الشيخ وقيل جبريل وكل ذلك لا يثبت
وعن أبي بكر أظنه الهذلي قال سألت عكرمة عن عصا موسى قال هي عصا خرج بها آدم من الجنة ثم قبضها بعد ذلك جبريل فلقي بها موسى ليلا فدفعها إليه
وقال السدي في تفسيره المعروف أمر أبو المرأتين ابنته أن يأتي موسى بعصا وكانت تلك العصا عصا استودعها ملك في صورة رجل إلى آخر القصة استودعه إياها ملك في سورة رجل وأن حماه خاصمه وحكما بينهما رجلا وأن موسى أطاق حملها دون حميه وذكر عن موسى أنه أحق بالوفاء من حميه
ولو كان هذا هو شعيبا النبي لم ينازع موسى ولم يندم على إعطائه إياها ولم يحاكمه ولم يكن موسى قبل أن ينبأ أحق بالوفاء منه فإن شعيبا كان نبيا وموسى لم يكن نبيا فلم يكن موسى قبل أن ينبأ أكمل من نبي وما ذكره زيد من أنه كان يعرف أن موسى نبي إن كان ثابتا فالأحبار والرهبان كانت عندهم علامات الأنبياء وكانوا يخبرون بأخبارهم قبل أن يبعثوا والله سبحانه أعلم
فصل
وأما شياع كون حمى موسى شعيبا النبي عند كثير من الناس الذين لا خبرة لهم بحقائق العلم ودلائله وطرقه السمعية والعقلية فهذا مما لا يغتر به عاقل فإن غاية مثل ذلك أن يكون منقولا عن بعض المنتسبين إلى العلم وقد خالفه غيره من أهل العلم وقول العالم الذي يخالفه نظيره ليس حجة بل يجب رد ما تنازعا فيه إلى الأدلة
ومثال ذلك ما ذكره بعضهم أو كثير منهم من أن الرسل المذكورين في سورة يس هم من حواريي المسيح عليه السلام وأن حبيب النجار آمن بهم وهذا أمر باطل عند أجلاء علماء المسلمين وعند أهل الكتاب فإن الله قد أخبر عن هذه القرية التي جاءها المرسلون أنه قد أهلك أهلها فقال تعالى إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون الآية 29
وأنطاكية لما جاءها اثنان من الحواريين بعد رفع المسيح آمنوا بهما وهي أول مدينة اتبعت المسيح ولم يهلكهم الله بعد المسيح باتفاق المسلمين وأهل الكتاب فكيف يجوز أن يقال هؤلاء هم رسل المسيح
وأيضا فإن الذين أتوهم كانا اثنين من الحواريين وأهل الكتاب معترفون بذلك ولم يكن حبيب النجار موجودا حينئذ بل هؤلاء رسل أرسلهم الله قبل المسيح وأهلك أهل تلك القرية وقد قيل إنها أنطاكية وآمن حبيب بأولئك الرسل ثم بعد هذا عمرت أنطاكية وجاءتهم رسل المسيح بعد ذلك
والحواريون ليسوا رسل الله عند المسلمين بل هم رسل المسيح كالصحابة الذين كان النبي ﷺ يرسلهم إلى الملوك ومن زعم أن هؤلاء حواريون فقد جعل للنصارى حجة لا يحسن أن يجيب عنها وقد بسطنا ذلك في الرد على النصارى وبينا أن الحواريين لم يكونوا رسلا فإن النصارى يزعمون أن الحواريين رسل الله مثل إبراهيم وموسى وقد يفضلونهم على إبراهيم وموسى وهذا كفر عند المسلمين وقد بينا ضلال النصارى في ذلك
(آخره والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه)
=====




رسالة في المعاني المستنبطة من سورة الإنسان
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
فصل
تفسير السورة إجمالا
اعلم أن سورة هل أتى على الإنسان سورة عجيبة الشأن من سور القرآن على اختصارها
الآيتان: 1، 2
فإن الله سبحانه ابتدأها بذكر كيفية خلق الإنسان من النطفة ذات الأمشاج والأخلاط التي لم يزل بقدرته ولطفه وحكمته يصرفه عليها أطوارا وينقله من حال إلى حال إلى أن تمت خلقته وكملت صورته فأخرجه إنسانا سويا سميعا بصيرا ثم لما تكامل تمييزه وإدراكه هداه طريقي الخير والشر والهدى والضلال
الآية الثالثة
وأنه بعد هذه الهداية إما أن يشكر ربه وإما أن يكفره ثم ذكر مآل أهل الشكر والكفر وما أعد لهؤلاء وهؤلاء وبدأ أولا بذكر عاقبة أهل الكفر ثم عاقبة أهل الشكر وفي آخر السورة ذكر أولا أهل الرحمة ثم أهل العذاب فبدأ السورة بأول أحوال الإنسان وهي النطفة وختمها بآخر أحواله وهي كونه من
الآية الرابعة
أهل الرحمة أو العذاب ووسطها بأعمال الفريقين فذكر أعمال أهل العذاب مجملة في قوله إنا اعتدنا للكافرين سورة الإنسان 4 وأعمال أهل الرحمة مفصلة وجزاءهم مفصلا
فتضمنت السورة خلق الإنسان وهدايته ومبدأه وتوسطه ونهايته وتضمنت المبدأ والمعاد والخلق والأمر وهما القدرة والشرع وتضمنت إثبات السبب وكون العبد فاعلا مريدا حقيقة وأن فاعليته ومشيئته إنما هي بمشيئة الله ففيها الرد على طائفتين القدرية والجبرية وفيها ذكر أقسام بني آدم كلهم فإنهم إما أهل شمال وهم الكفار أو أهل يمين وهم نوعان أبرار ومقربون
الآية الخامسة
وذكر سبحانه أن شراب الأبرار يمزج من شراب عباده المقربين لأنهم مزجوا أعمالهم ويشربه المقربون صرفا خالصا كما أخلصوا أعمالهم وجعل سبحانه شراب المقربين من الكافور الذي فيه من التبريد والقوة ما يناسب برد اليقين وقوته لما حصل لقلوبهم ووصل إليها في الدنيا مع ما في ذلك من مقابلته للسعير
وأخبر سبحانه أن لهم شرابا آخر ممزوجا من الزنجبيل لما فيه من طيب الرائحة ولذة الطعم والحرارة التي توجب تغير برد الكافور وإذابة الفضلات وتطهير الأجواف ولهذا وصفه سبحانه بكونه شرابا طهورا أي مطرها لبطونهم
فوصفهم سبحانه بجمال الظاهر والباطن كما قال ولقاهم نضرة وسرورا الآية 11 فالنضرة جمال وجوههم والسرور جمال قلوبهم كما قال تعرف في وجوههم نضرة النعيم سورة المطففين 24
وقريب من هذا قول امرأة العزيز في يوسف فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم سورة يوسف 32 فأخبرت بجمال ظاهره حين أشارت إليه بالخروج عليهن ثم ضمت إلى ذلك إخبارها بأن باطنه أجمل من ظاهره بأني راودته فأبى إلا العفة والحياء والإستعصام
ثم ذكر سبحانه من أعمال الأبرار ما ينبه سامعه على جمعهم لأعمال البر كلها فذكر سبحانه وفاءهم بالنذر وخوفهم من ربهم وإطعامهم الطعام على محبتهم له وإخلاصهم لربهم في طاعتهم
الآية السابعة
وذكر سبحانه الوفاء بالنذر وهو أضعف الواجبات فإن العبد هو الذي أوجبه على نفسه بالتزامه فهو دون ما أوجبه الله سبحانه عليه فإذا وفى لله بأضعف الواجبين الذي التزمه هو فهو بأن يوفى بالواجب الأعظم الذي أوجبه الله عليه أولى وأخرى
ومن ههنا قال من قال من الفسرين المقربون يوفون بطاعة الله ويقومون بحقه عليهم وذلك أن العبد إذا نذر لله طاعة فوفى بها فإنما يفعل ذلك لكونها صارت حقا لله يجب الوفاء بها وهذا موجود في حقوقه كلها فهي في ذلك سواء
ثم أخبر عنهم بأنهم يخافون اليوم العسير القمطرير وهو يوم القيامة
ففي ضمن هذا الخوف إيمانهم باليوم الآخر وكفهم عن المعاصي التي تضرهم في ذلك اليوم وقيامهم بالطاعات التي ينفعهم فعلها ويضرهم تركها في ذلك اليوم
الآية الثامنة
ثم أخبر عنهم بإطعام الطعام على محبتهم له وذلك يدل على نفاسته عندهم وحاجتهم إليه وما كان كذلك فالنفوس به أشح والقلوب به أعلق واليد له أمسك فإذا بذلوه في هذه الحال فهم لما سواه من حقوق العباد أبذل
فذكر من حقوق العباد بذل قوت النفس على نفاسته وشدة الحاجة منبها على الوفاء بما دونه كما ذكر من حقوقه الوفاء بالنذر منبها على الوفاء بما هو فوقه وأوجب منه ونبه بقوله على حبه الآية 8 أنه لولا أن الله سبحانه أحب إليهم منه لما آثروه على ما يحبونه فآثروا المحبوب الأعلى على الأدنى
الآية التاسعة
ثم ذكر أن مصرف طعامهم إلى المسكين واليتيم والأسير الذين لا قوة لهم ينصرونهم بها ولا مال لهم يكافئونهم به ولا أهل ولا عشيرة يتوقعون منهم مكافأتهم كما يقصده أهل الدنيا والمعاوضون بإنفاقهم وإطعامهم
ثم أخبر عنهم أنهم إنما فعلوا ذلك لوجه الله وأنهم لا يريدون ممن أطعموه عوضا من أموالهم ولا ثناء عليهم بألسنتهم كما يريده من لا إخلاص له بإحسانه إلى الناس من معاوضتهم أو الشكور منهم فتضمن ذلك المحبة والإخلاص والإحسان
الآية العاشرة
ثم أخبر سبحانه عنهم بما صدقهم عليه قبل أن يقولوه حيث قالوا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا الآية 10 فصدقهم قبل قولهم
إذ يقول تعالى يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا الآية 7
الآية: 11
ثم أخبر سبحانه بأنه وقاهم شر ما يخافونه ولقاهم فوق ما كانوا يأملونه
الآيات: 12-20
وذكر سبحانه أصناف النعيم الذي حياهم به من المساكن والملابس والمجالس والثمار والشراب والخدم والنعيم والملك الكبير
ولما كان في الصبر من حبس النفس والخشونة التي تلحق الظاهر والباطن من التعب والنصب والحرارة ما فيه كان الجزاء عليه بالجنة التي فيها السعة والحرير الذي فيه اللين والنعومة والإتكاء الذي يتضمن الراحة والظلال المنافية للحر
الآية: 21
ثم ذكر سبحانه لون ملابس الأبرار وأنها ثياب سندس خضر وإستبرق وحليتهم وأنها أساور من فضة فهذه زينة ظواهرهم ثم ذكر زينة بواطنهم وهو الشراب الطهور وهو بمعنى التطهير
فإن قيل فلم اقتصر من آنيتهم وحليتهم على الفضة دون الذهب ومعلوم أن الجنان جنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما
قيل سياق هذه الآيات إنما هو في وصف الأبرار ونعيمهم مفصلا دون تفصيل جزاء المقربين فإنه سبحانه إنما أشار إليه أشارة تنبه على ما سكت عنه وهو أن شارب الأبرار يمزج من شرابهم
فالسورة مسوقة بصفة الأبرار وجزائهم على التفصيل وذلك والله أعلم
لأنهم أعم من المقربين وأكثر منهم ولهذا يخبر سبحانه عنهم بأنهم ثلة من الأولين وثلة من الآخرين وعن المقربين السابقين بأنهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين
وأيضا فإن في ذكر جزاء الأبرار تنبيها على أن جزاء المقربين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
وأيضا فإنه سبحانه ذكر أهل الكفر وأهل الشكر وأهل الشكر نوعان أبرار أهل يمين ومقربون سابقون وكل مقرب سابق فهو من الأبرار ولا ينعكس فاسم الأبرار والمقربين كاسم الإسلام والإيمان أحدهما أعم من الآخر
الآية: 22
وأيضا فإنه سبحانه أخبر أن هذا جزاء سعيهم المشكور وكل من الأبرار والمقربين سعيهم مشكور فذكر سبحانه السعي المشكور والسعي المسخوط
الآيتان: 23، 24
ثم ذكر سبحانه نبيه ﷺ بما أنعم عليه من تنزيل القرآن عليه وأمره بأن يصبر لحكمه وهو يعم الحكم الديني الذي أمره به في نفسه وأمره بتبليغه والحكم الكوني الذي يجري عليه من ربه فإنه سبحانه امتحن عباده وابتلاهم بأمره ونهيه وهو حكمه الديني وابتلاهم بقضائه وقدره وهوحكمه الكوني وفرض عليهم الصبر على كل واحد من الحكمين وإن كان الحكم الديني في هذه الآية أظهر إرادة وأنه أمر بالصبر على تبليغه والقيام بحقوقه
ولما كان صبره عليه لا يتم إلا بمخالفته لمن دعاه إلى خلافه من كل آثم أو كفور نهاه عن طاعة هذا وهذا وأتى بحرف أو دون الواو ليدل على أنه منهي عن طاعة أيهما كان إما هذا وإما هذا فكأنه قيل له لا تطع أحدهما وهو أعم في النهي من كونه منهيا عن طاعتهما فإنه لو قيل له لا تطعهما أو لا تطع آثما وكفورا لم يكن صريحا في النهي عن طاعة كل منهما بمفرده
الآيتان: 25، 26
ولما كان لا سبيل إلى الصبر إلا بتعويض القلب بشيء هو أحب إليه من فوات ما يصبر على فوته أمره بأن يذكر ربه سبحانه بكرة وأصيلا فإن ذكره أعظم العون على تحمل مشاق الصبر وأن يصبر لربه بالليل فيكون قيامه بالليل عونا على ما هو بصدده بالنهار ومادة لقوته ظاهرا وباطنا ولنعيمه عاجلا وآجلا
الآية: 27
ثم أخبر سبحانه عما يمنع العبد من إيثار ما فيه سعادته في الدنيا والآخرة وهو حب العاجلة وإيثارها على الآخرة تقديما لداعي الحس على داعي العقل
الآية: 28
ثم ذكر سبحانه خلقهم وإحكامه وإتقانه بما شد من أسرهم وهو ائتلاف الأعضاء والمفاصل والأوصال وما بينها من الرباطات وشد بعضها
ببعض وحقيقته القوة ومنه قول الشاعر
من كل مجتنب شديد أسره... سلس القياد تخاله مختالا
ولا يكون ذلك إلا فيما له شد ورباط ومنه الإسار وهو الحبل الذي يشد به الأسير
ثم أخبر سبحانه أنه قادر على أن يبدل أمثالهم بعد موتهم وأنه إذا شاء ذلك فعله وإذا للمحقق فهذا التبديل واقع لا محالة فهو الإعادة التي هي مثل البداءة
هذا هو معنى الآية ومن قال غير ذلك لم يصب معناها ولا توحشك لفظة المثل فإن المعاد مثل للمبدوء وإن كان هو بعينه فهو معاد أو هو مثله من جهة المغايدة بين كونه مبدءا ومعادا وهذا كالدار إذا تهدمت وأعيدت بعينها فهي الأولى وكذلك الصلاة المعادة هي الأولى وهي مثلها
وقد نطق القرآن بأنه سبحانه يعيدهم ويعيد أمثالهم إذ شاء وكلاهما واحد فقال كما بدأكم تعودون سورة الأعراف 29 وقال تعالى وإلينا ترجعون سورة الأنبياء 35 وقال وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده سورة الروم 27 وقال أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم سورة يس 81 وقال إنا لقادرون على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون سورة الواقعة 61 62
فهذا كله معاد الأبدان وقد صرح سبحانه بأنه خلق جديد في موضعين من كتابه وهذا الخلق الجديد هو المثل
الآية: 29
ثم ختم سبحانه السورة بالشرع والقدر كما افتتحها بالخلق والهداية فقال فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا الآية 29 فهذا شرعه ومحل أمره ونهيه
الآية الثلاثون
ثم قال وما تشاءون إلا أن يشاء الله الآية 30 فهذا قضاؤه وقدره ثم ذكر الإسمين الموجبين للتخصيص وهما اسم العليم الحكيم
وقوله وما تشاءون إلا أن يشاء الله فأخبر أن مشيئتهم موقوفة على مشيئته ومع هذا فلا يوجب ذلك حصول الفعل منهم إذ أكثر ما فيه أنه جعلهم شائين ولا يقع الفعل إلا حين يشاؤه منهم كما قال تعالى فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله سورة المدثر 55 56 وقال لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله سورة التكوير 28 29 ومع هذا فلا يقع الفعل منهم حتى يريد من نفسه إعانتهم وتوفيقهم
فهنا أربع إرادات إرادة البيان وإرادة المشيئة وإرادة الفعل وإرادة الإعانة والله أعلم
(آخره والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما)
=======




رسالة في قوله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة
فصل
قال الله تعالى واستعينوا بالصبر والصلاة سورة البقرة 75
قال علي بن أبي طالب الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فإذا انقطع الرأس بار الجسد ألا لا إيمان لمن لا صبر له
فالصبر على أداء الواجبات واجب ولهذا قرنه بالصلاة في أكثر من خمسين موضعا فمن كان لا يصلي من جميع الناس رجالهم ونسائهم فإنه يؤمر فإن امتنع عوقب بإجماع المسلمين ثم أكثرهم يوجبون قتل تارك الصلاة وهل يقتل كافرا مرتدا أو فاسقا على قولين في مذهب أحمد وغيره والمنقول عن أكثر السلف يقتضي كفره وهذا مع الإقرار بالوجوب فأما مع جحود الوجوب فهو كافر بالاتفاق
ومن ذلك تعاهد مساجد المسلمين وأئمتهم وأمرهم بأن يصلوا بهم صلاة النبي ﷺ حيث قال صلوا كما رأيتموني أصلي رواه البخاري وصلى مرة بأصحابه على طرف المنبر وقال إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي
فعلى إمام الصلاة أن يصلي بالناس صلاة كاملة لا يقتصر على ما يجوز للمنفرد
الإقتصار عليه إلا لعذر وكذلك على إمامهم في الحج وأميرهم في الحرب ألا ترى الوكيل والولي في البيع والشراء عليه أن يتصرف لموكله ولموليه على الوجه الأصلح له في ماله وهو في مال نفسه يفوت على نفسه ما شاء فأمر الدين أهم ومتى اهتمت الولاة بإصلاح دين الناس صلح الدين للطائفتين والدنيا وإلا اضطربت الأمور عليهم جميعا
وملاك ذلك حسن النية للرعية وإخلاص الدين كله لله عز وجل والتوكل عليه فإن الإخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة كما أمرنا أن نقول في صلاتنا إياك نعبد وإياك نستعين فهاتان الكلمتان قد قيل إنهما تجمعان معاني الكتب المنزلة من السماء
وروى أنه ﷺ كان مرة في غزاة فقال يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين فجعلت الرءوس تندر عن كواهلها
وقد ذكر ذلك في غير موضع من كتابه كقوله عز وجل فاعبده وتوكل عليه سورة هود 123 وقوله عليه توكلت وإليه أنيب سورة هود 88 سورة الشورى 10 وكان ﷺ إذا ذبح أضحيته قال منك وإليك
وأصل ذلك المحافظة على الصلوات بالقلب والبدن والإحسان إلى الناس بالنفع والمال الذي هو الزكاة والصبر على أذى الخلق وغيره من النوائب فبالقيام بالصلاة والزكاة والصبر يصلح حال الراعي والرعية وإذا عرف الإنسان ما يدخل في هذه الأسماء الجامعة عرف ما يدخل في الصلاة من ذكر الله تعالى ودعائه وتلاوة كتابه وإخلاص الدين له والتوكل عليه وفي الزكاة من الإحسان إلى الخلق بالمال والنفع من نصر المظلوم وإغاثة الملهوف وقضاء حاجة المحتاج وفي الصحيح عن النبي ﷺ قال كل معروف صدقة فيدخل فيه كل إحسان ولو ببسط الوجه والكلمة الطيبة
ففي الصحيح عن عدي بن حاتم قال قال رسول الله ﷺ ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حاجب فينظر أيمن منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أشأم منه فلا يرى إلا شيئا قدمه وينظر أمامه فيستقبل النار فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة فليفعل فإن لم يجد فبكلمة طيبة
وفي السنن لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق وفي رواية ووجهك إليه منبسط ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي
وفي الصبر احتمال الأذى وكظم الغيظ والعفو عن الناس ومخالفة الهوى وترك الأشر والبطر كما قال تعالى ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات الآية سورة هود 9 11
وقال الحسن البصري إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش ألا ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا وأصلح
وليس من حسن النية للرعية والإحسان إليهم أن يفعل ما يهوونه ويترك ما يكرهونه قال تعالى ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن سورة المؤمنون 71 وقال لأصحاب نبيه ﷺ واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم سورة الحجرات 7
======


رسالة في تحقيق التوكل
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما أما بعد فهذا
فصل في التوكل: التوكل عند طائفة مجرد عبادة لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة
قد ظن طائفة ممن تكلم في أعمال القلوب أن التوكل لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة بل ما كان مقدرا بدون التوكل فهو مقدر مع التوكل ولكن التوكل عبادة يثاب عليها من جنس الرضا بالقضاء وذكر ذلك أبو عبد الله بن بطة فيما صنفه في هذا الباب وقول هؤلاء يشبه قول من قال إن الدعاء لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة بل هو عبادة يثاب عليها كرمي الجمار وآخرون يقولون بل الدعاء علامة وأمارة ويقولون ذلك في جميع العبادات وهذا قول من ينفي الأسباب في الخلق والأمر ويقول إن الله يفعل عندها لا بها وهو قول من طائفة من متكلمي أهل الإثبات للقدر كالأشعري وغيره وهو قول طائفة من الفقهاء والصوفية
وأصل هذه البدعة من قول جهم فإنه كان غاليا في نفي الصفات وفي الجبر فجعل من تمام توحيد الذات نفي الصفات ومن تمام توحيد الأفعال نفى الأسباب حتى أنكر تأثير قدرة العبد بل نفى كونه قادرا وأنكر الحكمة والرحمة وكان يخرج إلى الجذمي فيقول أرحم الراحمين يفعل كل هذا يعني أنه يفعل بمحض المشيئة بلا رحمة وقوله في القدر قد يقرب إليه الأشعري ومن وافقه من الطوائف
والذي عليه السلف والأئمة والفقهاء والجمهور وكثير من أهل الكلام إثبات الأسباب كما دل على ذلك الكتاب والسنة مع دلالة الحس والعقل والكلام على هؤلاء مبسوط في مواضع أخر
التوكل عند الجمهور يجلب المنفعة ويدفع المضرة وهو سبب عند الأكثرين
والمقصود هنا الكلام على التوكل فإن الذي عليه الجمهور أن المتوكل يحصل له بتوكله من جلب المنفعة ودفع المضرة ما لا يحصل لغيره وكذلك الداعي والقرآن يدل على ذلك في مواضع كثيرة ثم هو سبب عند الأكثرين وعلامة عند من ينفي الأسباب قال تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا سورة الطلاق 2 3 والحسب الكافي فبين أنه كاف من توكل عليه وفي الدعاء يا حسب المتوكل فلا يقال هو حسب غير المتوكل كما هو حسب المتوكل لأنه علق هذه الجملة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط فيمتنع في مثل ذلك أن يكون وجود الشرط كعدمه ولأنه رتب الحكم على الوصف المناسب له
توكل المؤمن على الله هو سبب كونه حسبا له
فعلم أن توكله هو سبب كونه حسبا له ولأنه ذكر ذلك في سياق الترغيب في التوكل كما رغب في التقوى فلو لم يحصل للمتوكل من الكفاية ما لا يحصل لغيره لم يكن ذلك مرغبا في التوكل كما جعل التقوى سببا للخروج من الشدة وحصول الرزق من حيث لا يحتسب وقد قال تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل سورة آل عمران 173 فمدحوه سبحانه بأنه نعم الوكيل لما توكلوا عليه بقولهم حسبنا الله أي كافينا الله لا يستحق المدح إن لم يجلب لمن توكل عليه منفعة ويدفع عنه مضرة والله خير من توكل العباد عليه فهو نعم الوكيل يجلب لهم كل خير ويدفع عنهم كل شر
وقال تعالى واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا سورة المزمل 8 9 وقال تعالى وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا سورة الإسراء 2 فأمر أن يتخذ وكيلا ونهى أن يتخذ من دونه وكيلا لأن المخلوق لا يستقل بجميع حاجات العبد والوكالة الجائزة أن يوكل الإنسان في فعل يقدر عليه فيحصل للموكل بذلك بعض مطلوبه فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلا الله وذلك الذي يوكله لا يفعل شيئا إلا بمشيئة الله عز وجل وقدرته فليس له أن يتوكل عليه وإن وكله بل يعتمد على الله في تيسير ما وكله فيه فلو كان الذي يحصل للمتوكل على الله يحصل وإن توكل على غيره أو يحصل بلا توكل لكان اتخاذ بعض المخلوقين وكيلا أنفع من اتخاذ الخالق وكيلا وهذا من أقبح لوازم هذا القول الفاسد قال تعالى يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين سورة الأنفال 64 أي الله كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين فلو كانت كفايته للمؤمنين المتبعين للرسول سواء اتبعوه أو لم يتبعوه لم يكن للإيمان واتباع الرسول ثم أثر في هذه الكفاية ولا كان لتخصصهم بذلك معنى وكان هذا نظير أن يقال هو خالقك وخالق من اتبعك من المؤمنين ومعلوم أن المراد خلاف ذلك
وإذا كان الحسب معنى يختص به بعض الناس علم أن قول المتوكل حسبي الله وقوله تعالى ومن يتوكل على الله فهو حسبه سورة الطلاق 3 أمر مختص لا مشترك وأن التوكل سبب ذلك الإختصاص والله تعالى إذا وعد على العمل بوعد أو خص أهله بكرامة فلا بد أن يكون بين وجود ذلك العمل وعدمه فرق في حصول تلك الكرامة وإن كان قد يحصل نظيرها بسبب آخر فقد يكفي الله بعض من لم يتوكل عليه كالأطفال لكن لا بد أن يكون للمتوكل أثر في حصول الكفاية الحاصلة للمتوكلين فلا يكون ما يحصل من الكفاية بالتوكل حاصلا مطلقا وإن عدم التوكل
التوكل سبب نعمة الله وفضله
وقد قال تعالى وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم سورة آل عمران 173 174 فمعقب هذا الجزاء والحكم لذلك الوصف والعمل بحرف الفاء وهي تفيد السبب فدل ذلك على أن ذلك التوكل هو سبب هذا الإنقلاب بنعمة من الله وفضل وأن هذا الجزاء جزاء على ذلك العمل
وفي الأثر من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله فلو كان التوكل لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة لم يكن المتوكل أقوى من غيره
قال تعالى يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين إن الله كان عليما حكيما واتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله كان بما تعملون خبيرا وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا سورة الأحزاب 1 3
وقال في أثناء السورة ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا الآية 48
فأمره سبحانه بتقواه واتباع ما يوحى إليه وأمره بالتوكل كما جمع بين هذين الأصلين في غير موضع كقوله فاعبده وتوكل عليه سورة هود 123 وقوله وتبتل إليه تبتيلا رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا سورة المزمل 8 9 وقوله تعالى ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير سورة الممتحنة 4 وقوله تعالى هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب سورة الرعد 30 وقوله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه سورة الطلاق 2 3
وقوله تعالى في الفاتحة إياك نعبد وإياك نستعين وعلم القرآن جمع في الفاتحة وعلم الفاتحة في هذين الأصلين عبادة الله والتوكل عليه
وإذا أفرد لفظ العبادة دخل فيه التوكل فإنه من عبادة الله تعالى كقوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم سورة البقرة 21 وقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون سورة الذاريات 56 وإذا قرن به التوكل كان مأمورا به بخصوصه
وهذا كلفظ الإسلام والإيمان والعمل ولفظ الصلاة مع العبادة ومع اتباع الكتاب ولفظ الفحشاء والبغي مع المنكر ونظائر ذلك متعددة
فكون اللفظ عند تجرده وإفراده يتناول أنواعا وقد يعطف بعض تلك الأنواع عليه فيكون مأمورا به بخصوصه ثم قد يقال إذا عطف لم يدخل في المعطوف عليه وقد يقال بل أمر به خاصا وعاما كما في قوله تعالى وملائكته ورسله وجبريل وميكال وإذا كان الله أمره بالتوكل على الله ثم قال وكفى بالله وكيلا سورة الأحزاب 3 علم أن الله وكيل كاف لمن توكل عليه كما يقال في الخطبة والدعاء الحمد لله كافي من توكل عليه
وإذا كان كفى به وكيلا فهذا مختص به سبحانه ليس غيره من الموجودات كفى به وكيلا فإن من يتخذ وكيلا من المخلوقين غايته أن يفعل بعض المأمور وهو لا يفعلها إلا بإعانة الله له وهو عاجز عن أكثر المطالب
فإذا كان سبحانه وصف نفسه بأنه كفى به وكيلا علم أنه يفعل بالمتوكل عليه ما لا يحتاج معه إلى غيره في جلب المنافع ودفع المضار إذ لو تبقى شر لم يكن كفى به وكيلا وهذا يقتضي بطلان ظن من ظن أن المتوكل عليه لا يحصل له بتوكله عليه جلب منفعة ولا دفع مضرة بل يجري عليه من القضايا ما كان يجري لو لم يتوكل عليه
والذين ظنوا هذا أصل شبهتهم أنهم لما أثبتوا أن الله إذا قضى شيئا فلا بد أن يكون وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأن ما سبق به علمه فهو كائن لا محالة صاروا يظنون ما يوجد بسبب يوجد بدونه وما يوجد مع عدم المانع يوجد مع المانع
وهذا غلط عظيم ضل فيه طوائف طائفة قالت لا حاجة إلى الأعمال المأمور بها فإن من خلق للجنة فهو يدخلها وإن لم يؤمن ومن خلق للنار فهو يدخلها وإن آمن
وهذه الشبهة سئل عنها النبي ﷺ لما قال ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة والنار قالوا أولا ندع العمل ونتكل على الكتاب فقال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاء فسييسر إلى عمل أهل الشقاء
الأسباب -ومنها التوكل- من قدر الله
وهذا المعنى قد ثبت عن النبي ﷺ في الصحيح في مواضع تبيين أن ما سبق به الكتاب سبق بالأسباب التي تفضي إليه فالسعادة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به سعيدا والشقاوة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به شقيا فالقدر يتضمن الغاية وسببها لم يتضمن غاية بلا سبب كما تضمن أن هذا ويلد له بأن يتزوج ويطأ المرأة وهذا ينبت أرضه بأن يزرع ويسقى الزرع وأمثال ذلك
وكذلك في السنن أنه قيل له يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقيها وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا فقال هي من قدر الله.
بين أن الأسباب التي تدفع بها المكاره هي من قدر الله ليس القدر مجرد دفع المكروه بلا سبب
وكذلك قول من قال إن الدعاء لا يؤثر شيئا والتوكل لا يؤثر شيئا هو من هذا الجنس لكن إنكار ما أمر به من الأعمال كفر ظاهر بخلاف تأثير التوكل ولكن الأصل واحد وهو النظر إلى المقدرو مجردا عن أسبابه ولوازمه ومن هذا الباب أن المقتول يموت بأجله عند عامة المسلمين إلا فرقة من القدرية قالوا إن القاتل قطع أجله ثم تكلم الجمهور لو لم يقتل فقال بعضهم كان يموت لأن الأجل قد فرغ وقال بعضهم لا يموت لانتفاء السبب
وكلاء القولين قد قاله من ينتسب إلى السنة وكلاهما خطأ فإن القدر سبق بأنه يموت فبهذا السبب لا بغيره فإذا قدر انتفاء هذا السبب كان فرض خلاف ما في المقدور ولو كان المقدور أنه لا يموت بهذا السبب أمكن أن يكون المقدر أنه يموت بغيره وأمكن أن يكون المقدر أنه لا يموت فالجزم بأحدهما جهل فما تعددت أسبابه لم يجزم بعدمه عند عدم بعضها ولو لم يجزم بثبوته إن لم يعرف له سبب آخر بخلاف ما ليس له إلا سبب واحد مثل دخول النار فإنه لا يدخلها إلا من عصى فإذا قدر أنه لم يعص لم يدخلها
نصر الله مع التوكل عليه
قال تعالى فاعف عنهم واستغفر لهم وشاروهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون سورة آل عمران 159 160 فأمره إذا عزم أن يتوكل على الله فلو كان المتوكل لا يعينه على مثل ما عزم عليه لم يكن به عند العزم فائدة يبين سبحانه أنه هو الناصر دون غيره فقال وعلى الله فليتوكل المؤمنون فنهى عن التوكل على غيره وأمر بالتوكل عليه ليحصل للمتوكل عليه النصر الذي لا يقدر عليه غيره وإلا فالمتوكل على غيره يطلب منه النصر فإن كان ذلك المطلوب لا يحصل منه لم يكن لذكر انفراده بالنصر معنى فإنه على هذا القول نصره لمن توكل عليه كنصره لمن لم يتوكل عليه وهذا يناقض مقصود الآية بل عند هؤلاء قد ينصر من يتوكل على غيره ولا ينصر من توكل عليه فكيف يأمر بالتوكل عليه دون غيره مقرونا بقوله إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون
وكذلك قوله تعالى أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد سورة الزمر 36 إلى قوله قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون سورة الزمر 38 فبين أن الله يكفي عبده الذي يعبده الذي هو من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان الذين هم من عباده المخلصين الذين هم من عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا الذين هم من عباد الله الذين يشربون من عين يفجرونها تفجيرا
ومثل هذا قوله سبحان الذي أسرى بعبده ليلا سورة الإسراء 1 وقوله تعالى وأنه لما قام عبد الله يدعوه سورة الجن 19 وقوله تعالى وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا سورة البقرة 23 ونظائر ذلك متعددة ثم أمره بقوله حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون
توكل المرسلين يدفع عنهم شر أعدائهم
وقال تعالى واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقتضوا إلي ولا تنظرون سورة يونس 71
وكذلك قال عن هود لما قال لقومه إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم سورة هود 54 56 فهذا من كلام المرسلين مما يبين أنه بتوكله على الله يدفع شرهم عنه
فنوح يقول إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فدعاهم إذا استعظموا ما يفعله كارهين له أن يجتمعوا ثم يفعلوا به ما يريدونه من الإهلاك وقال تعالى فعلى الله توكلت فلولا أن تحقيقه هذه الكلمة وهو توكله على الله يدفع ما تحداهم به ودعاهم إليه تعجيزا لهم من مناجزته لكان قد طلب منهم أن يهلكوه وهذا لا يجوز وهذا طلب تعجيز لهم فدل على أنه بتوكله على الله يعجزهم عما تحداهم به
وكذلك هو يشهد الله وإياهم أنه بريء مما يشركونه بالله ثم يتحداهم ويعجزهم بقوله فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها بين أنه توكل على من أخذ بنواصي الأنفس وبسائر الدواب فهو يدفعكم عني لأني متوكل عليه ولو كان وجود التوكل كعدمه في هذا لكان قد أغراهم بالإيقاع به ولم يكن لذكر توكله فائدة إذ كان حقيقة الأمر عند هؤلاء أنه لا فرق بين من توكل ومن لم يتوكل في وصول العذاب عليه وهم كانوا أكثر وأقوى منه فكانوا يهلكونه لولا قوته بتوكله عليه فإن التوكل إن لم يعطه قوة فهم أقوى منه وهو لو قال بأن الله مولاي وناصري ونحو ذلك لعلم أنه قاله مخبرا فالله يدفعهم عنه وإنما يدفعهم لإيمانه وتقواه ولأنه عبده ورسوله
والله تعالى مع رسله وأوليائه فإذا كان بسبب الإيمان والتقوى يدفع الله عن المؤمنين التقين كما قال تعالى إن الله يدافع عن الذين آمنوا سورة الحج 38 علم أن العبد تقوم به أعمال باطنة وظاهرة يجلب بها المنفعة ويدفع بها المضرة فالتوكل من أعظم ذلك وعلم أن من ظن أن المقدور من المنافع والمضار ليس معلقا بالأسباب بل يحصل بدونها فهو غلط
غلط من أنكر الأسباب أو جعلها مجرد أمارة أو علامة
وكذلك قول من جعل ذلك مجرد أمارة وعلامة لاقتران هذا بهذا في غير موضع من القرآن في خلقه وأمره كقوله تعالى فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات سورة الأعراف 57 وقوله تعالى كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية سورة الحاقة 24 وقوله تعالى جزاء بما كانوا يعملون سورة السجدة 17
وأنكر تعالى على من ظن وجود الأسباب كعدمها في قوله تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين سورة القلم 35 وقوله تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار سورة ص 28 وأمثال ذلك
وهؤلاء الذين يقولون بالجبد رقالوا بالأمر والنهي حقيقته أنه إعلام بوقوع العذاب بالمعاصي بمحض المشيئة لا لسبب ولا لحكمة فقلبوا حقيقة الأمر والنهي إلى الجبر كما أبطلوا الأسباب والحكم وأبطلوا قدر العباد وهم وإن كانوا يردون على القدرية ويذكرون من تناقضهم ما يبين به فساد قول القدرية فردوا باطلا بباطل وقابلوا بدعة ببدعة كرد اليهود على النصارى والنصارى على اليهود مقاتلهم في المسيح وكلا المقالتين باطلة وكذلك تقابل الخوارج والشيعة في علي كلاهما باطل على باطل ونظائر متعددة
فصل: فرض الله الدعاء على العباد لافتقارهم إلى هدايته
وإن ما فرض عليه من الدعاء الراتب الذي يتكرر في الصلوات بل الركعات فرضها ونفلها هو الدعاء الذي تضمنته أم القرآن وهو قوله تعالى اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين لأن كل عبد فهو مضطر دائما إلى مقصود هذاالدعاء وهو هداية الصراط المستقيم فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية ولا وصول إلى السعادة إلا به فمن فاته هذا الهدى فهو إما من المغضوب عليهم وإما من الضالين
وهذا الإهتداء لا يحصل إلا بهدى الله فمن يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا سورة الكهف 17 وهذه الآية مما يتبين بها فساد مذهب القدرية الذين يزعمون أن العبد لا يفتقر في حصول هذا الإهتداء إلى الله بل كل عبد عندهم معه ما يحصل به الإهتداء والكلام عليهم مبسوط في موضع آخر
والمقصود هنا أن كل عبد فهو مفتقر دائما إلى حصول هذه الهداية وأما سؤال من يقول فقد هداهم إلى الإيمان فلا حاجة إلى الهدى وجواب من يجيب بأن المطلوب دوام الهدى فكلام من لم يعرف حقيقة حال الأسباب وما أمر به فإن الصراط المستقيم أن تفعل في كل وقت ما أمرت به في ذلك الوقت من علم وعمل ولا تفعل ما نهيت عنه وهذا يحتاج إليه في كل وقت إلى أن يعلم ما أمر به في ذلك الوقت وما نهى عنه وإلى أن يحصل له إرادة جازمة لفعل المأمور وكراهة جازمة لترك المحظور وهذا العلم المفصل والإرادة المفصلة لا يتصور أن تحصل للعبد في وقت واحد بل في كل وقت يحتاج أن يجعل الله في قلبه من العلوم والإرادات ما يهدى به في ذلك الوقت نعم حصل له هدى مجمل فإن القرآن حق ودين الإسلام حق والرسول ونحو ذلك ولكن هذا الهدى المجمل لا يعينه إن لم يحصل له هدى مفصل في كل ما يأتيه ويدبره من الجزئيات التي يحار في كثير منها أكثر عقول الخلق ويغلب الهوى أكثر الخلق لغلبة الشبهات والشهوات على النفوس
والإنسان خلق ظلوما جهولا فالأصل فيه عدم العلم وميله إلى ما يهواه من الشر فيحتاج دائما إلى علم مفصل يزول به جهله وعدل في محبته وبغضه ورضاه وغضبه وفعله وتركه وإعطائه ومنعه وكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى عدل ينافي ظلمه فإن لم يمن الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل وإلا كان فيه من الجهل والظلم ما يخرج به عن الصراط المستقيم وقد قال تعالى لنبيه بعد صلح الحديبية وبيعة الرضوان إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا سورة الفتح 1 3 فأخبر أنه فعل هذا ليهديه صراطا مستقيما فإذا كان هذا حاله فكيف حال غيره
والصراط المستقيم قد فسر بالقرآن والإسلام وطريق العبودية وكل هذا حق فهو موصوف بهذا وبغيره فحاجته إلى هذه الهداية ضرورية في سعادته ونجاته بخلاف الحاجة إلى الرزق والنصر فإن الله يرزقه وإذا انقطع رزقه مات والموت لا بد منه فإن كان من أهل الهداية كان سعيدا وإن كان بعد الموت وكان الموت موصلا له إلى السعادة الدائمة الأبدية فيكون رحمة في حقه وكذلك النصر إذا قدر أنه قهر وغلب حتى قتل فإذا كان من أهل الهداية إلى الإستقامة مات شهيدا وكان القتل من تمام نعمة الله عليه فتبين أن حاجة العباد إلى الهدي أعظم من حاجتهم إلى الرزق بل لا نسبة بينهما فلهذا كان هذا الدعاء هو المفروض عليهم
وأيضا فإن الدعاء يتضمن الرزق والنصر لأنه إذا هدي الصراط المستقيم كان من المتقين ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب وكان ممن ينصر الله ورسوله ومن نصر الله نصره وكان من جند الله وجند الله هم الغالبون فالهدى التام يتضمن حصول أعظم ما يحصل به الرزق والنصر
==========


رسالة في تحقيق الشكر
فصل يتعلق بالشكر - المجبرة والقدرية والملاحدة لا يحمدون الله ولا يشكرونه
اعلم أن أهل البدع القدرية من الجهمية المجبرة والقدرية النافية لا يحمدون الله ولا يشكرونه كما أنهم لا يعبدونه وأما أهل الإلحاد من المتفلسفة والباطنية فهم أبعد عن حمده وشكره
مقالة المجبرة
وذلك أن المجبرة حقيقة قولهم أنه ليس برحيم ولا منعم بل ولا إله يستحق أن يعبد ويحب بل صدور الإحسان عنه كصدور الإساءة وإنما هو يفعل بمحض مشيئة ترجح الشيء على مثله لا لمرجح وكل الممكنات عندهم متماثلة فلا فرق بين أن يريد رحمة الخلق ونفعهم والإحسان إليهم أو يريد فسادهم وهلاكهم وضرارهم يقولون هذا كله عنده سواء
ومعلوم أن الإنعام إنما يكون إنعاما إذا قصد به المنعم نفع المنعم عليه دون إضراره وأما إذا قصد الأمرين فهذا ليس جعله منمعما مصلحا بأولى من جعله معتديا مفسدا كمن بيده سيف يضرب به صديق الإنسان تارة وعدوه أخرى أو معه دراهم يقوى بها تارة ويقويه بها تارة فهذا ليس كونه محسنا إليه بأولى من كونه ضارا له ومحسنا إلى عدوه
مقالة القدرية النافية
وأما النافية فعندهم أن هذا كله واجب عليه البيان وخلق القدرة وإزاحة العلل والجزاء ومن فعل الواجب الذي يستحقه غيره عليه لم يستحق الشكر المطلق
وأيضا إنعامه بالهدى على المؤمنين والكفار سواء فشكر المؤمنين له على الهدى كشكر الكفار عليه إذ لم ينعم على المؤمنين بنفس الهدى بل هم اهتدوا بقدرتهم ومشيئتهم وإذن كان إنعامه على النوعين سواء ولكن هؤلاء هم الذين فعلوا ما يسعدون به
مقالة المتفلسفة
والمتفلسفة أرسطو وأتباعه عندهم أنه لا يفعل شيئا ولا يريد شيئا ولا يعلم شيئا ولا يخلق شيئا فعلى أي شيء يشكر أم على أي شيء يحمد ويعبد
مقالة باطنية الشيعة والمتصوفة
والباطنية باطنية الشيعة والمتصوفة كابن سبعين وابن عربي هم في الباطن كذلك بل يقولون الوجود واحد وجود المخلوق هو وجود الخالق فيجب عندهم أن يكون كل موجود عابدا لنفسه شاكرا لنفسه حامدا لنفسه
مقالة ابن عربي
وابن عربي يجعل الأعيان ثابتة في العدم وقد صرح بأن الله لم يعط أحدا شيئا وأن جميع ما للعباد فهو منهم لا منه وهو مفتقر إليهم لظهور وجوده في أعيانهم وهم مفتقرون إليه لكون أعيانهم ظهرت في وجوده فالرب إن ظهر
فهو العبد والعبد إن بطن فهو الرب ولهذا قال لا تحمد ولا تشكر إلا نفسك فما في أحد من الله شيء ولا في أحد من نفسه شيء ولهذا قال إنه يستحيل من العبد أن يدعوه لأنه يشهد أحدية العين فالداعي هو المدعو فكيف يدعو نفسه وزعم أن هذا هو خلاصة غاية الغاية فما بعد هذا شيء وقال فلا تطمع أن ترقى في أعلى من هذه الدرج فما ثم شيء أصلا وإن هذا إنما يعرفه خلاصة خلاصة الخاصة من أهل الله
فصرح بأنه ليس بعد وجود المخلوقات وجود يخلق ويرزق ويعبد ولهذا كان صاحبه القاضي يقول
ما الأمر إلا نسق واحد... ما فيه من حمد ولا ذم
وإنما العادة قد خصصت... والطبع والشارع بالحكم
وقد قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر
فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم الآية سورة النحل 53 54 إلى قوله سبحانه ولهم ما يشتهون الآية 57
كفر باطنية المتصوفة أعظم من كفر الفلاسفة
وهذه الآيات كما تناولت ذم الذين جعلوا له شريكا وولدا فتناولها لذم هؤلاء الملاحدة أعظم فإن القائلين بقدم العالم وأنه معلول جعلوه كله والدلالة قديما أزليا معه وهذا أعظم من قول أولئك والذين لم يجعلوه معلولا له قالوا إنه قديم معه واجب الوجود مماثل له بل وجعلوا الفلك هو الذي تحدث عنه الحوادث لكن حركته للشبه به وهذا أعظم من كل شرك في العالم ومن شرك المجوس والحرنانيين فإن أولئك وإن جعلوا معه قديما إما الظلمة وهي إبليس عند المجوس وإما النفس والهيولي عند الحرنانيين فهم يقولون إنه أحدث العالم وأنه ركبه من النفس والهيولي القدمين ورحبه من أجزاء النور والظلمة
ولهذا ذكر محمد بن كعب وغيره عن المجوس والصابئة أنهم قالوا عن الله لولا أولياؤه لذل فأنزل الله تعالى ولم يكن له ولي من الذل سورة الإسراء 111 فإنهم يجعلونه محتاجا إلى من يعاونه إذ كان مغلوبا من وجه مع القدماء معه كما هو غالب من وجه
وكفر أولئك أعظم فإنهم لم يجعلوا له تأثيرا في الفلك ولا تصرفا بوجه من الوجوه فهؤلاء تنقصوه وسلبوه الربوبية والإلهية أعظم من أولئك وجعلوه مع الفلك مغلوبا من كل وجه لا بقدر أن يفعل فيه شيئا وكقول عبدة الأوثان هو أجل من أن نعبده بل نعبد الوسائط وهو أجل من أن يبعث بشرا رسولا فجحدوا توحيده ورسالته على وجه التعظيم له وكذلك المجوس الثنوية أثبتوا الظلمة تنزيها له عن فعل الشر والحرنانيون أثبتوا معه النفس والهبلوي قديمين تنزيها له عن إحداث العالم بلا سبب فالأمم كلهم يعظمونه لكن تعظيما يستلزم شبهة وسبة
كل ما بالخلق من نعمة فمن الله
والمقصود هنا قوله تعالى وما بكم من نعمة فمن الله سورة النحل 53 وقوله عز وجل وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه سورة الجاثية 13 فالأمر ضد ما قاله هؤلاء الملاحدة ابن عربي ونحوه حيث قالوا ما في أحد من الله شيء فيقال لهم بل كل ما بالخلق من نعمة فمن الله وحده
قال النبي ﷺ من قال إذا أصبح اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر فقد أدى شكر ذلك اليوم ومن قال إذا أمسى اللهم ما أمسى بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر فقد أدى شكر تلك الليلة رواه أبو داود وغيره
فكل ما بالخلق من النعم فمنه وحده لا شريك له ولهذا هو سبحانه يجمع بين الشكر والتوحيد ففي الصلاة أول الفاتحة الحمد لله رب العالمين وأوسطها إياك نعبد وإياك نستعين والخطب وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم وعن ابن عباس إذا قلت لا إله إلا الله فقل الحمد لله فإن الله يقول فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين سورة غافر 65
وفي حديث عن النبي ﷺ قال من قال حين يصبح الحمد لله ربي لا أشرك به شيئا أشهد أن لا إله إلا الله ظل تغفر له ذنوبه حتى يمسي ومن قالها حين يمسي غفرت له ذنوبه حتى يصبح رواه أبان المحاربي عن النبي ﷺ كما ذكره ابن عبد البر وغيره
فالحمد أول الأمر كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم والتوحيد نهايته ولهذا كان النصف من الفاتحة الذي هو لله أوله حمد وآخره توحيد إياك نعبد
والحمد رأس الشكر فالحامد يشكره أولا على نعمه ثم يعبده وحده فإن العبد أول ما يعرف ما يحصل له من النعمة مثل خلقه حيا وخلق طرق العلم السمع والبصر والعقل
وقد تنازع الناس في أول ما أنعم الله على العبد فقيل هو خلقه حيا أو خلق الحياة كما قال ذلك من قاله من المعتزلة وقيل بل إدراك اللذات ونيل الشهوات كما يقوله الأشعري ومن وافقه من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره كالقاضي أبي يعلى في أحد قوليه ومن أصحاب أحمد وغيرهم من قال بل أولها هو الإيمان ولم يجعل ما قبل الإيمان نعمة بناء على أن تلك لا تصير نعما إلا بالإيمان وأن الكافر ليس عليه نعمة وهذا أحد قولي الأشعري وأحد القولين لمتأخري أصحاب أحمد وغيرهم كأبي الفرج
نعمة الله على الكفار وغيرهم ولكن نعمته المطلقة على المؤمنين
والصحيح أن نعمة الله على كل أحد على الكفار وغيرهم لكن النعمة المطلقة التامة هي على الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين أمرنا أن نقول في صلاتنا اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم فإن جعلت غير صفة لا استثناء فيها لم يدخل المغضوب عليهم ولا الضالون في المنعم عليهم وإن جعلت استثناء فقد دخلوا في المنعم عليهم لكن رجحوا الأول فقالوا واللفظ للبغوي غير ههنا بمعنى لا ولا بمعنى غير ولذلك جاز العطف عليها كما يقال فلان يغر محسن ولا مجمل فإذا كان غير بمعنى سوى فلا يجوز العطف عليها بلا لا يجوز في الكلام عندي سوى عبد الله ولا زيد وقد روى عن عمر أنه قرأ صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين
وهذا قد ذكره غير واحد من أهل العربية ومثلوه بقول القائل إنى لأقر بالصادق غير الكاذب قالوا وغير هنا صفة ليست للإستثناء وأصل غير أن تكون صفة وهي في الآية صفة ولهذا خفضت كأنه قيل صراط المنعم عليهم المغايرين لهؤلاء وهؤلاء
هذه هي النعمة المطلقة التامة والقرآن مملوء من ذكر نعمه على الكفار وقد قال تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم سورة البقرة 28 فالحياة نعمة وإدراك اللذات نعمة وأما الإيمان فهو أعظم النعم وبه تتم النعم
فالإنسان بجبلته يطلب ما يوافقه ويتنعم به من الغذاء وغيره على هذا فطر فيعرف النعمة فيعرف المنعم فيشكره فلهذا كان الحمد هو الإبتداء فإن شعوره بنفسه وبما يحتاج إليه ويتنعم به قبل شعوره بكل شيء وهو من حين خرج من بطن أمه شعر باللبن الذي يحتاج إليه ويتنعم به وبما يخرج منه وهو الثدي فلهذا تعرف الله إليه بالنعم ليشكره وشكره ابتداء معرفته بالله فإذا عرف الله أحبه فعبده وتنعم بعبادته وحده لا شريك له وعرف ما في التأله له من اللذة العظيمة التي لا يعد لها لذة فلهذا كان التوحيد نهايته أوله الحمد وآخره إياك نعبد
وكذلك في الجنة كما في صحيح مسلم عن صهيب عن النبي ﷺ أنه قال إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وهي الزياده فالنظر إليه أكمل اللذات وآخرها كما قال فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولهذا قيل أطيب ما في الدنيا معرفته وأطيب ما في الآخرة مشاهدته
وعبادته وحده بمحبته وقصد رؤيته هو لأهل السنة الذين يقرون بإلاهيته وحكمته وأنه يستحق المحبة وأن يكون هو أحب إلى العبد من كل شيء
الجهمية والمعتزلة ينكرون محبته تعالى ويقرون بوجوب الشكر
وأما الجهمية والمعتزلة فينكرون محبته وحقيقة إلاهيته وعلى قولهم تمتنع عبادته لكن المعتزلة تقر بالنعمة ووجوب الشكر وعلى هذا بنوا دينهم وغاية الواجبات هي الشكر ولهذا قالوا الشكر يجب عقلا وأما العبادة والمحبة فلم يعرفوها ولم يصلوا إليها بل أنكروها
وأما الجهمية المجبرة لا هذا ولا هذا لكن يعترفون بقدرته وأنه يفعل ما يشاء ولهذا كانوا في الواجبات وترك المحرمات أبعد من المعتزلة فإنهم مرجئة مجبرة فلا يجزمون بالوعيد وهذا نصف الحرف الباعث على العمل ويقلون بالجبر وهذا نصف الاعتراف بحق الله على العبد ووجوب شكره فتضعف دواعيهم من جهة الخوف ومن جهة الشكر لا يشكرون نعمه الماضية
الجهمية المجبرة يضعف شكرهم وخوفهم ويقوى رجاؤهم
ولا يخافون عقوبته المستقبلة ولكن لما آمن من آمن منهم بالرسل صار عندهم خوف ما ورجاء وصاروا يوجبون الشكر شرعا وعندهم داعي الرجاء فالرجاء عندهم أغلب من الخوف وهو أحد المعنيين في تسميتهم مرجئة قيل إنه من الرجاء أي يجعلون الناس راجين فهم مرجية لا مخيفة لكن الصحيح أنهم مرجئة بالهمز من الإرجاء لكن يشارك الرجاء في الإشتقاق الأكبر
المؤمن يخاف الله ويرجوه ويحبه
ولهذا قيل من عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجىء ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ومن عبده بالحب فهو زنديق ومن عبده بالخوف والرجاء والحب فهو مؤمن موحد
القائلون بوحدة الوجود يحبون بدون خوف أو رجاء
وذلك أن الحب الذي ليس معه رجاء ولا خوف يبعث النفس على اتباع هواها وصاحبه إنما يحب في الحقيقة نفسه وقد اتخذ إلاهه هواه فلهذا كان زنديقا ومن هنا دخلت الملاحدة الباطنية كالقائلين بوحدة الوجود فإن هؤلاء سلوكهم عن هوى ومحبة فقط ليس معه رجاء ولا خوف ولهذا يتنوعون
فهم من الذين قال الله فيهم أفرأيت من اتخذ إلهه هواه سورة الجاثية 23 ولهذا يجوزون الشرك كما قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها الآية وما بعدها إلى قوله كل حزب بما لديهم فرحون سورة الروم 30 32
وهم في الحقيقة ينكرون محبة الله ولكن يقولون الحكمة هي التشبه به ولهذا كان ابن عربي يجعل الولي هو المتشبه به في التخلق بأسمائه وينكر اللذة بالمشاهدة والخطاب ويقول ما التذ عارف قط بالمشاهدة لأنها على أصله مشاهدة وجود مطلق ولا لذة فيها
ووقع بينه وبين شهاب الدين السهروردي منازعة هل حين يتجلى لهم يخاطبهم فأثبت شهاب الدين ذلك كما جائت به الآثار وأنكر ذلك ابن عربي وقال مسكين هذا السهروردي نحن نقول له عن تجلي الذات وهو يقول عن تجلي الصفات
وهذا بناء على أصله الفاسد وهو أن الذات وجود مطلق لا تقوم به صفات لا كلام ولا غيره فيستحيل عند تجليها خطاب
وشهاب الدين كان أتبع للسنة والشرع منه ولهذا كان صاحبهما ابن حمويه يقول ابن عربي بحر لا تكدره الدلاء ولكن نور المتابعة المحمدية على وجه الشيخ شهاب الدين شيء آخر لكنه كان ضعيف الإثبات للصفات والعلو لما فيه من التجهم الأشعري وكان يقول عن الرب لا إشارة ولا تعيين
وهؤلاء مخانيث الجهمية وابن عربي من ذكورهم فهم يستطيلون على من دخل معهم في التجهم وإنما يقهرهم أهل السنة المثبتون العارفون بما جاء به الرسول وبمخالفتهم له وببطلان ما يناقصن السنة من المعقولات الفاسدة ولم يكن السهروردي من هؤلاء وكذلك الحريري قال كنت أثبت المحبة أولا ثم رأيت أن المحبة ما تكون إلا من غير لغير وما ثم غير
فهؤلاء منتهاهم إنكار المحبة التي يستحقها الرب ولهذا لا يتابعون رسوله ولا يجاهدون في سبيله والله وصف المؤمنين بهذا وبهذا فمحبة هؤلاء تجر إلى الزندقة
وأيضا فقد يقولون إن المحب لا تضره الذنوب وصنف ابن حمويه في ذلك مصنفا بناه على ما يقال إذا أحب الله عبدا لا تضره الذنوب وهذا إذا قاله المحق فقصده أنه لا يتركه مصرا عليها بل يتوب عليه منها فلا تضره فأخذه هؤلاء وقالوا إن الذنوب لا تضر المحبوبين وأحدهم يقول عن نفسه إنه محجوب فلا تضره الذنوب فصاروا مثل اليهود والنصارى الذين قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه سورة المائدة 18 فصار فيهم زندقة من هذا الوجه ومن غيره
بيان مقالة أهل السنة
وقد قال تعالى عن يوسف كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين سورة يوسف 24 وقال تعالى ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به سورة النساء 123 وسيد المحبين المحبوبين خاتم الرسل وقد قال إني أعلمكم بالله واشدكم خشية له
وهو سبحانه لا يحب إلا الحسنات ولا يحب السيئات وهو يحب المتقين والمحسنين والصابرين والتوابين والمتطهرين ولا يحب كل مختال فخور ولا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر فإذا أحب عبدا وأذنب كان من التوابين المتطهرين
وبعض الناس يقول الشاب التائب حبيب الله والشيخ التائب عتيقه وليس كذلك بل كل من تاب فهو حبيب الله سواء كان شيخا أو شابا وقد روى أهل ذكرى أهل مجالستي وأهل شكري أهل زيادتي وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا أويسهم من رحمتي إن تابوا فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب
وهذا فعله مع عباده إذا أذنبوا إما أن يتوب عليهم وإما أن يبتليهم بما يطهرهم إذا لم يجعل السيئات تخفص درجتهم وإن لم يكن هذا ولا هذا انخفضت درجتهم بحسب سيئاتهم عن درجات من ساواهم في الحسنات وسلم من تلك السيئات كما قال سبحانه ولكل درجات مما عملوا سورة الأنعام 132 لأهل الجنة ولأهل النار درجات من أعمالهم بحسبها كما قد بسط في غير هذا الموضع
والعبد هو فقير دائما إلى الله من كل وجه من جهة أنه معبوده وأنه مستعانه فلا يأتي بالنعم إلا هو ولا يصلح حال العبد إلا بعبادته وهو مذنب أيضا لا بد له من الذنوب فهو دائما فقير مذنب فيحتاج دائما وإلى الغفور الرحيم الغفور الذي يغفر ذنوبه والرحيم الذي يرحمه فينعم عليه ويحسن إليه فهو دائما بين إنعام الرب وذنوب نفسه كما قال أبو إسماعيل الأنصاري إنه يسير بين مطالعة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل وكما قال ذلك العارف للحسن البصري إني أصبح بين نعمة وذنب فأريد أن أحدث للنعمة شكرا وللذنب استغفارا
وفي سيد الاستغفار أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي وفي الحديث الإلهي فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه وكان يقول في خطبته الحمد لله نستعينه ونستغفره وفي القنوت اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك إلى آخره وكان ﷺ إذا رفع رأسه من الركوع يحمد الله ثم يستغفره فيقول ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي ما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس
والاستغفار مقرون بالحمد كما قرن بالتوحيد وكما قرن الحمد بالتحميد وقد جمعت الثلاثة في مثل كفارة المجلس سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
وكان المقصود أن الجهمية المجبرة لما آمن منهم من آمن بالرسل صار عندهم خوف ما ورجاء ما وصاروا يوجبون الشكر شرعا فالداعي عندهم جزء من الشرع وأما داعي المعتزلة فهو أقوى من داعيهم فهم أحسن أعمالا وأعبد وأطوع وأورع كأهل السنة والمعرفة فهم يعبدونه مع الخوف والرجاء والشكر بداعي المحبة ومعرفة الحكمة والإلهية وهذه ملة إبراهيم الخليل فهم فوق هؤلاء كلهم والله تعالى أعلم
(آخره والحمد لله وحده وصلى الله على محمد وآله وسلم)
==========


رسالة في معنى كون الرب عادلا وفي تنزهه عن الظلم
قاعدة في معنى كون الرب عادلا وفي تنزهه عن الظلم وفي إثبات عدله وإحسانه
تأليف شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية مما ألفه في محبسه الأخير بالقلعة بدمشق قدس الله روحه
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجميعن وسلم تسليما
فصل
اتفق المسلمون وسائر أهل الملل على أن الله تعالى عدل قائم بالقسط لا يظلم شيئا بل هو منزه عن الظلم
تنازع طوائف المسلمين في معنى الظلم الذي ينزه الله عنه
ثم لما خاضوا في القدر تنازعوا في معنى كونه عدلا في الظلم الذي هو منزه عنه
مقالة الجهمية والأشاعرة
فقالت طائفة الظلم ليس بممكن الوجود بل كل ممكن إذا قدر وجوده منه فإنه عدل والظلم هو الممتنع مثل الجمع بين الضدين وكون الشيء موجودا معدوما فإن الظلم إما التصرف في ملك الغير وكل ما سواه ملكه وإما مخالفة الآمر الذي تجب طاعته وليس فوق الله تعالى آمر تجب عليه طاعته
وهؤلاء يقولون مهما تصور وجوده وقدر وجوده فهو عدل وإذا قالوا كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل فهذا أمر أوهم
وهذا قول المجبرة مثل جهم ومن اتبعه وهو قول الأشعري وأمثاله من أهل الكلام وقول من وافقهم من الفقهاء وأهل الحديث والصوفية
وقد روى عن بعض المتقدمين كلمات مطلقة تشبه هذا المذهب مثل قول إياس بن معاوية ما ناظرت بعقلي كله إلا القدرية قلت لهم ما الظلم قالوا أن تأخذ ما ليس لك قلت فلله كل شيء ومثل قول أبي الأسود لعمران بن حصين لما سأله فقال عمران أرأيت ما يكدح الناس اليوم ويعملون فيه أشيء قضى عليهم ومضى من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون فيما أتاهم به نبيهم فاتخذت به عليهم الحجة قال قلت بل شيء قد قضى عليهم ومضى عليهم قال فهل يكون ذلك ظلما قال ففزعت من ذلك فزعا شديدا وقلت له إنه ليس شيء إلا وهو خلق الله وملك يده ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون فقال سددك الله إني والله ما سألتك إلا لأحرز عقلك
وهذا قول كثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد كالقاضي أبي يعلى وأتباعه وأبي المعالي الجويني وأتباعه وأبي الوليد الباجي وأتباعه وغيرهم
مقالة المعتزلة
والقول الثاني أنه عدل لا يظلم لأنه لم يرد وجود شيء من الذنوب لا الكفر ولا الفسوق ولا العصيان بل العباد فعلوا ذلك بغير مشيئته كما فعلوه عاصين لأمره وهو لم يخلق شيئا من أفعال العباد لا خيرا ولا شرا بل هم أحدثوا أفعالهم فلما أحدثوا معاصيهم استحقوا العقوبة عليها فعاقبهم بأفعالهم لم يظلمهم
هذا قول القدرية من المعتزلة وغيرهم وهؤلاء عندهم لا يتم تنزيهه عن الظلم إن لم يجعل غير خالق لشيء من أفعال العباد بل ولا قادر على ذلك وإن لم يجعل غير شاء لجميع الكائنات بل يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء إذ المشيئة عندهم بمعنى الأمر
وهؤلاء والذين قبلهم يتناقضون تناقضا عظيما ولكن من الطائفتين مباحث ومصنفات في الرد على الأخرى وكل من الطائفتين تسمى الأخرى القدرية وقد روى عن طائفة من التابعين موافقة هؤلاء
مقالة أهل السنة
والقول الثالث أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه والعدل وضع كل شيء في موضعه وهو سبحانه حكم عدل يضع الأشياء مواضعها ولا يضع شيئا إلا في موضعه الذي يناسبه وتقتضيه الحكمة والعدل ولا يفرق بين متماثلين ولا يسوي بين مختلفين ولا يعاقب إلا من يتسحق العقوبة فيضعها موضعها لما في ذلك من الحكمة والعدل
وأما أهل البر والتقوى فلا يعاقبهم ألبتة قال تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون سورة القلم 35 36 وقال تعالى أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار سورة ص 28 وقال تعالى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية سورة الجاثية 21
قال أبو بكر بن الأنباري الظلم وضع الشيء في غير موضعه يقال ظلم الرجل سقاءه إذا سقا منه قبل أن يخرج زبده قال الشاعر
وصاحب صدق لم تنلني شكاته... ظلمت وفي ظلمي له عامدا أجر
أراد بالصاحب وطب اللبن وظلمه إياه أن يسقيه قبل أن يخرج زبده والعرب تقول هو أظلم من حية لأنها تأتي الحفر الذي لم تحفره فتسكنه ويقال قد ظلم الماء الوادي إذا وصل منه إلى مكان لم يكن يصل إليه فيما مضى ذكر ذلك أبو الفرج وكذلك قال البغوي أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه وكذلك ذكر غير واحد قالوا والعرب تقول من أشبه أباه فما ظلم أي ما وضع الشبه في غير موضعه
وهذا الأصل وهو عدل الرب يتعلق بجميع أنواع العلم والدين فإن جميع أفعال الرب ومخلوقاته داخلة في ذلك وكذلك أقواله وشرائعه كتبه المنزلة وما يدخل في ذلك من مسائل المبدأ والمعاد ومسائل النبوات وآياتهم والنواب والعقاب ومسائل التعديل والتجوير وغير ذلك وهذه الأمور مما خاض فيه جميع الأمم كما قد بسط في مواضع
وأهل الملل كلهم يقرون بعدله لأن الكتب الإلهية نطقت بعدله وأنه قائم بالقسط وأنه لا يظلم الناس مثقال ذرة لكن كثير من الناس في نفسه ضغن من ذلك وقد يقوله بلسانه ويعرض به في نظمه ونثره وهؤلاء أكثر رما يكونون في المجبرة الذين لا يجعلون العدل قسيما لظلم ممكن لا يفعله بل يقولون الظلم ممتنع ويجوزون تعذيب الأطفال وغير الأطفال بلا ذنب أصلا وأن يخلق خلقا يعذبهم بالنار أبدا لا لحكمة أصلا ويرى أحدهم أنه خلق فيه الذنوب وعذب بالنار لا لحكمة ولا لرعاية عدل فتفيض نفوسهم إذا وقعت منهم الذنوب وأصيبوا بعقوباتها بأقوال يكونون فيها خصماء الله تعالى وقد وقع من هذا قطعة في كلام طائفة من الشيوخ وأهل الكلام ليس هذا موضع حكاية أعيانهم
وما ذكرناه من الأقوال الثلاثة نضبط أصول الناس فيه ونبين أن القول الثالث هو الصواب وبه يتبين أن كل ما يفعله الرب فهو عدل وأنه لا يضع الأشياء في غير رموضعها فلا يظلم مثقال ذرة ولا يجزى أحدا إلا بذنبه ولا يخاف أحد ظلما ولا هضما لا يهضم من حسناته ولا يظلم فيزاد عليه في سيئاته لا من سيئات غيره ولا من غيرها بل من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى أي لا يملك ذلك ولا يستحقه وإن كان قد يحصل له نفع بفضل الله ورحمته وبدعاء غيره وعمله فذاك قد عرف أن الله يرحم كثيرا من الناس من غير جهة عمله لكنه ليس له إلا ما سعى قال الله تعالى أمل لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى سورة النجم 36 41 وقوله أم لم ينبأ بما في صحف موسى يقتضي أن المنبأ بذلك يجب عليه تصديق ذلك والإيمان به فكان هذا مما أخبر به محمد ﷺ مصدقا لإبراهيم وموسى كما قال في آخر سبح إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى سورة الأعلى 18 19
فصل
ومما يتبين عدل الرب وإحسانه وأن الخير بيديه والشر ليس إليه كما كان عليه السلام يثني على ربه بذلك في مناجاته له في دعاء الاستفتاح وأنه سبحانه لا يظلم مثقال ذرة بل مع غاية عدله فهو أرحم الراحمين وهو أرحم من الوالدة بولدها كما أخبر بذلك النبي ﷺ في الحديث الصحيح وهو سبحانه أحكم الحاكمين كما قال نوح في مناجاته وأنت أحكم الحاكمين سورة هود 45 وأن الظلم قد ذكرنا في غير موضع أن للناس في تفسيره ثلاثة أقوال قيل هو التصرف في ملك الغير بغير إذنه أو مخالفة الآمر الذي تجب طاعته وكلاهما منتف في حق الله تعالى وهذا تفسير المجبرة القدرية من الجهمية وغيرهم وكثير ممن ينتسب إلى السنة وهو تفسير الأشعري وأصحابه ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى وأتباعه وأبي الفرج ابن الجوزي وغيرهم
والثاني أنه إضرار غير مستحق وهذا أيضا منتف عن الله تعالى وهذا تفسير المعتزلة وغيرهم
وهؤلاء يقولون لو قدر الذنوب وعذب عليها لكان إضرار غير مستحق والله منزه عنه وأولئك يقولون الظلم ممتنع لذاته غير ممكن ولا مقدور بل كل ما يمكن فهو عدل غير ظلم وإذا عذب جميع الخلق بلا ذنب أصلا لم يكن ظلما عند هؤلاء وإذا فعل ما يشاء بمقتضى حكمته وقدرته كان ظلما عند أولئك فإنهم يجعلون ظلمه من جنس ظلم العباد وعدله من جنس عدلهم وهم مشبهة الأفعال
والسيد إذا ترك مماليكه يظلمون ويفسدون مع قدرته على منعهم كان ظالما وإذا كان قد أمرهم ونهاهم وهو يعلم أنهم يعصونه وهو قادر على منعهم كان ظالما وإذا قال مقصودي أن أعرضهم لثواب الطاعة ولذلك اقتنيتهم وقد علم أنهم لا يطيعونه كان سفيها ظالما وهم يقولون إن الرب خلق الخلق وليس مراده إلا أن ينفعهم وأمرهم وليس مراده إلا نفعهم بالثواب مع علمه أنهم يعصونه ولا ينتفعون
ولهذا طائفة منهم نفت علمه وآخرون قالوا ما يمكنه أن يجعلهم مطيعين وهو قول جمهورهم فنفوا قدرته وإن أثبتوه عالما قادرا ولم يفعل ما أراده من الخير جعلوه غير حكيم ولا رحيم بل ولا عادل
وأما الطائفة الأخرى فهم معطلة في الأفعال كما أن أولئك مشبهة الأفعال فإنهم يعطلون فعل العبد ويقولون ليس بفاعل ولا قادر على الفعل ولا له قدرة مؤثرة في المقدور وأما الرب فيقولون خلق ما خلق لا لحكمة أصلا فعطلوا حكمته وقال إنه يجوز أن يعذب جميع الخلق بلا ذنب فعطلوا عدله والعدل هو فعله وهو سبحانه قائم بالقسط فمن نفى عدله وحكمته فإما أن ينفي فعله وإما أن يصفه بضد ذلك من الظلم والسفه كما أن الكلام على الطائفتين في غير هذا الموضع
والصواب القول الثالث وهو أن الظلم وضع الأشياء في غير مواضعها وكذلك ذكره أبو بكر بن الأنباري وغيره من أهل اللغة وذكروا على ذلك عدة شواهد كما قد بسط في غير هذا الموضع
وحينئذ فليس في الوجود ظلم من الله سبحانه بل قد وضع كل شيء موضعه مع قدرته على أن يفعل خلاف ذلك فهو سبحانه يفعل باختياره ومشيئته ويستحق الحمد والثناء على أن يعدل ولا يظلم خلاف قول المجبرة الذين يقولون لا يقدر على الظلم وقد وافقهم بعض المعتزلة كالنظام لكن الظلم عنده غير الظلم عندهم فأولئك يقولون الظلم هو الممتنع لذاته وهذا يقول هو ممكن لكن لا يقدر عليه والقدرية النفاة يقولون ليس في الوجود ظلم من الله لأنه عندهم لم يخلق شيئا من أفعال العباد ولا يقدر على ذلك فما نزهوه عن الظلم إلا بسلبه القدرة وخلق كل شيء كما أن أولئك ما أثبتوا قدرته وخلقه كل شيء حتى قالوا إنه لا ينزه أن يفعل ما يمكن كتعذيب البراء بلا ذنب فأولئك أثبتوا له حمدا بلا ملك وهؤلاء أثبتوا له ملكا بلا حمد وأهل السنة أثبتوا ما أثبته لنفسه له الملك والحمد فهو على كل شيء قدير وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وهو خالق كل شيء وهو عادل في كل ما خلقه واضع للأشياء مواضعها وهو قادر على أن يظلم لكنه سبحانه منزه عن ذلك لا يفعله لأنه السلام القدوس المستحق للتنزيه عن السوء وهو سبحانه سبوح قدوس يسبح له ما في السماوات والأرض وسبحان الله كلمة كما قال ميمون بن مهران هي كلمة يعظم بها الرب ويحاشى بها من السوء
وكذلك قال ابن عباس وغير واحد من السلف إنها تنزيه الله من السوء وقال قتادة في اسمه المتكبر إنه الذي تكبر عن السوء وعنه أيضا إنه الذي تكبر عن السيئات
فهو سبحانه منزه عن فعل القبائح لا يفعل السوء ولا السيئات مع أنه سبحانه خالق كل شيء أفعال العباد وغيرها والعبد إذا فعل القبيح المنهي عنه كان قد فعل سوءا وظلما وقبيحا وشرا والرب قد جعله فاعلا لذلك وذلك منه سبحانه عدل وحكمة صواب ووضع للأشياء مواضعها فخلقه سبحانه لما فيه نقص أو عيب للحكمة التي خلقه لها هو محمود عليه وهو منه عدل وحكمة وصواب وإن كان في المخلوق عيبا ومثل هذا مفعول في الفاعلين المخلوقين فإن الصانع إذا أخذ الخشبة المعوجة والحجر الردى واللبنة الناقصة فوضعها في موضع يليق بها ويناسبها كان ذلك منه عدلا واستقامة وصوابا وهو محمود وإن كان في تلك عوج وعيب هي به مذمومه مذمومة ومن أخذ الخبائث فجعلها في المحل الذي يليق بها كان ذلك حكمة وعدلا وإنما السفه والظلم أن يضعها في غير موضعها ومن وضع العمامة على الرأس والنعلين في الرجلين فقد وضع كل شيء موضعه ولم يظلم النعلين إذ هذا محلهما المناسب لهما فهو سبحانه لا يضع شيئا إلا موضعه فلا يكون إلا عدلا ولا يفعل إلا خيرا فلا يكون إلا محسنا جوادا رحيما وهو سبحانه له الخلق والأمر فكما أنه في أمره لا يأمر إلا بأرجح الأمرين ويأمر بتحصيل المصالح وتكميلها وبتعطيل المفاسد وتقليلها وإذا تعارض امران رجح أحسنهما وليس في الشريعة أمر بفعل إلا ووجوده للمأمور خير من عدمه ولا نهي عن فعل إلا وعدمه خير من وجوده وهو فيما يأمر به قد أراده إرادة دينية شرعية وأحبه ورضيه فلا يحب ويرضى شيئا إلا ووجوده خير من عدمه ولهذا أمر عباده أن يأخذوا بأحسن ما أنزل إليهم من ربهم فإن الأحسن هو المأمور به وهو خير من المنهي عنه
الخير بيديه سبحانه والشر ليس إليه
كذلك هو سبحانه في خلقه وفعله فما أراد أن يخلقه وبفعله كان أن يخلقه ويفعله خيرا من أن لا يخلقه ويفعله وما لم يرد أن يخلقه ويفعله كان أن لا يخلقه ويفعله خيرا من أن يخلقه ويفعله فهو لا يفعل إلا الخير وهو ما وجوده خير من عدمه فكل ما كان عدمه خيرا من وجوده فوجوده شر فهو لا يفعله بل هو منزه عنه والشر ليس إليه فالشر وهو ما كان وجوده شرا من عدمه ليس إليه إذ كان هذا مستحقا للعدم لا يشاؤه ولا يخلقه والمعدوم لا يضاف إلى فاعل فليس إليه ولكن الخير بيديه وهو ما كان وجوده خيرا من عدمه
التعليق على قول بعضهم: الخير كله في الوجود والشر كله في العدم
ومن الناس من يقول الخير كله في الوجود والشر كله في العدم والوجود خير روالشر المحض لا يكون إلا معدوما وهذا لفظ مجمل فإذا أريد بذلك أن كل ما خلقه الله وأوجده ففيه الخير ووجوده خير من عدمه فهذا صحيح وكذلك ما لم يخلقه ولم يشأه وهو المعدوم الباقي على عدمه لا خير فيه إذ لو كان فيه خير لفعله سبحانه فإنه سبحانه بيده الخير فالشر العدمي هو عدم الخير لا أن في العدم شرا وجوديا وأما إذا أريد أن كل ما يقدر وجوده فوجوده خير وكل ما يقدر عدمه فعدمه شر فليس بصحيح بل من الأشياء ما وجوده شر من عدمه ولكن هذا لا يخلقه الرب فيبقى معدوما وعدمه خير فهذا خير من هذا العدم بمعنى أن عدمه خير رمن وجوده إذ كان وجوده فيه ضرر راجح وعدم الضرر الراجح خير فهو خير عدمي في العدم
إذ العدم لا يكون فيه وجود فالشر ليس إليه وهو ما كان وجوده شرا من عدمه فإنه لا يخلق هذا وما لم يخلقه فإنه ليس إليه وكل ما خلقه فوجوده خير من عدمه وهو سبحانه بيده الخير وذلك الذي وجوده شر من عدمه فإنه سبحانه يدفعه ويمنعه أن يكون مع القيام المقتضي له كما قال تعالى إن الله يدافع عن الذين آمنوا سورة الحج 38 والله يعصمك من الناس سورة المائدة 67 له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله سورة الرعد 11 وهو يجير ولا يجار عليه سورة المؤمنون 88
فدفعه الشر الذي تريده النفوس الشريرة هو من الخير وهو بيديه ولو مكن تلك النفوس لفعلته فهو سبحانه لا يمكنها بل يمنعها إذا أرادته مع أنها لو خليت لفعلته فهو تارة بمنع الشر بإزالة سببه ومقتضيه وتارة يخلق ما يضاده وينافيه وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون سورة النحل 53
وقول القائل خير وشر أي هذا خير من هذا وهذا شر من هذا ولهذا غالب استعمال هذين الإسمين كذلك كقوله آلله خير أما يشركون سورة النمل 59 أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا سورة الفرقان 24 وذروا البيع ذلكم خير لكم سورة الجمعة 9
وقالت السحرة والله خير وأبقى سورة طه 73 وقال قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل سورة المائدة 60 وقال يوسف أنتم شر مكانا سورة يوسف 77
وقال حسان
فشركما لخيركما الفداء
الخير والشر درجات
فالخير ما كان خيرا من غيره والشر ما كان شرا من غيره والخير والشر درجات ولهذا قال تعالى لما ذكر أهل الجنة وأهل النار قال ولكل درجات مما عملوا سورة الأنعام 132 وقال تعالى أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير هم درجات عند الله سورة آل عمران 162 163 وكذلك ذكر تعالى في الأنعام والأحقاف بعد ذكر الطائفتين
ولهذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم درجات الجنة تذهب علوا ودرجات النار تذهب سفولا فدرجات الجنة كلها فيها النعيم وبعضها خير من بعض ودرجات النار كلها فيها العذاب وبعضها شر من بعض
وإذا قيل إن الله سبحانه هو خالق الخير والشر فالمراد ما هو شر من غيره وفيه أذى لبعض الناس ولكن خلقه لحكمة وما خلق لحكمة مطلوبة محبوبة فوجوده خير من عدمه فلم يخلق شيئا يكون شرا أي يكون وجوده شرا من عدمه لكن يخلق ما هو شر من غيره وغيره خير منه للحكمة المطلوبة وما فيه أذى لبعض الناس للحكمة المطلوبة
لا يعذب الله أحدا إلا بذنبه
وهو سبحانه لا يعذب أحدا إلا بذنبه بمقتضى الحكمة والعدل وفي تعذيبه أنواع الحكمة والرحمة وهذا ظاهر فيما يبتلى به المؤمنين في الدنيا من المصائب التي هي جزاء سيئاتهم فإن في ذلك من الحكمة والرحمة والعدل ما هو بين لمن تأمله ولا يعاقب أحدا إلا بذنبه
قال تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير سورة الشورى 30 وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك سورة النساء 79 ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم سورة الأنفال 53 فلا يسلبهم إلا إذا غيروا ما في أنفسهم بالمعاصي والذنوب فلا يجزى بالسيئات إلا من فعل السيئات ولا يوقع النقم ويسلب النعم إلا من أتى بالسيئات المقتضية لذلك كما فعل بمن خالف رسله من جميع الأمم كما قال في العذاب كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب سورة الأنفال 52 ثم قال ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم الآية وما بعدها إلى قوله وكل كانوا ظالمين سورة الأنفال 53 54 فذكر تمثيلا لزوال النعم عليهم لما كذبوا بآياته
ولهذا قال فأهلكناهم بذنوبهم سورة الأنفال 54 وذكر الأول تمثيلا لعذابهم بعد الموت كما قال ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب سورة الأنفال 50 52 فقال هنا فأخذهم الله بذنوبهم فإن أخذه يتضمن أخذهم ليصلوا بعد الموت إلى العذاب ولفظ الهلاك يقتضي هلاكهم في الدنيا وزوال النعمة عنهم فذكر هلاكهم بزوال النعم وذكروا أخذهم بالنقم كما قال وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد سورة هود 102
ولفظ المؤاخذة من الأخذ ومنه قوله تعالى ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا سورة البقرة 286 وقوله إن أخذه أليم شديد كقوله إن بطش ربك لشديد سورة البروج 12 وقال تعالى ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون الآية سورة الأنعام 42 وقال تعالى ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون سورة المؤمنون 76 فهذا تعذيب لهم في الدنيا ليتضرعوا إليه وليتوبوا وذكر هنا أنه أخذهم بالعذاب ولم يقل بالذنوب كأنه والله أعلم ضمن ذلك معنى جذبانهم إلينا لينيبوا وليتوبوا وإذا قال فأخذهم الله بذنوبهم يكون قد أهلكهم فأخذهم إليه بالهلاك وبسط هذا له موضح آخر
الله يفعل الخير والأحسن
والمقصود هنا أن كل ما يفعله الرب ويخلقه فوجوده خير من عدمه وهو أيضا خير من غيره أي من موجود غيره يقدر موجودا بدله فكما أن وجوده خير من عدمه فهو أيضا خير من موجود آخر يقدر مخلوقا بدله كما ذكرنا فيما يأمر به أن فعله خير من تركه وأنه خير من أفعال غيره يشتغل بها عنه كما في قوله تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون سورة الجمعة 9
وقولنا فعله خير من تركه سواء جعل الترك وجوديا أو عدميا والرب تعالى له المثل الأعلى وهو أعلى من غيره وأحق بالمدح والثناء من كل ما سواه وأولى بصفات الكمال وأبعد عن صفات النقص فمن الممتنع أن يكون المخلوق متصفا بكمال لا نقص فيه والرب لا يتصف إلا بالكمال الذي لا نقص فيه وإذا كان يأمر عبده أن يفعل الأحسن والخير فيمتنع أن لا يفعل هو إلا ما هو الأحسن والخير فإن فعل الأحسن والخير مدح وكمال لا نقص فيه فهو أحق بالمدح والكمال الذي لا نقص فيه من غيره
قال تعالى وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار الفاسقين سورة الأعراف 145 وقال الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه سورة الزمر 18 واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم سورة الزمر 55 وقال وافعلوا الخير لعلكم تفلحون سورة الحج 77
وقد قال تعالى في مدح نفسه قل اللهم مالك الملك إلى قوله بيدك الخير إنك على كل شيء قدير سورة آل عمران 26 وقال تعالى الله نزل أحسن الحديث سورة الزمر 23 فكلامه أحسن الكلام وقال تعالى الذي أحسن كل شيء خلقه الآية سورة السجدة 7 فقد أحسن كل شيء خلقه وقال صنع الله الذي أتقن كل شيء سورة النمل 88
وهو سبحانه الرحمن الرحيم الغفور الودود الجواد الماجد وهو سبحانه الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وهو أرحم الراحمين وخير الراحمين كما قال أيوب مسني الضر وأنت أرحمن الراحمين سورة الأنبياء 83 وقال لنبيه وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين سورة المؤمنون 118 فهو أحق بالرحمة والجود والإحسان من كل أحد
وقد قال سبحانه وربك يخلق ما يشاء ويختار ثم قال ما كان لهم الخيرة سورة القصص 68 فأخبر أنه يخلق ما يشاء ويختار
والاختيار في لغة القرآن يراد به التفضيل والإنتقاء والإصطفاء كما قال فلما أتاها نودي يا موسى إلى قوله وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى سورة طه 11 13 وقال تعالى ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين سورة الدخان 30 إلى قوله ولقد اخترناهم على علم على العالمين وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين سورة الدخان 32 33 وقال في الآية الأخرى ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة الآية سورة الجاثية 16 ومنه قوله تعالى واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا سورة الأعراف 155 ومنه في الحديث إن الله اختار من الأيام يوم الجمعة ومن الشهور شهر رمضان واختار الليالي فاختار ليلة القدر واختار الساعاة فاختار ساعات الصلوات رواه ابن عساكر في كتاب تشريف يوم الجمعة وتعظيمه عن كعب الأحبار
فصل مختصر
قال الشيخ رحمه الله في آخر هذا الفصل من هذه القاعدة
بيان حقيقة إرادة الله
إذا أراد سبحانه أن يخلق كان الخلق عقب الإرادة والمخلوق عقب التكوين والخلق كما قال تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون سورة يس 82
والجهمية والمعتزلة لا يقولون بذلك في الفعل بل يقولون يفعل مع جواز أن لا يفعل إلى أن قال
وأصحاب رسول الله ﷺ عرفوا ذلك وبينوه للناس وعرفوا أن حدوث الحوادث اليومية المشهودة تدل على أن العالم مخلوق وأن له ربا خلقه ويحدث فيه الحوادث وقد ذكر ذلك الحسن البصري كما رواه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب المطر ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في كتاب العظمة وذكره أبو الفرج بن الجوزي في تفسيره
قال أبو بكر بن أبي الدنيا حدثني هارون حدثني عفان عن مبارك بن فضالة قال سمعت الحسن يقول كانوا يقولون يعني أصحاب رسول الله ﷺ الحمد لله الرفيق الذي لو جعل هذا الخلق خلقا دائما لا يتصرف لقال الشاك في الله لو كان لهذا الخلق رب لحادثه وإن الله قد حادثه بما ترون من الآيات إنه جاء بضوء طبق ما بين الخافقين وجعل فيها معاشا وسراجا وهاجا ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلق وجاء بظلمة طبقت ما بين الخافقين وجعل فيها سكنا ونجوما وقمرا منيرا وإذا شاء بنى بناء جعل فيه من المطر والبرق والرعد والصواعق ما شاء وإذا شاء صرف ذلك وإذا شاء جاء ببرد يقرقف الناس وإذا شاء ذهب بذلك وجاء بحر يأخذ بأنفاس الناس ليعلم الناس أن لهذا الخلق ربا يحادثه بما يرون من الآيات كذلك إذا شاء ذهب بالدنيا وجاء بالآخرة
فقد ذكر الحسن عن الصحابة الاستدلال بهذه الحوادث المشهودة على وجود الرب سبحانه المحدث الفاعل بمشيئته وقدرته وبطلان أن يكون موجبا يقارنه موجبه فإن ذلك يمتنع محادثته أي إحداث الحوادث فيه
وقولهم لو كان هذا الخلق خلقا دائما لا يتصرف لقال الشاك في الله لو كان لهذا الخلق رب لحادثه يقتضي أن هذه الحوادث آيات الله وأنه رب هذا الخلق وأن هذا الخلق محدث لكون غيره يحادثه أي يحدث فيه الحوادث وما صرفه غيره وأحدث فيه الحوادث كان مقهورا مدبرا لم يكن واجبا بنفسه ممتنعا عن غيره
وقوله لو كان له رب لحادثه قد يقال إنهم أنكروا هذا القول لقولهم لقال الشاك في الله وقد يقال بل هم مصدقون بهذه القضية الشرطية ولكن لو لم تكن الحوادث لكان الله يعرف دون هذه الحوادث فإن معرفته حاصلة بالفطرة والضرورة ونفس وجود الإنسان مستلزم لوجود الرب فكان الصانع يعلم من غير هذه الطريق فلهذا يعاب الشاك ويمكن أنهم لم يقصدوا عيبه على هذا التقدير بل على هذا التقدير كان الشك موجودا في الناس إذ لا دليل على وجوده فكانت هذه الآيات مزيلة للشك وموجبة لليقين
والأول أشبه بمرادهم وأولى بالحق فإنهم قالوا لقال الشاك في الله فدل على أن هناك من ليس بشاك في الله ولم يقولوا لشك الناس في الله وبسط هذا القول في إثبات الصانع له موضع غير هذا
والمقصود أنه سبحانه وتعالى يخلق بمشيئته واختياره وأنه يختار الأحسن وأن إرادته ترجح الراجح الأحسن وهذا حقيقة الإرادة ولا تعقل إرادة ترجح مثلا على مثل ولو قدر وجود مثل هذه الإرادة فتلك أكمل وأفضل والخلق متصفون بها ويمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق والمحدث الممكن أكمل من الواجب القديم فوجب أن يكون ما توصف به إرادته أكمل مما توصف به إرادة غيره فيجب أن يريد بها ما هو الأولى والأحسن والأفضل وهو سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته فالممتنع لا تتعلق به قدرة فلا يراد والممكن لذي يمكن أن يفعل ويكون مقدورا ترجح الإرادة الأفضل الأرجح منه
وما يحكي عن الغزالي أنه قال ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم فإنه لو كان كذلك ولم يخلقه لكان بخلا يناقض الجود أو عجزا يناقض القدرة
وقد أنرك عليه طائفة هذا الكلام وتفصيله أن الممكن يراد به القدور ولا ريب أن الله سبحانه يقدر على غير هذا العالم وعلى إبداع غيره إلى ما لا يتناهى كثرة ويقدر على غير ما فعله كما قد بينا ذلك في غير هذا الموضع وبين ذلك في غير موضع من القرآن
وقد يراد به إنه ما يمكن أحسن منه ولا أكمل منه فهذا ليس قدحا في القدرة بل قد أثبت قدرته على غير ما فعله لكن قال ما فعله أحسن وأكمل مما لم يفعله وهذا وصف له سبحانه بالكرم والجود والإحسان وهو سبحانه الأكرم فلا يتصور أكرم منه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا
(آخره والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما)
===========




رسالة في دخول الجنة
هل يدخل أحد الجنة بعمله أم ينقضه قوله ﷺ: لا يدخل أحد الجنة بعمله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وسلم
سئل شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية عن قوله تعالى ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون سورة الأعراف 43 هل يدخل أحد الجنة بعمله أم ينقضه قوله ﷺ لا يدخل أحد الجنة بعمله قيل ولا أنت قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته
الجواب
الحمد لله
المثبت في القرآن ليس هو المنفي في السنة
لا مناقضة بين ما جاء به القرآن وما جاءت به السنة إذ المثبت في القرآن ليس هو المنفي في السنة والتناقض إنما يكون إذا كان المثبت هو المنفي وذلك أن الله تعالى قال تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون وقال كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية سورة الحاقة 24 وقال أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون سورة السجدة 19 وقال وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون جزاء بما كانوا يعملون سورة الواقعة 22 24
العمل سبب للثواب
فبين بهذه النصوص أن العمل سبب للثواب والباء للسبب كما في مثل قوله تعالى فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات سورة الأعراف 57 وقوله وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها سورة البقرة 164 ونحو ذلك مما يبين به الأسباب
ولا ريب أن العمل الصالح سبب لدخول الجنة والله قدر لعبده المؤمن وجوب الجنة بما ييسره له من العمل الصالح كما قدر دخول النار لمن يدخلها بعمله السيء كما في الصحيحين عن النبي ﷺ قال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار قالوا يا رسول الله أفلا نتكل على الكتاب وندع العمل قال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له أما من كان من أهل السعادة فسييسره لعمل أهل السعادة وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسره لعمل أهل الشقاوة وقال إن الله خلق للجنة أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم وبعمل أهل الجنة يعملون وخلق للنار أهلا وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم وبعمل أهل النار يعملون
السبب لا يستقل بالحكم
وإذا عرف أن الباء هنا للسبب فمعلوم أن السبب لا يستقل بالحكم فمجرد نزول المطر ليس موجبا للنبات بل لا بد من أن يخلق الله أمورا أخرى ويدفع عنه الآفات المانعة فيربيه بالتراب والشمس والريح ويدفع عنه ما يفسده فالنبات محتاج مع هذا السبب إلى فضل من الله أكبر منه
وأما قوله ﷺ لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل
فإنه ذكره في سياق أمره لهم بالإقتصاد قال سددوا وقاربوا واعلموا أن أحدا منكم لن يدخل الجنة بعمله
وقال إن هذا الدين متين وإنه لن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدجلة والقصد تبلغوا
ليس جزاء الله على سبيل المعاوضة
فنفى بهذا الحديث ما قد تتوهمه النفوس من أن الجزاء من الله عز وجل على سبيل المعاوضة والمقابلة كالمعاوضات التي تكون بين الناس في الدنيا
فإن الأجير يعمل لمن استأجره فيعطيه أجره بقدر عمله على طريق المعاوضة إن زاد أجرته وإن نقص نقص أجرته وله عليه أجرة يستحقها كما يستحق البائع الثمن فنفى ﷺ أن يكون جزاء الله وثوابه على سبيل المعاوضة والمقابلة والمعادلة
والباء هنا كالباء الداخلة في المعاوضات كما يقال استأجرت هذا بكذا وأخذت أجرتي بعملي
غلط من توهم ذلك من وجوه
وكثير من الناس قد يتوهم ما يشبه هذا وهذا غلط من وجوه
الأول
أحدها أن الله تعالى ليس محتاجا إلى عمل العباد كما يحتاج المخلوق إلى عمل من يستأجره بل هو سبحانه كما قال في الحديث الصحيح إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني
والعباد إنما يعملون لأنفسهم كما قال تعالى لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت سورة البقرة 286 وقال تعالى من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها سورة فصلت 46 وقال إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم سورة الزمر 7 وقال تعالى ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم سورة النمل 40
وقال تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين سورة آل عمران 97
وأما العباد فإنهم محتاجون إلى من يستعملون لجلب منفعة أو دفع مضرة ويعطونه أجرة نفعه لهم
الثاني
الثاني أن الله هو الذي من على العامل بأن خلقه أولا وأحياه ورزقه ثم بأن أرسل إليه الرسل وأنزل إليه الكتب ثم بأن يسر له العمل وحبب إليه الإيمان وزينه في قلبه وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان
والمخلوق إذا عمل لغيره لم يكن المستعمل هو الخالق لعمل أجيره فكيف يتصور أن يكون للعبد على الله عوض وهو خلقه وأحدثه وأنعم على العبد به وهل تكون إحدى نعمتيه عوضا عن نعمته الأخرى وهو ينعم بكلتيهما
الثالث
الوجه الثالث أن عمل العبد لو بلغ ما بلغ ليس هو مما يكون ثواب الله مقابلا له ومعادلا حتى يكون عوضا بل أقل أجزاء الثواب يستوجب أضعاف ذلك العمل
الرابع
الرابع أن العبد قد ينعم ويمتع في الدنيا بما أنعم الله به عليه مما يستحق بإزائه أضعاف ذلك العمل إذا طلبت المعادلة والمقابلة وإذا كان كذلك لم يبالغوا في الاجتهاد مبالغة من يضره الاجتهاد كالمنبت الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى وزال عنهم العجب وشهدوا إحسان الله بالعمل
الخامس
الخامس أن العباد لا بد لهم من سيئات ولا بد في حياتهم من تقصير فلولا عفو الله لهم عن السيئات وتقبله أحسن ما عملوا لما استحقوا ثوابا ولهذا قال ﷺ من نوقش الحساب عذب قالت عائشة يا رسول الله أليس الله يقول فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا سور الإنشقاق 7 8 قال ذلك العرض ومن نوقش الحساب عذب
ولهذا جاء في حديث الشفاعة الصحيح إذا طلبت الشفاعة من أفضل الخلق آدم ونوح وإبراهيم وموسى واعتذر كل منهم بما فعل قال لهم عيسى اذهبوا إلى محمد عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
ولهذا قال في الحديث لما قيل له ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بعفوه فتبين بهذا الحديث أنه لا بد من عفو الله وتجاوزه عن العبد وإلا فلو ناقشه على عمله لما استحق به الجزاء قال الله تعالى أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة سورة الأحقاف 16 وقال تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون إلى قوله ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون سورة الزمر 33 35
وإذا تبين ذلك أفاد هذا الحديث ألا يعجب العبد بعمله بل يشهد نعم الله عليه وإحسانه إليه في العمل وأنه لا يستكثر العمل فإن عمله لو بلغ ما بلغ إن لم يرحمه الله ويعف عنه ويتفضل عليه لم يستحق به شيئا وأنه لا يكلف من العمل ما لا يطيق ظانا أنه يزداد بذلك أجره كما يزداد أجر الأجير الذي يعمل فوق طاقته فإن ذلك يضره إذ المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى
وأحب العمل ما داوم عليه صاحبه فإن الأعمال بالخواتيم بخلاف عمل الأجراء في الدنيا فإن الأجرة تتقسط على المنفعة فإذا عمل بعض العمل استحق من الأجرة بقدر ما عمل ولو لم يعمل إلا قليلا فمن ختم له بخير استحق الثواب وكفر الله بتوبته سيئاته ومن ختم له بكفر أحبطت ردته حسناته فلهذا كان العمل الذي داوم عليه صاحبه إلى الموت خيرا ممن أعطى قليلا ثم أكدى وكلف نفسه ما لا يطيق كما يفعله كثير من العمال
فقوله ﷺ سددوا وقاربوا واعلموا أن أحدا منكم لن يدخل الجنة بعمله ينفي المعاوضة والمقابلة التي يولد اعتقادها هذه المفاسد
وقوله بما كنتم تعملون يثبت السبب الموجب لأن يفعله العبد ولهذا قال بعضهم اعمل وقدر أنك لم تعمل وقال آخر لا بد منك وبك وحدك لا يجيء شيء
لا بد من العمل ومن رجاء رحمة الله
فلا بد من العمل المأمور به ولا بد من رجاء رحمة الله وعفوه وفضله وشهود العبد لتقصيره ولفقره إلى فضل ربه وإحسان ربه إليه
وقد قال سفيان بن عيينة كانوا يقولون ينجون من النار بالعفو ويدخلون الجنة بالرحمة ويتقاسمون المنازل بالأعمال
فنبه على أن مقادير الدرجات في الجنه تكون بالأعمال وأن نفس الدخول هو بالرحمة فإن الله قد يدخل الجنة من ينشئه لها في الدار الآخرة بخلاف النا رفإنه أقسم أن يملأها من إبليس وأتباعه
الله يدخل الجنة بالعمل وبغيره من الأسباب
لكن مع هذا فالعمل الصالح في الدنيا سبب للدخول والدرجة وإن كان الله يدخل الجنة بدون هذا السبب كما يدخل الأبناء تبعا لآبائهم وليس كل ما يحصل بسبب لا يحصل بدونه كالموت الذي يكون بالقتل ويكون بدون القتل ومن فهم أن السبب لا يوجب المسبب بل لا بد أن يضم الله إليه أمورا أخرى وأن يدفع عنه آفات كثيرة وأنه قد يخلق المسبب بدون السبب انفتح له حقيقة الأمر من هذا وغيره والله تعالى أعلم
(آخره والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليم كثيرا)
==============


رسالة في الجواب عمن يقول إن صفات الرب نسب وإضافات وغير ذلك
سؤال عمن يقول إن صفات الرب نسب وإضافات وغير ذلك
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما
أما بعد فهذا فصل مختصر من سؤال سئل عنه شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى
نص السؤال: ما يقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم أجمعين فيمن قال إن صفات الرب لا تتعدد ولا ينفصل بعضها عن بعض إلا في مراتب العبارات وموارد الإشارات فإذا أضيف علمه إلى الإطلاع على ضمير الصغير والكبير يقال بصير وإذا ابتدر منه الرزق يقال رزاق وإذا أفاض من مكنونات علمه على قلب أحد من الناس بأسرار إلاهيته ودقائق جبروت ربوبيته يقال متكلم وليس بعضه آلة السمع وبعضه آلة البصر وبعضه آلة الكلام بل كله بكلية ذاته لا يشغله شيء عن شيء فهل هذا القول صواب أم لا أفتونا مأجورين
الجواب
هذه مقالة المتفلسفة والقرامطة والاتحادية
الحمد لله رب العالمين ليس هذا القول صوابا وإن كان بعضه صوابا بل هذا القول قرع باب الإلحاد وتوطئة سبيل الاتحاد فإن هذا القول هو قول غلاة نفاة الصفات الجهمية من متفلسف وقرمطي واتحادي ونحوهم وليس هو قول المعتزلة والنجارية والضرارية والشيعة ونحوهم ممن يقول القرآن مخلوق بل هو شر من قول هؤلاء فإن هؤلاء متفقون على أنه خلق في غيره كلاما وأنه متكلم بذلك الذي خلقه في غيره وأن موسى والملائكة يسمعون ذلك الكلام المخلوق الذي هو كلام الله عند هؤلاء المبتدعة. قالوا إنه لا يكون متكلما إلا بكلام يقوم به وإن الكلام إذا قام بمحل كان صفة لذلك المحل لا لغيره كسائر الصفات من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر ونحوه فيقال عالم وقادر وسميع وبصير ونحو ذلك
رد السلف عليهم
ولهذا قال من قال من السلف من قال إنني أنا الله لا إله إلا أنا سورة طه 14 مخلوق فهو بمنزلة من صدق فرعون في قوله أنا ربكم الأعلى سورة النازعات 24 لأنه لو كان قوله إنني أنا الله لا إله إلا أنا مخلوقا لكان كلاما للمحل الذي خلق فيه إما الشجرة وإما الهواء فيكون الشجرة أو الهواء هو القائل إنني أنا الله ومن جعل هذا ربا فهو بمنزلة من جعل فرعون ربا وإن كان الله خالق ذلك الكلام في الشجرة والهواء فقد ثبت بالحجة أنه خالق أفعال العباد وأنه أنطق كل شيء فكل ناطق في الوجود هو أنطقه وخلق نطقه فيجب أن يكون كل نطق في الوجود كلامه حتى قول فرعون أنا ربكم الأعلى وحينئذ فلا فرق بين قوله إنني أنا الله وبين خلقه على لسان فرعون أنا ربكم الأعلى
وهذا اللازم تفر منه المعتزلة وغيرهم إذ هم لا يقرون بأن الله خالق أفعال العباد لكن يلزمهم بالحجة ما يخلقه الله من الكلام مثل إنطاق الجلود وتسبيح الحصى وتسليم الحجر عليه السلام وشهادة الألسنة والأيدي والأرجل فإن هذا ليس من أفعال العباد بل ذلك خلق الله فيلزمهم أن يقولوا ذلك كله كلام الله وهو باطل وهم لا يلتزمونه
وإنما التزم مثل هذا الاتحادية والحلولية الذين يقولون إنه وجود المخلوقات أو هو سار في جميع المخلوقات كما قال قائلهم
وكل كلام في الوجود كلامه... سواء علينا نثره ونظامه
ومن هؤلاء من يفرق بين قول الحلاج وأمثاله أنا الحق وبين قول فرعون أنا ربكم الأعلى بأن الحلاج وأمثاله قالوا ذلك وهم فانون فالحق نطق على ألسنتهم لغيبتهم عن شهود أنفسهم وأما فرعون وأمثاله ممن هم في شهود أنفسهم فقالوه مع رؤيتهم أنفسهم وحاصله أن الله تعالى هو الذي نطق على لسان الحلاج وأمثاله
وهذا شر من قول من يقول القرآن مخلوق خلقه الله في الهواء ونحوه لأن الجماد ليس له نطق يضاف إليه فوجود الكلام فيه شبهة توجب جعله كلاما لغيره أما الإنسان الحي إذا وجد منه مثل هذا الكلام مضافا إلى نفسه وجعل المتكلم به هو الله فهذا صريح بحلول الحق فيه واتحاده به كما تقوله النصارى في المسيح
ومعلوم أن النصارى أكفر من المعتزلة ومعلوم بالإضطرار من العقل والدين أن الله لم يتكلم على لسان بشر كما يتكلم الجنى على لسان المصروع ولكن يبعث الرسل فيبلغون كلامه والمرسل يقول لرسوله قل على لساني كذا ويقول كلامي على لسان رسولي فلان أي كلامي الذي بلغه عني
ومن هذا قول النبي ﷺ إن الله قال على لسان نبيه سمع الله لمن حمده أي هذا من الكلام الذي بلغه الرسول عن الله كما قال تعالى
فإنما يسرناه بلسانك سورة الدخان 57 كما يقول المرسل قد قلت لكم على لسان رسولي فلان كذا وكذا
وهذا كما أن القول يضاف إلى الرسول لأنه بلغه وأداه فيضاف إلى جبريل تارة وإلى محمد ﷺ أخرى كما قال في آية إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون سورة المائدة 40 42 فهذا محمد وقال في الآية الأخرى إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين سورة التكوير 19 21 فهذا جبريل
وأما جمهور العلماء من أهل الفقه والحديث والتصوف والكلام فطردوا الدليل وأثبتوا لله صفات فعلية تقوم بذاته وهذا هو المعلوم الذي دل عليه العقل واللغة والشرع
الناس في الصفات ثلاث مراتب
فالناس ثلاث مراتب منهم من نفى قيام الصفات والأفعال به كالمعتزلة ومنهم من أثبت قيام الصفات به دون الأفعال كالكلابية ومنهم من أقر بقيام الصفات والأفعال وهم جمهور الأمة كما ذكرته الحنفية في كتبهم وكما ذكره البغوي وغيره من أصحاب الشافعي عن أهل السنة وكما ذكره أبو إسحاق ابن شاقلا وأبو عبد الله بن حامد والقاضي أبو يعلى في آخره قوليه وابنه أبو الحسين وغيرهم من أصحاب أحمد وذكره أبو بكر محمد بن إسحاق الكلاباذي عن الصوفية في كتاب التعرف في مذاهب التصوف وذكره من ذكره من أئمة المالكية وذهب إليه طوائف من أهل الكلام من المرجئة والشيعة والكرامية وذهب إليه جمهول أهل الحديث
مقالة أهل السنة في كلام الله
والمقصود هنا أن الجهمية من المعتزلة ونحوهم الذين قالوا القرآن مخلوق وقد عرف مقالات السلف في تكفيرهم وتضليلهم هم خير قولا من أصحاب هذا القول المذكور في السؤال القائلين إذا فاض من مكنونات علمه على قلب أحد من الناس بأسرار إلاهيته ودقائق جبروت ربوبيته يقال متكلم فإن هذا قول من لا يجعل لله كلاما قائما به كما يقوله الذين يقولون إنه خلق كلاما بائنا منه وقد قال الإمام أحمد كلام الله من الله ليس بائنا منه والقرآن الذي أنزله هو كلامه لا كلام غيره إذ الكلام كلام من قاله مبتدئا لا كلام من قاله مبلغا مؤديا
ولهذا قال السلف والأئمة القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود فقولهم منه بدأ نبهوا به على مخالفة الجهمية الذين قالوا إنه خلقه في غيره منفصلا عنه فقال أهل السنة منه بدأ لم يبتدىء من غيره من الموجودات كما قال تعالى وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم سورة النمل 6 وقال ولكن حق القول مني سورة السجدة 13 وقال كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير سورة هود 1 ولا نجعل لله كلاما مخلوقا في غيره منفصلا عنه كما قالته المعتزلة ونحوهم من الجهمية
فإن هؤلاء وإن كان قولهم من أعظم القول فريةوظلالا فهو أقل كفرا وضلالا من قول أهل القول المسئول عنه القائلين إذا فاض من مكنون علمه على قلب أحد من الناس فإن هؤلاء لم يجعلوه متكلما إلا بما جعله في القلوب من العلم
مقالة الفلاسفة في كلام الله
وهذا في الأصل قول المتفلسفة والصابئة ونحوهم الذين لا يجعلون لله كلاما إلا ما أفاضه على قلوب العباد من العلوم والمعارف ويجعلون تكليمه للعباد نوع تعريف يعرفهم به الأمور ويقولون إنه تتشكل في نفس الشيء أشكال نورانية هي ملائكة الله عندهم وأصوات قائمة بنفسه هي كلام الله عندهم ويزعمون أن تكليم الله لموسى هو من هذا الباب إنما هو فيض فاض عليه من العقل الفعال أو من غيره وقد يجعلون العقل الفعال هو جبريل وليس التكليم عندهم مختصا بأحد ولكنه يفيض بحسب استعداد النفوس
وعلى قولهم فجميع الخلق يكلمهم تكليما كما كلم موسى وكل كلام صادق تكلم به ذو نفس صافية فهو كلام الله كما أن القرآن كلام الله فيلزمه أن كل ما تكلم به الأنبياء فمن دونهم من الخبر الصادق والأمر بالخير هو كلام الله وأن ذلك كله من نوع القرآن وأن يكون القرآن كلام البشر ولا فرق عندهم بين قول البشر وقول الله بل يلزمهم أن جميع ما يتكلم به البشر كلام الله من أجل أن ذلك يفيض على قلوب البشر حتى الكذب والكفر فإن جهة الإفاضة واحدة في الجميع وكل ما يلزم القائلين بأن القرآن مخلوق يلزم هؤلاء وزيادة فإن أولئك يجعلونه مخلوقا خارجا عن نفس النبي وهؤلاء لا يجعلون له محلا إلا نفس النبي
متابعة الغزالي للفلاسفة
وهذا القول هو قول المتفلسفة ووقع فيه طوائف من المنتسبين إلى الملل من اليهود والنصارى ومن المنتسبين إلى المسلمين ممن خلط الفلسفة بالتصوف مثل أهل الكلام المسئول عنه وأمثاله ومثل ما وقع لأبي حامد في كتاب المضنون به على غير أهله الأول والثاني ونحو ذلك من المصنفات مثل مشكاة الأنوار ومسائل النفخ والتسوية وكيمياء السعادة وجواهر القرآن
وما يشير إليه أحيانا في الإحياء وغيره فإنه كثيرا ما يقع في كلامه ما هو مأخوذ من كلام الفلاسفة ويخلطه بكلام الصوفية أو عباراتهم فيقع فيه كثير من المتصوفة الذين لا يميزون بين حقيقة دين الإسلام وبين ما يخالفه من الفلسفة الفاسدة وغيرها لا سيما إذا بني على ذلك واتبعت لوازمه فإنه يفضي إلى قول ابن سبعين وابن عربي صاحب الفصوص وأمثالهما ممن يقول بمثل هذا الكلام وحقيقة مذهبهم يؤول إلى التعطيل المحض وأنه ليس للعالم رب مباين له بل الخالق هو المخلوق والمخلوق هو الخالق
مقالة ابن عربي في الفصوص
كما قال صاحب الفصوص ومن أسمائه الحسنى العلي على من وما تم إلا هو أو عن ماذا وما هو إلا هو فعلوه لنفسه وهو من حيث الوجود عين الموجودات فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو
إلى أن قال فهو الأول والآخر والظاهر والباطن فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره وما ثم من يراه غيره وما ثم يبطن عنه سواه فهو ظاهر لنفسه باطن عنه وهو المسمى أبو سعيد الخراز وغير ذلك من أسماء المحدثات
إلى أن قال ومن عرف ما قررناه في الأعداد وأن نفيها عين إثباتها علم أن الأمر الخالق المخلوق وأن الأمر المخلوق الخالق كل ذلك من عين واحدة لا بل هو العين الواحدة وهوالعيون الكثيرة فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر سورة الصافات 102 فالولد عين أبيه فما رأى يذبح سوى نفسه وفداه بذبح عظيم فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان وظهر بصورة ولد من هو عين الوالد وخلق منها زوجها سورة النساء 1 فما نكح سوى نفسه
إلى أن قال فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية سواء كانت محمودة عرفا وعقلا وشرعا أو مذمومة عرفا وعقلا وشرعا وليس ذلك لأحد إلا لمسمى الله خاصة
وقال ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وأخبر بذلك عن نفسه وبصفات النقص والذم ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق من أولها إلى آخرها فكلها حق له كما هي صفات المحدثات حق للحق
وقال أيضا ومكروا مكرا كبارا سورة نوح 22 لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو لأنه ما عدم إلى البداية فيدعى إلى الغاية ادعوا إلى الله فهذا عين المكر
إلى أن قال فقالوا في مكرهم لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا سورة نوح 23 فإنهم لو تركوهم تركوا من الحق على قدر ما تركوا من صفات هؤلاء فإن للحق في كل معبود وجها يعرفه من عرفه ويجهله من جهله كما قال في المحمدين وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه سورة الإسراء 23 أي حكم فالعالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية فما عبد غير الله في كل معبود
وقال أيضا فكان موسى أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمنه بأن الله قد قضى ألا يعبد إلا إياه وما حكم الله بشيء إلا وقع فكان عيب موسى أخاه هارون لما وقع من إنكاره وعدم اتساعه فإن العارف من يرى الحق في كل شيء بل يراه عين كل شيء
وقال أيضا ولما كان فرعون في مرتبة التحكم وأنه الخليفة بالسيف وإن جار في العرف الناموسي لذلك قال أنا ربكم الأعلى سورة النازعات 24 أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم ولما علمت السحرة صدقه فيما قال لم ينكروه وأقروا له بذلك وقالوا له إنما تقضي هذه الحياة الدنيا فاقض ما أنت قاض فالدولة لك فصح قوله أنا ربكم الأعلى
إلى أمثال ذلك من هذا الكلام الذي يسميه أصحاب مذهب الوحدة ويقولون إن الوجود واحدكما يقوله ابن عربي صاحب الفتوحات وابن سبعين وابن الفارض والتلمساني وأمثالهم عليهم من الله ما يستحقونه فإنهم لا يجعلون للخالق سبحانه وجودا مباينا لوجود المخلوق وهو جامع كل شر في العالم ومبدأ ضلالهم من حيث لم يثبتوا للخالق وجودا مباينا لوجود المخلوق
تأثر الغزالي بإخوان الصفا وأمثالهم
وهم يأخذون من كلام الفلاسفة شيئا ومن الكلام الفساد من كلام المتصوفة والمتكلمين شيئا ومن كلام القرامطة والباطنية شيئا فيطوفون على أبواب المذاهب ويفوزون بأخس المطالب ويثنون على ما يذكر من التصوف المخلوط بالفسلفة كما يوجد في كلام أبي حامد ونحوه مما هو مأخوذ من رسائل إخوان الصفا وأمثالهم ممن يريد أن يجمع بين ما جاءت به الكتب الإلهية والرسل المبلغون عن الله عز وجل وما تقوله الصابئة المتفلسفون في العلم الإلهي فيذكرون أحاديث موضوعة وربما حرفوا لفظها كما يذكرون عن النبي ﷺ أنه قال أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل فقال له أدبر فأدبر فقال وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم علي منك فبك آخذ وبك أعطي وبك الثواب وبك العقاب
وهذا الحديث موضوع على النبي ﷺ باتفاق أهل المعرفة بالحديث ولفظة أول ما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل وروى لما خلق الله العقل قال له أقبل فأقبل فمعناه أنه خاطبه في أول أوقات خلقه فغيروا لفظه وقالوا أول ما خلق الله العقل ليوافق ذلك مذهب المشائين من المتفلسفين أتباع أرسطو القائلين أول الصادرات عنه العقل
وقد بسطنا الكلام في بيان فساد ذلك شرعا وعقلا وبينا أن بين هؤلاء وبين الرسل من المباينة أعظم مما بين اليهود والنصارى وبين المسلمين وأن اليهود والنصارى إذا لم يتفلسفوا كانوا أقرب إلى الحق من هؤلاء فإن تفلسف اليهودي والنصراني كان كفره من جهتين
وهذه الكتب المضافة إلى أبي حامد مثل الكتابين المضنون بهما على غير أهلهما وأمثالهما ما زال أئمة الدين ينكرون ما فيهما من الباطل المخالف للكتاب والسنة ثم من الناس من يكذب نسبة هذه الكتب إليه ومنهم من يقول وهو أشبه رجع عن ذلك كما ذكر في كتب أخرى ذم الفلاسفة وتكفيرهم وذكر عبد الغافر الفارسي في تاريخ نيسابور أنه استقر أمره على مطالعة البخاري ومسلم فكان آخر أمره الرجوع إلى الحديث والسنة والله أعلم
كلام الغزالي في كتاب المضنون
فهذا الكلام المذكور في السؤال يوجد نحوه في مثل هذه الكتب التي يجعلها أهلها من كتب الحقائق والأسرار كما قال صاحب كتاب المضنون فصل يتخيل بعض الناس كثرة في ذات الله تعالى من طريق تعدد الصفات وقد صح قول من قال في الصفات لا هي هو ولا غيره
وهذا التخيل يقع من توهم التغاير ولا تغاير في الصفات مثال ذلك أن إنسانا تعلم صورة الكتابة وله علم بصورة بسم الله التي تظهر تلك الصورة على القرطاس وهذه صفة واحدة وكمالها أن يكون المعلوم تبعا لها فإنه إذا حصل العلم بتلك الكتابة ظهرت الصورة على القرطاس بلا حركة يد وواسطة قلم ومداد
فهذه الصفة من حيث إن المعلوم انكشف بها يقال له علم ومن حيث إن الألفاظ تدل عليها يقال لها كلام فإن الكلام عبارة عن مدلول العبارات ومن حيث إن وجود المعلوم تبع لها يقال لها القدرة ولا تغاير ههنا بين العلم والقدرة والكلام فإن هذه صفة واحدة في نفسها ولا تكون هذه الإعتبارات الثلاث واحدة
وكل من كان أعور لا ينظر إلا بالعين العوراء ولا يرى إلا مطلق الصفة فيقول هو هو وإذا التفت إلى الإعتبارات الثلاث يقال هي غيره ومن اعتبر مطلق الصفة مع الإعتبارات فقد نظر بعينين صحيحتين اعتقد أنها لا هو ولا غيره
والكلام في صفات الله تعالى وإن كان مناسبا لهذا المثال فإنه مباين له بوجه آخر وتفهيم هذه المعاني بالكتابة غير يسير
فهذا الكلام من جنس الكلام المذكور في السؤال وكلاهما يرجع إلى ما تزعمه المتفلسفة من أن الصفات ترجع إلى العلم إذا أثبتوه
مقالة ابن حزم
وقد يقرب من هؤلاء ابن حزم حيث رد الكلام والسمع والبصر وغير ذلك إلى العلم مع أنه لا يثبت صفة لله هي العلم ويجعل أسماءه الحسنى إنما هي أعلام محضة فالحي والعالم والقادر والسميع والبصير ونحوه كلها أسماء أعلام لا تدل على الحياة والعلم والقدرة
الرد على النفاة
وهذا يؤول إلى قول القرامطة الباطنية ونحوهم نفاة أسماء الله تعالى الذين يقولون لا يقال حي ولا عالم ولا قادر وهذا كله من الإلحاد في أسماء الله وآياته قال تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سورة الأعراف 180
وإذا كان من الإلحاد إنكار اسمه الرحمن كما قال تعالى وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن سورة الفرقان 60 وقال قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى سورة الإسراء 110 وقال تعالى وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب سورة الرعد 30 إلى غير ذلك
فإذا كان اسمه الرحمن قد أنزل فيه ما انزل فكيف إنكار سائر الأسماء ومعلوم أن اللفظ إذا كان علما محضا لم ينكره أحد ولو كانت أعلاما لم يفرق بين الرحمن والعليم والقدير
الرد على الغزالي
وما ذكره صاحب كتاب المضنون مع المتفلسفة من أن العلم بالممكنات هو المقتضى لوجودها معلوم البطلان بأدنى تأمل فإن العلم نوعان علم نظري وعلم عملي فأما النظري وهو العلم بما لا يفعله العالم كعلم الله بنفسه وكعلمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فهذا ليس مقتضيا لوجود المعلوم بالضرورة واتفاق العقلاء وإن كان قد يكون سببا لبعض الأعمال
وأما العلم العملي كعلم الله بمخلوقاته وكعلمنا بمفعولاتنا فهذا العلم وحده ليس موجبا لوجود المعلوم بلا قدرة ولا إرادة وعمل فإنا إذا تصورنا ما نريد فعله لم يكن مجرد تصورنا ما نريد ولم نقدر عليه لم يكن وإذا كنا قادرين على ما نتصوره ولا نريده لم يكن بل لا بد علمنا به وإرادتنا له وقدرتنا عليه
فلو قال قائل علم الله ليس كعلمنا
قيل له وذات الله ليست كذاتنا ولا قدرته وإرادته كقدرتنا وإرادتنا
وهذا السؤال قد بسط الشيخ الكلام عليه وقد اختصر منه وقال في وسط الكلام على هذا السؤال
إثبات ابن تيمية وأهل السنة الماهية لله تعالى
بل لكل موجود حقيقة تخصه يتميز بها عما سواء ويباين بها غيره وهذه الحقيقة هي حقيقة الربوبية وبنفيها ضل الجهمية من المعتزلة والفلاسفة والقرامطة والاتحادية وأمثالهم وهي الماهية التي أثبتها ضرار وأبو حنيفة وغيرهما من الكوفيين وخالفهم في ذلك معتزلة البصرة وعلى إثباتها أئمة السنة والجماعة من السلف والخلف ولهذا ينفون العلم بماهيه الله وكيفيته فيقولون لا تجري ماهيته في مقال ولا تخطر كيفيته ببال ومن نفاها من المنتسبين إلى السنة وغيرهم قال ليس له ماهية فتجري في مقال ولا له كيفيه فتخطر ببال
والأول هو المأثور عن السلف والأئمة كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع ويدل عليه صريح المعقول وصحيح المنقول والله سبحانه أعلم
==========


رسالة في تحقيق مسألة علم الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله
فصل في مسألة العلم
في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
الناس المنتسبون إلى الإسلام في علم الله باعتبار تعلقه بالمستقبل على ثلاثة أقوال
الأول
أحدها أنه يعلم المستقبلات بعلم قديم لازم لذاته ولا يتجدد له عند وجود المعلومات نعت ولا صفة وإنما يتجدد مجرد التعلق بين العلم والمعلوم وهذا قول طائفة من الصفاتية من الكلابية والأشعرية ومن وافقهم من الفقهاء والصوفية وأهل الحديث من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وهو قول طوائف من المعتزلة وغيرهم من نفاة الصفات لكن هؤلاء يقولون يعلم المستقبلات ويتجدد التعلق بين العالم والمعلوم لا بين العلم والمعلوم
وقد تنازع الأولون هل له علم واحد أو علوم متعددة على قولين والأول قول الأشعري وأكثر أصحابه والقاضي أبي يعلى وأتباعه ونحو هؤلاء والثاني قول أبي سهل الصعلوكي
الثاني
والقول الثاني أنه لا يعلم المحدثات إلا بعد حدوثها وهذا أصل قول القدرية الذين يقولون لم يعلم أفعال العباد إلا بعد وجودها وأن الأمر أنف لم يسبق القدر بشقاوة ولا سعادة وهم غلاة القدرية الذين حدثوا في زمان ابن عمر وتبرأ منهم وقد نص الأئمة كمالك والشافعي وأحمد على تكفير قائل هذه المقالة
لكن القدرية صرحوا بنفي العلم السابق والقدر الماضي في أفعال العباد المأمور بها والمنهي عنها وما يتعلق بذلك من الشقاوة والسعادة ثم منهم من اقتصر على نفي العلم بذلك خاصة وقال إنه قدر الحوادث وعلمها إلا هذا لأن الأمر والنهي مع هذا العلم يتناقض عنده بخلاف ما لا أمر فيه ولا نهي
ومنهم من قال ذلك في عموم المقدرات وقد حكى نحو هذا القول عن عمرو بن عبيد وأمثاله وقد قيل إنه رجع عن ذلك قبل إنكاره لأن كون تبت يدا أبي لهب وتب سورة المسد 1 وذرني ومن خلقت وحيدا سورة المدثر 11 ونحو ذلك في اللوح المحفوظ وأمثال ذلك
الثالث
والقول الثالث أنه يعلمها قبل حدوثها ويعلمها بعلم آخر حين وجودها وهذا قد حكاه المتكلمون كأبي المعالي عن جهم فقالوا إنه ذهب إلى إثبات علوم حادثة لله تعالى وقال البارىء عالم لنفسه وقد كان في الأزل عالما بنفسه وبما سيكون فإذا خلق العالم وتجددت المعلومات أحدث لنفسه علوما بها يعلم المعلومات الحادثة ثم العلوم تتعاقب حسب تعاقب المعلومات في وقوعها متقدمة عليها أي العلوم متقدمة على الحوادث وذكروا أنه قال إنها في غير محل نظير ما قالت المعتزلة البصرية في الإرادة
وهذا القول وإن كان قد احتج عليه بما في القرآن من قوله ليعلم فتلك النصوص لا تدل على هذا القول
فإن هذا القول مضمونة تجدد علم قبل الحدوث والذي في القرآن إنما ذكروا دلالته على ما بعد الوجود وهذا قولان متغايران وإنما يحتج عليه بمثل قوله في حديث أبرص وأقرع وأعمى بدا لله أن يبتليهم وليس هذا بداء يخالف العلم القديم كما قاله بعض غلاة الرافضة وكذلك أبو الحسين البصري قال بإثبات علوم متجددة في ذات الله بحسب تجدد المعلومات وكذلك أبو البركات صاحب المعتبر الإمام في الفلسفة قال بتجدد علوم وإرادات له وذكر أن إلهيته لهذا العالم لا تصح إلا مع هذا القول وكذلك أبو عبد الله الرازي يميل إلى هذا القول في المطالب العالية وغيرها
وأما السمع والبصر والكلام فقد ذكر الحارث المحاسبي عن أهل السنة في تجدد ذلك عند وجود المسموع المرئي قولين
والقول بسمع وبصر قديم يتعلق بها عند وجودها قول ابن كلاب وأتباعه والأشعري والقول بتجدد الإدراك مع قدم الصفة قول طوائف كثيرة كالكرامية وطوائف سواهم والقول بثبوت الإدراك قبل حدوثها وبعد وجودها قول السالمية كأبي الحسن بن سالم وأبي طالب المكي
والطوائف الثلاثة تنتسب إلى أئمة السنة كالإمام أحمد وفي أصحابه من قال بالأول ومنهم من قال بالثاني والسالمية تنتسب إليه
وكذلك الإرادة والمشيئة فيها للصفاتية ثلاثة أقوال
أحدها أنها ليست إلا قديمة وهو قول ابن كلاب والأشعري وأتباعهما
الثاني أنها ليست إلا حادثة والفرق بين هذا وبين قول المعتزلة البصرية أن المعتزلة يقولون بحدوثها لا في محل لامتناع كونه محلا للحوادث عندهم وهؤلاء يقولون تقوم بذاته كما يقوم الكلام بذاته
والثالث أنها قديمة وحادثة وهو قول طوائف من الكرامية وأهل الحديث والصوفية وغيرهم وكذلك يقول هؤلاء إنه يوصف بأنه متكلم في الأزل وأنه يتكلم إذا شاء كما صرح بذلك الأئمة كالإمام أحمد وغيره
لكن في تحقيق ذلك نزاع بين المتأخرين فقيل القديم هو القدرة على الكلام كما قالت الكرامية وقيل بل القولان متضادان كما ذكر أبو بكر عبد العزيز وعبد الله بن حامد عن أصحاب أحمد
فأما إثبات علمه وتقديره للحوادث قبل كونها ففي القرآن والحديث والآثار ما لا يكاد يحصر بل كل ما أخبر الله به قبل كونه فقد علمه قبل كونه وهو سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون وقد أخبر بذلك والنزاع في هذا مع غلاة القدرية ونحوهم
وأما المستقبل فمثل قوله وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه سورةالبقرة 242 وقوله أم حسبتم أن تدخلوا الجنة الآية سورة البقرة 214 آل عمران 142 وقوله أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم الآية سورة التوبة 16 وقوله فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين سورة العنكبوت 3 وقوله فليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين سورة العنكبوت 11 وقوله ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم سورة محمد 31
(آخره والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم)
==========================
رسالة في الجواب عن سؤال عن الحلاج هل كان صديقا أو زنديقا
نص السؤال: ما يقول السادة العلماء رضي الله عنهم في الحلاج الحسين بن منصور: هل كان صديقا أو زنديقا؟ وهل كان وليا لله متقيا له، أم كان له حال رحماني، أو من أهل السحر والخزعبلات؟ وهل قتل على الزندقة بمحضر من علماء المسلمين، أو قتل مظلوما؟ أفتونا مأجورين.
الجواب
فأجاب شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، قدس الله روحه.
الحمد لله رب العالمين.
الحلاج كان زنديقا
الحلاج قتل على الزندقة، التي ثبتت عليه بإقراره وبغير إقراره، والأمر الذي ثبت عليه مما يوجب القتل باتفاق المسلمين، ومن قال: إنه قتل بغير حق فهو إما منافق ملحد، وإما جاهل ضال.
والذي قتل به ما استفاض عنه من أنواع الكفر، وبعضه يوجب قتله، فضلا عن جميعه. ولم يكن من أولياء الله المتقين، بل كان له عبادات ورياضات ومجاهدات، بعضها شيطاني، وبعضها نفساني، وبعضها موافق للشريعة من وجه دون وجه، فلبس الحق بالباطل.
بعض أخبار الحلاج
وكان قد ذهب إلى بلاد الهند، وتعلم أنواعا من السحر، وصنف كتابا في السحر معروفا، وهو موجود إلى اليوم، وكانت له أقوال شيطانية، ومخاريق بهتانية.
وقد جمع العلماء أخباره في كتب كثيرة أرخوها، الذين كانوا في زمنه، والذين نقلوا عنهم مثل ابن علي الخطبي ذكره في "تاريخ بغداد"، والحافظ أبو بكر الخطيب ذكر له ترجمة كبيرة في "تاريخ بغداد"، وأبو يوسف القزويني صنف مجلدا في أخباره، وأبو الفرج بن الجوزي له فيه مصنف سماه "رفع اللجاج في أخبار الحلاج"، وبسط ذكره في تاريخه.
وذكر أبو عبد الرحمن السلمي في "طبقات الصوفية" أن كثيرا من المشايخ ذموه وأنكروا عليه ولم يعدوه من مشايخ الطريق وأكثرهم حط عليه.
وممن ذمه وحط عليه أبو القاسم الجنيد، ولم يقتل في حياة الجنيد، بل قتل بعد موت الجنيد، فإن الجنيد توفي سنة ثمان وتسعين ومائتين والحلاج قتل سنة بضع وثلاثمائة.
وقدموا به إلى بغداد راكبا علي جمل ينادى عليه: هذا داعي القرامطة، وأقام في الحبس مدة حتى وجد من كلامه الكفر والزندقة واعترف به، مثل أنه ذكر في كتاب له: من فاته الحج فإنه يبني في داره بيتا ويطوف به، كما يتطوف بالبيت، ويتصدق على ثلاثين يتيما بصدقة ذكرها، وقد أجزأه ذلك عن الحج. فقالوا له: أنت قلت هذا؟ قال: نعم. فقالوا له: ومن أين لك هذا؟ قال: ذكره الحسن البصري في كتاب "الصلاة". فقال له القاضي أبو عمر: تكذب يازنديق، أنا قرأت هذا الكتاب وليس هذا فيه. فطلب منهم الوزير أن يشهدوا بما سمعوه، ويفتوا بما يجب عليه، فاتفقوا على وجوب قتله.
لكن العلماء لهم قولان في الزنديق إذا أظهر التوبة، هل تقبل توبته فلا يقتل، أم يقتل لأنه لا يعلم صدقه، فإنه مازال يظهر ذلك؟ فأفتى طائفة بأنه يستتاب فلا يقتل، وأفتى الأكثرون بأنه يقتل وإن أظهر التوبة، فإن كان صادقا في توبته نفعه ذلك عند الله وقتل في الدنيا، وكان الحد تطهيرا له، كما لو تاب الزاني والسارق ونحوهما بعد أن يرفعوا إلى الإمام، فإنه لابد من إقامة الحد عليهم، فإنهم إن كانوا صادقين كان قتلهم كفارة لهم، ومن كان كاذبا في التوبة كان قتله عقوبة له.
فإن كان الحلاج وقت قتله تاب في الباطن فإن الله ينفعه بتلك التوبة، وإن كان كاذبا فإنه قتل كافرا، ولما قتل لم يظهر له وقت القتل شيء من الكرامات، وكل من ذكر أن دمه كتب على الأرض اسم الله، أو أن دجلة انقطع ماؤها، أو غير ذلك، فإنه كاذب، وهذه الأمور لا يحكيها إلا جاهل أو منافق، وإنما وضعها الزنادقة وأعداء الإسلام، حتى يقول قائلهم: إن شرع محمد بن عبد الله يقتل أولياء الله حين يسمعون أمثال هذه الهذيانات، وإلا فقد قتل أنبياء كثيرون وقتل من أصحابهم وأصحاب نبينا ﷺ والتابعين وغيرهم من الصالحين من لا يحصي عددهم إلا الله، قتلوا بسيوف الفجار والكفار والظلمة وغيرهم ولم يكتب دم أحدهم اسم الله، والدم أيضا نجس فلا يجوز أن يكتب اسم الله تعالى؛ فهل الحلاج خير من هؤلاء، ودمه أطهر من دمائهم؟
وقد جزع وقت القتل، وأظهر التوبة والسنة فلم يقبل ذلك منه، ولو عاش افتتن به كثير من الجهال، لأنه كان صاحب خزعبلات بهتانية، وأحوال شيطانية، ولهذا إنما يعظمه من يعظم الأحوال الشيطانية، والنفسانية، والبهتانية.
وأما أولياء الله العالمون بحال الحلاج فليس منهم واحد يعظمه، ولهذا لم يذكره القشيري في مشايخ رسالته، وإن كان قد ذكر من كلامه كلمات استحسنها.
وكان الشيخ أبو يعقوب النهرجوري قد زوجه بابنته فلما اطلع على زندقته نزعها منه. وكان عمرو بن عثمان يذكر أنه كافر، ويقول: كنت معه فسمع قارئا يقرأ القرآن، فقال: أقدر أن أصنف مثل هذا القرآن، أو نحو هذا الكلام.
وكان يظهر عند كل قوم ما يستجلبهم به إلى تعظيمه، فيظهر عند أهل السنة أنه سني، وعند أهل الشيعة أنه شيعي، ويلبس لباس الزهاد تارة، ولباس الأجناد تارة.
وكان من مخاريقه أنه يبعث بعض أصحابه إلى مكان في البرية يخبأ فيه شيئا من الفاكهة والحلوى، ثم يجيء بجماعة من أهل الدنيا إلى قريب من ذلك المكان فيقول لهم: ما تشتهون أن آتيكم به من هذه البرية؟ فيشتهي أحدهم فاكهة أو حلاوة، فيقول: امكثوا. ثم يذهب إلى ذلك المكان ويأتي بما خبئ أو ببعضه، فيظن الحاضرون أن هذه كرامة له.
وكان صاحب سيمياء وشياطين تخدمه أحيانا، كانوا معه على جبل أبي قبيس فطلبوا منه حلاوة، فذهب إلى مكان قريب منهم وجاء بصحن حلوى، فكشفوا الأمر فوجدوا ذلك قد سرق من دكان حلاوي باليمن، حمله شيطان من تلك البقعة.
أخبار أخرى عن بعض أصحاب الأحوال الشيطانية
ومثل هذا يحدث كثيرا لغير الحلاج ممن له حال شيطاني، ونحن نعرف كثيرا من هؤلاء في زماننا وغير زماننا، مثل شخص هو الآن بدمشق كان الشيطان يحمله من جبل الصالحية إلى قرية حول دمشق، فيجيء من الهواء إلى طاقة البيت الذي فيه الناس فيدخل وهم يرونه، ويجيء بالليل إلى (باب الصغير) فيعبر منه هو ورفيقه، وهو من أفجر الناس.
وآخر كان بالشوبك من قرية يقال لها (الشاهدة) يطير في الهواء إلى رأس الجبل والناس يرونه، وكان شيطانه يحمله، وكان يقطع الطريق؛ وأكثرهم شيوخ الشر، يقال لأحدهم البوشي أبي المجيب ينصبون له خركاه في ليلة مظلمة ويصنعون خبزا على سبيل القربات، فلا يذكرون الله ولا يكون عندهم من يذكر الله ولا كتاب فيه ذكر الله، ثم يصعد ذلك البوشي في الهواء وهم يرونه ويسمعون خطابه للشيطان وخطاب الشيطان له، ومن ضحك أو سرق من الخبز ضربه الدف ولا يرون من يضرب به. ثم إن الشيطان يخبرهم ببعض ما يسألونه عنه، ويأمرهم بأن يقربوا له بقرا وخيلا وغير ذلك، وأن يخنقوها خنقا ولا يذكرون اسم الله عليها، فإذا فعلوا قضى حاجتهم.
وشيخ آخر أخبرني نفسه أنه كان يزني بالنساء ويتلوط بالصبيان الذين يقال لهم "الحوارات"، وكان يقول: يأتيني كلب أسود بين عينيه نكتتان بيضاوان، فيقول لي: فلان ابن فلان نذر لك نذرا وغدا نأتيك به، وأنا قضيت حاجته لأجلك، فيصبح ذلك الشخص يأتيه بذلك النذر، ويكاشفه هذا الشيخ الكافر.
قال: وكنت إذا طلب مني تغيير مثل اللاذن أقول حتى أغيب عن عقلي وإذ باللاذن في يدي أو في فمي، وأنا لا أدري من وضعه. قال: وكنت أمشي وبين يدي عمود أسود عليه نور.
فلما تاب هذا الشيخ وصار يصلي ويصوم ويجتنب المحارم ذهب الكلب الأسود وذهب التغيير فلا يأتي بلاذن ولا غيره.
وشيخ آخر كان له شياطين يرسلهم يصرعون بعض الناس، فيأتي أهل ذلك المصروع إلى الشيخ يطلبون منه إبراءه، فيرسل إلى أتباعه فيفارقون ذلك المصروع، ويعطون ذلك الشيخ دراهم كثيرة. وكان أحيانا تأتيه الجن بدراهم وطعام تسرقه من الناس، حتى أن بعض الناس كان له تين في كوارة فيطلب الشيخ من شياطينه تينا فيحضرونه له، فيطلب أصحاب الكوارة التين فوجدوه قد ذهب.
وآخر كان مشتغلا بالعلم والقراءة فجاءته الشياطين أغوته وقالوا له: نحن نسقط عنك الصلاة ونحضر لك ما تريد. فكانوا يأتونه بالحلوى أو الفاكهة، حتى حضر عند بعض الشيوخ العارفين بالسنة فاستتابه، وأعطى أهل الحلاوة ثمن حلاوتهم التي أكلها ذلك المفتون بالشيطان.
فكل من خرج عن الكتاب والسنة وكان له حال من مكاشفة أو تأثير فإنه صاحب حال نفساني أو شيطاني، وإن لم يكن له حال بل هو يتشبه بأصحاب الأحوال فهو صاحب حال بهتاني. وعامة أصحاب الأحوال الشيطانية يجمعون بين الحال الشيطاني والحال البهتاني، كما قال تعالى: {هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم} [سورة الشعراء: 221، 222].
والحلاج كان من أئمة هؤلاء، أهل الحال الشيطاني والحال البهتاني، وهؤلاء طوائف كثيرة. فأئمة هؤلاء هم شيوخ المشركين الذين يعبدون الأصنام، مثل الكهان والسحرة الذين كانوا للعرب المشركين، ومثل الكهان والسحرة الذين هم بأرض الهند والترك وغيرهم. ومن هؤلاء من إذا مات لهم ميت يعتقدون أنه يجيء بعد الموت يكلمهم ويقضي ديونه ويرد ودائعه ويوصيهم بوصايا، فإنهم تأتيهم تلك الصورة التي كانت في الحياة، وهو شيطان تمثل في صورته فيظنونه إياه.
وكثير ممن يستغيث بالمشائخ فيقول: يا سيدي فلان، أو: يا شيخ فلان اقض حاجتي، فيرى صورة ذلك الشيخ يخاطبه ويقول: أنا أقضي حاجتك، أو أطيب قلبك، فيقضي حاجته أو يدفع عنه عدوه، ويكون ذلك شيطانا قد تمثل في صورته لما أشرك بالله فدعى غيره.
وأنا أعرف من هذا وقائع متعددة، حتى أن طائفة من أصحابي ذكروا أنهم استغاثوا بي في شدائد أصابتهم، أحدهم كان خائفا من الأرمن، والآخر كان خائفا من التتر، فذكر كل منهم أنه لما استغاث بي رآني في الهواء وقد دفعت عنه عدوه، فأخبرتهم أني لم أشعر بهذا، ولا دفعت عنكم شيئا، وإنما هذا شيطان تمثل لأحدهم فأغواه لما أشرك بالله تعالى.
وهكذا جرى لغير واحد من أصحابنا المشايخ مع أصحابهم، يستغيث أحدهم بالشيخ، فيرى الشيخ قد جاء وقضى حاجته، ويقول ذلك الشيخ: إني لم أعلم بهذا، فيتبين أن ذلك كان شيطانا.
وقد قلت لبعض أصحابنا لما ذكر لي أنه استغاث باثنين كان يعتقدهما وأنهما أتياه في الهواء وقالا له: طيب قلبك نحن ندفع عنك هؤلاء ونفعل ونصنع. قلت له: فهل كان من ذلك شيء؟ فقال: لا. فكان هذا مما دله على أنهما شيطانان، فإن الشياطين وإن كانوا يخبرون الإنسان بقضية أو قصة فيها صدق فإنهم يكذبون أضعاف ذلك، كما كانت الجن يخبرون الكهان.
ولهذا من اعتمد على مكاشفته التي هي من أخبار الجن كان كذبه أكثر من صدقه؛ كشيخ كان يقال له الشياح توبناه وجددنا إسلامه، كان له قرين من الجن يقال له "عنتر" يخبره بأشياء فيصدق تارة ويكذب تارة، فلما ذكرت له: إنك تعبد شيطانا من دون الله، اعترف بأنه يقول له: يا عنتر لا سبحانك إنك إله قذر، وتاب من ذلك في قصة مشهورة.
وقد قتل سيف الشرع من قتل من هؤلاء مثل الشخص الذي قتلناه سنة خمس عشرة، وكان له قرين يأتيه ويكاشفه فيصدق تارة ويكذب تارة، وكان قد انقاد له طائفة من المنسوبين إلى أهل العلم والرئاسة فيكاشفهم حتى كشف الله أمره، وذلك أن القرين كان تارة يقول: أنا رسول الله، ويذكر أشياء تنافي حال الرسول، فشهد عليه أنه قال: إن الرسول يأتيني ويقول لي كذا وكذا، من الأمور التي يكفر من أضافها إلى الرسول. فذكرت لولاة الأمور أن هذا من جنس الكهان، وأن الذي يراه شيطان، ولهذا لا يأتيه في الصورة المعروفة للنبي ﷺ بل يأتيه في صورة منكرة، ويذكر عنه أنه يخضع له ويبيح له أن يتناول المنكر وأمورا أخرى، وكان كثيرا من الناس يظنون أنه كاذب فيما يخبر به من الرؤية، ولم يكن كاذبا في أنه رأى تلك الصورة، لكن كان كافرا في اعتقاده أن ذلك رسول الله، ومثل هذا كثير.
ولهذا تحصل لهم تنزلات شيطانية بحسب ما فعلوه من مراد الشيطان، فكلما بعدوا عن الله ورسوله ﷺ وطريق المؤمنين قربوا من الشيطان، فيطيرون في الهواء والشيطان طار بهم، ومنهم من يصرع الحاضرين وشياطينه صرعتهم، ومنهم من يحضر طعاما وإداما ويملأ الإبريق ماء من الهواء، والشياطين فعلت ذلك، فيحسب الجاهلون أن هذه كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هي من جنس أحوال السحرة والكهنة وأمثالهم.
ومن لم يميز بين الأحوال الرحمانية والنفسانية اشتبه عليه الحق بالباطل، ومن لم ينور الله قلبه بحقائق الإيمان واتباع القرآن لم يعرف طريق المحق من المبطل، والتبس عليه الأمر والحال، كما التبس على الناس حال مسيلمة صاحب اليمامة وغيره من الكذابين في زعمهم أنهم أنبياء وإنما هم كذابون.
إخبار النبي ﷺ عن الدجالين والدجال الكبير
وقد قال ﷺ: "لا تقوم الساعة حتى يكون فيكم ثلاثون دجالون كذابون كلهم يزعم أنه رسول الله".
وأعظم الدجاجلة فتنة الدجال الكبير الذي يقتله عيسي بن مريم، فإنه ما خلق الله من لدن آدم إلى قيام الساعة أعظم من فتنته، وأمر المسلمين أن يستعيذوا من فتنته في صلاتهم. وقد ثبت أنه يقول للسماء: أمطري، فتمطر، وللأرض: أنبتي فتنبت، وأنه يقتل رجلا مؤمنا ثم يقول: قم، فيقوم، فيقول: أنا ربك، فيقول له: كذبت بل أنت الأعور الكذاب الذي أخبرنا عنه رسول الله ﷺ، والله ما ازددت فيك إلا بصيرة. فيقتله مرتين ويريد أن يقتله في الثالثة فلا يسلط عليه، وهو يدعي الإلهية.
وقد بين له النبي ﷺ ثلاث علامات تنافي ما يدعيه،أحدها: أنه أعور وإن ربكم ليس بأعور. والثانية: أنه مكتوب بين عينيه "كافر" يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ. والثالثة: قوله: "واعلموا أن أحدكم لا يرى ربه حتى يموت".
فهذا هو الدجال الكبير، ودونه دجاجلة: منهم من يدعي النبوة، ومنهم من يكذب بغير ادعاء النبوة، كما قال ﷺ: "يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم".
كان الحلاج دجالا ووجب قتله
فالحلاج كان من الدجاجلة بلا ريب، ولكن إذا قيل: هل تاب قبل الموت، أم لا؟ قال: الله أعلم، فلا يقول ما ليس له به علم؛ ولكن ظهر عنه من الأقوال والأعمال ما أوجب كفره وقتله باتفاق المسلمين، والله أعلم.
==============


رسالة في الرد على ابن عربي في دعوى إيمان فرعون
هذا سؤال أجاب عنه الشيخ الإمام العلامة الأوحد، شيخ الإسلام، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني.
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه التوفيق
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
نص السؤال: ما تقول السادة العلماء رضي الله عنهم في قول فرعون عند الغرق: {آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} [سورة يونس: 90] هل فيه دليل على إيمانه وإسلامه؟ أو هل يوجد في القرآن أو السنة أو القياس دليل على إيمانه أو إسلامه؟ وما يجب على من يقول: إنه مات مؤمنا، والحالة هذه؟
الجواب
الحمد لله.
فرعون من أعظم الخلق كفرا
كفر فرعون، وموته كافرا، وكونه من أهل النار هو مما علم بالاضطرار من دين المسلمين، بل ومن دين اليهود والنصارى، فإن أهل الملل الثلاثة متفقون على أنه من أعظم الخلق كفرا، ولهذا لم يذكر الله تعالى في القرآن قصة كافر كما ذكر قصته في بسطها وتثنيتها، ولا ذكر عن كافر من الكفر أعظم مما ذكر من كفره واجترائه وكونه أشد الناس عذابا يوم القيامة.
ولهذا كان المسلمون متفقين على أن من توقف في كفره وكونه من أهل النار فإنه يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافرا مرتدا، فضلا عمن يقول إنه مات مؤمنا.
لا يصرح بموته مؤمنا إلا من فيه نفاق وزندقة كالاتحادية
والشك في كفره أو نفيه أعظم منه في كفر أبي لهب ونحوه، وأعظم من ذلك في أبي جهل وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث ونحوهم ممن تواتر كفرهم ولم يذكر باسمه في القرآن، وإنما ذكر ما ذكر من أعمالهم، ولهذا لم يظهر عن أحد بالتصريح بأنه مات مؤمنا إلا عمن فيه من النفاق والزندقة أو التقليد للزنادقة والمنافقين ما هو أعظم من ذلك، كالاتحادية الذين يقولون: إن وجود الخالق هو وجود الخلق، حتى يصرحون بأن يغوث ويعوق ونسرا وغيرها من الأصنام هي وجودها وجود الله، وأنها عبدت بحق، وكذلك العجل عبد بحق، وأن موسى أنكر على هارون من نهيه عن عبادة العجل، وأن فرعون كان صادقا في قوله: أنا ربكم الأعلى، وأنه عين الحق، وأن العبد إذا دعا الله تعالى فعين الداعي عين المجيب، وأن العالم هويته، ليس وراء العالم وجود أصلا.
ومعلوم أن هذا بعينه هو حقيقة قول فرعون الذي قال: {يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا} [سورة غافر: 35 -36].
ولقد خاطبت بعض الفضلاء مرة بحقيقة مذهبهم، وأنه حقيقة قول فرعون فذكر لي رئيس من رؤسائهم أنه لما دعاه إلى هذا القول وبينه قال: قلت له: هذا قول فرعون. فقال له: ونحن على قول فرعون؛ وما كنت أظن أنهم يقرون أو يعترفون بأنهم على قول فرعون. قال: إنما قلت ذلك استدلالا، فلما قال ذلك، قلت له: مع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينة.
تفضيل الاتحادية الولي على النبي والرسول
وهم مع هذا الكفر والتعطيل الذي هو شر من قول اليهود والنصارى، يدعون أن هذا العلم ليس إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء الذي يدعونه، وأن خاتم الأنبياء إنما يرى هذا العلم من مشكاة خاتم الأولياء، وأن خاتم الأولياء يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى خاتم الأنبياء، وهو في الشرع مع موافقته له في الظاهر مشكاة له في الباطن، ولا يحتاج أن يكون متبعا للرسول لا في الظاهر ولا في الباطن.
وهذا -مع أنه من أقبح الكفر وأخبثه- فهو من أفسد الأشياء في العقل، كما يقال لمن قال: "فخر عليهم السقف من تحتهم": لا عقل ولا قرآن؛
لأن الخرور لا يكون من أسفل، وكذلك الاستفادة، إنما يستفيد المتأخر من المتقدم.
ثم خاتم الأولياء الذين يدعونهم، ضلالهم فيه من وجوه، حيث ظنوا أن للأولياء خاتما، وأن يكون أفضلهم قياسا على خاتم الأنبياء، ولم يعلموا أن أفضل الأولياء من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم السالفون من الأولياء لا الآخرون، إذ فضل الأولياء على قدر اتباعهم للأنبياء واستفادتهم منهم علما وعملا.
وهؤلاء الملاحدة يدعون أن الولي يأخذ من الله بلا واسطة، والنبي يأخذ بواسطة، وهذا جهل منهم، فإن الولي عليه أن يتبع النبي، ويعرض كل ما له من محادثة وإلهام على ما جاء به النبي، فإن وافقه وإلا رده، إذ ليس هو بمعصوم فيما يقضي له.
وقد يلبسون على بعض الناس بدعواهم أن ولاية النبي أفضل من نبوته، وهذا مع أنه ضلال فليس هو مقصودهم، فهم مع ضلالهم فيما ظنوه من خاتم الأولياء ومرتبته يختلفون في عينه بحسب الظن وما تهوى الأنفس،
لتنازعهم في تعيين القطب الفرد الغوث الجامع، ونحو ذلك من المراتب التي يدعونها، وهي معلومة البطلان بالشرع والعقل. ثم يتنازعون في عين الموصوف بها، وهذا باب واسع.
والمقصود هنا أن هؤلاء الاتحادية من أتباع صاحب "فصوص الحكم" وصاحب "الفتوحات المكية" ونحوهم، هم الذين يعظمون فرعون، ويدعون أنه مات مؤمنا، وأن تغريقه كان بمنزلة غسل الكافر إذا أسلم، ويقولون: ليس في القرآن ما يدل على كفره، ويحتجون على إيمانه بقوله: {حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين} [سورة يونس: 90].
بطلان حجتهم على إيمان فرعون
وتمام القصة تبين ضلالهم، فإنه قال سبحانه: {آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين} [سورة يونس: 91]، وهذا استفهام إنكار وذم، ولو كان إيمانه صحيحا مقبولا لما قيل له ذلك.
وقد قال موسى عليه السلام: {ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} [سورة يونس: 88].
قال الله تعالى: {قد أجيبت دعوتكما} [سورة يونس: 89]، فاستجاب الله دعوة موسى وهارون، فإن موسى كان يدعو وهارون يؤمن أن فرعون وملأه لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.
وقد قال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون * فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون * فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون} [سورة غافر: 82 - 85]، فأخبر سبحانه وتعالى أن الكفار لم يك ينفعهم إيمانهم حين رأوا البأس، وأخبر أن هذه سنته التي قد خلت في عباده، ليبين أن هذه عادته سبحانه في المستقدمين والمستأخرين، كما قال سبحانه وتعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار} [سورة النساء: 18].
ثم إنه سبحانه وتعالى قال بعد قوله: {آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين * فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية} [سورة يونس: 91 - 92]، فجعله الله تعالى عبرة وعلامة لمن يكون بعده من الأمم لينظروا عاقبة من كفر بالله تعالى، ولهذا ذكر الله تعالى الاعتبار بقصة فرعون وقومه في غير موضع.
وقد قال سبحانه وتعالى: {كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود * وعاد وفرعون وإخوان لوط * وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد} [سورة ق: 12 - 14]، فأخبر سبحانه أن كل واحد من هؤلاء المذكورين، فرعون وغيره، كذب الرسل كلهم، إذ لم يؤمنوا ببعض ويكفروا ببعض كاليهود والنصارى، بل كذبوا الجميع، وهذا أعظم أنواع الكفر، فكل من كذب رسولا فقد كفر، ومن لم يصدقه ولم يكذبه فقد كفر؛ فكل مكذب للرسول كافر به، وليس كل كافر مكذبا به، إذ قد يكون شاكا في رسالته، أو عالما بصدقه لكنه يحمله الحسد أو الكبر على ألا يصدقه، وقد يكون مشتغلا بهواه عن استماع رسالته والإصغاء إليه؛ فمن وصف بالكفر الخاص الأشد، كيف لا يدخل في الكفر؟!
ولكن ضلالهم في هذا نظير ضلالهم في قوله:
مقام النبوة في برزخ... فويق الرسول ودون الولي
وقد علم أن كل رسول نبي، وكل نبي ولي، ولا ينعكس.
وقال سبحانه وتعالى: {كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد * وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب * إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب} [سورة ص: 12 - 14]. وقال تعالى: {وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة * فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية} [سورة الحاقة: 9 - 10].
ثم إن الله تعالى أخبر عن فرعون بأعظم أنواع الكفر: من جحود الخالق، ودعواه الإلهية، وتكذيب من يقر بالخالق سبحانه، ومن تكذيب الرسول ووصفه بالجنون والسحر وغير ذلك. ومن المعلوم بالاضطرار أن الكفار العرب الذين قاتلهم النبي ﷺ -مثل أبي جهل وذريته- لم يكونوا يجحدون الصانع، ولا يدعون لأنفسهم الإلهية، بل كانوا يشركون بالله ويكذبون رسوله.
وفرعون كان أعظم كفرا من هؤلاء؛ قال الله تعالى: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب * فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال * وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد * وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب * وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم} [سورة غافر: 23 -28]، إلى قوله: {وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب} [سورة غافر: 36 - 37].
أخبر الله سبحانه وتعالى أن فرعون ومن ذكر معه قال إن موسى ساحر كذاب، وهذا من أعظم أنواع الكفر.
ثم أخبر الله أنه أمر بقتل أولاد الذين آمنوا معه لينفروا عن الإيمان معه كيدا لموسى. قال تعالى: {وما كيد فرعون إلا في تباب} [سورة غافر: 37]، فدل على أنهم من الكافرين الذين كيدهم في تباب، فوصفهم بالتكذيب وبالكفر جميعا، وإن كان التكذيب مشتملا مستلزما للكفر، كما أن الرسالة مستلزمة للنبوة، والنبوة مستلزمة للولاية.
ثم أخبر عن فرعون أنه طلب قتل موسى وقال: {وليدع ربه}، وهذا تنبيه على أنه لم يكن مقرا بربه، ولهذا قال في تمام الكلام: {ما علمت لكم من إله غيري} [سورة القصص: 38]، وهذا جحد صريح لإله العالمين، وهي الكلمة الأولى.
ثم قال بعد ذلك لما ذكره الله تعالى بقوله: {فكذب وعصى * ثم أدبر يسعى * فحشر فنادى * فقال أنا ربكم الأعلى} [سورة النازعات: 21 - 24]، قال الله تعالى: {فأخذه الله نكال الآخرة والأولى * إن في ذلك لعبرة لمن يخشى} [سورة النازعات: 25 - 26]. قال كثير من العلماء: أي نكال الكلمة الآخرة، ونكال الكلمة الأولى، فنكل الله تعالى به على الكلمتين باعترافه، وجعل ذلك عبرة لمن يخشى. ولو كان هذا ممن لم يعاقب على ما تقدم من كفره، ولم يكن عقابه عبرة، بل من آمن غفر الله له ما سلف، ولم يذكره بكفر ولا بذم أصلا، بل يمدحه على إيمانه، ويثني عليه كما أثنى على من آمن بالرسل، وأخبر أنه نجاهم.
وفرعون هو أكثر الكفار ذكرا في القرآن، وهو لا يذكره سبحانه إلا بالذم والتقبيح واللعن، ولم يذكره بخير قط.
وهؤلاء الملاحدة المنافقون يزعمون أنه مات طاهرا مطهرا ليس فيه شيء من الخبث، بل يزعمون أن السحرة صدقوه في قوله: ما علمت لكم من إله غيري، وأنه صح قوله: أنا ربكم الأعلى، وأنه كان عين الحق.
وقد أخبر سبحانه وتعالى عن جحوده لرب العالمين. قال لما قال له موسى عليه السلام: {إني رسول من رب العالمين * حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل} [سورة الأعراف: 104 - 105]، {قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين * قال لمن حوله ألا تستمعون * قال ربكم ورب آبائكم الأولين * قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون * قال رب المشرق والمغرب إن كنتم تعقلون * قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين} [سورة الشعراء: 23 - 29]، فتوعد موسى بالسجن إن اتخذ إلها غيره.
وهؤلاء مع تنظيمهم لفرعون يشاركون في حقيقة كفره، وإن كانوا مفارقين له من جهة أخرى، فإن عندهم: ما ثم موجود غير الله أصلا، ولا يمكن أحد أن يتخذ إلها غيره، لأنه أي شيء عبد العابد من الأوثان والأصنام والشياطين، فليست عندهم غير الله أصلا. وهل يقال هي الله؟ لهم في ذلك قولان.
إخبار الله عن عذاب فرعون في الآخرة
وإخباره سبحانه وتعالى عن تكذيب فرعون وغير ذلك من أنواع كفره كثير في القرآن، وكذلك إخباره عن عذابه في الآخرة. فإن هؤلاء الملاحدة يزعمون أنه ليس في القرآن آية تدل على عذابه، ويقولون إنما قال سبحانه: {يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود} [سورة هود: 98]، قالوا: فأخبر أنه يوردهم، ولم يذكر أنه دخل معهم. قالوا: وقد قال: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [سورة غافر: 46]، فإنما يدخل النار آل فرعون لا فرعون.
وهذا من أعظم جهلهم وضلالهم، فإنه حيث ذكر في الكتاب والسنة آل فلان كان فلان داخلا فيهم، كقوله: {إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} [سورة آل عمران: 33]، وقوله: {إلا آل لوط نجيناهم بسحر} [سورة القمر: 34]، وقوله: {سلام على إل ياسين} [سورة الصافات: 130]. وقول النبي ﷺ: "اللهم صل على آل أبي أوفى"، وقوله: "لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود".
ومنه قوله تعالى: {وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب} [سورة البقرة: 49]، {كدأب آل فرعون} [سورة آل عمران: 11]، {ولقد جاء آل فرعون النذر * كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر} [سورة القمر: 41 - 42].
وقوله: {أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [سورة غافر: 46] متناول له ولهم باتفاق المسلمين، وبالعلم الضروري من دين المسلمين.
وهذا بعد قوله تعالى حكاية عن مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} [سورة غافر: 28]، والذي طلب قتله هو فرعون، فقال المؤمن بعد ذلك: {مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار * تدعونني لأكفر بالله وأشرك به} [سورة غافر: 41 - 42]، والداعي إلى الكفر هو كافر كفرا مغلظا، فهذا فيه.
ووصفهم أيضا بالكفر إلى قوله: {فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [سورة غافر: 45 - 46]، فأخبر أنه حاق بآل فرعون سوء العذاب، ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب. ثم قال: {وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار * قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد} [سورة غافر: 47 - 48] ومعلوم أن فرعون هو أعظم الذين استكبروا، ثم هامان وقارون، وأن قومهم كانوا لهم تبعا، وفرعون هو متبوعهم الأعظم الذي قال: ما علمت لكم من إله غيري، وقال: أنا ربكم الأعلى.
وقد قال: {واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون * فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين * وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون * وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين} [سورة القصص: 39 - 42].
وهذا تصريح بأنه نبذه وقومه في اليم عقوبة الذي هو الكفر، وأنه أتبعه وقومه في الدنيا لعنة، ويوم القيامة هم من المقبوحين هو وقومه جميعا، وهذا موافق لقوله: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملئه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد * يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود * وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود} [سورة هود: 96 - 99].
فأخبر سبحانه أنهم اتبعوا أمره، وأنه يقدمهم لأنه إمامهم، فيكون قادما لهم لا سائقا لهم، وأنه يوردهم النار. فإذا كان التابع قد ورد النار فمعلوم أن القادم الذي يقدمه وهو متبوعه ورد قبله، ولهذا قال بعد ذلك: {وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين} [سورة القصص: 42].
والتابع والمتبوع كما قال الله تعالى في تلك السورة عن فرعون وقومه: {وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود} [سورة هود: 99].
(والكلام في هذا مبسوط، لم تحتمل هذه الورقة إلا هذا، والله أعلم.
والحمد لله وحده، وصلوات الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
تم وكمل.)
==============================


رسالة في التوبة
قال الإمام العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما
بعض آيات التوبة في القرآن
قال الله تعالى آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير وبشير وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذب يوم كبير سورة هود 1 3
وقال تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون الآيات سورة الزمر 53 55
وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم الآية سورة التحريم 8
وقال تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون سورة النور 31
وقال تعالى لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم سورة التوبة 117 118
وقال تعالى وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم سورة البقرة 35 37
وقال تعالى في السورة الأخرى وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين سورة الأعراف 22 23
وقال تعالى وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى سورة طه 121 122
وقال تعالى عن نوح أنه قال لقومه استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا الآية سورة نوح 10 11
وقال عن نوح رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين سورة هود 47 وعن هود ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين سورة هود 52 وعن صالح فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب سورة هود 61 وكذلك قال شعيب واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود سورة هود 90 وقال إبراهيم عليه السلام ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب سورة إبراهيم 41 وقال والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين سورة الشعراء 82 وقال وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم سورة البقرة 128 وقال عن موسى عليه السلام فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم سورة القصص 15 16 وقال موسى رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين سورة الأعراف 151 وقال موسى سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين سورة الأعراف 143
وقال تعالى لموسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم سورة النمل 10 11 وقال موسى أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل الآية سورة الأعراف 155 157
وقال لخاتم الرسل فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات سورة محمد 19 وقال إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر سورة الفتح 1 2
وقال تعالى إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين سورة البقرة 222
وقال حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير سورة غافر 1 3
وقال تعالى وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله سورة الشورى 25 26
وقال تعالى وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم سورة التوبة 102 106
بعض الأحاديث في التوبة
وفي صحيح مسلم عن أبي بردة عن الأغر عن ابن عمر عن النبي ﷺ أنه قال يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم
مائة مرة وعن أبي بردة عن الأغر المزني قال قال رسول الله ﷺ إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة وقال إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة وقال إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها وقال من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه وقال لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح
وهذا الحديث متواتر عن النبي ﷺ رواه ابن مسعود والبراء بن عازب والنعمان بن بشير وأبو هريرة وأنس بن مالك ففي الصحيحين عن ابن معسود قال قال رسول الله ﷺ لله أفرح بتوبة أحدكم من رجل خرج بأرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه وزاده وما يصلحه فأضلها فخرج في طلبها حتى إذا أدركه الموت ولم يجدها قال أرجع إلى مكاني الذي أضللتها فيه فأموت فيه فأتى مكانه فغلبته عينه فاستيقظ فإذا راحلته عند رأسه عليها طعامه وشرابه وزاده وما يصلحه وفي السنن أنه ﷺ قال كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون وقال إن العبد إذا أذنب نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه فذلكم الران الذي ذكر الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون سورة المطففين 14
وعن ابن عباس في قوله إلا اللمم سورة النجم 32 قال رسول الله ﷺ
"إن تغفر اللهم تغفر جما... وأي عبد لك لا ألما"
وعن ابن عمر قال إن كنا لنعد لرسول الله ﷺ في المجلس الواحد يقول رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور مائة مرة رواه أحمد والترمذي وقال حديث صحيح
فصل: التوبة نوعان واجبة ومستحبة
التوبة نوعان واجبة ومستحبة
فالواجبة هي التوبة من ترك مأمور أو فعل محظور وهذه واجبة على جميع المكلفين كما أمرهم الله بذلك في كتابه وعلى ألسنة رسله
والمستحبة هي التوبة من ترك المستحبات وفعل المكروهات فمن اقتصر على التوبة الأولى كان من الأبرار المقتصدين ومن تاب التوبتين كان من السابقين المقربين ومن لم يأت بالأولى كان من الظالمين إما الكافرين وإما الفاسقين قال الله تعالى وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم سورة الواقعة 7 12 وقال تعالى فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم سورة الواقعة 88 94 وقال تعالى فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله سورة فاطر 32 وقال تعالى إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا سورة الإنسان 3 6 وقال كلا إن كتاب الفجار لفي سجين إلى قوله كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون إلى قوله ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون سورة المطففين 7 28 قال ابن عباس تمزج لأصحاب اليمين مزجا ويشرب بها المقربون صرفا
التوبة من ترك الحسنات أهم من التوبة من فعل السيئات
والتوبة رجوع عما تاب منه إلى ما تاب إليه فالتوبة المشروعة هي الرجوع إلى الله وإلى فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه وليست التوبة من فعل السيئات فقط كما يظن كثير من الجهال لا يتصورون التوبة إلا عما يفعله العبد من القبائح كالفواحش والمظالم بل التوبة من ترك الحسنات المأمور بها أهم من التوبة من فعل السيئات المنهي عنها فأكثر الخلق يتركون كثيرا مما أمرهم الله به من أقوال القلوب وأعمالها وأقوال البدن وأعماله وقد لا يعلمون أن ذلك مما أمروا به أو يعلمون الحق ولا يتبعونه فيكونون إما ضالين بعدم العلم النافع وإما مغضوبا عليهم بمعاندة الحق بعد معرفته
وقد أمر الله عباده المؤمنين أن يدعوه في كل صلاة بقوله اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ولهذا نزه الله نبيه عن هذين فقال تعالى والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى سورة النجم 1 4 فالضال الذي لا يعلم الحق بل يظن أنه على الحق وهو جاهل به كما عليه النصارى قال تعالى ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل سورة المائدة 77
والغاوي الذي يتبع هواه وشهواته مع علمه بأن ذلك خلاف الحق كما عليه اليهود قال تعالى سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين سورة الأعراف 146 وقال تعالى واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث الآية سورة الأعراف 175 176
الغي والضلال يجمعان جميع السيئات
وفي الحديث عن النبي ﷺ إن أخوف ما أخاف عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن فإن الغي والضلال يجمع جميع سيئات بني آدم فإن الإنسان كما قال تعالى وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا سورة الأحزاب 72 فبظلمه يكون غاويا وبجهله يكون ضالا وكثيرا ما يجمع بين الأمرين فيكون ضالا في شيء غاويا في شيء آخر إذ هو ظلوم جهول ويعاقب على كل من الذنبين بالآخر كما قال في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا سورة البقرة 10 وكما قال فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم سورة الصف 5
كما يثاب المؤمن على الحسنة بحسنة أخرى فإذا عمل بعلمه ورثه الله علم ما لم يعلم وإذ عمل بحسنة دعته إلى حسنة أخرى قال تعالى والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم سورة محمد 17 وقال تعالى ويزيد الله الذين اهتدوا هدى سورة مريم 76 وقال والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا سورة العنكبوت 69 وقال ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما سورة النساء 66 68 وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم سورة الحديد 28 29
وهو ﷺ ذكر شهوات الغي في البطون والفروج كما في الصحيح أنه قال من تكفل لي بما بين لحييه وما بين رجليه تكفلت له بالجنة فإن هذا يعلم عامة الناس أنه من الذنوب لكن يفعلونه اتباعا لشهواتهم
وأما مضلات الفتن فأن يفتن العبد فيضل عن سبيل الله وهو يحسب أنه مهتد كما قال ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون سورة الزخرف 36 37 وقال أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء سورة فاطر 8 وقال وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب سورة غافر 37 وقال قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا سورة الكهف 103 104
ولهذا تأول أصحاب النبي ﷺ هذه الآية فيمن يتعبد بغير شريعة الله التي بعث بها رسوله من المشركين وأهل الكتاب كالرهبان وفي أهل الأهواء من هذه الأمة كالخوارج الذين أمر النبي ﷺ بقتالهم وقال فيهم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة وذلك لأن هؤلاء خرجوا عن سنة رسول الله ﷺ وجماعة المسلمين حتى كفروا من خالفهم مثل عثمان وعلي وسائر من تولاهما من المؤمنين واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم كما قال النبي ﷺ فيهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان
وإذا اجتمع شهوات الغي ومضلات الفتن قوى البلاء وصار صاحبه مغضوبا عليه ضالا وهذا يكون كثيرا بسبب حب الرئاسة والعلو في الأرض كحال فرعون قال تعالى إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين سورة القصص 4 فوصفه بالعلو في الأرض والفساد وقال في آخر السورة تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين سورة القصص 83 ولهذا قال في حق فرعون وكذلك زين لفرعون سوء عمله سورة غافر 37
وذلك أن حب الرئاسة شهوة خفية كما قال شداد بن أوس رضي الله عنه يا بغايا العرب يا بغايا العرب إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية قيل لأبي داود السجستاني ما الشهوة الخفية قال حب الرئاسة وحبك الشيء يعمى ويصم فيبقى حب ذلك يزين له ما يهواه مما فيه علو نفسه ويبغض إليه ضد ذلك حتى يجتمع فيه الإستكبار والإختيال والحسد الذي فيه بغض نعمة الله على عباده لا سيما من مناظره
والكبر والحسد هما داءان أهلكا الأولين والآخرين وهما أعظم الذنوب التي بها عصى الله أولا فإن إبليس استكبر وحسد آدم وكذلك ابن آدم الذي قتل أخاه حسد أخاه ولهذا كان الكبر ينافي الإسلام كما أن الشرك نافي الإسلام فإن الإسلام هو الإستسلام وحده فمن استسلم له ولغيره فهو مشرك به ومن لم يستسلم فهو مستكبر كحال فرعون وملإه ولذلك قال لهم موسى وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين سورة الدخان 19 وقال تعالى عن فرعون واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون سورة القصص 39 وقال تعالى وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين سورة النمل 14
ومن أسلم وجهه لله حنيفا فهو المسلم الذي على ملة إبراهيم الذي قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين
وهذا الإسلام هو دين الأولين والآخرين من الأنبياء وأتباعهم كما وصف الله به في كتابه نوحا وإبراهيم وموسى ويوسف وسليمان وغيرهم من النبيين مثل قول موسى لقومه إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين سورة يونس 84 وقال تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا سورة المائدة 44 وقال نوح عليه السلام فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين سورة يونس 72
وقال يوسف توفني مسلما وألحقني بالصالحين سورة يوسف 101 وقالت بلقيس وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين سورة النمل 44
الغي في شهوات الرئاسة والكبر والعلو
وليس الغي مختصا بشهوات البطون والفروج فقط بل هو في شهوات البطون والفروج وشهوات الرئاسة والكبر والعلو وغير ذلك فهو اتباع الهوى وإن لم يعتقد أنه هوى بخلاف الضال فإنه يحسب أنه يحسن صنعا ولهذا كان إبليس أول الغاوين كما قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين سورة الأعراف 16 17 وقال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين سورة الحجر 39 40
وقال تعالى ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون سورة القصص 62 63
وقد قال تعالى فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون سورة الشعراء 94 95
وإنما في الحديث ما يخاف على هذه الأمة من الغي وهو شهوات الغي في البطون والفروج فأما الغي الذي هو الإستكبار عن ابتاع الحق فذاك أصل الكفر فصاحبه ليس من هذه الأمة كإبليس وفرعون وغيرها وأما غي شهوات البطون والفروج فذاك يكون لأهل الإيمان ثم يتوبون كما قال وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى سورة طه 121 122
وفي السنن والمسند من حديث ليث بن سعد عن يزيد بن الهاد عن عمرو عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله ﷺ يقول
إن إبليس قال لربه عز وجل بعزتك وجلالك لا أبرح أغوى بني آدم ما دامت الأرواح فيهم فقال له ربه عز وجل فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني
فصل: العصيان يقع مع ضعف العلم
وجميع ما يتوب العبد منه سواء كان فعلا أو تركا قد لا يكون كان عالما بأنه ينبغي التوبة منه وقد يكون كان عالما بذلك فإن الإنسان كثيرا ما يكون غير عالم بوجوب الشيء أو قبحه ثم يتبين له فيما بعد وجوبه أو قبحه وقد يكون عالما بوجوبه أو قبحه ويتركه أو يفعله لضعف المقتضى لفعل الواجب أو قوة المقتضى لفعل القبيح لكن هذا لا يكاد يقع إلا مع ضعف العلم بوجوبه وقبحه وإلا فإذا كمل العلم استلزم الإرادة الجازمة في الطرفين ولهذا قال سبحانه إنما التوبة للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما سورة النساء 17 قال أبو العالية قال أصحاب محمد ﷺ كل من عصى الله فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب
وقال تعالى وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم سورة الأنعام 54
والمؤمن لا يزال يخرج من الظلمات إلى النور ويزداد هدى فيتجدد له من العلم والإيمان ما لم يكن قبل ذلك فيتوب مما تركه وفعله والتوبة تصقل القلب وتجليه مما عرض له من رين الذنوب كما قال النبي ﷺ إن العبد إذا أذنب نكتت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي قال الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون سورة المطففين 14
وقد قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة
التوبة من الاعتقادات أعظم من التوبة من الإرادات
والتوبة من الاعتقادات أعظم من التوبة من الإرادات فإن من ترك واجبا أو فعل قبيحا يعتقد وجوبه وقبحه كان ذلك الاعتقاد داعيا له إلى فعل الواجب ومانعا من فعل القبيح فلا يكون في فعله وتركه ثابت الدواعي والصوارف بل تكون دواعيه وصوارفه متعارضة ولهذا يكون الغالب على هذا التلوم وتكون نفسهم لوامة تارة يؤدون الواجب وتارة يتركونه وتارة يتركون القبيح وتارة يفعلونه كما تجده في كثير من فساق القبلة الذين يؤدون الحقوق تارة ويمنعونها أخرى ويفعلون السيئات تارة ويتركونها أخرى لتعارض الإرادات في قلوبهم إذ معهم أصل الإيمان الذي يأمر بفعل الواجب وينهى عن فعل القبيح ومعهم من الشبهات والشهوات ما يدعوهم إلى خلاف ذلك
وأما ما فعله الإنسان مع اعتقاد وجوبه وتركه مع اعتقاد تحريمه فهذا يكون ثابت الدواعي والصوارف أعظم من الأول بكثير وهذا تحتاج توبته إلى صلاح اعتقاده أولا وبيان الحق وهذا قد يكون أصعب من الأول إذ ليس معه داع إلى أن يترك اعتقاده كما كان مع الأول داع إلى أن يترك مراده وقد يكون أسهل إذا كان له غرض فيما يخالف موجب الاعتقاد مثل الآصار والأغلال التي على أهل الكتاب وإذلال المسلمين لهم وأخذ الجزية منهم مع مخالفة المسلمين له فهذا قد يكون داعيا إلى أن ينظر في اعتقاده هل هو حق أو باطل حتى يتبين له الحق وقد يكون أيضا مرغبا له في اعتقاد يخرج به من هذا البلاء
الاعتقاد والإرادة يتعاونان
وكذلك قهر المسلمين لعدوهم بالأسر يدعوهم إلى النظر في محاسن الإسلام فللرغبة والرهبة تأثير عظيم في معاونة الاعتقاد كما للاعتقاد تأثير عظيم في الفعل والترك فكل واحد من العلم والعمل من الاعتقاد والإرادة يتعاونان فالعلم والاعتقاد يدعو إلى العمل بموجبه والإرادة رغبة ورهبة والعمل بموجبها يؤيد النظر والعلم الموافق لتلك الإرادة والعمل كما قال من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم
وفي القرآن شواهد هذا متعددة في مثل قوله ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما سورة النساء 66 68
وفي قوله اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم سورة الحديد 28 وغير ذلك
فإذا كان الإنسان معاقبا على الاعتقاد كما يعاقب الكفار على كفرهم كانت التوبة منه ظاهرة كما قال تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إليه إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم سورة المائدة 73 74 وقال تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم سورة التوبة 5
فأما الإعقتاد المغفور كالخطأ والنسيان الذي لا يؤاخذ الله به هذه الأمة كما في قوله ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا سورة البقرة 286 وقد ثبت في الصحيح أن الله قد فعل ذلك وكما قال النبي ﷺ إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر فهذا قد يقال في مثله إن قيل إنه يتاب منه فكيف يتاب مما لا ذم فيه ولا عقاب وإن قيل لا يتاب منه فكيف لا يرجع الإنسان إلى الحق إذا تبين له
وجواب ذلك أنه يتاب منه كما يتاب من غيره لأن صاحبه قد ترك ما هو مأمور به في نفس الأمر من العلم وما يتبعه من أعمال القلوب والجوارح إما لعجزه عن بلوغه وإما لتقصيره في طلبه
وأيضا فإنه قد فعل من الاعتقاد وما يتبعه من أعمال القلوب والجوارح ما هو منهي عنه في نفس الأمر لكن سقط عنه النهي لعدم قدرته على معرفة قبحه والتكليف مشروط بالتمكن من العلم والقدرة فلا يكلف العاجز عن العلم ما هو عاجز عنه والناسي والمخطىء كذلك لكن إذا تجدد له قدرة على العلم صار مأمورا بطلبه وإذا تجدد له العلم صار مأمورا حينئذ باتباعه وصار في هذه الحال مذموما على ترك ما يقدر عليه من طلب العلم الواجب وعلى ترك اتباع ما تبين له من العلم
وأيضا فما دام غير مستيقن للحق فهو مأمور بطلب العلم الذي يبين له الحق والمعتقد المخطىء لا يكون مستيقنا قط فإن العلم واليقين يجده الإنسان من نفسه كما يجد سائر إدراكاته وحركاته مثلما يجد سمعه وبصره وشمه وذوقه فهو إذا رأى الشيء يقينا يعلم أنه رآه وإذا علمه يقينا يعلم أنه علمه وأما إذا لم يكن مستيقنا فإنه لا يجد ما يجده العالم كما إذا لم يستيقن رؤيته لم يجد ما يجده الرائي وإنما يكون عنده ظن ونوع إرادة توجب اعتقاده
هذا هو الذي يجده بنو آدم في نفوسهم كما قال سبحانه إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى سورة النجم 23 وإذا كان الإنسان مأمورا بطلب العلم الذي يحتاج إليه بحسب إمكانه وهو إذا لم يجد العلم اليقيني يعلم أنه لم يجد العلم فهو مأمور بالطلب والاجتهاد فإن ترك ما أمر به كان مستحقا للذم والعقاب على ذلك فإذا تبين له الحق وعلمه وعلم أنه كان جاهلا به معتقدا غير الحق كان تائبا بمعنى أنه رجع من الباطل إلى الحق وإن كان الله قد عفى عنه ما رجع عنه لعجزه إذ ذاك وكان أيضا تائبا مما حصل فيه أولا من تفريط في طلب الحق فكثير من خطأ بني آدم من تفريطهم في طلب الحق لا من العجز التام وكان أيضا تائبا من اتباع هواه أولا بغير هدى من الله فإن أكثر ما يحمل الإنسان على اتباع الظن المخطىء هو هواه كما قال تعالى إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس وليس توبة هذا وحاله كحال من كان عاجزا عن الفعل ثم قدر عليه كالمريض الذي لا يطيق القيام إذا قدر عليه بعد ذلك وكالخائف إذا أمن وكالمصلي بتيمم ونحو هؤلاء
وذلك أن هؤلاء إذا كانت إرادتهم للفعل المأمور به على وجهة الكمال ثابتة في قلوبهم وقد عملوا ما يقدرون عليه من المراد وإنما تركوا تمامه لعجزهم كان لهم مثل ثواب الفاعل كما قال النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه عن أبي موسى إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم وفي الصحيح عن النبي ﷺ
قال إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم حبسهم العذر
وقد قال تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم سورة النساء 95 فهؤلاء لهم علم بالمأمور به الكامل واعتقاد الأمر به وإرادة فعله بحسب الإمكان وهذا كله من أدائهم للمأمور به فإذا تجددت لهم قدرة لم يتجدد رغبة في الفعل الكامل وإنما يتجدد العمل بتلك الرغبة المتقدمة وإن كان لا بد لهذا الفعل من إرادة تخصه ولم يكن هؤلاء مأمورين بذلك إلا في هذه الحال فقط كما تؤمر المرأة بالصلاة عند انقضاء الحيض وكما يؤمر الصبي بما يجب عليه عند بلوغه وكما يؤمر المزكى بالزكاة بعد ملك النصاب والحول والمصلي بالصلاة بعد دخول الوقت
وأما الناسي والمخطىء فإنه لم يكن قد أتى بالعلم والاعتقاد والإرادة فلا يثاب على هذه الأمور التي لم تكن له بل يكون الذي حصل له ذلك أفضل منه بها كما قال تعالى هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون سورة الزمر 9 فنفى المساواة بين الذي يعلم والذي لا يعلم مطلقا لم يستثن المعذور كما استثنى في تفضيل المجاهد على القاعد المعذور
وكذلك سائر ما في القرآن من نحو هذا كقوله وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات سورة فاطر 19 22 وقوله مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا سورة هود 24 وقوله أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها سورة الأنعام 122
ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر لم يجعل أجر العاجز على إصابة الصواب مع اجتهاده كأجر القادر عليه كما جعل للمريض والمسافر مثل ثواب الصحيح المقيم كما جعل المعذور من القاعدين عن الجهاد الذي تمت رغبته بمنزلة المجاهد فإن الأصل هو القلب والبدن تابع فالمستويان في عمل القلب إذا فعل كل منهما بقدر بدنه متماثلان بخلاف المتفاضلين في عمل القلب علمه وإرادته وما يتبع ذلك فإنهما لا يتماثلان ولهذا يعاقب العبد على ما تركه من الإيمان بقلبه
وإن قيل إن ذلك تكليف ما لا يطاق ولا يعاقب على ما عجز عنه بدنه باتفاق المسلمين فهو يعاقب على ترك ما أمر بإرادته وفعله وإن كانت نفسه لا تريده ولا تحبه وليس هو معاقبا على ترك ما عجز عنه بدنه كجهاد المقعد والأعمى ونحوهما ونفسه إنما لا تعلم الحق الذي بعث الله به رسله ولا تريده لتفريطه وتعديه إذ آيات ذلك الحق ظاهره وهو محبوب وقد خلق الله كل مولود على الفطرة التي تتضمن القوة على معرفة هذا الحق وعلى محبته ولكن غير فطرته بما يقلده عن غيره كما قال النبي ﷺ في الحديث المتفق عليه كل مولود يولد على الفطرة فأبوه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء وإذا كان قد خلق على الصحة والسلامة فهو يستحق العقوبة على ما غيره من خلق الله بتفريطه وعدوانه لاتباعه الظن وما تهوى الأنفس
وقد بعث الله الرسل مبشرين ومنذرين وقال سبحانه وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا سورة الإسراء 15 وهذا مما يظهر به الفرق بين المجتهد المخطىء والناسي من هذه الأمة في المسائل الخبرية والعملية وبين المخطىء من الكفار والمشركين وأهل الكتاب الذي بلغته الرسالة إذا قيل إنه غير معاند للحق فإن ذاك لا يكون خطؤه إلا لتفريطه وعدوانه لا يتصور أن يجتهد فيكون مخطئا في الإيمان بالرسول بل متى اجتهد والاجتهاد استفراغ الوسع في طلب العلم بذلك كان مصيبا للعلم به بلا ريب
فإن دلائل ما جاء به الرسول ودواعيه في نهاية الكمال والتمام الذي يشمل كل من بلغته ولا يترك أحد قط اتباع الرسول إلا لتفريط وعدوان فيستحق العقاب بخلاف كثير من تفصيل ما جاء به فإنه قد يعزب علمه عن كثير من خواص الأمة وعوامها بحيث لا يكونون في ترك معرفته لا مقصرين ولا مفرطين فلا يعاقبون بتركه مع أنهم قد آمنوا به إيمانا محملا في إيمانهم بما جاء به الرسل فهم آمنوا به مجملا ومعهم أصول الإيمان به كما أن الفاسق معه الدواعي لفعل المأمور وترك المحظور
فلهذا كان المخطىء بالتأويل من هذه الأمة والفاسق بالفعل مع صحة الاعتقاد كل منهما محسنا من وجه مسيئا من وجه وليس واحد منهما كالكفار من المشركين وأهل الكتاب وإن كانوا في ذلك على درجات متفاوتة بل كل منهما ليس تاركا لما أمر به من الاعتقاد والعمل مطلقا ولا فاعلا لضده مطلقا بل المتأول قد آمن إيمانا عاما بكل ما جاء به الرسول واستسلم لكل ما أمره به وهذا الإيمان والإسلام يتناول ما جهله ويدعوه إلى الإيمان والإسلام المفصل إذا علمه لكن عارض ذلك من جهله وظلمه لنفسه ما قد يكون مغفورا له وقد يكون معذبا به
ولذلك الفاجر بالعمل معه من الإيمان بقبح الفعل وبغضه ما هو داع له إلى فعل الأصل المأمور به وداع له إلى تركه لكن عارض ذلك من هواه ما منع كمال طاعته بخلاف المكذب للرسول ﷺ والكافر به فإنه لم يصدق بالحق ولم يستسلم له لا جملة ولا تفصيلا لكن قد يكون ما اتبعه من ظنه وهواه موجبا لبعض ما جاء به الرسول ومانعا له من النظر فيه بحيث لا يستطيع مع ذلك أن يسمع به فهذا واقع كما قال سبحانه وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا سورة الكهف 100 101
وقال تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون سورة هود 18 20
لكن عدم هذه الإستطاعة كان بتفريطه وعدوانه ومن كان تركه للمأمور بذنب منه أو ضرورته إلى المحظور بذنب منه لم يكن ذلك مانعا من ذمه وعقابه ومن هذا قوله سبحانه ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة سورة الأنعام 11 وقال تعالى وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون سورة البقرة 88 وقال وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا سورة النساء 155
وبهذا يظهر ضعف قول طائفة من المتكلمين الذين يقولون الخطأ والإثم يتلازمان ثم منهم من يقول كل مجتهد في المسائل العملية مصيب كما يقوله كثير من المعتزلة والأشعرية ومنهم من يقول بل فيها مخطىء والمخطىء آثم كما يقوله المريسي وغيره وذلك أنهم اعتقدوا أنه حيث يكون مخطئا يكون تاركا لما وجب عليه
ثم قال الأولون فإذا لم يكن تاركا للمأمور به فلا يكون لله في المسألة حكم معين أو لا يكون الحكم المنصوص حكما في حقه إذا لم يتمكن من معرفته
وقال الآخرون بل إذا كان مخطئا يكون تاركا للمأمور به فيكون آثما
والتحقيق أنه مأمور به أمرا مطلقا لكن شرط الإثم بمنزلة التمكن من معرفته فإذا لم يتمكن من معرفته لا يكون شرط الإثم موجودا فيه ولكن ذلك لا ينفى أن يكون هو المأمور به وهو الذي يحبه الله ويرضاه ويثيب فاعله إذا فعله وإنما سقط عن بعض العباد لفوات الشرط في حقه خاصة وحينئذ فيكون النزاع في بعض المواضع نزاعا لفظيا
ولهذا اختلف العلماء هل هو مصيب في اجتهاده وإن كان مخطئا في نفس الأمر أو هو مخطىء في اجتهاده وفي نفس الأمر على قولين ذكرهما القاضي روايتين عن أحمد وذلك أن الخطأ في الاجتهاد قد يعني به القصور والتقصير وقد لا يعني به إلا التقصير إذ العاجز عن معرفة الحكم الذي لله عاجز قاصر ليس بمقصر ولا مفرط فيما بعد عليه فإذا قال أخطأ في اجتهاده أراد أخطأ في استدلاله بمعنى أنه لم يستدل بالدليل الذي يوصله إلى نفس الحق ولا ريب أنه أخطأ هذا الاستدلال الموصل له إلى الحق إذ لو أصابه لأصاب الحق لكنه لم يكن قادرا على هذا الاستدلال فلا يعاقب على تركه
ومن قال لم يخطىء في اجتهاده أراد أنه لم يخطىء فيما قدر عليه من الاجتهاد بل فعله على وجهه لكن لم يكن مقدوره من الاجتهاد كافيا في إدراك المطلوب في نفس الأمر
ومثل هذا النزاع أن يقال هل فعل ما أمر به أو لم يفعل ما أمر به فالمأمور به في نفس الأمر لم يفعله وأما المأمور به في حقه من العمل الممكن فقد فعله ولذلك إذا اشتبهت اخته بأجنبية هل يقال الحرام في نفس الأمر واحدة أم الإثنتان محرمتان على القولين بهذا الإعتبار
فصل: التوبة من الحسنات لا تجوز عند أحد من المسلمين
فأما التوبة من الحسنات فلا تجوز عند أحد من المسلمين بل من تاب من الحسنات مع علمه بأنه تاب من الحسنات فهو إما كافر وإما فاسق وإن لم يعلم أنه تاب من الحسنات فهو جاهل ضال وذلك أن الحسنات هي الإيمان والعمل الصالح فالتوبة من الإيمان هي الرجوع عنه والرجوع عنه ردة وذلك كفر والتوبة من الأعمال الصالحة رجوع عما أمر الله به وذلك فسوق أو معصية
والله تعالى حبب إلى المؤمنين الإيمان وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان فكل حسنة يفعلها العبد إما واجبة وإما مستحبة والتوبة تتضمن الندم على ما مضى والعزم على أن لا يعود إلى مثله في المستقبل والندم يتضمن ثلاثة أشياء اعتقاد قبح ما ندم عليه وبغضه وكراهته وألم يلحقه عليه فمن اعتقد قبح ما أمر الله به أمر إيحاب أو استحباب أو أبغض ذلك وكرهه بحيث يتألم على فعله ويتأذى بوجوده ففيه من النفاق بحسب ذلك وهو إما نفاق أكب ريخرجه من أصل الإيمان وإما نفاق أصغر يخرجه من كماله الواجب عليه قال تعالى ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم سورة محمد 28 وقال تعالى وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون سورة التوبة 124 125 وقال تعالى وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا سورة الإسراء 82
بل إذا علم العبد أن هذا الفعل قد أمره الله به وأحبه فاعتقد هو أن ذلك ليس مما أمر الله به وأبغضه وكرهه فهو كافر بلا ريب فمثل هذه التوبة عن الحسنات هي ردة محضة عن الإيمان وكفر بالإيمان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين سورة المائدة 5
فإطلاق القول بأن الحسنات يتاب منها هو كفر يجب أن يستتاب صاحبه إذ معناه أنه يؤمر بالرجوع عن الحسنات واعتقاد أن الرجوع عن الحسنات يقرب إلى الله وهذا كفر بلا ريب ثم إن هذه التوبة متناقضة ممتنعة في نفسها فإن التائب من الحسنات إن اعتقد أن هذه التوبة حسنة فعليه أن يتوب منها فتكون باطلة فلا يكون قد تاب من الحسنات وإن اعتقد أنها سيئة كان مقرا بأن هذه التوبة محرمة فقد التزم أحد أمرين إما أنه لم يتب من الحسنات أو تاب توبة محرمة وهذا اشتبه عليه حال السابقين المقربين الذين يتوبون من ترك المستحبات أو فعل المكروهات غير المحرمات فظن أنهم تابوا مما فعلوه من الحسنات وتركوه من المحرمات فإنهم لو تابوا من ذلك لكانوا مرتدين إما عن أصل الإيمان وإما عن كماله وإنما هي كوبة عما تركوه من مستحب وفعلوه من مكروه مثل أن يكو العبد يصلي صلاة مجزئة غير كاملة فتبلغه صلاة النبي ﷺ المستحبة فيصلي كصلاته ويندم على ما كان يفعله من الصلاة الناقصة
فهو لا يتوب مما فعله من الحسن وإنما يتوب مما تركه من الحسن ولهذا ينسب نفسه إلى التفريط بما أضاعه من الحسنات وكذلك إذا سمع فضائل الأعمال المستحبة وما وعد الله لأصحابها من علو الدرجات فيندم على ما فرط من ذلك ويعزم على فعلها فهو توبة مما تركه من الحسنات
وكذلك لو كان يصبر على المكاره مثل الفقر والمرض وخوف العدو من غير رضى بذلك فبلغه مقام أهل الرضا وأنه أعلى من الصبر الذي لا رضا معه وأن هؤلاء يستحقون رضوان الله عليهم وأن أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون الله على السراء والضراء وما روى عن النبي ﷺ أنه قال لابن عباس إن استطعت أن تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل وإن لم تستطع فإن في الصبر على ما يكره خيرا كثيرا
فهذا يتوب من ترك الرضا لا من نفس ما أمر به من الصبر فإن الصبر يبقى مع الرضا لا بد من الصبر في الحالتين لكن تذهب مرارة الكراهة بالرضا وتلك المرارة ليست من الحسنات المأمور بها ولا هي داخلة أيضا في حد الصبر المأمور به بل الصبر قد تكون معه مرارة وقد لا تكون
ومن اعتقد أن الصبر لا يكون إلا مع مرارة وأنه ضد الرضا فقد تكلم بعرف بعض المتأخرين وليس ذاك عرف الكتاب والسنة فإن الله تعالى أمرنا بالصبر وأثنى على أصحابه في أكثر من تسعين موضعا من كتابه
والله تعالى لا يأمر بما هو مكروه أو ترك الأفضل ولا يكون ذلك إلا بفعل الحسن لا بترك الأحسن
وبهذا يعرف قول من قال حسنات الأبرار سيئات المقربين مع أن هذا اللفظ ليس محفوظا عمن قوله حجة لا عن النبي ﷺ ولا عن أحد من سلف الأمة وأئمتها وإنما هو كلام وله معنى صحيح وقد يحمل على معنى فاسد
المعنى الصحيح لعبارة: حسنات الأبرار سيئات المقربين
أما معناه الصحيح فوجهان
أحدهما أن الأبرار يقتصرون على أداء الواجبات وترك المحرمات وهذا الإقتصار سيئة في طريق المقربين ومعنى كونه سيئة أن يخرج صاحبه عن مقام المقربين فيحرم درجاتهم وذلك مما يسوء من يريد أن يكون من المقربين فكل من أحب شيئا وطلبه إذا فاته محبوبه ومطلوبه ساءه ذلك فالمقربون يتوبون من الإقتصار على الواجبات لا يتوبون من نفس الحسنات التي يعمل مثلها الأبرار بل يتوبون من الإقتصار عليها وفرق بين التوبة من فعل الحسن وبين التوبة من ترك الأحسن والإقتصار على الحسن
الثاني أن العبد قد يؤمر بفعل يكون حسنا منه إما واجبا وإما مستحبا لأن ذلك مبلغ علمه وقدرته ومن يكون أعلم منه وأقدر لا يؤمر بذلك بل يؤمر بما هو أعلى منه فلو فعل هذا ما فعله الأول كان ذلك سيئة
مثال ذلك أن العامي يؤمر بمسألة العلماء المأمونين على الإسلام والرجوع إليهم بحسب قوة إدراكه وإن كان في ذلك تقليد لهم إذا لا يؤمر العبد إلا بما يقدر عليه وأما العلماء القادرون على معرفة الكتاب والسنة والاستدلال بهما فلو تركوا ذلك وأتوا بما يؤمر به العامي لكانوا مسيئين بذلك
وهذا كما يؤمر المريض أن يصلي قائما فإن لم يستطع فقاعدا فإن لم يستطع فعلى جنب وكما يؤمر المسافر أن يصلي الظهر والعصر والعشاء ركعتين في السفر
وهذا لو فعله المقيم لكان مسيئا تاركا للفرض بل فرضه أربع ركعات فإن المرض والسفر لا ينقص العبد عن كونه مقربا إذا كان ذلك حاله في الإقامة فقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم
بخلاف العلم والجهاد في سبيل الله بالنفس والمال والمسابقة إلى الخيرات فإن الله يقول يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات سورة المجادلة 11 ويقول لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى سورة النساء 95 ويقول في كتابه لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى سورة الحديد 10 ويقول أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم سورة التوبة 19 22
وكذلك في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ أنه قال لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم سئل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وقال خير القورن القرن الذين بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم
فالعلم والجهاد كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يدخل في ذلك هو واجب على الكفاية من المؤمنين فمن قام به كان أفضل ممن لم يقم به وإذا ترك ذلك من تعين عليه كان مذنبا مسيئا فيكون ذلك سيئة له إذا تركه وحسنة مفضلة له على غيره إذا فعله وإن كان القيام بالواجبات بدون ذلك من حسنات من لم يكن قادرا على ذلك فحسنات هؤلاء الأبرار وهي الإقتصار على ذلك سيئات أولئك المقربين
وكذلك السابقون الأولون من هذه الأمة فيما فعلوه من الجهاد والهجرة لو تركوا ذلك واقتصروا على ما دون كان ذلك من أعظم سيئاتهم قال النبي ﷺ لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا كان الإقتصار على مجرد ذلك من حسنات الأبرار الذين ليسوا من أولئك السابقين
وكذلك المرسلون لهم مأمورات لو تركوها كان ذلك سيئات وإن كان فعل ما دونها حسنات لغيرهم ممن لم يؤمر بذلك إلى نظائر ذلك مما يؤمر فيه العبد بفعل لم ؤمر به من هو دونه فيكون ترك ذلك سيئة في حقهه وهو من المقربين إذا فعله ويكون فعل ما دون ذلك حسنات لمن دونه
وذلك أن الإنسان يفضل على غيره إما بفعل مستحب في حقهما وإما بما يؤمر به أحدهما دون الآخر فيفعله وتخصيصه بفعله قد يكون لقدرته وقد يكون لامتحانه بسببه كمن له والدان فإنه يؤمر ببرهما ويكون بذلك أفضل ممن لم يعمل مثل عمله كما روى عن النبي ﷺ في حق المتصدقين بفضول أموالهم المشاركين لغيرهم في الأعمال البدينة ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء فهؤلاء المفضلون الإقتصار على ما دون هذه الأمور سيئات في حقهم وحسنات لمن ليس مثلهم في ذلك
فهذان الوجهان كلاهما معنى صحيح لقول القائل حسنات الأبرار سيئات المقربين
المعنى الفاسد للعبارة
وأما المعنى الفاسد فأن يظن الضان أن الحسنات التي أمر الله بها أمرا عاما يدخل فيه الأبرار ويكون سيئات للمقربين مثل من يظن أن الصلوات الخمس ومحبة الله ورسوله والتوكل على الله وإخلاص الدين لله ونحو ذلك هي سيئات في حق المقربين فهذا قول فاسد غلا فيه قوم من الزنادقة المنافقين المنتسبين إلى العلماء والعباد فزعموا أنهم يصلون إلى مقام المقربين الذي لا يؤمرون فيه بما يؤمر به عموم المؤمنين من الواجبات ولا يحرم عليهم ما يحرم على عموم المؤمنين من المحرمات كالزنا والخمر والميسر
وكذلك زعم قوم في أحوال القلوب التي يؤمر بها جميع المؤمنين أن المقربين لا تكون هذه حسنات في حقهم
وكلا هذين من أخبث الأقوال وأفسدها
وإنما قلنا إن التائب من الحسنات إن علم أنها حسنات وتاب منها فقد أذنب إما بكفر أو فسوق أو معصية وإن لم يعلم أنها حسنات فهو ضال جاهل لأنه إذا تاب مما يسمى حسنة وكان حسنة في الشريعة حقيقة قد أمر الله بها فهو ارجع عن طاعة الله التي هي طاعته وهي حسنة والرجوع عن طاعة الله ودينه لا يخرج عن أن يكون ردة عن أصل الدين فيكون كفرا مغلظا وإما عن كماله هذا لو كان الرجوع بنفس الترك فإن ترك الإيمان كفر وترك الواجبات إما فسق وإما معصية وترك المستحبات المتطوعة يؤخر درجته هذا إذا كان تركا محضا فأما إذا اعقتد مع ذلك أن الحسنات التي يحبها الله ورسوله مما يتاب منها بحيث يندم العبد عليها فيعتقد أن تركها خير من فعلها أو أنها ليست أمورا بها أو أنها لا تقرب إلى الله أو لا تنفع عنده أو أبغضها وكرهها ورجع عنها وتألم من فعلها مندينا بذلك فهذا كافر مرتد تجب استتابته بلا نزاع بين العلماء وهذا هو مسمى التوبة فعلم أن القول بأن الحسنات يتاب منها كفر محض
وأما إن لم يعلم أنها حسنات بل تاب مما كان يسميه أو غيره حسنات أو كان حسنة في الشريعة ولم يعلم العبد أنه حسنة بل ظن أنه سيئة أو كان سيئة منهيا عنها واعتقد المرء أنه حسنة مأمور بها فهو ضال جاهل وهذا عليه أن يتوب من هذا الاعتقاد والعمل الذي كان يعتقد أنه حسنة كما يتوب كل ضال من الكفار وأهل الأهواء المشركين وأهل الكتاب والمبتدعة كالخوارج والروافض والقدرية والجهمية وغيرهم فإن هؤلاء يتوبون مما كانوا يظنونه حسنات لا يتوبون مما هو في الشريعة حسنات ولا يطلقون القول إنا نتوب من الحسنات ولا أن التوبة من الحسنات فعل المقربين ولا أن التوبة من الحسنات مشروع للسابقين ولا أن الذي تبنا منه كان حسنات ولكن يقولون نتوب مما كنا نظن أنه حسنات وليس بحسنات كما قيل
إذا محاسني اللاتي أدل بها... كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
وكذلك يتوب المرء مما يعده حسنات له وهو مقصر في فعله أو خائف من تقصيره في فعله كما قال تعالى والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون سورة المؤمنون 60 وقد روى عن عائشة أنها قالت يا رسول الله أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر ويخاف فقال لا يا بنت الصديق ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه
وهذا لأن الله تعالى يقول في كتابه إنما يتقبل الله من المتقين سورة المائدة 27 أي من الذين يتقونه في العمل
والتقوى في العمل بشيئين أحدهما إخلاصه لله وهو أن يريد به وجه الله لا يشرك بعبادة ربه أحدا والثاني أن يكون مما أمره الله به وأحبه فيكون موافقا للشريعة لا من الدين الذي شرعه من لم يأذن الله له وهذا كما قال الفضيل بن عياض في قوله ليبلوكم أيكم أحسن عملا سورة هود 7 قال اخلصه وأصوبه وذلك أن العلم إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة
فالسعيد يخاف في أعماله أن لا يكون صادقا في إخلاصه الدين لله أو أن لا تكون موافقة لما أمر الله به على لسان رسوله ولهذا كان السلف يخافون النفاق على أنفسهم فذكر البخاري عن أبي عالية قال أدركت ثلاثين من أصحاب محمد ﷺ كلهم يخاف النفاق على نفسه ولهذا كانوا يستثنون فيقول أحدهم أنا مؤمن إن شاء الله ومثل هؤلاء يستغفرون الله مما علموه أو لم يعلموه من التقصير والتعدي ويتوبون من ذلك
وهذا مشروع للأنبياء والمؤمنين كان النبي ﷺ يستغفر بعد الصلاة ثلاثا وقال تعالى والمستغفرين بالأسحار سورة آل عمران 17 قالوا كانوا يحيون الليل صلاة ثم يقعدون في السحر يستغفرون فيختمون قيام الليل بالاستغفار وقال تعالى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم سورة البقرة 198 199 وقال تعالى إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا
فإن قيل قد قال تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون سورة النور 31 وفي المؤمنين من لا ذنب له فيكون أمره بالتوبة أمرا بالتوبة من الحسنات وكذلك توبة الأنبياء وهم معصومون
لم تأت الشريعة بالتوبة من الحسنات
قيل هذا من أعظم الفرية لم تأت الشريعة بالتوبة من الحسنات وهي ما أمر به من طاعته وطاعة أنبيائه وليس في المؤمنين إلا من له ذنب من ترك مأمور أو فعل محظور كما قال ﷺ كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون
وقد قال تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون سورة الزمر 33 35
وقال تعالى أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون سورة الأحقاف 16
أصل هذه المقالة هو دعوى العصمة في المؤمنين
وأصل هذه المقالة وهو دعوى العصمة في المؤمنين وما يشبه ذلك هو من أقوال الغالية من النصارى وغالية هذه الأمة وابتدعها في الملتين منافقوها
غلو النصارى في هذه الدعوى
قال الله تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه سورة النساء 171 وقال تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل سورة المائدة 77 وقال تعالى ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون سورة آل عمران 79 80
وقال تعالى وقالت اليهود عزيز ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون سورة التوبة 30 31
وقد روى في حديث عدي بن حاتم عن النبي ﷺ قال قلت يا رسول الله ما عبدوهم قال أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم فتلك عبادتهم إياهم
وهذا الغلو الذي في النصارى حتى اتخذوا المسيح وأمه إلهين من دون الله واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قد ذكروا أن أول من ابتدعه لهم بولص الذي كان يهوديا فأسلم واتبع المسيح نفاقا ليلبس على النصارى دينهم فأحدث لهم مقالات غالية وكثرت البدع في النصارى في اعتقاداتهم وعباداتهم كما قال تعالى ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون سورة الحديد 27
غلو الشيعة في دعوى العصمة
وكذلك أول ما ابتدعت مقالة الغالية في الإسلام من جهة بعض من كان قد دخل في الإسلام وانتحل التشيع وقيل أول من أظهر ذلك عبد الله بن سبأ الذي كان يهوديا فأسلم وكان ممن أقام الفتنة على عثمان ثم أظهر موالاة علي وهو من ابتدع الغلو في علي حتى ظهر في زمانه من ادعى فيه الإلهية وسجدوا له لما خرج من باب مسجد كندة فأمر علي رضي الله عنه بتحريقهم بالنار بعد أن أجلهم ثلاثة أيام وفي الصحيح أن ابن عباس بلغه أن عليا حرق زنادقة فقال لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي النبي ﷺ أن يعذب بعذاب الله ولضربت رقابهم بالسيف لقول النبي ﷺ من بدل دينه فاقتلوه قالوا وهم هؤلاء وقد رووا قصتهم مستوفاة وروا أنه أظهر أيضا سب أبي بكر وعمر حتى طلب علي أن يقتله فهرب منه ولما بلغ عليا أن أقواما يفضلونه على أبي بكر وعمر قال لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري تحقيقا لما رواه البخاري في صحيحه عن محمد بن الحنفية أنه سأل أباه من خير الناس بعد رسول الله ﷺ فقال أبو بكر قال ثم من قال ثم عمر وقد روى ذلك عن على من نحو ثمانين طريقا وهو متواتر عنه وروى هذا المعنى عنه من وجوه مرفوعا إلى النبي ﷺ كما رواه الترمذي ورواه الدارقطني في كتاب ثناء الصحابة على القرابة وثناء القرابة وثناء القرابة على الصحابة
وحينئذ ابتدع القول بأن عليا إمام منصوص على إمامته وابتدع أيضا القول بأنه معصوم أعظم مما يعتقده المؤمنون في عصمة الأنبياء بل ابتدع القول بنبوته وحدث بإزاء هؤلاء من اعتقد كفره وردته واستحل قتله على ذلك من الخوارج ومن اعتقد فسقه أو ظلمه من الأموية وبعض أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم ومن لم يعتقد إمامته ولا إمامة غيره في زمانه أو جعل إمامته وإمامة غيره سواء مع اعتقاده فضله وسابقته فهؤلاء الثلاثة حدثت بإزاء تلك الثلاثة فالغالية والرافضة والمفضلة بإزاء المكفرة والمفسقة والمتوقفة عن اختصاصه بالإمامة إذ ذاك
ثم القائلون بأنه إمام منصوص عليه معصوم تفرقوا في الإمامة بعده تفرقا كثيرا مشهورا في كتب المقالات منهم الإثنا عشرية الذين يقولون بأن الإمامة انتقلت بالنص من واحد إلى واحد إلى المنتظر محمد بن الحسن الذي يزعمون أنه دخل سرداب سامراء سنة ستين ومائتين وهو طفل له سنتان أو ثلاث وأكثر ما قيل خمس ويزعمون مع ذلك أنه إمام معصوم يعلم كل شيء من أمر الدين ويجب الإيمان به على كل أحد ولا يصح إيمان أحد إلا بالإيمان به ومع هذا فله اليوم أكثر من أربعمئة وأربعين سنة لم يعرف له عين ولا أثر ولا سمع له أحد بما يعتمد عليه من الخبر
وأهل المعرفة بالنسب يقولون إن الحسن بن علي العسكري والده لم يكن له نسل ولا عقب واتفق العقلاء على أنه لم يدخل السرداب أحد وأجمع أهل العلم بالشريعة على ما دل عليه الكتاب والسنة أن هذا لو كان موجودا لكان من أطفال المسلمين الذين يجب الحجر عليهم في أنفسهم وأموالهم حتى يبلغ ويؤنس منه الرشد كما قال تعالى وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا سورة النساء 6
وقد بسطنا القول في بيان فساد هذا في ذكر ما خاطبنا به الشيعة قبل هذا ثم في كتابنا الكبير المسمى بمنهاج أهل السنة النبوية في نقض كلام الشيع والقدرية
ومن الرافضة من يزعم أن الإمام بعد علي أو بعد الحسين هو ابن علي محمد ابن الحنفية وهم الكيساينة ومنهم طوائف كثيرة ليس هذا موضعها إذ ليس في نحل الأمة أكثر تفرقا واختلافا منهم فإن أول من ابتدع مقالتهم كان منافقا زنديقا لم يك مؤمنا ثم انتشرت في أقوام لم يعرفوا أخبار المسلمين الأوائل ولم يقصدوا الزندقة
والمقصود هنا أن هؤلاء هم أول من أظهر القول بأن في المؤمنين من لا ذنب له كما قال هذا السائل وادعوا عصمة الأئمة الإثنى عشر حتى عن الخطأ في الاجتهاد وعن نسيان العلم وعن عدم معرفة شيء من العلم فقالوا إنهم يعلمون كل شيء وادعوا عصمتهم من صغير الذنوب وكبيرها وغير ذلك وادعوا ذلك في الأنبياء أيضا لأنهم أفضل من الأئمة
غلو الصوفية
ولم يقل هذا في الأمة غيرهم على هذا الوجه لكن ظهر في صنفين من الأمة بعض بدعتهم طائفة من النساك والعباد يزعمون في بعض المشايخ أو فيمن يقولون إنه ولي الله أنه لا يذنب وبما عينوا بعض المشايخ وزعموا أنه لم يكن لأحدهم ذنب وربما قال بعضهم النبي معصوم والولي محفوظ
ومن غالية هؤلاء من يعتقد في بعض المشايخ من الإلهية والنبوة ما اعتقدته الغالية في علي ويزعم أن الشيخ يخلق ويرزق ويدخل من يشاء الجنة ومن يشاء النار ويعبده ويدعوه كما يعبد الله ويقول كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان فإني لا أريده ويذبح الذبائح باسمه ويصلي ويسجد إلى جهة قبره ويستغيث به في الحاجات كما يستغاث بالله تعالى
فأما ضلال هذه الغالية فشرك واضح قد بيناه في غير هذا الموضع فإنه لا تجوز عبادة أحد دون الله ولا التوكل عليه والإستعانة به ودعاؤه ومسألته كما يدعى الله ويسأل الله
قال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا سورة الإسراء 56 57 وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له سورة سبأ 22 23 وقال تعالى من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه سورة البقرة 255 وقال تعالى أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض سورة الزمر 43 44 وقال تعالى فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين سورة الشعراء 213 وقال تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار سورة المائدة 72
لا عصمة لأحد بعد الرسول
والمقصود هنا ذكر العصمة فقد أجمع جميع سلف المسلمين وأئمة الدين من جميع الطوائف أنه ليس بعد رسول الله ﷺ أحد معصوم ولا محفوظ لا من الذنوب ولا من الخطايا بل من الناس من إذا أذنب استغفر وتاب وإذا أخطأ تبين له الحق فرجع إليه وليس هذا واجبا لأحد بعد رسول الله ﷺ بل يجوز أن يموت أفضل الناس بعد الأنبياء وله ذنب يغفره الله وقد خفى عليه من دقيق العلم ما لم يعرفه ولهذا اتفقوا على أنه ما من الناس أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ
وذهب بعض الناس إلى أن قول أبي بكر وحده حجة وإن خالفه عمر ثم قول عمر حجة وإن خالفه عثمان وعلي وأما أئمة الإسلام فلا يقولون بهذا بل تنازعوا فيما إذا اتفق أبو بكر وعمر على قول هل يكون حجة على قولين هما روايتان عن أحمد والأظهر في الموضعين أن ذلك حجة لقوله ﷺ اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وقوله إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا وقوله لو اتفقتما على شيء لم أخالفكما ولقوله عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة وقد قال الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكا وقد كانت خلافة على تمام الثلاثين مع الأشهر التي تولاها الحسن رضي الله عنه
واتفقوا على أنه ليس من شرط ولي الله أن لا يكون له ذنب أصلا بل أولياء الله تعالى هم الذين قال الله فيهم ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون سورة يونس 62 63
ولا يخرجون عن التقوى بإتيان ذنب صغير لم يصروا عليه ولا بإتيان ذنب كبير أو صغير إذا تابوا منه
قال تعالى والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون سورة الزمر 33 35
وقال تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وتدخلك مدخلا كريما سورة النساء 301
وقال تعالى لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه رءوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه سورة التوبة 117 118
والفريق الثاني قوم من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم زعموا أن الأنبياء عليهم السلام معصومون مما يتاب منه وأن أحدا منهم لم يتب عن ذنب وحرفوا نصوص الكتاب والسنة كعادة أهل الأهواء في تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في أسماء الله وآياته
مذهب السلف وأهل السنة هو القول بتوبة الأنبياء
وقد اتفق سلف الأمة وأئمتها ومن اتبعهم على ما أخبر الله به في كتابه وما ثبت عن رسوله من توبة الأنبياء عليهم السلام من الذنوب التي تابوا منها وهذه التوبة رفع الله بها درجاتهم فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وعصمتهم هي من أن يقروا على الذنوب والخطأ فإن من سوى الأنبياء يجوز عليهم الذنب الخطأ من غير توبة والأنبياء عليهم السلام يستدركهم الله فيتوب عليهم ويبين لهم كما قال تعالى { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم * ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد سورة } الحج 52 53
وقد ذكر الله تعالى قصة آدم ونوح وداود وسليمان وموسى وغيرهم كما تلونا بعض ذلك فيما ذكرناه من توبة الأنبياء واستغفارهم كقوله { فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه } سورة البقرة 37
وقول نوح { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } سورة هود 47
وقول إبراهيم { ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } سورة إبراهيم 41
وقوله والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين سورة الشعراء 82
وقوله سبحانه فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات سورة محمد 19
وقال تعالى وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين سورة الأنبياء 87 88
وقال تعالى واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق إلى قوله ظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب إلى قوله ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب الآية سورة ص 17 35
اليهود فرطوا في حق الأنبياء
ولما كان اليهود ضد النصارى حيث قتلوا الأنبياء وكذبوهم جحدوا نبوة داود وهم لنبوة سليمان أجحد وزعموا أنهما كانا حكيمين وأن داود كان مسيحا وقد نزه الله سليمان مما تلته الشياطين على ملكه مما اتبعه السحرة من الصابئة والمشركين ومن اتبعهم من أهل الكتاب والمنتسبين إلى هذه الملة والسامرة أعظم جحودا لا يقرون إلا بنبوه موسى خاصة ويوشع بعده
الإسلام هو الصراط المستقيم
والله سبحانه قد هدى الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم كما اختلفت الأمتان في المسح فقال تعالى ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون سورة مريم 34 35
وكذلك المنحرفون من هذه الأمة قد اختلفوا في علي وغيره كما تقدم فتجد أحدهم يغلو في الرجل العالم والعابد حتى يعتقد عصمته أو يجعله كالأنبياء أو فوقهم أو يجعل لهم حظا في الإلهية وتجد الآخر يقدح في ذلك فربما كفره أو فسقه أو أخرجه عن أن يكون من أولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون فالأول يجعل ما صدر منه من اجتهاد وعمل صوابا وإن كان خطأ وذنبا والآخر يجعل صدور الذنب والخطأ منه مانعا من ولايته ووجوب موالاته
وكلا القولين خطأ موروث عن أهل الكتابين كما قال ﷺ في الحديث المتفق عليه لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا اليهود والنصارى قال فمن
وقد ثبت في صحيح البخاري عن النبي ﷺ أنه قال في أم القرآن أنها أفضل سورة في القرآن وأنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها وأنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيه النبي ﷺ حيث قال تعالى ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم سورة الحجر 87
وثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى يقول قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي فإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى علي عبدي فإذا قال مالك يوم الدين قال مجدني عبدي فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال هذه الآية بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم قال فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل
وهذه البدع هي وغيرها من البدع لا بد أن تنافي كمال الإيمان وتقدح في بعض حقائقه فإن رأس الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فلا بد من إخلاص الدين لله حتى لا يكون في القلب تأله لغير الله فمتى كان في القلب تأله لغير الله فذاك شرك يقدح في تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله ولا بد من الشهادة بأن محمدا رسول الله وذلك يتضمن تصديقه في كل ما أخبر وطاعته فيما أمر به ومن ذلك الإيمان بأنه خاتم النبيين وأنه لا نبي بعده فمتى جعل لغيره نصيبا من خصائص الرسالة والنبوة كان في ذلك نصيب من الإيمان بنبي بعده ورسول بعده كالمؤمنين بنبوة مسيلمة والعنسي وغيرهما من المتنبئين الكذابين كما قال ﷺ إن بين يدي الساعة ثلاثين دجالين كذابين كلهم يزعم أنه رسول الله
عصمة الأئمة تعني مضاهاتهم للرسول
فمن أوجب طاعة أحد غير رسول الله ﷺ في كل ما يأمر به وأوجب تصديقه في كل ما يخبر به وأثبت عصمته أو حفظه في كل ما يأمر به ويخبر من الدين فقد جعل فيه من المكافأة لرسول الله والمضاهأة له في خصائص الرسالة بحسب ذلك سواء جعل ذلك المضاهي لرسول الله ﷺ بعض الصحابة أو بعض القرابة أو بعض الأئمة والمشايخ أو الأمراء من الملوك وغيرهم
وقد قال الله في كتابه يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول والأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا سورة النساء 59
فغاية المطاع بإذن الله أن يكون من أولى الأمر الذين أمر الله بطاعتهم من العلماء والأمراء ومن يدخل في ذلك من المشايخ والملوك وكل متبوع فإن الله تعالى أمر بطاعتهم مع طاعة رسوله كما قال أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فلم يقل وأطيعوا أولي الأمر ليبين أن طاعتهم فيما كان طاعة للرسول أيضا إذ اندراج الرسول في طاعة الله أمر معلوم فلم يكن تكرير لفظ الطاعة فيه مؤذنا بالفرق بخلاف ما لو قيل أطيعوا الرسول وأطيعوا أولى الأمر منكم فإنه قد يوهم طاعة كل منهما على حياله
وقد ثبت عن النبي ﷺ في الصحيح أنه قال إنما الطاعة في المعروف وقال لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقال على المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة
ولهذا قال سبحانه بعد ذلك فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا فلم يأمر عند التنازع إلا بالرد إلى الله والرسول دون الرد إلى أولى الأمر ولهذا كان أولو الأمر إذا اجتمعوا لا يجتمعون على ضلالة فإذا تنازعوا فالرد إلى كتاب الله وسنة رسوله لا إلى غير ذلك من عالم أو أمير ومن يدخل في ذلك من المشايخ والملوك وغيرهم ولو كان غير الرسول معصوما أو محفوظا فيما يأمر به ويخبر به لكان ممن يرد إليه مواقع النزاع كما يرده القائلون بإمام معصوم إليه وكما جرت عادة كثير من الأتباع أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الإمام والقدوة الذي يقلدونه
ومعلوم أن علماء الطوائف ومقتصديهم لا يرون هذا الرد واجبا على الإطلاق لكن قد يفعلون ذلك لأنه لا طريق لهم إلى معرفة الحق واتباعه إلا ذلك لعجزهم عما سوى ذلك فيكونون معذورين وقد يفعلون ذلك اتباعا لهواهم في محبتهم لذلك الشخص وبغضهم لنظرائه فيكونون غير معذورين ولكن من اعتقد من هؤلاء في متبوعه أنه معصوم أو أنه محفوظ عن الذنوب والخطأ في الاجتهاد فذلك مردود عليه بلا نزاع بين أهل العلم والإيمان
الغلو في البشر يؤدي إلى الشرك
ولهذا إنما يقول ذلك غلاة الطوائف الذين يغلب عليهم اتباع الظن وما تهوى الأنفس وقد غلب على أحدهم جهله وظلمه وكما أن الغلو في غير الرسول ﷺ فيه قدح في منصب الرسول وما خصه الله به وهو أحد أصلي الإسلام فكذلك الغلو في غير الله فيه قدح فيما يجب لله من الألوهية وفيما يستحقه من صفاته فمن غلا في البشر أو غيرهم فجعلهم شركاء في الألوهية أو الربوبية فقد عدل بربه وأشرك به وجعل له ندا ومن زعم أن الله ذم أحدا من البشر أو عاقبه على ما فعله ولم يكن ذلك ذنبا فقد قدح فيما أخبر الله به وما وجب له من حكمته وعدله فالجاهل يريد تنزيه الصحابة أو العلماء أو المشايخ من شيء لا يضيرهم ولا يضرهم ثبوته فيقدح في الرسول أو في الله تعالى ويريد تنزيه الأنبياء عما لا يضرهم ثبوته بل هو رفع درجة لهم فيقدح في الربوبية فتدبر هذا فإنه نافع
بطلان القول بعصمة الأنبياء من التوبة من الذنوب
والقائلون بعصمة الأنبياء من التوبة من الذنوب ليس لهم حجة من كتاب الله وسنة رسوله ولا لهم إمام من سلف الأمة وأئمتها وإنما مبدأ قولهم من أهل الأهواء كالروافض والمعتزلة وحجتهم آراء ضعيفة من جنس قول الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم الذين قال الله فيهم ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد سورة الحج 53
وعمدة من وافقهم من الفقهاء أن الاقتداء بالنبي ﷺ في أفعاله مشروع ولولا ذلك ما جاز الاقتداء به وهذا ضعيف فإنه قد تقدم أنهم لا يقرون بل لا بد من التوبة والبيان والاقتداء إنما يكون بما استقر عليه الأمر فأما المنسوخ والمنهي عنه والمتوب منه فلا قدوة فيه بالاتفاق فإذا كانت الأقوال المنسوخة لا قدوة فيها فالأفعال التي لم يقر عليها أولى بذلك
تفصيل مذهب أهل السنة في ذلك
وأما مذهب السلف والأئمة وأهل السنة والجماعة القائلين بما دل عليه الكتاب والسنة من توبة الأنبياء من الذنوب فقد ذكرنا من آيات القرآن ما فيه دلالات على ذلك
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ أنه كان يدعو اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به منى اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت
وأما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يقول في استفتاح الصلاة اللهم أنت الملك لا شريك لك أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها فإنه لا يصرف عني سيئها إلا أنت قال ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد التشهد والتسليم اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال كان رسول الله ﷺ يسكت بين التكبير والقراءة إسكاتة فقلت بأبي وأمي يا رسول الله إسكاتك بين التكبير والقراءة ما تقول قال أقول اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب اللهم نقني من الخطايا كما ينقي الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد
وفي الصحيحين عن عائشة قالت كان رسول الله ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن
وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة قال كان رسول الله ﷺ يقول في سجوده اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته وسره وقليله وكثيره
وقد تقدم قوله في الحديث الصحيح إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة وقوله يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة وقوله إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة وتقدم أيضا أنهم كانوا يعدون لرسول الله ﷺ في المجلس الواحد يقول رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور مائة مرة
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال كان رسول الله ﷺ إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ثم يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده
وفي السنن عن علي أنه أتى بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الركاب قال بسم الله فلما استوى على ظهرها قال الحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ثم قال الحمد لله ثلاثا سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقيل من أي شيء ضحكت يا أمير المؤمنين قال رأيت رسول الله ﷺ صنع كما صنعت ثم ضحك فقلت من أي شيء ضحكت يا رسول الله فقال إن ربك ليعجب من عبده إذا قال رب اغفر لي ذنوبي يقول يعلم أن الذنوب لا يغفرها أحد غيري
فصل في أن دين الأنبياء واحد
قوله ﷺ إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد
قال تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات إلى قوله وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون سورة المؤمنون 51 52 أي ملتكم ملة واحدة كقوله إنا وجدنا آباءنا على أمة سورة الزخرف 22 23 أي على ملة وقال شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك الآية سورة الشورى 13
فدين الأنبياء واحد وهو دين الإسلام لأن بعض الشرائع تتنوع فقد يشرع في وقت أمرا لحكمة ثم يشرع في وقت آخر أمرا آخر لحكمة كما شرع في أول الإسلام الصلاة إلى بيت المقدس ثم نسخ ذلك وأمر بالصلاة إلى الكعبة فتنوعت الشريعة والدين واحد وكان استقبال الشام من ذلك الوقت من دين الإسلام وكذلك السبت لموسى من دين الإسلام ثم لما صار دين الإسلام هو الناسخ وهو الصلاة إلى الكعبة فمن تمسك بالمنسوخ فليس على دين الإسلام ولا هو من الأنبياء
ومن ترك شرع الأنبياء وابتدع شرعا فشرعه باطل لا يجوز اتباعه كما قال أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله سورة الشورى 21 ولهذا كفرت اليهود والنصارى لأنهم تمسكوا بشرع منسوخ
والله أوجب على جميع الخلق أن يؤمنوا بجميع كتبه ورسله ومحمد خاتم الرسل فعلى جميع الخلق اتباعه واتباع ما شرعه من الدين هو ما أتى به من الكتاب والسنة
فصل في الدليل على فضل العرب
الدليل على فضل العرب ما رواه الترمذي عن العباس بن عبد المطلب قال قلت يا رسول الله إن قريشا جلسوا يتذاكرون أحسابهم بينهم فجعلوا مثلك كمثل نخلة في كبوة من الأرض فقال النبي ﷺ إن الله خلق الخلق فجعلني في خير فرقهم ثم خير القبائل فجعلني في خير قبيلة ثم خير البيوت فجعلني في خير بيوتهم فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا قال الترمذي هذا حديث حسن
والكبا بالكسر والقصر والكبة الكناسة والمعنى أن النخلة طيبة في نفسها وإن كان أصلها ليس بذاك
وعن سلمان قال قال رسول الله ﷺ يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك قلت يا رسول الله وكيف أبغضك وبك هداني الله قال تبغض العرب فتبغضني قال الترمذي هذا حديث حسن غريب
وروى أبو جعفر الحافظ الكوفي عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ أحبوا العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي ولسان أهل الجنة عربي قال الحافظ السلفي هذا حديث حسن فما أدري أراد حسن إسناده على طريقة المحدثين أو حسن متنه على الإصطلاح العام وأبو الفرج بن الجوزي ذكره في الموضوعات
وقال سلمان يا معشر العرب لتفضيل رسول الله إياكم لا ننكح نساءكم ولا نؤمكم في الصلاة وإسناده جيد رواه محمد بن أبي عمر العدني وسعيد في سننه
ولما وضع عمر الديوان للعطاء كتب الناس على قدر أنسابهم فبدأ بالأقرب فالأقرب إلى رسول الله فلما انقضت العرب ذكر العجم هكذا كان الديوان على عهد الخلفاء الراشدين وخلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس إلى أن تغير الأمر بعد ذلك والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة أصحها ما ذكرناه
سبب ما اختص به العرب من الفضل
وسبب ما اختصوا به من الفضل والله أعلم ما جعل الله لهم من العقول والألسنة والأخلاق والأعمال وذلك أن الفضل إما بالعلم النافع أو العمل الصالح والعلم له مبدأ وهو قوة العقل الذي هو الفهم والحفظ وتمام وهو قوة المنطق الذي هو البيان والعبارة فالعرب هم أفهم وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة ولسانهم أتم الألسنة بيانا وتمييزا للمعاني
وأما العمل فإن مبناه على الأخلاق وهي الغرائز المخلوقة في النفس فغرائزهم أطوع من غرائز غيرهم فهم أقرب إلى السخاء والحلم والشجاعة والوفاء من غيرهم ولكن حازوا قبل الإسلام طبيعة قابلة للخير معطلة عن فعله ليس عندهم علم منزل ولا شريعة مأثورة ولا اشتغلوا ببعض العلوم بخلاف غيرهم فإنهم كانت بين أظهرهم الكتب المنزلة وأقوال الأنبياء فضلوا لضعف عقولهم وخبث غرائزهم
وإنما كان علم العرب ما سمحت به قرائحهم من الشعر والخطب أو ما حفظوه من أنسابهم وأيامهم أو ما احتاجوا إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم والحروب فلما بعث الله محمدا ﷺ بالهدى تلقفوه عنه بعد مجاهدة شديدة ونقلهم الله عن تلك العادات الجاهلية التي كانت قد أحالت قلوبهم عن فطرتها فلما تلقوا عنه ذلك الهدى زالت تلك الريون عن قلوبهم فقبلوا هذا الهدى العظيم وأخذوه بتلك الفطرة الجيدة فاجتمع لهم الكمال بالقوة المخلوقة فيهم والكمال الذي أنزله الله إليهم بمنزلة أرض طيبة في نفسها لكن هي معطلة عن الحرث أو قد نبت فيها شجر العضاء والعوسج وصارت مأوى الخنازير والسباع فإذا طهرت عن ذلك المؤذي من الشجر وغيره من الدواب وازدرع فيها أفضل الحبوب أو الثمار جاء فيها من الحب والثمر ما لا يوصف مثله
فصار السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار أفضل خلق الله سوى الأنبياء وصار أفضل الناس بعدهم من اتبعهم بإحسان رضي الله عنهم إلى يوم القيامة من العرب والعجم
والله سبحانه أعلم والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين وسلم تسليما
=====================
سالة في الصفات الاختيارية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم تسليما.
قال شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين بن تيمية، قدس الله روحه، ونور ضريحه.
فصل
في الصفات الاختيارية: وهي الأمور التي يتصف بها الرب عز وجل فتقوم بذاته بمشيئته وقدرته؛ مثل كلامه وسمعه وبصره وإرادته ومحبته ورضاه ورحمته وغضبه وسخطه؛ ومثل خلقه وإحسانه وعدله؛ ومثل استوائه ومجيئه وإتيانه ونزوله ونحو ذلك من الصفات التي نطق بها الكتاب العزيز والسنة.
مقالة الجهمية والمعتزلة
فالجهمية ومن وافقهم من المعتزلة وغيرهم يقولون: لا يقوم بذاته شيء من هذه الصفات ولا غيرها.
مقالة الكلابية والسالمية
والكلابية ومن وافقهم من السالمية وغيرهم يقولون: تقوم به صفات بغير مشيئته وقدرته؛ فأما ما يكون بمشيئته وقدرته: فلا يكون إلا مخلوقا منفصلا عنه لا يقوم بذات الرب.
مقالة السلف وأهل السنة
وأما السلف وأئمة السنة والحديث فيقولون: إنه متصف بذلك؛ كما نطق به الكتاب والسنة؛ وهو قول كثير من أهل الكلام والفلسفة أو أكثرهم كما قد ذكرنا أقوالهم بألفاظها في غير هذا الموضع.
صفة الكلام
ومثل هذا الكلام، فإن السلف وأئمة السنة والحديث يقولون: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته؛ وكلامه ليس بمخلوق؛ بل كلامه صفة له قائمة بذاته.
وممن ذكر أن ذلك قول أئمة السنة: أبو عبد الله ابن منده وأبو عبد الله ابن حامد وأبو بكر عبد العزيز وأبو إسماعيل الأنصاري وغيرهم؛ وكذلك ذكر أبو عمر بن عبد البر نظير هذا في الاستواء.
وأئمة السنة - كعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي ومن لا يحصى من الأئمة وذكره حرب بن إسماعيل الكرماني عن سعيد بن منصور وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم وسائر أهل السنة والحديث - متفقون على أنه يتكلم بمشيئته وأنه لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء.
وقد سمى الله القرآن العزيز حديثا، وقال: { الله نزل أحسن الحديث } وقال: { ومن أصدق من الله حديثا }. وقال { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث }.
وقال النبي ﷺ " إن الله يحدث من أمره ما يشاء " وهذا مما احتج به البخاري في صحيحه وفي غير صحيحه؛ واحتج به أيضا غير البخاري كنعيم بن حماد وحماد بن زيد.
ومن المشهور عن السلف: أن القرآن العزيز كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود.
مقالة الجهمية والمعتزلة في صفة الكلام:
وأما الجهمية والمعتزلة فيقولون: ليس له كلام قائم بذاته؛ بل كلامه مخلوق منفصل عنه. والمعتزلة يطلقون القول: بأنه يتكلم بمشيئته؛ ولكن مرادهم بذلك أنه يخلق كلاما منفصلا عنه.
مقالة الكلابية والسالمية فيها
و الكلابية والسالمية يقولون: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته؛ بل كلامه قائم بذاته بدون قدرته ومشيئته مثل حياته؛ وهم يقولون: الكلام صفة ذات؛ لا صفة فعل يتعلق بمشيئته وقدرته؛ وأولئك يقولون: هو صفة فعل؛ لكن الفعل عندهم: هو المفعول المخلوق بمشيئته وقدرته.
وأما السلف وأئمة السنة وكثير من أهل الكلام كالهشامية والكرامية وأصحاب أبي معاذ التومني وزهير الأثري وطوائف غير هؤلاء فقولون: إنه " صفة ذات وفعل " هو يتكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته. وهذا هو المعقول من صفة الكلام لكل متكلم فكل حي وصف بالكلام كالملائكة والبشر والجن وغيرهم: فكلامهم لا بد أن يقوم بأنفسهم وهم يتكلمون بمشيئتهم وقدرتهم.
والكلام صفة كمال؛ لا صفة نقص ومن تكلم بمشيئته أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته؛ فكيف يتصف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق ولكن الجهمية والمعتزلة بنوا على أصلهم أن الرب لا يقوم به صفة؛ لأن ذلك بزعمهم يستلزم التجسيم والتشبيه الممتنع؛ إذ الصفة عرض والعرض لا يقوم إلا بجسم.
و الكلابية يقولون: هو متصف بالصفات التي ليس له عليها قدرة ولا تكون بمشيئته؛ فأما ما يكون بمشيئته فإنه حادث والرب - تعالى - لا تقوم به الحوادث. ويترجمون الصفات الاختيارية بمسألة حلول الحوادث فإنه إذا كلم موسى بن عمران بمشيئته وقدرته وناداه حين أتاه بقدرته ومشيئته كان ذلك النداء والكلام حادثا.
قالوا: فلو اتصف الرب به لقامت به الحوادث قالوا: ولو قامت به الحوادث لم يخل منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث؛ قالوا: ولأن كونه قابلا لتلك الصفة إن كان من لوازم ذاته كان قابلا لها في الأزل فيلزم جواز وجودها في الأزل والحوادث لا تكون في الأزل؛ فإن ذلك يقتضي وجود حوادث لا أول لها وذلك محال: " لوجوه " قد ذكرت في غير هذا الموضع.
قالوا: وبذلك استدللنا على حدوث الأجسام وبه عرفنا حدوث العالم وبذلك أثبتنا وجود المانع وصدق رسله؛ فلو قدحنا في ذلك لزم القدح في أصول " الإيمان " و" التوحيد ".
وإن لم يكن من لوازم ذاته صار قابلا لها بعد أن لم يكن قابلا فيكون قابلا لتلك القابلية فيلزم التسلسل الممتنع. وقد بسطنا القول على عامة ما ذكروه في هذا الباب وبينا فساده وتناقضه على وجه لا تبقى فيه شبهة لمن فهم هذا الباب.
مقالة الرازي
وفضلاؤهم المتأخرون كالرازي والآمدي والطوسي والحلي وغيرهم - معترفون بأنه ليس لهم حجة عقلية على نفي ذلك؛ بل ذكر الرازي وأتباعه أن هذا القول يلزم جميع الطوائف ونصره في آخر كتبه كالمطالب العالية - وهو من أكبر كتبه الكلامية [ وخالف بذلك قوله في أجل ما صنفه في الكلام وهو كتابه ] الذي سماه نهاية العقول في دراية الأصول - ولما عرف فساد قول النفاة لم يعتمد على ذلك في مسألة القرآن ". فإن عمدتهم في مسألة القرآن إذا قالوا: لم يتكلم بمشيئته وقدرته - قالوا - لأن ذلك يستلزم حلول الحوادث؛ فلما عرف فساد هذا الأصل لم يعتمد على ذلك في مسألة القرآن. فإن عمدتهم عليه؛ بل استدل بإجماع مركب وهو دليل ضعيف إلى الغاية لكن لم يكن عنده في نصر قول الكلابية غيره؛ وهذا مما يبين أنه وأمثاله تبين لهم فساد قول الكلابية.
مقالة الآمدي
وكذلك الآمدي ذكر في أبكار الأفكار ما يبطل قولهم وذكر أنه لا جواب عنه وقد كشفت هذه الأمور في مواضع؛ وهذا معروف عند عامة العلماء حتى الحلي بن المطهر ذكر في كتبه أن القول بنفي حلول الحوادث لا دليل عليه، فالمنازع جاهل بالعقل والشرع.
مقالة الجويني
وكذلك من قبل هؤلاء كأبي المعالي وذويه إنما عمدتهم أن الكرامية قالوا ذلك وتناقضوا فيبينون تناقض الكرامية ويظنون أنهم إذا بينوا تناقض الكرامية - وهم منازعوهم - فقد فلجوا؛ ولم يعلموا أن السلف وأئمة السنة والحديث - بل من قبل الكرامية من الطوائف - لم يكن يلتفت إلى الكرامية وأمثالهم؛ بل تكلموا بذلك قبل أن يخلق الكرامية: فإن ابن كرام كان متأخرا بعد أحمد بن حنبل في زمن مسلم بن الحجاج وطبقته وأئمة السنة والمتكلمون تكلموا بهذه قبل هؤلاء وما زال السلف يقولون بموجب ذلك.
لكن لما ظهرت الجهمية النفاة في أوائل المائة الثانية بين علماء المسلمين ضلالهم وخطاؤهم؛ ثم ظهر محنة الجهمية في أوائل المائة الثالثة وامتحن العلماء: الإمام أحمد وغيره فجردوا الرد على الجهمية وكشف ضلالهم حتى جرد الإمام أحمد الآيات التي من القرآن تدل على بطلان قولهم وهي كثيرة جدا. بل الآيات التي تدل على الصفات الاختيارية التي يسمونها حلول الحوادث كثيرة جدا.
الآيات الدالة على صفة الكلام
وهذا كقوله تعالى: { ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا } فهذا بين في أنه إنما أمر الملائكة بالسجود بعد خلق آدم؛ لم يأمرهم في الأزل.
وكذلك قوله: { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } فإنما قال له كن بعد أن خلقه من تراب؛ لا في الأزل.
وكذلك قوله في قصة موسى: { فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها } وقال تعالى: { فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين } فهذا بين في أنه إنما ناداه حين جاء لم يكن النداء في الأزل كما يقوله " الكلابية " يقولون: إن النداء قائم بذات الله في الأزل وهو لازم لذاته لم يزل ولا يزال مناديا له لكنه لما أتى خلق فيه إدراكا لما كان موجودا في الأزل.
ثم من قال منهم إن الكلام معنى واحد: منهم من قال: سمع ذلك المعنى بأذنه كما يقوله الأشعري ومنهم من يقول: بل أفهم منه ما أفهم؛ كما يقوله: القاضي أبو بكر وغيره.
فقيل لهم: عندكم هو معنى واحد لا يتبعض ولا يتعدد فموسى فهم المعنى كله أو بعضه؟ إن قلتم كله فقد علم علم الله كله وإن قلتم بعضه فقد تبعض وعندكم لا يتبعض.
ومن قال من أتباع الكلابية: بأن النداء وغيره من الكلام القديم حروف أو حروف وأصوات لازمة لذات الرب كما يقوله السالمية ومن وافقهم يقولون: إنه يخلق له إدراكا لتلك الحروف والأصوات؛ والقرآن والسنة وكلام السلف قاطبة يقتضي أنه إنما ناداه وناجاه حين أتى؛ لم يكن النداء موجودا قبل ذلك فضلا عن أن يكون قديما أزليا.
وقال تعالى: { فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين }، وهذا يدل على أنه لما أكلا منها ناداهما، لم ينادهما قبل ذلك.
وقال تعالى: { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين }. { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون }. فجعل النداء في يوم معين وذلك اليوم حادث كائن بعد أن لم يكن وهو حينئذ يناديهم؛ لم ينادهم قبل ذلك.
وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد }. فبين أنه يحكم فيحلل ما يريد ويحرم ما يريد ويأمر بما يريد؛ فجعل التحليل والتحريم والأمر والنهي متعلقا بإرادته. وهذه أنواع الكلام، فدل على أنه يأمر بإرادته وينهى بإرادته، ويحلل بإرادته ويحرم بإرادته.
و الكلابية يقولون: ليس شيء من ذلك بإرادته؛ بل هو قديم لازم لذاته غير مراد له ولا مقدور. والمعتزلة مع الجهمية " يقولون: كل ذلك مخلوق منفصل عنه ليس له كلام قائم به لا بإرادته ولا بغير إرادته ومثل هذا كثير في القرآن العزيز.
فصل: صفة الإرادة
وكذلك في الإرادة والمحبة كقوله تعالى: { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون }. وقوله: { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله } وقوله: { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } وقوله: { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول } وقوله: { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له } وقوله:
{ وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا } وقوله: { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } وأمثال ذلك في القرآن العزيز.
فإن جوازم الفعل المضارع ونواصبه تخلصه للاستقبال مثل إن وأن وكذلك إذا ظرف لما يستقبل من الزمان؛ فقوله: { إذا أراد } و{ إن شاء الله } ونحو ذلك يقتضي حصول إرادة مستقبلة ومشيئة مستقبلة.
صفتا المحبة والرضا
وكذلك في المحبة والرضا قال الله تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } فإن هذا يدل على أنهم إذا اتبعوه أحبهم الله؛ فإنه جزم قوله "يحببكم الله" فجزمه جوابا للأمر وهو في معنى الشرط فتقديره: إن تتبعوني يحببكم الله.
ومعلوم أن جواب الشرط والأمر إنما يكون بعده لا قبله؛ فمحبة الله لهم إنما تكون بعد اتباعهم للرسول؛ والمنازعون: منهم من يقول: ما ثم محبة بل المراد ثوابا مخلوقا ومنهم من يقول: بل ثم محبة قديمة أزلية إما الإرادة وإما غيرها والقرآن يدل على قول السلف وأئمة السنة المخالف للقولين.
وكذلك قوله: { ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه } فإنه يدل على أن أعمالهم أسخطته فهي سبب لسخطه وسخطه عليهم بعد الأعمال؛ لا قبلها.
وكذلك قوله: { فلما آسفونا انتقمنا منهم } وكذلك قوله: { إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم } علق الرضا بشكرهم وجعله مجزوما جزاء له وجزاء الشرط لا يكون إلا بعده.
وكذلك قوله: { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } و{ يحب المتقين } و{ يحب المقسطين } و{ يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا } ونحو ذلك فإنه يدل على أن المحبة بسبب هذه الأعمال وهي جزاء لها والجزاء إنما يكون بعد العمل والسبب.
فصل: صفتا السمع والبصر
وكذلك السمع والبصر والنظر. قال الله تعالى: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله } هذا في حق المنافقين وقال في حق التائبين: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } فقوله { فسيرى الله } دليل على أنه يراها بعد نزول هذه الآية الكريمة والمنازع إما أن ينفي الرؤية؛ وإما أن يثبت رؤية قديمة أزلية فقط.
وكذلك قوله { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } ولام "كي" تقتضي أن ما بعدها متأخر عن المعلول فنظره كيف يعملون هو بعد جعلهم خلائف.
وكذلك { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما } أخبر أنه يسمع تحاورهما حين كانت تجادل وتشتكي إلى الله.
وقال النبي ﷺ { إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد يسمع الله لكم }. فجعل سمعه لنا جزاء وجوابا للحمد فيكون ذلك بعد الحمد والسمع يتضمن مع سمع القول قبوله وإجابته.
ومنه قول الخليل { إن ربي لسميع الدعاء }. وكذلك قوله: { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } وقوله لموسى وهارون: { إنني معكما أسمع وأرى }.
و العقل الصريح يدل على ذلك فإن المعدوم لا يرى ولا يسمع بصريح العقل واتفاق العقلاء؛ لكن قال من قال من السالمية: إنه يسمع ويرى موجودا في علمه لا موجودا بائنا عنه ولم يقل أحد: إنه يسمع ويرى بائنا عن الرب. فإذا خلق العباد وعملوا وقالوا؛ فإما أن نقول: إنه يسمع أقوالهم ويرى أعمالهم؛ وإما لا يرى ولا يسمع. فإن نفي ذلك تعطيل لهاتين الصفتين وتكذيب للقرآن وهما صفتا كمال لا نقص فيه فمن يسمع ويبصر أكمل ممن لا يسمع ولا يبصر.
والمخلوق يتصف بأنه يسمع ويبصر فيمتنع اتصاف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق سبحانه وتعالى وقد عاب الله تعالى من يعبد من لا يسمع ولا يبصر في غير موضع؛ ولأنه حي والحي إذا لم يتصف بالسمع والبصر اتصف بضد ذلك وهو العمى والصمم وذلك ممتنع وبسط هذا له موضع آخر.
وإنما المقصود هنا أنه إذا كان يسمع ويبصر الأقوال والأعمال بعد أن وجدت؛ فإما أن يقال: إنه تجدد شيء، وإما أن يقال: لم يتجدد شيء، فإن كان لم يتجدد، وكان لا يسمعها ولا يبصرها، فهو بعد أن خلقها لا يسمعها ولا يبصرها. وإن تجدد شيء: فإما أن يكون وجودا أو عدما؛ فإن كان عدما فلم يتجدد شيء وإن كان وجودا: فإما أن يكون قائما بذات الله أو قائما بذات غيره والثاني يستلزم أن يكون ذلك الغير هو الذي يسمع ويرى فيتعين أن ذلك السمع والرؤية الموجودين قائم بذات الله وهذا لا حيلة فيه.
و الكلابية يقولون في جميع هذا الباب: المتجدد هو تعلق تعلق بين الأمر والمأمور وبين الإرادة والمراد وبين السمع والبصر والمسموع والمرئي.
فيقال لهم: هذا التعلق إما أن يكون وجودا وإما أن يكون عدما فإن كان عدما فلم يتجدد شيء فإن العدم لا شيء وإن كان وجودا بطل قولهم.
وأيضا فحدوث تعلق هو نسبة وإضافة من غير حدوث ما يوجب ذلك ممتنع فلا تحدث نسبة وإضافة إلا بحدوث أمر وجودي يقتضي ذلك. وطائفة منهم ابن عقيل يسمون هذه النسب أحوالا.
و الطوائف متفقون على حدوث نسب وإضافات وتعلقات لكن حدوث النسب بدون حدوث ما يوجبها ممتنع. فلا تكون نسبة وإضافة إلا تابعة لصفة ثبوتية؛ كالأبوة والبنوة والفوقية والتحتية والتيامن والتياسر فإنها لا بد أن تستلزم أمورا ثبوتية.
أفعال الرب الاختيارية
وكذلك كونه خالقا ورازقا ومحسنا وعادلا فإن هذه أفعال فعلها بمشيئته وقدرته إذ كان يخلق بمشيئته ويرزق بمشيئته. ويعدل بمشيئته ويحسن بمشيئته. والذي عليه جماهير المسلمين من السلف. والخلف أن الخلق غير المخلوق؛ فالخلق فعل الخالق والمخلوق مفعوله.
ولهذا كان النبي ﷺ يستعيذ بأفعال الرب وصفاته كما في قوله ﷺ { أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. } فاستعاذ بمعافاته كما استعاذ برضاه.
وقد استدل أئمة السنة كأحمد وغيره على أن كلام الله غير مخلوق بأنه استعاذ به فقال: { من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل منه }. فكذلك معافاته ورضاه غير مخلوق لأنه استعاذ به والعافية القائمة ببدن العبد مخلوقة فإنها نتيجة معافاته.
وإذا كان الخلق فعله والمخلوق مفعوله وقد خلق الخلق بمشيئته دل على أن الخلق فعل يحصل بمشيئته ويمتنع قيامه بغيره فدل على أن أفعاله قائمة بذاته مع كونها حاصلة بمشيئته وقدرته.
وقد حكى البخاري إجماع العلماء على الفرق بين الخلق والمخلوق وعلى هذا يدل صريح المعقول. فإنه قد ثبت بالأدلة العقلية والسمعية أن كل ما سوى الله تعالى مخلوق محدث كائن بعد أن لم يكن وأن الله انفرد بالقدم والأزلية.
وقد قال تعالى: { الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام } فهو حين خلق السموات ابتداء؛ إما أن يحصل منه فعل يكون هو خلقا للسموات والأرض وإما أن لا يحصل منه فعل؛ بل وجدت المخلوقات بلا فعل ومعلوم أنه إذا كان الخالق قبل خلقها ومع خلقها وبعده سواء لم يجز تخصيص خلقها بوقت دون وقت بلا سبب يوجب التخصيص.
و أيضا فحدوث المخلوق بلا سبب حادث ممتنع في بدايه العقل وإذا قيل: الإرادة والقدرة القديمة خصصت. قيل: نسبة الإرادة القديمة إلى جميع الأوقات سواء.
وأيضا فلا تعقل إرادة تخصص أحد المتماثلين إلا بسبب يوجب التخصيص.
وأيضا فلا بد عند وجود المراد من سبب يقتضي حدوثه وإلا فلو كان مجرد ما تقدم من الإرادة والقدرة كافيا؛ للزم وجوده قبل ذلك لأنه مع الإرادة التامة والقدرة التامة يجب وجود المقدور.
وقد احتج من قال الخلق هو المخلوق - كأبي الحسن ومن اتبعه مثل ابن عقيل - بأن قالوا: لو كان غيره لكان إما قديما وإما حادثا فإن كان قديما لزم قدم المخلوق لأنهما متضايفان؛ وإن كان حادثا لزم أن تقوم به الحوادث ثم ذلك المخلوق يفتقر إلى خلق آخر ويلزم التسلسل.
فأجابهم الجمهور - كل طائفة على أصلها - فطائفة قالت: الخلق قديم وإن كان المخلوق حادثا كما يقول ذلك كثير من أهل المذاهب الأربعة وعليه أكثر الحنفية؛ قال هؤلاء: أنتم تسلمون لنا أن الإرادة قديمة أزلية؛ والمراد محدث فنحن نقول في الخلق ما قلتم في الإرادة.
وقالت طائفة: بل الخلق حادث في ذاته ولا يفتقر إلى خلق آخر؛ بل يحدث بقدرته. وأنتم تقولون: إن المخلوق يحصل بقدرته بعد أن لم يكن فإن كان المنفصل يحصل بمجرد القدرة فالمتصل به أولى وهذا جواب كثير من الكرامية والهشامية وغيرهم.
و طائفة يقولون: هب أنه يفتقر إلى فعل قبله فلم قلتم: إن ذلك ممتنع؟ وقولكم: هذا تسلسل.
فيقال: هذا ليس تسلسلا في الفاعلين والعلل الفاعلة؛ فإن هذا ممتنع باتفاق العقلاء؛ بل هو تسلسل في الآثار والأفعال وهو حصول شيء بعد شيء.
وهذا محل النزاع. فالسلف يقولون: لم يزل متكلما إذا شاء وكما شاء؛ وقد قال تعالى: { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا }. فكلمات الله لا نهاية لها وهذا تسلسل جائز كالتسلسل في المستقبل فإن نعيم الجنة دائم لا نفاد له فما من شيء إلا وبعده شيء بلا نهاية.
فصل
و الأفعال نوعان: متعد ولازم. فالمتعدي مثل: الخلق والإعطاء ونحو ذلك واللازم: مثل الاستواء والنزول والمجيء والإتيان.
قال تعالى: { هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش } فذكر الفعلين: المتعدي واللازم وكلاهما حاصل بقدرته ومشيئته وهو متصف به؛ وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.
الأدلة على هذا الأصل من السنة
والمقصود هنا: أن القرآن يدل على هذا الأصل في أكثر من مائة موضع. وأما الأحاديث الصحيحة فلا يمكن ضبطها في هذا الباب كما في الصحيحين: عن زيد بن خالد الجهني { أن النبي ﷺ صلى بأصحابه صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل ثم قال: أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا ونوء كذا وكذا؛ فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب }.
وفي الصحاح في حديث الشفاعة { يقول كل من الرسل إذا أتوا إليه: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله } " وهو بيان أن الغضب حصل في ذلك اليوم لا قبله.
وفي الصحيح: { إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات كجر السلسلة على الصفوان } فقوله: إذا تكلم الله بالوحي سمع يدل على أنه يتكلم به حين يسمعونه وذلك ينفي كونه أزليا وأيضا فما يكون كجر السلسلة على الصفا يكون شيئا بعد شيء والمسبوق بغيره لا يكون أزليا.
وكذلك في الصحيح { يقول الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل؛ فإذا قال: { الحمد لله رب العالمين } قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: { الرحمن الرحيم } قال الله: أثنى علي عبدي. فإذا قال { مالك يوم الدين } قال الله: مجدني عبدي؛ فإذا قال: { إياك نعبد وإياك نستعين } قال الله هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل؛ فإذا قال: { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال الله: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل } فقد أخبر أن العبد إذا قال { الحمد لله } قال الله: حمدني عبدي فإذا قال { الرحمن الرحيم } قال الله: أثنى علي عبدي.. الحديث.
وفي الصحاح حديث النزول أنه { ينزل ربنا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ } فهذا قول وفعل في وقت معين وقد اتفق السلف على أن النزول فعل يفعله الرب كما قال ذلك الأوزاعي وحماد بن زيد والفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل وغيرهم.
وأيضا فقد قال ﷺ { لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته } وفي الحديث الصحيح الآخر { ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به }
أذن يأذن أذنا: أي استمع يستمع استماعا { وأذنت لربها وحقت }. فأخبر أنه يستمع إلى هذا وهذا.
وفي الصحيح { لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به؛ وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها } فأخبر أنه لا يزال يتقرب بالنوافل بعد الفرائض حتى يحبه، و"حتى" حرف غاية، يدل على أنه يحبه بعد تقربه بالنوافل والفرائض.
وفي الصحيحين عنه ﷺ فيما يروي عن ربه تعالى قال: { قال الله أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني؛ إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملإ خير منهم } وحرف "إن" حرف الشرط؛ والجزاء يكون بعد الشرط فهذا يبين أنه يذكر العبد بعد أن يذكره العبد، إن ذكره في نفسه ذكره في نفسه وإن ذكره في ملإ ذكره في ملإ خير منهم والمنازع يقول ما زال يذكره أزلا وأبدا ثم يقول: ذكره وذكر غيره وسائر ما يتكلم الله به هو شيء واحد لا يتبعض ولا يتعدد فحقيقة قوله إن الله لم يتكلم ولا يتكلم ولا يذكر أحدا.
وفي صحيح مسلم في حديث تعليم الصلاة { وإذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد؛ يسمع الله لكم فإن الله قال على لسان نبيه سمع الله لمن حمده } " فقوله: سمع الله لمن حمده؛ لأن الجزاء بعد الشرط فقوله "يسمع الله لكم" مجزوم حرك بالكسر لالتقاء الساكنين وهذا يقتضي أنه يسمع بعد أن تحمدوا.
فصل: مواقف النفاة من مسألة الصفات والرد عليهم
والمنازعون النفاة كذلك. منهم من ينفي الصفات مطلقا فهذا يكون الكلام معه في الصفات مطلقا؛ لا يختص بالصفات الاختيارية. ومنهم من يثبت الصفات ويقول لا يقوم بذاته شيء بمشيئته وقدرته؛ فيقول: إنه لا يتكلم بمشيئته واختياره ويقول: لا يرضى ويسخط ويحب ويبغض ويختار بمشيئته وقدرته ويقول: إنه لا يفعل فعلا هو الخلق يخلق به المخلوق ولا يقدر عنده على فعل يقوم بذاته بل مقدوره لا يكون إلا منفصلا منه وهذا موضع تنازع فيه النفاة.
فقيل: لا يكون مقدوره إلا بائنا عنه؛ كما يقوله الجهمية والكلابية والمعتزلة وقيل: لا يكون مقدوره إلا ما يقوم بذاته؛ كما يقوله: السالمية والكرامية والصحيح: أن كليهما مقدور له.
أما الفعل فمثل قوله تعالى { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم }.
وقوله: { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى }.
وقول الحواريين: { هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء }.
وقوله: { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } وقوله: { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى } إلى أمثال ذلك مما يبين أنه يقدر على الأفعال كالإحياء والبعث ونحو ذلك.
وأما القدرة على الأعيان ففي الصحيح عن أبي مسعود قال: { كنت أضرب غلاما فرآني النبي ﷺ فقال: اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود: لله أقدر عليك منك على هذا } فقوله: "لله أقدر عليك منك على هذا" دليل على أن القدرة تتعلق بالأعيان المنفصلة: قدرة الرب وقدرة العبد.
ومن الناس من يقول: كلاهما يتعلق بالفعل كالكرامية ومنهم من يقول: قدرة الرب تتعلق بالمنفصل وأما قدرة العبد فلا تتعلق إلا بفعل في محلها كالأشعرية.
و النصوص تدل على أن كلا القدرتين تتعلق بالمتصل والمنفصل فإن الله تعالى أخبر أن العبد يقدر على أفعاله كقوله: { فاتقوا الله ما استطعتم } وقوله: { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم } فدل على أن منا من يستطيع ذلك ومنا من لم يستطع.
وقال النبي ﷺ { يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء }. أخرجاه في الصحيحين.
وقوله: { إن استطعت أن تعمل بالرضا مع اليقين فافعل }.
وقوله في الحديث الذي في الصحيح: { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } وقد أخبر أنه قادر على عبده وهؤلاء الذين يقولون: لا تقوم به الأمور الاختيارية عمدتهم أنه لو قامت به الحوادث لم يخل منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث.
وقد نازعهم الناس في كلا المقدمتين وأصحابهم المتأخرون كالرازي والآمدي قدحوا في المقدمة الأولى في نفس هذه المسألة وقدح الرازي في المقدمة الثانية في غير موضع من كتبه وقد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.
وقولهم: إنما عرفنا حدوث العالم بهذه الطريق وبه أثبتنا الصانع فيقال لهم: لا جرم ابتدعتم طريقا لا يوافق السمع ولا العقل فالعالمون بالشرع معترفون أنكم مبتدعون محدثون في الإسلام ما ليس منه والذين يعقلون ما يقولون يعلمون أن العقل يناقض ما قلتم وأن ما جعلتموه دليلا على إثبات الصانع لا يدل على إثباته بل هو استدلال على نفي الصانع.
وإثبات الصانع حق وهذا الحق يلزم من ثبوته إبطال استدلالكم بأن ما لم يخل من الحوادث فهو حادث.
وأما كون طريقكم مبتدعة ما سلكها الأنبياء ولا أتباعهم ولا سلف الأمة؛ فلأن كل من يعرف ما جاء به الرسول - وإن كانت معرفته متوسطة لم يصل في ذلك إلى الغاية - يعلم أن الرسول ﷺ لم يدع الناس في معرفة الصانع وتوحيده وصدق رسله إلى الاستدلال بثبوت الأعراض وأنها حادثة ولازمة للأجسام؛ وما لم يخل من الحوادث فهو حادث؛ لامتناع حوادث لا أول لها، بل يعلم بالاضطرار أن هذه الطريق لم يتكلم بها الرسول ولا دعا إليها أصحابه، ولا أصحابه تكلموا بها ولا دعوا بها الناس.
وهذا يوجب العلم الضروري من دين الرسول بأنه عند الرسول والمؤمنين به أن الله يعرف ويعرف توحيده وصدق رسله بغير هذه الطريق فدل الشرع دلالة ضرورية على أنه لا حاجة إلى هذه الطريق ودل ما فيها من مخالفة نصوص الكتاب والسنة على أنها طريق باطلة. فدل الشرع على أنه لا حاجة إليها وأنها باطلة.
وأما العقل فقد بسط القول في جميع ما قيل فيها في غير هذه المواضع وبين أن أئمة أصحابها قد يعترفون بفسادها من جهة العقل. كما يوجد في كلام أبي حامد والرازي وغيرهما بيان فسادها.
ولما ظهر فسادها للعقل تسلط الفلاسفة على سالكيها وظنت الفلاسفة أنهم إذا قدحوا فيها فقد قدحوا في دلالة الشرع ظنا منهم أن الشرع جاء بموجبها إذ كانوا أجهل بالشرع والعقل من سالكيها فسالكوها لا للإسلام نصروا ولا لأعدائه كسروا بل سلطوا الفلاسفة عليهم وعلى الإسلام. وهذا كله مبسوط في مواضع.
وإنما المقصود هنا: أن يعرف أن نفيهم للصفات الاختيارية التي يسمونها حلول الحوادث ليس لهم دليل عقلي عليه وحذاقهم يعترفون بذلك وأما السمع فلا ريب أنه مملوء بما يناقضه والعقل أيضا يدل نقيضه من وجوه نبهنا على بعضها.
ولما لم يمكن مع أصحابها حجة لا عقلية ولا سمعية: من الكتاب والسنة احتال متأخروهم فسلكوا طريقا سمعية ظنوا أنها تنفعهم فقالوا: هذه
الصفات إن كانت صفات نقص وجب تنزيه الرب عنها وإن كانت صفات كمال فقد كان فاقدا لها قبل حدوثها وعدم الكمال نقص؛ فيلزم أن يكون كان ناقصا وتنزيهه عن النقص واجب بالإجماع.
الرد على حجة للنفاة من وجوه
وهذه الحجة من أفسد الحجج وذلك من وجوه: أحدها: أن هؤلاء يقولون: نفي النقص عنه لم يعلم بالعقل وإنما علم بالإجماع - وعليه اعتمدوا في نفي النقص هنا - فيعود الأمر إلى احتجاجهم بالإجماع ومعلوم أن الإجماع لا يحتج به في موارد النزاع؛ فإن المنازع لهم يقول أنا لم أوافقكم على نفي هذا المعنى وإن وافقتكم على إطلاق القول بأن الله منزه عن النقص؛ فهذا المعنى عندي ليس بنقص ولم يدخل فيما سلمته لكم فإن بينتم بالعقل أو بالسمع انتفاءه وإلا فاحتجاجكم بقولي مع أني لم أرد ذلك كذب علي؛ فإنكم تحتجون بالإجماع؛ والطائفة المثبتة من أهل الإجماع وهم لم يسلموا هذا.


الثاني: أن يقال: لا نسلم أن عدم هذه الأمور قبل وجودها نقص؛ بل لو وجدت قبل وجودها لكان نقصا؛ مثال ذلك تكليم الله لموسى عليه السلام ونداؤه له فنداؤه حين ناداه صفة كمال؛ ولو ناداه قبل أن يجيء لكان ذلك نقصا؛ فكل منها كمال حين وجوده؛ ليس بكمال قبل وجوده؛ بل وجوده قبل الوقت الذي تقتضي الحكمة وجوده فيه نقص.
الثالث: أن يقال: لا نسلم أن عدم ذلك نقص فإن ما كان حادثا امتنع أن يكون قديما وما كان ممتنعا لم يكن عدمه نقصا؛ لأن النقص فوات ما يمكن من صفات الكمال.
الرابع: أن هذا يرد في كل ما فعله الرب وخلقه. فيقال: خلق هذا إن كان نقصا فقد اتصف بالنقص وإن كان كمالا فقد كان فاقدا له؛ فإن قلتم: صفات الأفعال عندنا ليست بنقص ولا كمال. قيل: إذا قلتم ذلك أمكن المنازع أن يقول: هذه الحوادث ليست بنقص ولا كمال.
الخامس: أن يقال: إذا عرض على العقل الصريح ذات يمكنها أن تتكلم بقدرتها وتفعل ما تشاء بنفسها وذات لا يمكنها أن تتكلم بمشيئتها ولا تتصرف بنفسها ألبتة بل هي بمنزلة الزمن الذي لا يمكنه فعل يقوم به باختياره قضى العقل الصريح بأن هذه الذات أكمل وحينئذ فأنتم الذين وصفتم الرب بصفة النقص؛ والكمال في اتصافه بهذه الصفات؛ لا في نفي اتصافه بها.
السادس: أن يقال: الحوادث التي يمتنع كون كل منها أزليا ولا يمكن وجودها إلا شيئا فشيئا إذا قيل: أيما أكمل أن يقدر على فعلها شيئا فشيئا أو لا يقدر على ذلك؟ كان معلوما - بصريح العقل - أن القادر على فعلها شيئا فشيئا أكمل ممن لا يقدر على ذلك. وأنتم تقولون: إن الرب لا يقدر على شيء من هذه الأمور؛ وتقولون إنه يقدر على أمور مباينة له.
ومعلوم أن قدرة القادر على فعله المتصل به قبل قدرته على أمور مباينة له؛ فإذا قلتم لا يقدر على فعل متصل به لزم أن لا يقدر على المنفصل؛ فلزم على قولكم أن لا يقدر على شيء ولا أن يفعل شيئا فلزم أن لا يكون خالقا لشيء؛ وهذا لازم للنفاة لا محيد لهم عنه.
ولهذا قيل: الطريق التي سلكوها في حدوث العالم وإثبات الصانع: تناقض حدوث العالم وإثبات الصانع ولا يصح القول بحدوث العالم وإثبات الصانع إلا بإبطالها؛ لا بإثباتها. فكأن ما اعتمدوا عليه وجعلوه أصولا للدين ودليلا عليه هو في نفسه باطل شرعا وعقلا وهو مناقض للدين ومناف له، كما أنه مناقض للعقل ومناف له.
ولهذا كان السلف والأئمة يعيبون كلامهم هذا ويذمونه ويقولون: من طلب العلم بالكلام تزندق؛ كما قال أبو يوسف. ويروى عن مالك. ويقول الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في العشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: علماء الكلام زنادقة وما ارتدى أحد بالكلام فأفلح.
وقد صدق الأئمة في ذلك فإنهم يبنون أمرهم على " كلام مجمل " يروج على من لم يعرف حقيقته فإذا اعتقد أنه حق تبين أنه مناقض للكتاب والسنة فيبقى في قلبه مرض ونفاق وريب وشك؛ بل طعن فيما جاء به الرسول.
وهذه هي الزندقة. وهو كلام باطل من جهة العقل كما قال بعض السلف: العلم بالكلام هو الجهل فهم يظنون أن معهم عقليات وإنما معهم جهليات: { كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب }. هذا هو الجهل المركب؛ لأنهم كانوا في شك وحيرة فهم في ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
أين هؤلاء من نور القرآن والإيمان؟ قال الله تعالى: { الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم }.
فإن قيل: أما كون الكلام والفعل يدخل في الصفات الاختيارية فظاهر. فإنه يكون بمشيئة الرب وقدرته وأما الإرادة والمحبة والرضا والغضب ففيه نظر فإن نفس الإرادة هي المشيئة وهو سبحانه إذا خلق من يحبه كالخليل فإنه يحبه ويحب المؤمنين ويحبونه.
وكذلك إذا عمل الناس أعمالا يراها وهذا لازم لا بد من ذلك، فكيف يدخل في الاختيار؟
قيل: كل ما كان بعد عدمه فإنما يكون بمشيئة الله وقدرته وهو سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن؛ فما شاءه وجب كونه وهو يجب بمشيئة الرب وقدرته وما لم يشأه امتنع كونه مع قدرته عليه. كما قال تعالى: { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم } { ولو شاء ربك ما فعلوه }.
فكون الشيء واجب الوقوع لكونه قد سبق به القضاء، وعلم أنه لا بد من كونه لا يمتنع أن يكون واقعا بمشيئته وقدرته وإرادته وإن كانت من لوازم ذاته كحياته وعلمه. فإن " إرادته للمستقبلات هي مسبوقة بإرادته للماضي { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } وهو إنما أراد هذا الثاني بعد أن أراد قبله ما يقتضي إرادته؛ فكان حصول الإرادة اللاحقة بالإرادة السابقة.
والناس قد اضطربوا في مسألة إرادة الله سبحانه وتعالى على أقوال متعددة. ومنهم من نفاها ورجح الرازي هذا في مطالبه العالية لكن - ولله الحمد - نحن قد قررناها وبيناها وبينا فساد الشبه المانعة منها؛ وأن ما جاء به الكتاب والسنة هو الحق المحض الذي تدل عليه المعقولات الصريحة وأن صريح المعقول موافق لصحيح المنقول.
وكنا قد بينا أولا أنه يمتنع تعارض الأدلة القطعية فلا يجوز أن يتعارض دليلان قطعيان سواء كانا عقليين أو سمعيين أو كان أحدهما عقليا والآخر سمعيا؛ ثم بينا بعد ذلك: أنها متوافقة متناصرة متعاضدة. فالعقل يدل على صحة السمع والسمع يبين صحة العقل وأن من سلك أحدهما أفضى به إلى الآخر. وأن الذين يستحقون العذاب هم الذين لا يسمعون ولا يعقلون.
كما قال الله تعالى: { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا }.
وقال تعالى: { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير } { قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير } { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير }.
وقال تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور }.
وقال تعالى: { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد }.
فقد بين القرآن أن من كان يعقل أو كان يسمع: فإنه يكون ناجيا وسعيدا ويكون مؤمنا بما جاءت به الرسل وقد بسطت هذه الأمور في غير موضع والله أعلم.
فصل: فساد حجج النفاة لحلول الحوادث
وفحول النظار كأبي عبد الله الرازي وأبي الحسن الآمدي وغيرهما ذكروا حجج النفاة لحلول الحوادث وبينوا فسادها كلها. فذكروا لهم أربع حجج:
إحداها: الحجة المشهورة وهي أنها لو قامت به لم يخل منها ومن أضدادها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث. ومنعوا المقدمة الأولى؛ والمقدمة الثانية؛ ذكر الرازي وغيره فسادها وقد بسط في غير هذا الموضع.
والثانية: أنه لو كان قابلا لها في الأزل لكان القبول من لوازم ذاته فكان القبول يستدعي إمكان المقبول ووجود الحوادث في الأزل محال وهذه أبطلوها هم بالمعارضة بالقدرة: بأنه قادر على إحداث الحوادث والقدرة تستدعي إمكان المقدور و" وجود المقدور " وهو الحوادث في الأزل محال.
و هذه الحجة باطلة من وجوه:
أحدها أن يقال وجود الحوادث دائما إما أن يكون ممكنا وإما أن يكون ممتنعا؛ فإن كان ممكنا أمكن قبولها والقدرة عليها دائما وحينئذ فلا يكون وجود جنسها في الأزل ممتنعا؛ بل يمكن أن يكون جنسها مقدورا مقبولا؛ وإن كان ممتنعا فقد امتنع وجود حوادث لا تتناهى؛ وحينئذ فلا تكون في الأزل ممكنة؛ لا مقدورة ولا مقبولة؛ وحينئذ فلا يلزم من امتناعها في الأزل امتناعها بعد ذلك. فإن الحوادث موجودة؛ فلا يجوز أن يقال بدوام امتناعها؛ وهذا تقسيم حاصر يبين فساد هذه الحجة.
الوجه الثاني: أن يقال: لا ريب أن الرب تعالى قادر؛ فإما أن يقال إنه لم يزل قادرا، وإما أن يقال بل صار قادرا بعد أن لم يكن. فإن قيل: لم يزل قادرا - وهو الصواب - فيقال: إذا كان لم يزل قادرا فإن كان المقدور لم يزل ممكنا أمكن دوام وجود الممكنات فأمكن دوام وجود الحوادث؛ وحينئذ فلا يمتنع كونه قابلا لها في الأزل.
وإن قيل: بل كان الفعل ممتنعا ثم صار ممكنا. قيل: هذا جمع بين النقيضين، فإن القادر لا يكون قادرا على ممتنع، فكيف يكون قادرا مع كون المقدور ممتنعا؟ ثم يقال: بتقدير إمكان هذا كما قيل: هو قادر في الأزل على ما يمكن فيما لا يزال، قيل: وكذلك في القبول، يقال: هو قابل في الأزل لما يمكن فيما لا يزال.
الوجه الثالث: أنه سبحانه إذا قيل - هو قابل لما في الأزل فإنما هو قابل لما هو قادر عليه يمكن وجوده فإن ما يكون ممتنعا لا يدخل تحت القدرة فهذا ليس بقابل له.
الرابع: أن يقال - هو قادر على حدوث ما هو مباين له من المخلوقات ومعلوم أن قدرة القادر على فعله القائم به أولى من قدرته على المباين له؛ وإذا كان الفعل لا مانع منه إلا ما يمتنع مثله لوجود المقدور المباين ثم ثبت أن المقدور المباين هو ممكن وهو قادر عليه فالفعل أن يكون ممكنا مقدورا أولى.
الحجة الثالثة لهم: أنهم قالوا: لو قامت به الحوادث للزم تغيره والتغير على الله محال وأبطلوا هم هذه الحجة الرازي وغيره؛ بأن قالوا: ما تريدون بقولكم: لو قامت به للزم تغيره، أتريدون بالتغير نفس قيامها به أم شيئا آخر؟ فإن أردتم الأول كان المقدم هو الثاني والملزوم هو اللازم وهذا لا فائدة فيه فإنه يكون تقدير الكلام لو قامت به الحوادث لقامت به الحوادث وهذا كلام لا يفيد.
وإن أردتم بالتغير معنى غير ذلك فهو ممنوع فلا نسلم أنها لو قامت به لزم تغير غير حلول الحوادث فهذا جوابهم.
المعنى الصحيح للتغير
وإيضاح ذلك: أن لفظ التغير لفظ مجمل فالتغير في اللغة المعروفة لا يراد به مجرد كون المحل قامت به الحوادث فإن الناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب إذا تحركت: إنها قد تغيرت ولا يقولون للإنسان إذا تكلم ومشى إنه تغير ولا يقولون إذا طاف وصلى وأمر ونهى وركب إنه تغير إذا كان ذلك عادته بل إنما يقولون تغير لمن استحال من صفة إلى صفة كالشمس ما زال نورها ظاهرا لا يقال إنها تغيرت فإذا اصفرت قيل قد تغيرت.
وكذلك الإنسان إذا مرض أو تغير جسمه بجوع أو تعب قيل قد تغير وكذلك إذا تغير خلقه ودينه مثل أن يكون فاجرا فيتوب ويصير برا أو يكون برا فينقلب فاجرا فإنه يقال قد تغير.
ومنه الحديث: "رأيت وجه رسول الله ﷺ متغيرا"، وهو لما رأى به أثر الجوع، ولم يزل يراه يركع ويسجد، فلم يسم حركته تغيرا.
وكذلك يقال: فلان قد تغير على فلان إذا صار يبغضه بعد المحبة فأما إذا كان ثابتا على مودته لم يسم هشته إليه وخطابه له تغيرا. وإذا جرى على عادته في أقواله وأفعاله فلا يقال إنه قد تغير.
قال الله تعالى: { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }. ومعلوم أنهم إذا كانوا على عادتهم الموجودة يقولون ويفعلون ما هو خير لم يكونوا قد غيروا ما بأنفسهم فإذا انتقلوا عن ذلك فاستبدلوا بقصد الخير قصد الشر وباعتقادهم الحق اعتقاد الباطل قيل: قد غيروا ما بأنفسهم مثل من كان يحب الله ورسوله والدار الآخرة فتغير قلبه وصار لا يحب الله ورسوله والدار الآخرة فهذا قد غير ما في نفسه.
وإذا كان هذا معنى التغير فالرب تعالى لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال منعوتا بنعوت الجلال والإكرام وكماله من لوازم ذاته فيمتنع أن يزول عنه شيء من صفات كماله ويمتنع أن يصير ناقصا بعد كماله.
وهذا الأصل عليه يدل قول السلف وأهل السنة: أنه لم يزل متكلما إذا شاء ولم يزل قادرا ولم يزل موصوفا بصفات الكمال ولا يزال كذلك فلا يكون متغيرا.
وهذا معنى قول من يقول: يا من يغير ولا يتغير، فإنه يحيل صفات المخلوقات ويسلبها ما كانت متصفة به إذا شاء، ويعطيها من صفات الكمال ما لم يكن لها، وكماله من لوازم ذاته؛ لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال.
قال تعالى { كل شيء هالك إلا وجهه } وقال تعالى: { كل من عليها فان } { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام }.
ولكن هؤلاء النفاة هم الذين يلزمهم أن يكون قد تغير؛ فإنهم يقولون: كان في الأزل لا يمكنه أن يقول شيئا؛ ولا يتكلم بمشيئته وقدرته؛ وكان ذلك ممتنعا عليه لا يتمكن منه ثم صار الفعل ممكنا يمكنه أن يفعل.
ولهم في الكلام قولان. فمن أثبت الكلام المعروف وقال: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته قال أيضا: إنه صار الكلام ممكنا له بعد أن كان ممتنعا عليه.
ومن لم يصفه بالكلام المعروف؛ بل قال: إنه يتكلم بلا مشيئته وقدرته كما تقوله الكلابية فهؤلاء أثبتوا كلاما لا يعقل ولم يسبقهم إليه أحد من المسلمين.
بل كان المسلمون قبلهم على قولين: فالسلف وأهل السنة يقولون: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته وكلامه غير مخلوق. والجهمية يقولون: إنه مخلوق بقدرته ومشيئته فقال هؤلاء بل يتكلم بلا مشيئته وقدرته وكلامه شيء واحد لازم لذاته وهو حروف أو حروف وأصوات: أزلية لازمة لذاته كما قد بسط في غير هذا الموضع.
والمقصود أن هؤلاء كلهم الذين يمنعون أن يكون الرب لم يزل يمكنه أن يفعل ما يشاء ويقولون ذلك يستلزم وجود حوادث لا تتناهى وذلك محال فهؤلاء يقولون صار الفعل ممكنا له بعد أن كان ممتنعا عليه.
وحقيقة قولهم إنه صار قادرا بعد أن لم يكن قادرا وهذا حقيقة التغير مع أنه لم يحدث سبب يوجب كونه قادرا.
وإذا قالوا: هو في الأزل قادر على ما لا يزال.
قيل: هذا جمع بين النفي والإثبات فهو في الأزل كان قادرا. فكان القول ممكنا له أو ممتنعا عليه؟
إن قلتم: ممكن له فقد جوزتم دوام كونه فاعلا وأنه قادر على حوادث لا نهاية لها.
وإن قلتم: بل كان ممتنعا. قيل: القدرة على الممتنع ممتنعة، فمع كون الفعل ممتنعا غير ممكن - لا يكون مقدورا للقادر إنما المقدور هو الممكن لا الممتنع.
فإذا قلتم: أمكنه بعد ذلك. فقد قلتم: إنه أمكنه أن يفعل بعد أن كان لا يمكنه أن يفعل وهذا صريح في أنه صار قادرا بعد أن لم يكن وهو صريح في التغير.
فهؤلاء النفاة الذين قالوا: إن المثبتة يلزمهم القول بأنه تغير قد بان بطلان قولهم وأنهم هم الذين قالوا بما يوجب تغيره.
وإذا قال المنازع: أنا أريد بكونه تغير: أنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وأنه يحب من أطاعه، ويفرح بتوبة التائب، ويأتي يوم القيامة.
قيل: فهب أنك سميت هذا تغيرا، فلم قلت: إن هذا ممتنع؟
فهذا محل النزاع، كما قال الرازي: فالمقدم هو التالي.
وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الله يوصف بالغيرة، وهي مشتقة من التغير. فقال ﷺ في الحديث الصحيح: "لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته".
وقال أيضا { لا أحد أحب إليه المدح من الله من أجل ذلك مدح نفسه ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الرسل وأنزل الكتب ولا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن }.
وفي الحديث الصحيح أيضا لما قال سعد بن عبادة: لو رأيت لكاع - يعني امرأة سعد - قد تفخذها رجل لضربته بالسيف، فقال: { أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني }.
الحجة الرابعة: قالوا: حلول الحوادث به أفول؛ والخليل قد قال: { لا أحب الآفلين } والآفل هو المتحرك الذي تقوم له الحوادث فيكون الخليل قد نفى المحبة عمن تقوم به الحوادث فلا يكون إلها.
والجواب: أن قصة الخليل حجة عليهم لا لهم؛ وهم المخالفون لإبراهيم ولنبينا ولغيرهما من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وذلك أن الله تعالى قال: { فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين } { فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } { فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون } { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين }.
فقد أخبر الله في كتابه: أنه من حين بزغ الكوكب والقمر والشمس وإلى حين أفولها لم يقل الخليل: لا أحب البازغين ولا المتحركين ولا المتحولين ولا أحب من تقوم به الحركات ولا الحوادث ولا قال شيئا مما يقوله النفاة حتى أفل الكوكب والشمس والقمر.
و الأفول باتفاق أهل اللغة والتفسير: هو المغيب والاحتجاب؛ بل هذا معلوم بالاضطرار من لغة العرب التي نزل بها القرآن وهو المراد باتفاق العلماء.
فلم يقل إبراهيم: { لا أحب الآفلين }، حتى أفل وغاب عن الأبصار، فلم يبق مرئيا ولا مشهودا، فحينئذ قال: { لا أحب الآفلين }. وهذا يقتضي أن كونه متحركا منتقلا تقوم به الحوادث؛ بل كونه جسما متحيزا تقوم به الحوادث لم يكن دليلا عند إبراهيم على نفي محبته.
فإن كان إبراهيم إنما استدل بالأفول على أنه ليس رب العالمين - كما زعموا -: لزم من ذلك أن يكون ما تقدم الأفول - من كونه متحركا منتقلا - تحله الحوادث؛ بل ومن كونه جسما متحيزا: لم يكن دليلا عند إبراهيم على أنه ليس برب العالمين وحينئذ فيلزم أن تكون قصة إبراهيم حجة على نقيض مطلوبهم؛ لا على نفس مطلوبهم. وهكذا نجد أهل البدع لا يكادون يحتجون بحجة سمعية ولا عقلية إلا وهي عند التأمل حجة عليهم؛ لا لهم.
ولكن إبراهيم عليه السلام لم يقصد بقوله { هذا ربي } إنه رب العالمين ولا كان أحد من قومه يقول: إنه رب العالمين، حتى يرد ذلك عليهم؛ بل كانوا مشركين مقرين بالصانع؛ وكانوا يتخذون الكواكب والشمس والقمر أربابا يدعونها من دون الله ويبنون لها الهياكل وقد صنفت في مثل مذهبهم كتب، مثل كتاب السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم وغيره من الكتب.
ولهذا قال الخليل: { أفرأيتم ما كنتم تعبدون } { أنتم وآباؤكم الأقدمون } { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين }.
وقال تعالى: { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده }.
ولهذا قال الخليل في تمام الكلام: { إني بريء مما تشركون } { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين }. فقوله: { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } يبين أنه إنما يعبد الله وحده، فله يوجه وجهه، فإنه إذا توجه قصده إليه تبع قصده وجهه، فالوجه موجه حيث توجه القلب، فصار قلبه وقصده ووجهه متوجها إلى الله تعالى.
ولهذا قال: { وما أنا من المشركين } لم يذكر أنه أقر بوجود الصانع فإن هذا كان معلوما عند قومه لم يكونوا ينازعونه في وجود فاطر السموات والأرض،
وإنما كان النزاع في عبادة غير الله واتخاذه ربا؛ فكانوا يعبدون الكواكب السماوية ويتخذون لها أصناما أرضية.
وهذا النوع الثاني من الشرك فإن الشرك في قوم نوح كان أصله من عبادة الصالحين - أهل القبور - ثم صوروا تماثيلهم فكان شركهم بأهل الأرض؛ إذ كان الشيطان إنما يضل الناس بحسب الإمكان فكان تزيينه أولا الشرك بالصالحين أيسر عليه.
ثم قوم إبراهيم انتقلوا إلى الشرك بالسماويات فالكواكب، وضعوا لها الأصنام بحسب ما رأوه من طبائعها يصنعون لكل كوكب بيتا وطعاما وخاتما وبخورا وأقوالا تناسبه.
وهذا كان قد اشتهر على عهد إبراهيم إمام الحنفاء؛ ولهذا قال الخليل: { ماذا تعبدون } { أئفكا آلهة دون الله تريدون } { فما ظنكم برب العالمين } وقال لهم: { أتعبدون ما تنحتون } { والله خلقكم وما تعملون }.
وقصة إبراهيم قد ذكرت في غير موضع من القرآن مع قومه: إنما فيها نهيهم عن الشرك؛ خلاف قصة موسى مع فرعون فإنها ظاهرة في أن فرعون كان مظهرا الإنكار للخالق وجحوده.
وقد ذكر الله عن إبراهيم أنه حاج الذي حاجه في ربه في قوله: { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } فهذا قد يقال: إنه كان جاحدا للصانع ومع هذا فالقصة ليست صريحة في ذلك؛ بل يدعو الإنسان إلى عبادة نفسه وإن كان لا يصرح بإنكار الخالق مثل إنكار فرعون.
وبكل حال فقصة إبراهيم إلى أن تكون حجة عليهم أقرب منها إلى أن تكون حجة لهم وهذا بين - ولله الحمد - بل ما ذكره الله عن إبراهيم يدل على أنه كان يثبت ما ينفونه عن الله؛ فإن إبراهيم قال: { إن ربي لسميع الدعاء } والمراد به: أنه يستجيب الدعاء كما يقول المصلي سمع الله لمن حمده وإنما يسمع الدعاء ويستجيبه بعد وجوده؛ لا قبل وجوده.
كما قال الله تعالى: { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما }. فهي تجادل وتشتكي حال سمع الله تحاورهما؛ وهذا يدل على أن سمعه كرؤيته المذكورة في قوله: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } وقال: { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } فهذه رؤية مستقلة ونظر مستقل وقد تقدم أن المعدوم لا يرى ولا يسمع منفصلا عن الرائي السامع باتفاق العقلاء فإذا وجدت الأقوال والأعمال سمعها ورآها.
و الرؤية والسمع أمر وجودي لا بد له من موصوف يتصف به فإذا كان هو الذي رآها وسمعها امتنع أن يكون غيره هو المتصف بهذا السمع وهذه الرؤية. وأن تكون قائمة بغيره فتعين قيام هذا السمع وهذه الرؤية به بعد أن خلقت الأعمال والأقوال وهذا قطعي لا حيلة فيه.
وقد بسط الكلام على هذه المسألة وما قاله فيها عامة الطوائف في غير هذا الموضع وحكيت ألفاظ الناس وحججهم بحيث يتيقن الإنسان أن النافي ليس معه حجة لا سمعية ولا عقلية؛ وأن الأدلة العقلية الصريحة موافقة لمذهب السلف وأهل الحديث؛ وعلى ذلك يدل الكتاب والسنة مع الكتب المتقدمة: التوراة والإنجيل والزبور فقد اتفق عليها نصوص الأنبياء وأقوال السلف وأئمة العلماء ودلت عليها صرائح المعقولات.
فالمخالف فيها كالمخالف في أمثالها ممن ليس معه حجة لا سمعية ولا عقلية بل هو شبيه بالذين قالوا: { لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير }. قال الله تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور }.
ولكن هذه المسألة ومسألة الزيارة وغيرهما حدث من المتأخرين فيها شبه. وأنا وغيري كنا على مذهب الآباء في ذلك نقول في الأصلين بقول أهل البدع؛ فلما تبين لنا ما جاء به الرسول دار الأمر بين أن نتبع ما أنزل الله أو نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فكان الواجب هو اتباع الرسول؛ وأن لا نكون ممن قيل فيه: { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا }.
وقد قال تعالى: { قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم }.
وقال تعالى: { ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون }.
فالواجب اتباع الكتاب المنزل والنبي المرسل وسبيل من أناب إلى الله فاتبعنا الكتاب والسنة كالمهاجرين والأنصار؛ دون ما خالف ذلك من دين الآباء وغير الآباء والله يهدينا وسائر إخواننا إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
والله سبحانه أنزل القرآن وهدى به الخلق وأخرجهم به من الظلمات إلى النور؛ وأم القرآن هي فاتحة الكتاب. قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح { يقول الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد: { الحمد لله رب العالمين } قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: { الرحمن الرحيم } قال الله: أثنى علي عبدي فإذا
قال: { مالك يوم الدين } قال الله: مجدني عبدي - وقال مرة: فوض إلي عبدي - فإذا قال: { إياك نعبد وإياك نستعين } قال الله: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال: { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } قال: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل }.
فهذه السورة فيها لله الحمد في الدنيا والآخرة، وفيها للعبد السؤال، وفيها لله العبادة له وحده، وللعبد الاستعانة، فحق الرب حمده وعبادته وحده، وهذان حمد الرب وتوحيده يدور عليهما جميع الدين.
و مسألة الصفات الاختيارية هي من تمام حمده فمن لم يقر بها لم يمكنه الإقرار بأن الله محمود ألبتة ولا أنه رب العالمين فإن الحمد ضد الذم والحمد هو الإخبار بمحاسن المحمود مع المحبة له والذم هو الإخبار بمساوئ المذموم مع البغض له.
وجماع المساوئ فعل الشر كما أن جماع المحاسن فعل الخير. فإذا كان يفعل الخير - بمشيئته وقدرته استحق الحمد. فمن لم يكن له فعل اختياري يقوم به؛ بل ولا يقدر على ذلك لا يكون خالقا ولا ربا للعالمين.
والله تعالى يحمد نفسه بأفعاله، لقوله: { الحمد لله رب العالمين }، وقوله: { الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض }، { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } - ونحو ذلك - فإذا لم يكن له فعل يقوم به باختياره امتنع ذلك كله. فإنه من المعلوم بصريح العقل أنه إذا خلق السموات والأرض فلا بد من فعل يصير به خالقا لها؛ وإلا فلو استمر الأمر على حال واحدة ولم يحدث فعلا، لكان الأمر على ما كان عليه قبل أن يخلق وحينئذ فلم يكن المخلوق موجودا فكذلك يجب أن لا يكون المخلوق موجودا إن كان الحال في المستقبل مثل ما كان في الماضي لم يحدث من الرب فعل هو خلق السموات والأرض.
وقد قال تعالى: { ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم }. ومعلوم أنهم قد شهدوا نفس المخلوق فدل على أن " الخلق " الذي لم يشهدوه وهو تكوينه لهما وإحداثه لهما؛ غير المخلوق التالي.
وأيضا فإنه قال { خلق السماوات والأرض في ستة أيام }. فالخلق لها كان في ستة أيام وهي موجودة بعد الستة فالذي اختص بالستة غير الموجود بعد الستة.
وكذلك قال { الرحمن الرحيم } فإن الرحمن الرحيم هو الذي يرحم العباد بمشيئته وقدرته فإن لم يكن له رحمة إلا نفس الإرادة القديمة؛ أو صفة أخرى قديمة: لم يكن موصوفا بأنه يرحم من يشاء ويعذب من يشاء.
قال الخليل: { قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير } { يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون } فالرحمة ضد التعذيب والتعذيب فعله وهو يكون بمشيئته؛ وكذلك الرحمة تكون بمشيئته؛ كما قال: { ويرحم من يشاء }. والإرادة القديمة اللازمة لذاته - أو صفة أخرى كذلك - ليست بمشيئته؛ فلا تكون الرحمة بمشيئته.
وإن قيل: ليس بمشيئته إلا المخلوقات المباينة لزم أن لا تكون الرحمة صفة للرب بل تكون مخلوقة له وهو إنما يتصف بما يقوم به لا يتصف بالمخلوقات فلا يكون هو الرحمن الرحيم.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: { لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي } - وفي رواية - تسبق غضبي. وما كان سابقا لما يكون بعده لم يكن إلا بمشيئة الرب وقدرته. ومن قال: ما ثم رحمة إلا إرادة قديمة أو ما يشبهها امتنع أن يكون له غضب مسبوق بها فإن الغضب إن فسر بالإرادة فالإرادة لم تسبق نفسها وكذلك إن فسر بصفة قديمة العين فالقديم لا يسبق بعضه بعضا وإن فسر بالمخلوقات لم يتصف برحمة ولا غضب.
وهو قد فرق بين غضبه وعقابه بقوله: { فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما } وقوله: { ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا }.
وفي الحديث الذي رواه [ عبد الله بن عمرو بن العاص ] عن النبي ﷺ أنه كان يقول: { أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون }.
ويدل على ذلك قوله: { ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم } فعلق الرحمة بالمشيئة كما علق التعذيب بالمشيئة. وما تعلق بالمشيئة مما يتصف به الرب فهو من الصفات الاختيارية.
وكذلك كونه مالكا ليوم الدين، يوم يدين العباد بأعمالهم: إن خيرا فخير، وإن شرا فشر: { وما أدراك ما يوم الدين * ثم ما أدراك ما يوم الدين * يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله }. فإن " الملك " هو الذي يتصرف بالأمر يأمر فيطاع ولهذا إنما يقال " ملك " للحي المطاع الأمر لا يقال في الجمادات: لصاحبها ملك؛ إنما يقال له: مالك ويقال ليعسوب النحل: ملك النحل لأنه يأمر فيطاع والمالك القادر على التصرف في المملوك.
وإذا كان الملك هو الآمر الناهي المطاع فإن كان يأمر وينهى بمشيئته كان أمره ونهيه من الصفات الاختيارية وبهذا أخبر القرآن قال الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد }.
وإن كان لا يأمر وينهى بمشيئته - بل أمره لازم له حاصل بغير مشيئته ولا قدرته - لم يكن هذا مالكا أيضا؛ بل هذا إلى أن يكون مملوكا أقرب، فإن الله تعالى خلق الإنسان وجعل له صفات تلزمه - كاللون والطول والعرض والحياة ونحو ذلك مما يحصل لذاته بغير اختياره - فكان باعتبار ذلك مملوكا مخلوقا للرب فقط وإنما يكون " ملكا " إذا كان يأمر وينهى باختياره فيطاع - وإن كان الله خالقا لفعله ولكل شيء.
ولكن المقصود أنه لا يكون ملكا إلا من يأمر وينهى بمشيئته وقدرته، فمن نفى الصفات الاختيارية وقال: ليس للرب أمر ونهي يقوم به بمشيئته بل من قال: إنه لازم له بغير مشيئته، أو قال: إنه مخلوق له، فكلاهما يلزمه أنه لا يكون ملكا.
وإذا لم يمكنه أن يتصرف بمشيئته لم يكن " ملكا " أيضا. فمن قال إنه لا يقوم به فعل اختياري لم يكن عنده في الحقيقة مالكا لشيء وإذا اعتبرت سائر القرآن وجدت أنه من لم يقر بالصفات الاختيارية لم يقم بحقيقة الإيمان ولا القرآن.
فهذا يبين أن الفاتحة وغيرها يدل على الصفات الاختيارية وقوله: { إياك نعبد وإياك نستعين } فيه إخلاص العبادة لله والاستعانة به وأن المؤمنين لا يعبدون إلا الله ولا يستعينون إلا بالله؛ فمن دعا غير الله من المخلوقين أو استعان بهم: من أهل القبور أو غيرهم لم يحقق قوله: { إياك نعبد وإياك نستعين } ولا يحقق ذلك إلا من فرق بين الزيارة الشرعية والزيارة البدعية. فإن الزيارة الشرعية عبادة لله وطاعة لرسوله وتوحيد لله وإحسان إلى عباده وعمل صالح من الزائر يثاب عليه. والزيارة البدعية شرك بالخالق وظلم للمخلوقات وظلم للنفس.
فصاحب الزيارة الشرعية هو الذي يحقق قوله: { إياك نعبد وإياك نستعين }. ألا ترى أن اثنين لو شهدا جنازة فقام أحدهما يدعو للميت ويقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بماء وثلج وبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله دارا خيرا من داره وجيرانا خيرا من جيرانه وأهلا خيرا من أهله وأعذه من عذاب النار وعذاب القبر وأفسح له في قبره ونور له فيه ونحو ذلك من الدعاء له. وقام الآخر فقال: يا سيدي أشكو لك ديوني وأعدائي وذنوبي، وأنا مستغيث بك مستجير بك أجرني أغثني ونحو ذلك؛ لكان الأول عابدا لله ومحسنا إلى خلقه محسنا إلى نفسه بعبادة الله ونفع عباده وهذا الثاني مشركا بالله مؤذيا ظالما معتديا على هذا الميت ظالما لنفسه.
فهذا بعض ما بين البدعية والشرعية من الفروق. والمقصود أن صاحب " الزيارة الشرعية " إذا قال: { إياك نعبد وإياك نستعين } كان صادقا؛ لأنه لم يعبد إلا الله ولم يستعن إلا به وأما صاحب الزيارة البدعية فإنه عبد غير الله واستعان بغيره.
فهذا بعض ما يبين أن الفاتحة أم القرآن: اشتملت على بيان المسألتين المتنازع فيهما: مسألة الصفات الاختيارية ومسألة الفرق بين الزيارة الشرعية والزيارة البدعية. والله تعالى هو المسئول أن يهدينا وسائر إخواننا إلى صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
ومما يوضح ذلك أن النبي ﷺ قال: { إذا قال العبد: { الحمد لله رب العالمين } قال الله: حمدني عبدي فإذا قال: { الرحمن الرحيم } قال أثنى علي عبدي. فإذا قال: { مالك يوم الدين } قال الله: مجدني عبدي فذكر الحمد والثناء والمجد، ثم بعد ذلك يقول: { إياك نعبد وإياك نستعين } إلى آخرها.
هذا في أول القراءة في قيام الصلاة. ثم في آخر القيام بعد الركوع يقول: ربنا ولك الحمد ملء السماء وملء الأرض. إلى قوله: أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد }.
وقوله: أحق ما قال العبد. خبر مبتدأ محذوف: أي هذا الكلام أحق ما قال العبد. فتبين أن حمد الله والثناء عليه وتمجيده أحق ما قاله العبد وفي ضمنه توحيده، لأنه قال: ولك الحمد، أي لك لا لغيرك. وقال في آخره: لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، وهذا يقتضي انفراده بالعطاء والمنع فلا يستعان إلا به ولا يطلب إلا منه. ثم قال: ولا ينفع ذا الجد منك الجد فبين أن الإنسان وإن أعطي الملك والغنى والرئاسة فهذا لا ينجيه منك؛ إنما ينجيه الإيمان والتقوى وهذا تحقيق قوله: { إياك نعبد وإياك نستعين } وكان هذا الذكر آخر القيام مناسبا للذكر أول القيام.
وقوله: أحق ما قال العبد، يقتضي أن يكون حمد الله أحق الأقوال بأن يقوله العبد؛ وما كان أحق الأقوال كان أفضلها وأوجبها على الإنسان.
ولهذا افترض الله على عباده في كل صلاة أن يفتتحوها بقولهم: { الحمد لله رب العالمين } وأمرهم أيضا أن يفتتحوا كل خطبة بالحمد لله فأمرهم أن يكون الحمد لله مقدما على كل كلام سواء كان خطابا للخالق أو خطابا للمخلوق.
ولهذا يقدم النبي ﷺ الحمد أمام الشفاعة يوم القيامة. ولهذا أمرنا بتقديم الثناء على الله في التشهد قبل الدعاء وقال النبي ﷺ { كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم }.
وأول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون الله على السراء والضراء.
وقوله { الرحمن الرحيم } جعله ثناء. وقوله { مالك يوم الدين } جعله تمجيدا. وقوله: { الحمد لله } حمد مطلق. فإن الحمد اسم جنس له كمية وكيفية؛ فالثناء تثنيته، وتكبيره تعظيم كميته المنفصلة، والمجد هو السعة والعلو فهو تعظيم كيفيته وقدره وكميته المتصلة.
وذلك أن هذا وصف له بالملك، والملك يتضمن القدرة وفعل ما يشاء و{ الرحمن الرحيم } وصف بالرحمة المتضمنة لإحسانه إلى العباد بمشيئته وقدرته أيضا والخير يحصل بالقدرة والإرادة التي تتضمن الرحمة. فإذا كان قديرا مريدا للإحسان: حصل كل خير وإنما يقع النقص لعدم القدرة أو لعدم إرادة الخير " فالرحمن الرحيم الملك قد اتصف بغاية إرادة الإحسان وغاية القدرة؛ وذلك يحصل به كل خير خير الدنيا والآخرة.
وقوله: { مالك يوم الدين } مع أنه ملك الدنيا لأن يوم الدين لا يدعي أحد فيه منازعة وهو اليوم الأعظم فما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع.
و الدين عاقبة أفعال العباد وقد يدل بطريق التنبيه أو بطريق العموم عند بعضهم: على ملك الدنيا فيكون له الملك وله الحمد كما قال تعالى: { له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير } وذلك يقتضي أنه قادر على أن يرحم ورحمته وإحسانه وصف له يحصل بمشيئته وهو من الصفات الاختيارية.
وفي الصحيح { أن النبي ﷺ كان يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمهم السورة من القرآن يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر - ويسميه باسمه - خيرا لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري: فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه؛ وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان }.
فسأله بعلمه وقدرته ومن فضله وفضله يحصل برحمته وهذه الصفات هي جماع صفات الكمال لكن العلم له عموم التعلق: يتعلق بالخالق والمخلوق،
والموجود والمعدوم. وأما القدرة فإنما تتعلق بالممكن، والإرادة إنما تتعلق بالموجود المخلوق، والرحمة أخص منها فإنما تتعلق بالمخلوق، وكذلك الملك إنما يكون ملكا على المخلوقات.
فالفاتحة اشتملت على الكمال في الإرادة، وهو: الرحمة، وعلى الكمال في القدرة، وهو: مالك يوم الدين. وهذا وهذا إنما يتم بالصفات الاختيارية، كما تقدم. والله سبحانه وتعالى أعلم.
===============


رسالة في شرح كلمات من فتوح الغيب
هذا كتاب يشتمل على شرح كلمات رويت عن الشيخ الإمام العالم، الناسك الزاهد، عبد القادر الكيلاني رحمه الله تعالى، في كتابه المعروف بفتوح الغيب وشرحها شيخ الإسلام، ومفتي الشام، الإمام العالم العامل، الزاهد الورع، تقي الدين أبو العباس أحمد، بن عبد الحليم، بن عبد السلام، بن تيمية الحراني، نفع الله به، وأثابه الجنة، وغفر له ولجميع المسلمين، آمين، ومتعه الله بالثناء الجميل، والعطاء الجزيل.
بسم الله الرحمن الرحيم، توكلت على الله.
قال شيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام، أبو العباس أحمد، بن عبد الحليم، بن عبد السلام، العالم الرباني، والعامل النوراني بن تيمية، رضي الله عنه وأرضاه:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.
فصل
قال الشيخ أبو محمد عبد القادر الكيلاني في كتاب فتوح الغيب: لا بد لكل مؤمن في سائر أحواله من ثلاثة أشياء: أمر يمتثله. ونهي يجتنبه. وقدر يرضى به. فأقل حالة لا يخلو المؤمن فيها من أحد هذه الأشياء الثلاثة فينبغي له أن يلزم همها قلبه وليحدث بها نفسه ويأخذ بها الجوارح في سائر أحواله".
تعليق ابن تيمية
قلت: هذا كلام شريف جامع يحتاج إليه كل أحد، وهو تفصيل لما يحتاج إليه العبد، وهي مطابقة لقوله تعالى { إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } ولقوله تعالى: { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا } ولقوله تعالى: { وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور }.
فإن التقوى تتضمن: فعل المأمور وترك المحظور والصبر يتضمن: الصبر على المقدور. فالثلاثة ترجع إلى هذين الأصلين، والثلاثة في الحقيقة ترجع إلى امتثال الأمر وهو طاعة الله ورسوله.
فحقيقة الأمر أن كل عبد فإنه محتاج في كل وقت إلى طاعة الله ورسوله وهو: أن يفعل في ذلك الوقت ما أمر به في ذلك الوقت.
وطاعة الله ورسوله هي عبادة الله التي خلق لها الجن والإنس. كما قال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وقال تعالى: { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } وقال تعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون }.
والرسل كلهم أمروا قومهم أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا وقال تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } وقال تعالى: { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون }.
الثلاثة ترجع إلى امتثال الأمر
وإنما كانت الثلاثة ترجع إلى امتثال الأمر؛ لأنه في الوقت الذي يؤمر فيه بفعل أمور من الفرائض كالصلوات الخمس والحج ونحو ذلك، يحتاج إلى فعل ذلك المأمور.
وفي الوقت الذي تحدث أسباب المعصية يحتاج إلى الامتناع والكراهة والإمساك عن ذلك وهذا فعل لما أمر به في هذا الوقت وأما من لم تخطر له المعصية ببال فهذا لم يفعل شيئا يؤجر عليه ولكن عدم ذنبه مستلزم لسلامته من عقوبة الذنب، والعدم المحض المستمر لا يؤمر به وإنما يؤمر بأمر يقدر عليه العبد وذاك لا يكون إلا حادثا: سواء كان إحداث إيجاد أمر أو إعدام أمر.
وأما القدر الذي يرضى به فإنه إذا ابتلي بالمرض أو الفقر أو الخوف فهو مأمور بالصبر أمر إيجاب، ومأمور بالرضا إما أمر إيجاب، وإما أمر استحباب؛ وللعلماء من أصحابنا وغيرهم في ذلك قولان ونفس الصبر والرضا بالمصائب هو طاعة لله ورسوله فهو من امتثال الأمر وهو عبادة لله.
لكن هذه الثلاثة وإن دخلت في امتثال الأمر عند الإطلاق فعند التفصيل والاقتران: إما أن تخص بالذكر وإما أن يقال يراد بهذا ما لا يراد بهذا كما في قوله: { فاعبده وتوكل عليه } وقوله: { فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } فإن هذا داخل في العبادة إذا أطلق اسم العبادة، وعند الاقتران إما أن يقال: ذكر عموما وخصوصا، وإما أن يقال: ذكره خصوصا يغني عن دخوله في العام.
ومثل هذا قوله تعالى { إياك نعبد وإياك نستعين } وقوله: { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا } { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا } { واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا } وقد يقال: لفظ " التبتل " لا يتناول هذه الأمور المعطوفة كما يتناولها لفظ العبادة والطاعة.
و بالجملة فرق ما بين ما يؤمر به الإنسان ابتداء وبين ما يؤمر به عند حاجته إلى جلب المنفعة ودفع المضرة أو عند حب الشيء وبغضه.
وكلام الشيخ يدور على هذا القطب وهو أن يفعل المأمور ويترك المحظور ويخلو فيما سواهما عن إرادة؛ لئلا يكون له هو مراد غير فعل ما أمره به ربه، وما لم يؤمر به العبد، بل فعله الرب عز وجل بلا واسطة العبد أو فعله بالعبد بلا هوى من العبد. فهذا هو القدر الذي عليه أن يرضى به.
وسيأتي من كلام الشيخ ما يبين مراده وأن العبد في كل حال عليه أن يفعل ما أمر به ويترك ما نهي عنه. وأما إذا لم يكن هو أمرا للعبد بشيء من ذلك فما فعله الرب كان علينا التسليم فيما فعله وهذه هي " الحقيقة " في كلام الشيخ وأمثاله.
وتفصيل الحقيقة الشرعية في هذا المقام أن هذا نوعان: أحدهما أن يكون العبد مأمورا فيما فعله الرب. إما بحب له وإعانة عليه. وإما ببغض له ودفع له. والثاني أن لا يكون العبد مأمورا بواحد منهما.
فالأول مثل البر والتقوى الذي يفعله غيره فهو مأمور بحبه وإعانته عليه: كإعانة المجاهدين في سبيل الله على الجهاد وإعانة سائر الفاعلين للحسنات على حسناتهم بحسب الإمكان وبمحبة ذلك والرضا به وكذلك هو مأمور عند مصيبة الغير: إما بنصر مظلوم وإما بتعزية مصاب وإما بإغناء فقير ونحو ذلك.
وأما ما هو مأمور ببغضه ودفعه فمثل: ما إذا أظهر الكفر والفسوق والعصيان فهو مأمور ببغض ذلك ودفعه وإنكاره بحسب الإمكان كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ".
حكم المباحات وأنواعها
وأما ما لا يؤمر العبد فيه بواحد منهما: فمثل ما يظهر له من فعل الإنسان للمباحات التي لم يتبين له أنه يستعان بها على طاعة ولا معصية. فهذه لا يؤمر بحبها ولا ببغضها وكذلك مباحات نفسه المحضة التي لم يقصد الاستعانة بها على طاعة ولا معصية. مع أن هذا نقص منه فإن الذي ينبغي أنه لا يفعل من المباحات إلا ما يستعين به على الطاعة ويقصد الاستعانة بها على الطاعة فهذا سبيل المقربين السابقين الذين تقربوا إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض ولم يزل أحدهم يتقرب إليه بذلك حتى أحبه فكان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها.
وأما من فعل المباحات مع الغفلة أو فعل فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة مع أداء الفرائض واجتناب المحارم باطنا وظاهرا فهذا من المقتصدين أصحاب اليمين.
وبالجملة الأفعال التي يمكن دخولها تحت الأمر والنهي لا تكون مستوية من كل وجه بل إن فعلت على الوجه المحبوب كان وجودها خيرا للعبد، وإلا كان تركها خيرا له وإن لم يعاقب عليها ففضول المباح التي لا تعين على الطاعة عدمها خير من وجودها إذا كان مع عدمها يشتغل بطاعة الله فإنها تكون شاغلة له عن ذلك وأما إذا قدر أنها تشغله عما دونها فهي خير له مما دونها وإن شغلته عن معصية الله كانت رحمة في حقه وإن كان اشتغاله بطاعة الله خيرا له من هذا وهذا.
وكذلك أفعال الغفلة والشهوة التي يمكن الاستعانة بها على الطاعة: كالنوم الذي يقصد به الاستعانة على العبادة؛ والأكل والشرب واللباس والنكاح الذي يمكن الاستعانة به على العبادة؛ إذا لم يقصد به ذلك كان ذلك نقصا من العبد وفوات حسنة؛ وخير يحبه الله.
ففي الصحيحين عن النبي ﷺ { أنه قال لسعد: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة حتى اللقمة تضعها في في امرأتك } وقال في الحديث الصحيح: { نفقة المسلم على أهله يحتسبها صدقة }.
فما لا يحتاج إليه من المباحات أو يحتاج إليه ولم يصحبه إيمان يجعله حسنة فعدمه خير من وجوده إذا كان مع عدمه يشتغل بما هو خير منه. وقد قال النبي ﷺ { في بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر. قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أما كان عليه وزر؟ قالوا: بلى قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له بها أجر. فلم تعتدون بالحرام ولا تعتدون بالحلال }.
وذلك أن المؤمن عند شهوة النكاح يقصد أن يعدل عما حرمه الله إلى ما أباحه الله؛ ويقصد فعل المباح معتقدا أن الله أباحه " { والله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته } كما روى ذلك الإمام أحمد في المسند ورواه غيره ولهذا أحب القصر والفطر في السفر، فعدول المؤمن عن الرهبانية والتشديد وتعذيب النفس الذي لا يحبه الله إلى ما يحبه الله من الرخصة هو من الحسنات التي يثيبه الله عليها وإن فعل مباحا لما اقترن به من الاعتقاد والقصد الذين كلاهما طاعة لله ورسوله. فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.
وأيضا فالعبد هو مأمور بفعل ما يحتاج إليه من المباحات هو مأمور بالأكل عند الجوع والشرب عند العطش ولهذا يجب على المضطر إلى الميتة أن يأكل منها ولو لم يأكل حتى مات كان مستوجبا للوعيد كما هو قول جماهير العلماء من الأئمة الأربعة وغيرهم وكذلك هو مأمور بالوطء عند حاجته إليه بل وهو مأمور بنفس عقد النكاح إذا احتاج إليه وقدر عليه.
فقول النبي ﷺ { في بضع أحدكم صدقة } فإن المباضعة مأمور بها لحاجته ولحاجة المرأة إلى ذلك فإن قضاء حاجتها التي لا تنقضي إلا به بالوجه المباح صدقة.
سلوك الأبرار وسلوك المقربين
و السلوك سلوكان: سلوك الأبرار أهل اليمين وهو أداء الواجبات، وترك المحرمات باطنا وظاهرا. و( الثاني ): سلوك المقربين السابقين وهو فعل الواجب والمستحب بحسب الإمكان وترك المكروه والمحرم كما قال النبي ﷺ { إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه. وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم }.
وكلام الشيوخ الكبار كالشيخ عبد القادر وغيره يشير إلى هذا السلوك؛ ولهذا يأمرون بما هو مستحب غير واجب وينهون عما هو مكروه غير محرم فإنهم يسلكون بالخاصة مسلك الخاصة وبالعامة مسلك العامة.
وطريق الخاصة طريق المقربين ألا يفعل العبد إلا ما أمر به ولا يريد إلا ما أمر الله ورسوله بإرادته وهو ما يحبه الله ويرضاه ويريده إرادة دينية شرعية وإلا فالحوادث كلها مرادة له خلقا وتكوينا. والوقوف مع الإرادة الخلقية القدرية مطلقا غير مقدور عقلا ولا مأمور شرعا.
وذلك لأن من الحوادث ما يجب دفعه ولا تجوز إرادته كمن أراد تكفير الرجل أو تكفير أهله أو الفجور به أو بأهله أو أراد قتل النبي وهو قادر على دفعه أو أراد إضلال الخلق، وإفساد دينهم ودنياهم فهذه الأمور يجب دفعها وكراهتها؛ لا تجوز إرادتها.
وأما الامتناع عقلا؛ فلأن الإنسان مجبول على حب ما يلائمه وبغض ما ينافره فهو عند الجوع يحب ما يقيته كالطعام ولا يحب ما لا يقيته كالتراب فلا يمكن أن تكون إرادته لهذين سواء. وكذلك يحب الإيمان والعمل الصالح الذي ينفعه ويبغض الكفر والفسوق الذي يضره بل ويحب الله وعبادته وحده ويبغض عبادة ما دونه.
كما قال الخليل: { أفرأيتم ما كنتم تعبدون } { أنتم وآباؤكم الأقدمون } { فإنهم عدو لي إلا رب العالمين }.
وقال تعالى: { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده }.
فقد أمرنا الله أن نتأسى بإبراهيم والذين معه إذ تبرءوا من المشركين ومما يعبدونه من دون الله.
وقال الخليل: { إنني براء مما تعبدون } { إلا الذي فطرني فإنه سيهدين } والبراءة ضد الولاية وأصل البراءة البغض وأصل الولاية الحب.
وهذا لأن حقيقة التوحيد ألا تحب إلا الله وتحب ما يحبه الله لله فلا تحب إلا لله ولا تبغض إلا لله. قال تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله }.
والفرق ثابت بين الحب لله والحب مع الله فأهل التوحيد والإخلاص يحبون غير الله لله والمشركون يحبون غير الله مع الله كحب المشركين لآلهتهم وحب النصارى للمسيح وحب أهل الأهواء رءوسهم.
فإذا عرف أن العبد مفطور على حب ما ينفعه وبغض ما يضره. لم يمكن أن تستوي إرادته لجميع الحوادث فطرة وخلقا ولا هو مأمور من جهة الشرع أن يكون مريدا لجميع الحوادث بل قد أمره الله بإرادة أمور وكراهة أخرى.
والرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها لا بتحويل الفطرة وتغييرها. وقد قال النبي ﷺ " { كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه } " قال تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون }.
وفي الحديث الصحيح عن النبي - ﷺ - { يقول الله تعالى: خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا }. والحنيفية هي الاستقامة بإخلاص الدين لله وذلك يتضمن حبه تعالى والذل له لا يشرك به شيئا لا في الحب ولا في الذل فإن العبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل وذلك لا يستحقه إلا الله وحده وكذلك الخشية والتقوى لله وحده والتوكل على الله وحده.
والرسول يطاع ويحب فالحلال ما حلله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه. قال الله تعالى: { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون } وقال تعالى: { ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون }.
وهذا حقيقة دين الإسلام. والرسل بعثوا بذلك كما قال تعالى: { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } وقال تعالى: { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم } { وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون }.
فهذا هو الأصل الذي يجب على كل أحد أن يعتصم به فلا بد أن يكون مريدا محبا لما أمره الله بإرادته ومحبته كارها مبغضا لما أمره الله بكراهته وبغضه.
والناس في هذا الباب أربعة أنواع: أكملهم الذين يحبون ما أحبه الله ورسوله، ويبغضون ما أبغضه الله ورسوله فيريدون ما أمرهم الله ورسوله بإرادته ويكرهون ما أمرهم الله ورسوله بكراهته وليس عندهم حب ولا بغض لغير ذلك. فيأمرون بما أمر الله ورسوله به ولا يأمرون بغير ذلك، وينهون عما نهى الله عنه ورسوله ولا ينهون عن غير ذلك.
وهذه حال الخليلين أفضل البرية: محمد وإبراهيم صلى الله عليهما وسلم وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: { إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا }.
وقال في الحديث الصحيح: { إني والله لا أعطي أحدا ولا أمنع أحدا وإنما أنا قاسم أضع حيث أمرت }.
وذكر: أن ربه خيره بين أن يكون نبيا ملكا؛ وبين أن يكون عبدا رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا. فإن النبي الملك مثل داود وسليمان.
قال تعالى: { هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب } قالوا: معناه أعط من شئت وامنع من شئت لا نحاسبك.
فالنبي الملك يعطي بإرادته لا يعاقب على ذلك كالذي يفعل المباحات بإرادته. وأما العبد الرسول فلا يعطي ولا يمنع إلا بأمر ربه وهو محبته ورضاه وإرادته الدينية والسابقون المقربون أتباع العبد الرسول والمقتصدون أهل اليمين أتباع النبي الملك.
وقد تكون للإنسان حال هو فيها خال عن الإرادتين: وهو ألا تكون له إرادة في عطاء ولا منع، لا إرادة دينية هو مأمور بها ولا إرادة نفسانية سواء كان منهيا عنها أو غير منهي عنها بل ما وقع كان مرادا له ومهما فعل به كان مرادا له من غير أن يعرف المأمور به شرعا في ذلك.
فهذا بمنزلة من له أموال يعطيها وليس له إرادة في إعطاء معين لا إرادة شرعية ولا إرادة مذمومة؛ بل يعطي كل أحد. فهذا إذا قدر أنه قام بما يجب عليه بحسب إمكانه ولكنه خفي عليه الإرادة الشرعية في تفصيل أفعاله. فإنه لا يذم على ما فعل ولا يمدح مطلقا. بل يمدح لعدم هواه ولو علم تفصيل المأمور به وأراده إرادة شرعية لكان أكمل. بل هذا مع القدرة إما واجب وإما مستحب. وحال هذا خير من حال من يريد بحكم هواه ونفسه؛ وإن كان ذلك مباحا له وهو دون من يريد بأمر ربه لا بهواه ولا بالقدر المحض.
الناس في المباحات على ثلاثة أقسام
فمضمون هذا المقام أن الناس في المباحات من الملك والمال وغير ذلك على ثلاثة أقسام:
قوم لا يتصرفون فيها إلا بحكم الأمر الشرعي. وهو حال نبينا ﷺ. وهو حال العبد الرسول ومن اتبعه في ذلك.
وقوم يتصرفون فيها بحكم إرادتهم والشهوة التي ليست محرمة. وهذا حال النبي الملك. وهو حال الأبرار أهل اليمين. و( قوم لا يتصرفون بهذا ولا بهذا ). أما الأول فلعدم علمهم به. وأما الثاني فلزهدهم فيه؛ بل يتصرفون فيها بحكم القدر المحض اتباعا لإرادة الله الخلقية القدرية حين تعذر معرفة الإرادة الشرعية الأمرية وهذا كالترجيح بالقرعة إذا تعذر الترجيح بسبب شرعي معلوم وقد يتصرف هؤلاء في هذا المقام بإلهام يقع في قلوبهم وخطاب.
وكلام الشيخ عبد القادر كثيرا ما يقع في هذا المقام؛ فإنه يأمر بالزهد في إرادة النفس وهواها حتى لا يتصرف بحكم الإرادة والنفس وهذا رفع له عن حال الأبرار أهل اليمين وعن طريق الملوك مطلقا ومن حصل هذا وتصرف بالأمر الشرعي المحمدي القرآني فهو أكمل الخلق لكن هذا قد يخفى عليه؛ فإن معرفة هذا على التفصيل قد يتعذر أو يتعسر في كثير من المواضع.
ألا ترى أن النبي ﷺ لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم بقتل مقاتلتهم، وبسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم. قال: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة }. وذلك أن تخيير ولي الأمر بين القتل والاسترقاق، والمن والفداء ليس تخيير شهوة بل تخيير رأي ومصلحة فعليه أن يختار الأصلح، فإن اختار ذلك فقد وافق حكم الله وإلا فلا.
ولما كان هذا يخفى كثيرا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح لبريدة: { إذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم ولكن أنزلهم على حكمك، وحكم أصحابك }.
والحاكم الذي ينزل أهل الحصن على حكمه عليه أن يحكم باجتهاده فلما أمر سعدا بما هو الأرضى لله والأحب إليه حكم بحكمه ولو حكم بغير ذلك لنفذ حكمه فإنه حكم باجتهاده وإن لم يكن ذلك هو حكم الله في الباطن.
حكم الإلهام في الشريعة
ففي مثل هذه الحال التي لا يتبين الأمر الشرعي في الواقعة المعينة يأمر الشيخ عبد القادر وأمثاله من الشيوخ: تارة بالرجوع إلى الأمر الباطن والإلهام إن أمكن ذلك وتارة بالرجوع إلى القدر المحض لتعذر الأسباب المرجحة من جهة الشرع كما يرجح الشارع بالقرعة. فهم يأمرون ألا يرجح بمجرد إرادته وهواه فإن هذا إما محرم وإما مكروه وإما منقص، فهم في هذا النهي كنهيهم عن فضول المباحات.
ثم إن تبين لهم الأمر الشرعي وجب الترجيح به وإلا رجحوا: إما بسبب باطن من الإلهام والذوق وإما بالقضاء والقدر الذي لا يضاف إليهم.
ومن يرجح في مثل هذه الحال باستخارة الله كما كان النبي ﷺ يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمهم السورة من القرآن فقد أصاب.
وهذا كما أنه إذا تعارضت أدلة المسألة الشرعية عند الناظر المجتهد وعند المقلد المستفتي فإنه لا يرجح شيئا. بل ما جرى به القدر أقروه ولم ينكروه. وتارة يرجح أحدهم: إما بمنام وإما برأي مشير ناصح وإما برؤية المصلحة في أحد الفعلين.
وأما الترجيح بمجرد الاختيار بحيث إذا تكافأت عنده الأدلة يرجح بمجرد إرادته واختياره. فهذا ليس قول أحد من أئمة الإسلام وإنما هو قول طائفة من أهل الكلام ولكن قاله طائفة من الفقهاء في العامي المستفتي: إنه يخير بين المفتين المختلفين.
وهذا كما أن طائفة من السالكين إذا استوى عنده الأمران في الشريعة رجح بمجرد ذوقه وإرادته فالترجيح بمجرد الإرادة التي لا تستند إلى أمر علمي باطن ولا ظاهر لا يقول به أحد من أئمة العلم والزهد. فأئمة الفقهاء والصوفية لا يقولون هذا. لكن من جوز لمجتهد أو مقلد الترجيح بمجرد اختياره وإرادته فهو نظير من شرع للسالك الترجيح بمجرد إرادته وذوقه.
لكن قد يقال: القلب المعمور بالتقوى إذا رجح بإرادته فهو ترجيح شرعي. وعلى هذا التقدير ليس من هذا فمن غلب على قلبه إرادة ما يحبه الله وبغض ما يكرهه إذا لم يدر في الأمر المعين هل هو محبوب لله أو مكروه ورأى قلبه يحبه أو يكرهه كان هذا ترجيحا عنده. كما لو أخبره من صدقه أغلب من كذبه فإن الترجيح بخبر هذا عند انسداد وجوه الترجيح ترجيح بدليل شرعي.
ففي الجملة متى حصل ما يظن معه أن أحد الأمرين أحب إلى الله ورسوله كان هذا ترجيحا بدليل شرعي والذين أنكروا كون الإلهام طريقا شرعيا على الإطلاق أخطئوا كما أخطأ الذين جعلوه طريقا شرعيا على الإطلاق.
ولكن إذا اجتهد السالك في الأدلة الشرعية الظاهرة فلم ير فيها ترجيحا وألهم حينئذ رجحان أحد الفعلين مع حسن قصده وعمارته بالتقوى فإلهام مثل هذا دليل في حقه؛ قد يكون أقوى من كثير من الأقيسة الضعيفة؛ والأحاديث الضعيفة والظواهر الضعيفة والاستصحابات الضعيفة التي يحتج بها كثير من الخائضين في المذهب والخلاف وأصول الفقه.
وفي الترمذي عن أبي سعيد عن النبي ﷺ أنه قال: { اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ قوله تعالى { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } }.
وقال عمر بن الخطاب: اقتربوا من أفواه المطيعين؛ واسمعوا منهم ما يقولون فإنه تتجلى لهم أمور صادقة.
وقد ثبت في الصحيح قول الله تعالى: { ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي }.
وفي مثل هذا يقال حديث وابصة عن النبي ﷺ أنه قال: "البر ما اطمأنت إليه النفس وسكن إليه القلب، والإثم ما حاك في نفسك، وإن أفتوك وأفتوك". وفي صحيح مسلم حديث النواس بن سمعان عن النبي ﷺ أنه قال: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس". وقال ابن مسعود: الإثم حواز القلوب.
وأيضا فالله - تعالى - فطر عباده على الحنيفية: وهي حب المعروف وبغض المنكر فإذا لم تستحل الفطرة فالقلوب مفطورة على الحق فإذا كانت الفطرة مقومة بحقيقة الإيمان منورة بنور القرآن وخفي عليها دلالة الأدلة السمعية الظاهرة ورأى قلبه يرجح أحد الأمرين كان هذا من أقوى الأمارات عند مثله.
وذلك أن الله علم القرآن والإيمان. قال تعالى: { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب } ثم قال: { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا }.
وقال جندب بن عبد الله، وعبد الله بن عمر: تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا.
وفي الصحيحين عن حذيفة عن النبي ﷺ قال: { إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة }.
وفي الترمذي - بإسناد جيد - وغيره حديث النواس بن سمعان عن النبي ﷺ أنه قال: { ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتي الصراط سوران، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وداع يدعو على رأس الصراط، وداع يدعو من فوق الصراط. فالصراط المستقيم هو الإسلام، والستور حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، فإذا أراد العبد أن يفتح بابا من تلك الأبواب ناداه المنادي - أو كما قال -: يا عبد الله لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، والداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن }.
فقد بين أن في قلب كل مؤمن واعظا، والواعظ الأمر والنهي بترغيب وترهيب؛ فهذا الأمر والنهي الذي يقع في قلب المؤمن مطابق لأمر القرآن ونهيه ولهذا يقوى أحدهما بالآخر.
كما في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري عن النبي ﷺ أنه قال: { مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها طيب، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر }.
وقد قال بعض السلف في قوله: { نور على نور } قال: هو المؤمن ينطق بالحكمة وإن لم يسمع فيها بأثر، فإذا سمع بالأثر كان نورا على نور. نور الإيمان الذي في قلبه يطابق نور القرآن، كما أن الميزان العقلي يطابق الكتاب المنزل؛ فإن الله أنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.
والإلهام في القلب تارة يكون من جنس القول والعلم والظن والاعتقاد، وتارة يكون من جنس العمل والحب والإرادة والطلب، فقد يقع في قلبه أن هذا القول أرجح وأظهر وأصوب، وقد يميل قلبه إلى أحد الأمرين دون الآخر.
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: { قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر منهم }. والمحدث هو الملهم المخاطب.
وأيضا فإذا كانت الأمور الكونية قد تنكشف للعبد المؤمن يقينا أو ظنا فالأمور الدينية كذلك بطريق الأولى فإنه إلى كشفها أحوج لكن هذا في الغالب لا بد أن يكون كشفا بدليل وقد يكون بدليل ينقدح في قلب المؤمن ولا يمكنه التعبير عنه وهذا أحد ما فسر به معنى الاستحسان.
وقد قال من طعن في ذلك - كأبي حامد وأبي محمد -: ما لا يعبر عنه فهو هوس وليس كذلك؛ فإنه ليس كل أحد يمكنه إبانة المعاني القائمة بقلبه، وكثير من الناس يبينها بيانا ناقصا وكثير من أهل الكشف يلقى في قلبه أن هذا الطعام حرام أو أن هذا الرجل كافر أو فاسق من غير دليل ظاهر وبالعكس قد يلقى في قلبه محبة شخص وأنه ولي لله أو أن هذا المال حلال.
وليس المقصود هنا بيان أن هذا وحده دليل على الأحكام الشرعية؛ لكن إن مثل هذا يكون ترجيحا لطالب الحق إذا تكافأت عنده الأدلة السمعية الظاهرة. فالترجيح بها خير من التسوية بين الأمرين المتناقضين قطعا فإن التسوية بينهما باطلة قطعا. كما قلنا: إن العمل بالظن الناشئ عن ظاهر أو قياس خير من العمل بنقيضه إذا احتيج إلى العمل بأحدهما.
والصواب الذي عليه السلف والجمهور أنه لا بد في كل حادثة من دليل شرعي فلا يجوز تكافؤ الأدلة في نفس الأمر لكن قد تتكافأ عند الناظر لعدم ظهور الترجيح له وأما من قال: أنه ليس في نفس الأمر حق معين بل كل مجتهد عالم بالحق الباطن في المسألة وليس لأحدهما على الآخر مزية في علم ولا عمل فهؤلاء قد يجوزون أو بعضهم تكافؤ الأدلة ويجعلون الواجب التخيير بين القولين.
وهؤلاء يقولون ليس على الظن دليل في نفس الأمر؛ وإنما رجحان أحد القولين هو من باب الرجحان بالميل والإرادة كترجيح النفس الغضبية للانتقام والنفس الحليمة للعفو.
وهذا القول خطأ؛ فإنه لا بد في نفس الأمر من حق معين يصيبه المستدل تارة ويخطئه أخرى. كالكعبة في حق من اشتبهت عليه القبلة والمجتهد إذا أداه اجتهاده إلى جهة وسقط عنه الفرض بالصلاة إليها كالمجتهد إذا أداه اجتهاده إلى قول فعمل بموجبه كلاهما مطيع لله وهو مصيب بمعنى أنه مطيع لله وله أجر على ذلك؛ وليس مصيبا بمعنى أنه علم الحق المعين؛ فإن ذلك لا يكون إلا واحدا ومصيبه له أجران.
وهذا في كشف الأنواع التي يكون عليها دليل شرعي لكن قد يخفى على العبد. فإن الشارع بين الأحكام الكلية. وأما أحكام المعينات التي تسمى تنقيح المناط مثل كون الشخص المعين عدلا أو فاسقا ومؤمنا أو منافقا أو وليا لله أو عدوا له وكون هذا المعين عدوا للمسلمين يستحق القتل، وكون هذا المال يخاف عليه من ظلم ظالم، فإذا زهد فيه الظالم انتفع به أهله.
فهذه الأمور لا يجب أن تعلم بالأدلة الشرعية العامة الكلية بل تعلم بأدلة خاصة تدل عليها. ومن طرق ذلك " الإلهام " فقد يلهم الله بعض عباده حال هذا المال المعين وحال هذا الشخص المعين وإن لم يكن هناك دليل ظاهر يشركه فيه غيره.
وقصة الخضر مع موسى هي من هذا الباب ليس فيها مخالفة لشرع الله؛ فإنه لا يجوز قط لأحد لا نبي ولا ولي أن يخالف شرع الله لكن فيها علم حال ذاك المعين بسبب باطن يوجب فيه الشرع ما فعله الخضر، كمن دخل إلى دار وأخذ ما فيها من المال لعلمه بأن صاحبها أذن له وغيره لم يعلم، ومثل من رأى ضالة أخذها ولم يعرفها لعلمه بأنه أتى بها هدية له ونحو ذلك. ومثل هذا كثير عند أهل الإلهام الصحيح.
والنوع الثاني عكس هذا. وهو أنهم يتبعون هواهم لا أمر الله؛ فهؤلاء لا يفعلون ولا يأمرون إلا بما يحبونه بهواهم ولا يتركون وينهون إلا عن ما يكرهونه بهواهم وهؤلاء شر الخلق. قال تعالى: { أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا } قال الحسن: هو المنافق لا يهوى شيئا إلا ركبه.
وقال تعالى: { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } وقال عمر بن عبد العزيز: لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه ويخالفه إذا خالف هواه فإذا أنت لا تثاب على ما اتبعته من الحق وتعاقب على ما خالفته. وهو كما قال - رضي الله عنه - لأنه في الموضعين إنما قصد اتباع هواه لم يعمل لله.
ألا ترى أن أبا طالب نصر النبي ﷺ وذب عنه أكثر من غيره؛ لكن فعل ذلك لأجل القرابة لا لأجل الله تعالى فلم يتقبل الله ذلك منه ولم يثبه على ذلك وأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - أعانه بنفسه وماله لله؛ فقال الله فيه: { وسيجنبها الأتقى } { الذي يؤتي ماله يتزكى } { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } { ولسوف يرضى }.
القسم الثالث: الذي يريد تارة إرادة يحبها الله؛ وتارة إرادة يبغضها الله. وهؤلاء أكثر المسلمين فإنهم يطيعون الله تارة ويريدون ما أحبه ويعصونه تارة فيريدون ما يهوونه وإن كان يكرهه.
والقسم الرابع: أن يخلو عن الإرادتين فلا يريد لله ولا لهواه وهذا يقع لكثير من الناس في بعض الأشياء ويقع لكثير من الزهاد والنساك في كثير من الأمور.
وأما خلو الإنسان من الإرادة مطلقا فممتنع فإنه مفطور على إرادة ما لا بد له منه وعلى كراهة ما يضره ويؤذيه والزاهد الناسك إذا كان مسلما
فلا بد أن يريد أشياء يحبها الله: مثل أداء الفرائض، وترك المحارم؛ بل وكذلك عموم المؤمنين لا بد أن يريد أحدهم أشياء يحبها الله وإلا فمن لم يحب الله ولا أحب شيئا لله فلم يحب شيئا من الطاعات لا الشهادتين ولا غيرهما، ولا يريد ذلك فإنه لا يكون مؤمنا.
فلا بد لكل مؤمن من أن تكون له إرادة لبعض ما يحبه الله؛ وأما إرادة العبد لما يهواه ولا يحبه الله فهذا لازم لكل من عصى الله فإنه أراد المعصية والله لا يحبها ولا يرضاها.
وأما الخلو عن الإرادتين المحمودة والمذمومة فيقع على وجهين: ( أحدهما ): مع إعراض العبد عن عبادة الله تعالى وطاعته وإن علم بها فإنه قد يعلم كثيرا من الأمور أنه مأمور بها وهو لا يريدها ولا يكره من غيره فعلها وإذا اقتتل المسلمون والكفار لم يكن مريدا لانتصار هؤلاء الذي يحبه الله ولا لانتصار هؤلاء الذي يبغضه الله.
والوجه الثاني: يقع من كثير من الزهاد العباد الممتثلين لما يعلمون أن الله أمر به المجتنبين لما يعلمون أن الله نهى عنه وأمور أخرى لا يعلمون أنها مأمور بها ولا منهي عنها فلا يريدونها ولا يكرهونها لعدم العلم وقد يرضونها من جهة كونها مخلوقة مقدرة وقد يعاونون عليها ويرون هذا موافقة لله وأنهم لما خلوا عن هوى النفس كانوا مأمورين بالرضا بكل حادث؛ بل والمعاونة عليه.
وهذا موضع يقع فيه الغلط فإن ما أحبه الله ورسوله علينا أن نحب ما أحبه الله ورسوله وما أبغضه الله ورسوله فعلينا أن نبغض ما أبغضه الله ورسوله وأما ما لا يحبه الله ورسوله ولا يبغضه الله ورسوله كالأفعال التي لا تكليف فيها مثل أفعال النائم والمجنون فهذا إذا كان الله لا يحبها ويرضاها ولا يكرهها ويذمها فالمؤمن أيضا لا ينبغي أن يحبها ويرضاها ولا يكرهها.
المؤمن والقدر
وأما كونها مقدورة ومخلوقة لله فذاك لا يختص بها بل هو شامل لجميع المخلوقات والله تعالى خلق ما خلقه لما شاء من حكمته وقد أحسن كل شيء خلقه.
والرضا بالقضاء ثلاثة أقسام:
أحدها: الرضا بالطاعات؛ فهذا طاعة مأمور بها.
والثاني: الرضا بالمصائب فهذا مأمور بها: إما مستحب وإما واجب.
و الثالث: الكفر والفسوق والعصيان، فهذا لا يؤمر بالرضا به، بل يؤمر ببغضه وسخطه، فإن الله لا يحبه ولا يرضاه. كما قال تعالى: { إذ يبيتون ما لا يرضى من القول }، وقال: { والله لا يحب الفساد }، وقال: { ولا يرضى لعباده الكفر }، وقال: { فإن الله لا يحب الكافرين }، وقال: { إن الله لا يحب المعتدين }، وقال: { والله لا يحب المفسدين }.
وهو وإن خلقه لما له في ذلك من الحكمة فلا يمتنع أن يخلق ما لا يحبه لإفضائه إلى الحكمة التي يحبها كما خلق الشياطين. فنحن راضون عن الله في أن يخلق ما يشاء وهو محمود على ذلك.
وأما نفس هذا الفعل المذموم وفاعله فلا نرضى به ولا نحمده. وفرق بين ما يحب لنفسه وما يراد لإفضائه إلى المحبوب مع كونه مبغضا من جهة أخرى؛ فإن الأمر الواحد يراد من وجه ويكره من وجه آخر. كالمريض الذي يتناول الدواء الكريه؛ فإنه يبغض الدواء ويكرهه وهو مع هذا يريد استعماله لإفضائه إلى المحبوب لا لأنه في نفسه محبوب.
وفي الحديث الصحيح: "يقول الله تعالى: وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه". فهو سبحانه لما كره مساءة عبده المؤمن الذي يكره الموت كان هذا مقتضيا أن يكره إماتته مع أنه يريد إماتته؛ لما له في ذلك من الحكمة سبحانه وتعالى.
فالأمور التي يبغضها الله تعالى وينهى عنها لا تحب ولا ترضى؛ لكن نرضى بما يرضى الله به حيث خلقها لما له في ذلك من الحكمة فكذلك الأفعال التي لا يحبها ولا يبغضها لا ينبغي أن تحب ولا ترضى كما لا ينبغي أن تبغض.
والرضا الثابت بالنص هو أن يرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا. وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: { من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا كان حقا على الله أن يرضيه }.
وأما بالنسبة إلى القدر فيرضى عن الله إذ له الحمد على كل حال ويرضى بما يرضاه من الحكمة التي خلق لأجلها ما خلق وإن كنا نبغض ما يبغضه من المخلوقات فحيث انتفى الأمر الشرعي أو خفي الأمر الشرعي لا يكون الامتثال والرضا والمحبة كما يكون في الأمر الشرعي وإن كان ذلك مقدورا.
وهذا موضع يغلط فيه كثير من خاصة السالكين وشيوخهم فضلا عن عامتهم ويتفاوتون في ذلك بحسب معرفتهم بالأمر الشرعي وطاعتهم له،
فمنهم من هو أعرف من غيره بالأمر الشرعي وأطوع له فهذا تكون حاله أحسن ممن نقص عنه في المعرفة بالأمر الشرعي والطاعة له. ومنهم من يبعد عن الأمر الشرعي ويسترسل حتى ينسلخ من الإسلام بالكلية ويبقى واقفا مع هواه والقدر.
ومن هؤلاء من يموت كافرا ومنهم من يتوب الله عليه ومنهم من يموت فاسقا ومنهم من يتوب الله عليه. وهؤلاء ينظرون إلى الحقيقة القدرية معرضين عن الأمر الشرعي ولا بد مع ذلك من اتباع أمر ونهي غير الأمر الشرعي إما من أنفسهم وإما من غير الله ورسوله إذ الاسترسال مع القدر مطلقا ممتنع لذاته لما تقدم من أن العبد مفطور على محبة أشياء وبغض أشياء.
وقول من قال "إن العبد يكون مع الله كالميت مع الغاسل" لا يصح ولا يسوغ على الإطلاق عند أحد من المسلمين وإنما يقال ذلك في بعض المواضع؛ ومع هذا فإنما ذلك لخفاء أمر الله عليه وإلا فإذا علم ما أمر الله به وأحبه. فلا بد أن يحب ما أحبه الله ويبغض ما أبغضه الله.
فصل
وكما أن الطريقة العلمية بصحة النظر في الأدلة والأسباب هي الموجبة للعلم: كتدبر القرآن والحديث فالطريقة العملية بصحة الإرادة والأسباب هي الموجبة للعمل، كعمارة الباطن بالمراقبة، والخوف من الله على كل حال، ولهذا يسمون السالك في ذلك المريد كما يسميه أولئك الطالب.
والنظر جنس تحته حق وباطل ومحمود ومذموم وكذلك الإرادة فكما أن طريق العلم لا بد فيه من العلم النبوي الشرعي بحيث يكون معلومك المعلومات الدينية النبوية ويكون علمك بها مطابقا لما أخبرت به الرسل وإلا فلا ينفعك أي معلوم علمته ولا أي شيء اعتقدته فيما أخبرت به الرسل بل لا بد من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فكذلك الإرادة لا بد فيها من تعيين المراد وهو الله والطريق إليه وهو ما أمرت به الرسل. فلا بد أن تعبد الله، وتكون عبادتك إياه بما شرع على ألسنة رسله إذ لا بد من تصديق الرسول فيما أخبر علما ولا بد من طاعته فيما أمر عملا.
ولهذا كان الإيمان قولا وعملا مع موافقة السنة فعلم الحق ما وافق علم الله، والإرادة الصالحة ما وافقت محبة الله ورضاه وهو حكمه الشرعي والله عليم حكيم.
فالأمور الخبرية لا بد أن تطابق علم الله وخبره؛ والأمور العملية لا بد أن تطابق حب الله وأمره فهذا حكمه وذاك علمه.
وأما من جعل حكمه مجرد القدر كما فعل صاحب منازل السائرين وجعل مشاهدة العارف الحكم يمنعه أن يستحسن حسنة أو يستقبح سيئة فهذا فيه من الغلط العظيم ما قد نبهنا عليه في غير هذا الموضع.
فلا ينفع المريد القاصد أن يعبد أي معبود كان ولا أن يعبد الله بأي عبادة كانت بل هذه طريقة المشركين المبتدعين الذين لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله كالنصارى ومن أشبههم من أهل البدع الذين يعبدون غير الله بغير أمر الله.
وأما أهل الإسلام والسنة فهم يعبدون الله وحده ويعبدونه بما شرع. لا يعبدونه بالبدع إلا ما يقع من أحدهم خطأ. فالسالكون طريق الإرادة قد يغلطون تارة في المراد؛ وتارة في الطريق إليه وتارة يتألهون غير الله بالخوف منه والرجاء له والتعظيم والمحبة له وسؤاله والرغبة إليه فهذا حقيقة الشرك المحرم فإن حقيقة التوحيد أن لا يعبد إلا الله.
والعبادة تتضمن كمال الحب وكمال التعظيم، وكمال الرجاء والخشية والإجلال والإكرام. والفناء في هذا التوحيد هو فناء المرسلين وأتباعهم وهو أن تفنى بعبادته عن عبادة ما سواه وبطاعته عن طاعة ما سواه وبسؤاله عن سؤال ما سواه وبخوفه عن خوف ما سواه وبرجائه عن رجاء ما سواه، وبحبه والحب فيه عن محبة ما سواه والحب فيه.
وأما الغالطون في الطريق فقد يريدون الله؛ لكن لا يتبعون الأمر الشرعي في إرادته. لكن تارة يعبده أحدهم بما يظنه يرضيه ولا يكون كذلك. وتارة ينظرون إلى القدر لكونه مراده فيفنون في القدر الذي ليس لهم فيه غرض وأما الفناء المطلق فيه فممتنع. وهؤلاء يبقى أحدهم متبعا لذوقه ووجده المخالف للأمر الشرعي أو ناظرا إلى القدر. وهذا يبتلى به كثير من خواصهم.
والشيخ عبد القادر ونحوه من أعظم مشايخ زمانهم، أمر بالتزام الشرع: الأمر والنهي، وتقديمه على الذوق والقدر، ومن أعظم المشايخ أمرا بترك الهوى والإرادة النفسية. فإن الخطأ في الإرادة من حيث هي إرادة إنما تقع من هذه الجهة.
فهو يأمر السالك ألا تكون له إرادة من جهة هواه أصلا؛ بل يريد ما يريده الرب عز وجل: إما إرادة شرعية أن تبين له ذلك؛ وإلا جرى مع الإرادة القدرية فهو إما مع أمر الرب، وإما مع خلقه وهو سبحانه له الخلق والأمر.
وهذه طريقة شريفة صحيحة إنما يخاف على صاحبها من ترك إرادة شرعية لا يعلم أنها شرعية أو من تقديم إرادة قدرية على الشرعية فإنه إذا لم يعلم الشرعية فقد يتركها وقد يريد ضدها فيكون ترك مأمورا أو فعل محظورا وهو لا يعلم.
فإن طريقة الإرادة يخاف على صاحبها من ضعف العلم؛ وما يقترن بالعلم من العمل والوقوع في الضلال كما أن طريقة العلم يخاف على صاحبها من ضعف العمل وضعف العلم الذي يقترن بالعمل.
لكن لا يكلف الله نفسا إلا وسعها من هذا وهذا. قال تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم } فإذا تفقه السالك وتعلم الأمر والنهي بحسب اجتهاده وكان عمله وإرادته بحسب ذاك فهذا مستطاعه. وإذا أدى الطالب ما أمر به وترك ما نهي عنه وكان علمه مطابقا لعمله فهذا مستطاعه.
فصل: أمر الجيلاني بالفناء عن الخلق والهوى والإرادة
قال الشيخ عبد القادر: "افن عن الخلق بحكم الله، وعن هواك بأمره، وعن إرادتك بفعله، فحينئذ تصلح أن تكون وعاء لعلم الله تعالى".
تعليق ابن تيمية
قلت: فحكمه يتناول خلقه وأمره أي: افن عن عبادة الخلق والتوكل عليهم بعبادة الله والتوكل عليه فلا تطعهم في معصية الله تعالى ولا تتعلق بهم في جلب منفعة ولا دفع مضرة.
وأما الفناء عن الهوى بالأمر وعن الإرادة بالفعل بأن يكون فعله موافقا للأمر الشرعي لا لهواه وأن تكون إرادته لما يخلق تابعة لفعل الله لا لإرادة نفسه. فالإرادة تارة تتعلق بفعل نفسه وتارة بالمخلوقات.
فالأول يكون بالأمر والثاني لا تكون له إرادة. ولا بد في هذا أن يقيد بأن لا تكون له إرادة لم يؤمر بها وإلا فإذا أمر بأن يريد من المقدورات شيئا دون شيء فليرد ما أمر بإرادته سواء كان موافقا للقدر أم لا.
وهذا الموضع قد يغلط فيه طائفة من السالكين والغالب على الصادقين منهم أنهم لم يعرفوا الإرادة الشرعية في ذلك المعين وهم ليس لهم إرادة نفسانية فتركوا إرادتهم لغير المقدور.
كلام الجيلاني عن علامات الفناء
قال الشيخ: "فعلامة فنائك عن خلق الله انقطاعك عنهم، وعن التردد إليهم، واليأس مما في أيديهم".
تعليق ابن تيمية
وهو كما قال. فإذا كان القلب لا يرجوهم ولا يخافهم لم يتردد إليهم لطلب شيء منهم وهذا يشبه بما يكون مأمورا به من المشي إليهم لأمرهم بما أمر الله به ونهيهم عما نهاهم الله عنه كذهاب الرسل وأتباع الرسل إلى من يبلغون رسالات الله فإن التوكل إنما يصح مع القيام بما أمر به العبد. ليكون عابدا لله متوكلا عليه وإلا فمن توكل عليه ولم يفعل ما أمر به؛ فقد يكون ما أضاعه من الأمر أولى به مما قام به من التوكل أو مثله أو دونه كما أن من قام بأمر ولم يتوكل عليه ولم يستعن به فلم يقم بالواجب؛ بل قد يكون ما تركه من التوكل والاستعانة أولى به مما فعله من الأمر أو مثله أو دونه.
قال الشيخ: "وعلامة فنائك عنك وعن هواك: ترك التكسب، والتعلق بالسبب في جلب النفع، ودفع الضر فلا تتحرك فيك بك، ولا تعتمد عليك لك ولا تنصر نفسك ولا تذب عنك لكن تكل ذلك كله إلى من تولاه أولا فيتولاه آخرا. كما كان ذلك موكولا إليه في حال كونك مغيبا في الرحم وكونك رضيعا طفلا في مهدك".
تعليق ابن تيمية
قلت: وهذا لأن النفس تهوى وجود ما تحبه وينفعها، ودفع ما تبغضه ويضرها فإذا فني عن ذاك بالأمر فعل ما يحبه الله، وترك ما يبغضه الله فاعتاض بفعل محبوب الله عن محبوبه وبترك ما يبغضه الله عما يبغضه، وحينئذ فالنفس لا بد لها من جلب المنفعة ودفع المضرة فيكون في ذلك متوكلا على الله.
والشيخ رحمه الله ذكر هنا التوكل دون الطاعة؛ لأن النفس لا بد لها من جلب المنفعة، ودفع المضرة فإن لم تكن متوكلة على الله في ذلك واثقة به لم يمكن أن تنصرف عن ذلك فتمتثل الأمر مطلقا؛ بل لا بد أن تعصي الأمر في جلب المنفعة ودفع المضرة فلا تصح العبادة لله، وطاعة أمره بدون التوكل عليه كما أن التوكل عليه لا يصح بدون عبادته وطاعته.
قال تعالى: { فاعبده وتوكل عليه } وقال تعالى: { ومن يتق الله يجعل له مخرجا } { ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه } وقال تعالى: { واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا } { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا }.
والمقصود أن امتثال الأمر على الإطلاق لا يصح بدون التوكل والاستعانة ومن كان واثقا بالله أن يجلب له ما ينفعه ويدفع عنه ما يضره أمكن أن يدع هواه ويطيع أمر مولاه وإلا فنفسه لا تدعه يترك ما يقول إنه محتاج فيه إلى غيره.
كلام آخر للجيلاني عن علامة فناء إرادة العبد:
قال الشيخ: " وعلامة فناء إرادتك بفعل الله أنك لا تريد مرادا قط فلا يكن لك غرض ولا تقف لك حاجة ولا مرام؛ لأنك لا تريد مع إرادة الله سواها بل يجري فعله فيك فتكون أنت إرادة الله تعالى وفعله، ساكن الجوارح، مطمئن الجنان، مشروح الصدر، منور الوجه، عامر الباطن، غنيا عن الأشياء بخالقها تقلبك يد القدرة، ويدعوك لسان الأزل، ويعلمك رب الملل ويكسوك نورا منه والحلل، وينزلك منازل من سلف من أولي العلم الأول فتكون منكسرا أبدا، فلا تثبت فيك شهوة ولا إرادة، كالإناء المتثلم الذي لا يثبت فيه مائع ولا كدر، فتنبو عن أخلاق البشرية فلن يقبل باطنك شيئا غير إرادة الله تعالى، فحينئذ يضاف إليك التكوين وخرق العادات، فيرى ذلك منك في ظاهر الفعل والحكم وهو فعل الله تبارك وتعالى حقا في العلم، فتدخل حينئذ في زمرة المنكسرة قلوبهم الذين كسرت إرادتهم البشرية، وأزيلت شهواتهم الطبيعية، واستؤنفت لهم إرادات ربانية وشهوات إضافية. كما قال النبي ﷺ " حبب إلي من دنياكم ثلاث: النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة " فأضيف ذلك إليه بعد أن خرج منه وزال عنه، تحقيقا لما أشرت إليه وتقدم، قال الله تعالى: { أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي } وساق كلامه. وفيه: { ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل } " الحديث.
تعليق ابن تيمية
قلت: هذا المقام هو آخر ما يشير إليه الشيخ عبد القادر. وحقيقته أنه لا يريد كون شيء إلا أن يكون مأمورا بإرادته فقوله: علامة فناء إرادتك بفعل الله أنك لا تريد مرادا قط. أي لا تريد مرادا لم تؤمر بإرادته فأما ما أمرك الله ورسوله بإرادتك إياه فإرادته إما واجب وإما مستحب وترك إرادة هذا إما معصية وإما نقص.
وهذا الموضع يلتبس على كثير من السالكين، فيظنون أن الطريقة الكاملة ألا يكون للعبد إرادة أصلا وأن قول أبي يزيد: " أريد ألا أريد " - لما قيل له: ماذا تريد؟ - نقص وتناقض؛ لأنه قد أراد، ويحملون كلام المشايخ الذين يمدحون بترك الإرادة على ترك الإرادة مطلقا.
وهذا غلط منهم على الشيوخ المستقيمين وإن كان من الشيوخ من يأمر بترك الإرادة مطلقا فإن هذا غلط ممن قاله فإن ذلك ليس بمقدور ولا مأمور.
فإن الحي لا بد له من إرادة، فلا يكون حي من الناس إلا أن تكون له إرادة. وأما الأمر فإن الإرادة التي يحبها الله ورسوله، ويأمر بها أمر إيجاب أو أمر استحباب، لا يدعها إلا كافر أو فاسق أو عاص إن كانت واجبة، وإن كانت مستحبة كان تاركها تاركا لما هو خير له.
والله تعالى قد وصف الأنبياء والصديقين بهذه الإرادة فقال تعالى: { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } وقال تعالى: { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } وقال تعالى: { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا } وقال تعالى: { وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما } وقال تعالى: { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا } وقال تعالى: { فاعبد الله مخلصا له الدين } { ألا لله الدين الخالص } وقال تعالى: { قل الله أعبد مخلصا له ديني } وقال تعالى: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا } وقال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }.
ولا عبادة إلا بإرادة الله ولما أمر به. وقال تعالى: { بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن } أي أخلص قصده لله. وقال تعالى: { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } وإخلاص الدين له هو إرادته وحده بالعبادة.
وقال تعالى: { يحبهم ويحبونه } وقال تعالى: { والذين آمنوا أشد حبا لله } وقال تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }. وكل محب فهو مريد.
وقال الخليل عليه السلام { لا أحب الآفلين } ثم قال: { إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض }.
ومثل هذا كثير في القرآن؛ يأمر الله بإرادته وإرادة ما يأمر به وينهى عن إرادة غيره وإرادة ما نهى عنه وقد قال النبي ﷺ { إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه }.
فهما إرادتان: إرادة يحبها الله ويرضاها وإرادة لا يحبها ولا يرضاها بل إما نهى عنها وإما لم يأمر بها ولا ينهى عنها.
والناس في الإرادة ثلاثة أقسام:
قوم يريدون ما يهوونه فهؤلاء عبيد أنفسهم والشيطان.
وقوم يزعمون أنهم فرغوا من الإرادة مطلقا ولم يبق لهم مراد إلا ما يقدره الرب وأن هذا المقام هو أكمل المقامات. ويزعمون أن من قام بهذا فقد
قام بالحقيقة وهي الحقيقة القدرية الكونية؛ وأنه شهد القيومية العامة ويجعلون الفناء في شهود توحيد الربوبية هو الغاية؛ وقد يسمون هذا: الجمع والفناء والاصطلام ونحو ذلك. وكثير من الشيوخ زلقوا في هذا الموضع.
وفي هذا المقام كان النزاع بين الجنيد بن محمد وبين طائفة من أصحابه الصوفية؛ فإنهم اتفقوا على شهود توحيد الربوبية وأن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وهو شهود القدر؛ وسموا هذا مقام الجمع فإنه خرج به عن الفرق الأول وهو الفرق الطبيعي بإرادة هذا وكراهة هذا، ورؤية فعل هذا وترك هذا فإن الإنسان قبل أن يشهد هذا التوحيد يرى للخلق فعلا يتفرق به قلبه في شهود أفعال المخلوقات؛ ويكون متبعا لهواه فيما يريده فإذا أراد الحق خرج بإرادته عن إرادة الهوى والطبع ثم يشهد أنه خالق كل شيء فخرج بشهود هذا الجمع عن ذاك الفرق فلما اتفقوا على هذا ذكر لهم الجنيد بن محمد " الفرق الثاني " وهو بعد هذا الجمع وهو الفرق الشرعي. ألا ترى أنك تريد ما أمرت به ولا تريد ما نهيت عنه وتشهد أن الله هو يستحق العبادة دون ما سواه وأن عبادته هي بطاعة رسله فتفرق بين المأمور والمحظور وبين أوليائه وأعدائه، وتشهد توحيد الألوهية؟
فنازعوه في هذا الفرق منهم من أنكره. و( منهم من لم يفهمه. ومنهم من ادعى أن المتكلم فيه لم يصل إليه. ثم إنك تجد كثيرا من الشيوخ إنما ينتهي إلى ذلك الجمع وهو توحيد الربوبية والفناء فيه. كما في كلام صاحب منازل السائرين مع جلالة قدره مع أنه قطعا كان قائما بالأمر والنهي المعروفين.
لكن قد يدعون أن هذا لأجل العامة. ومنهم من يتناقض. ومنهم من يقول: الوقوف مع الأمر لأجل مصلحة العامة وقد يعبر عنهم بأهل المارستان.
ومنهم من يسمي ذلك مقام التلبيس.
ومنهم من يقول: إنما التكليف على الإنسان مادام عبدا، فإذا ترقى من منزلة العبودية [ إلى منزلة ] الحرية سقط عنه التكليف، فلا يبقى عليه تكليف، لأن الحر لا تكليف عليه لأحد.
و منهم من يقول: التحقيق أن يكون الجمع في قلبك مشهودا والفرق على لسانك موجودا، فيشهد بقلبه استواء المأمور والمحظور مع تفريقه بلسانه بينهما.
و منهم من يرى أن هذه هي الحقيقة التي هي منتهى سلوك العارفين وغاية منازل الأولياء الصديقين.
و منهم من يظن أن الوقوف مع إرادة الأمر والنهي يكون في السلوك والبداية وأما في النهاية فلا تبقى إلا إرادة القدر ) وهو في الحقيقة قول بسقوط العبادة
والطاعة؛ فإن العبادة لله والطاعة له ولرسوله إنما تكون في امتثال الأمر الشرعي لا في الجري مع المقدور وإن كان كفرا وفسوقا وعصيانا.
ومن هنا صار كثير من السالكين من أعوان الكفار والفجار وخفرائهم حيث شهدوا القدر معهم؛ ولم يشهدوا الأمر والنهي الشرعيين. ومن هؤلاء من يقول: من شهد القدر سقط عنه الملام. ويقول: إن الخضر إنما سقط عنه الملام لما شهد القدر.
وأصحاب شهود القدر قد يؤتى أحدهم ملكا من جهة خرق العادة بالكشف والتصرف فيظن ذلك كمالا في الولاية؛ وتكون تلك الخوارق إنما حصلت بأسباب شيطانية وأهواء نفسانية؛ وإنما الكمال في الولاية أن يستعمل خرق العادات في إقامة الأمر والنهي الشرعيين مع حصولهما بفعل المأمور وترك المحظور فإذا حصلت بغير الأسباب الشرعية فهي مذمومة وإن حصلت بالأسباب الشرعية لكن استعملت ليتوصل بها إلى محرم كانت مذمومة وإن توصل بها إلى مباح لا يستعان بها على طاعة كانت للأبرار دون المقربين وأما إن حصلت بالسبب الشرعي واستعين بها على فعل الأمر الشرعي: فهذه خوارق المقربين السابقين.
فلا بد أن ينظر في الخوارق في أسبابها وغاياتها: من أين حصلت وإلى ماذا أوصلت - كما ينظر في الأموال في مستخرجها ومصروفها - ومن استعملها - أعني الخوارق - في إرادته الطبيعية كان مذموما.
ومن كان خاليا عن الإرادتين الطبيعية والشرعية فهذا حسبه أن يعفى عنه لكونه لم يعرف الإرادة الشرعية. وأما إن عرفها وأعرض عنها فإنه يكون مذموما مستحقا للعقاب إن لم يعف عنه وهو يمدح بكون إرادته ليست بهواه؛ لكن يجب مع ذلك أن تكون موافقة لأمر الله ورسوله لا يكفيه أن تكون لا من هذا ولا من هذا مع أنه لا يمكن خلوه عن الإرادة مطلقا بل لا بد له من إرادة فإن لم يرد ما يحبه الله ورسوله أراد ما لا يحبه الله ورسوله؛ لكن إذا جاهد نفسه على ترك ما يهواه بقي مريدا لما يظن أنه مأمور به فيكون ضالا.
فإن هذا يشبه حال الضالين من النصارى. وقد قال تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم } { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين } وقد قال النبي ﷺ { اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون }.
فاليهود لهم إرادات فاسدة منهي عنها كما أخبر عنهم: بأنهم عصوا وكانوا يعتدون. وهم يعرفون الحق ولا يعملون به فلهم علم لكن ليس لهم عمل بالعلم وهم في الإرادة المذمومة المحرمة يتبعون أهواءهم ليسوا في الإرادة المحمودة المأمور بها وهي إرادة ما يحبه الله ورسوله.
والنصارى لهم قصد وعبادة وزهد لكنهم ضلال يعملون بغير علم فلا يعرفون الإرادة التي يحبها الله ورسوله بل غاية أحدهم تجريد نفسه عن الإرادات فلا يبقى مريدا لما أمر الله به ورسوله كما لا يريد كثيرا مما نهى الله عنه ورسوله.
وهؤلاء ضالون عن مقصودهم فإن مقصودهم إنما هو في طاعة الله ورسوله ولهذا كانوا ملعونين: أي بعيدين عن الرحمة التي تنال بطاعة الله عز وجل.
والعالم الفاجر" يشبه اليهود. والعابد الجاهل يشبه النصارى. ومن أهل العلم من فيه شيء من الأول ومن أهل العبادة من فيه شيء من الثاني. وهذا الموضع تفرق فيه بنو آدم وتباينوا تباينا عظيما لا يحيط به إلا الله. ففيهم من لم يخلق الله خلقا أكرم عليه منه وهو خير البرية. ومنهم من هو شر البرية.
وأفضل الأحوال فيه حال الخليلين: إبراهيم ومحمد - صلى الله عليهما وسلم - ومحمد سيد ولد آدم وأفضل الأولين والآخرين، وخاتم النبيين وإمامهم إذا اجتمعوا، وخطيبهم إذا وفدوا وهو المعروج به إلى ما فوق الأنبياء كلهم - إبراهيم وموسى وغيرهما.
وأفضل الأنبياء بعده إبراهيم كما ثبت في الصحيح عن أنس عن النبي ﷺ { أن إبراهيم خير البرية }.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي ﷺ أنه كان يقول في خطبة يوم الجمعة: { خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد ﷺ }. وكذلك كان عبد الله بن مسعود يخطب بذلك يوم الخميس كما رواه البخاري في صحيحه.
وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: { ما ضرب رسول الله ﷺ خادما له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله وما نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله }.
وقال أنس: خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين فما قال لي: أف قط وما قال لي لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله لم لا فعلته؟ وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء قال: دعوه فلو قضي شيء لكان }.
ورسول الله ﷺ هو أفضل الخلائق وسيد ولد آدم وله الوسيلة في المقامات كلها ولم يكن حاله أنه لا يريد شيئا ولا أنه يريد كل واقع كما أنه لم يكن حاله أنه يتبع الهوى بل هو منزه عن هذا وهذا.
قال تعالى: { وما ينطق عن الهوى } { إن هو إلا وحي يوحى }،
وقال تعالى: { وأنه لما قام عبد الله يدعوه } وقال: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } وقال: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا }. والمراد بعبده عابده المطيع لأمره؛ وإلا فجميع المخلوقين عباد بمعنى أنهم معبدون مخلوقون مدبرون.
وقد قال الله تعالى لنبيه: { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } قال الحسن البصري لم يجعل الله لعمل المؤمن أجلا دون الموت.
وقد قال الله تعالى له: { وإنك لعلى خلق عظيم } قال ابن عباس ومن وافقه كابن عيينة وأحمد بن حنبل: على دين عظيم. والدين فعل ما أمر به.
وقالت عائشة: { كان خلقه القرآن } رواه مسلم. وقد أخبرت أنه لم يكن يعاقب لنفسه ولا ينتقم لنفسه لكن يعاقب لله وينتقم لله وكذلك أخبر أنس أنه كان يعفو عن حظوظه.
وأما حدود الله فقد قال: { والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها } أخرجاه في الصحيحين.
وهذا هو كمال الإرادة؛ فإنه أراد ما يحبه الله ويرضاه من الإيمان والعمل الصالح وأمر بذلك وكره ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان ونهى عن ذلك كما وصفه الله تعالى بقوله: { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون }.
وأما لحظ نفسه فلم يكن يعاقب ولا ينتقم بل يستوفي حق ربه، ويعفو عن حظ نفسه وفي حظ نفسه ينظر إلى القدر. فيقول: { لو قضي شيء لكان } وفي حق الله يقوم بالأمر فيفعل ما أمر الله به ويجاهد في سبيل الله أكمل الجهاد الممكن فجاهدهم أولا بلسانه بالقرآن الذي أنزل عليه.
كما قال تعالى: { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا } { فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا }. ثم لما هاجر إلى المدينة وأذن له في القتال جاهدهم بيده.
وهذا مطابق لما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة وهو معروف أيضا من حديث عمر بن الخطاب عن النبي ﷺ في حديث احتجاج آدم وموسى، لما لام موسى آدم لكونه أخرج نفسه وذريته من الجنة بالذنب الذي فعله فأجابه آدم بأن هذا كان مكتوبا علي قبل أن أخلق بمدة طويلة قال النبي ﷺ " { فحج آدم موسى } ".
وذلك لأن ملام موسى لآدم لم يكن لحق الله وإنما كان لما لحقه وغيره من الآدميين من المصيبة بسبب ذلك الفعل فذكر له آدم أن هذا كان أمرا مقدرا لا بد من كونه والمصائب التي تصيب العباد يؤمرون فيها بالصبر؛ فإن هذا هو الذي ينفعهم. وأما لومهم لمن كان سببا فيها فلا فائدة لهم في ذلك وكذلك ما فاتهم من الأمور التي تنفعهم يؤمرون في ذلك بالنظر إلى القدر وأما التأسف والحزن فلا فائدة فيه فما جرى به القدر من فوت منفعة لهم أو حصول مضرة لهم فلينظروا في ذلك إلى القدر وأما ما كان بسبب أعمالهم فليجتهدوا في التوبة من الماضي والإصلاح في المستقبل. فإن هذا الأمر ينفعهم وهو مقدور لهم بمعونة الله لهم.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: { المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا؛ ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان }.
أمر النبي ﷺ بحرص العبد على ما ينفعه والاستعانة بالله ونهاه عن العجز وأنفع ما للعبد طاعة الله ورسوله وهي عبادة الله تعالى. وهذان الأصلان هما حقيقة قوله تعالى { إياك نعبد وإياك نستعين } ونهاه عن العجز وهو الإضاعة والتفريط والتواني. كما قال في الحديث الآخر: " { الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني } " رواه الترمذي.
وفي سنن أبي داود: { أن رجلين تحاكما إلى النبي ﷺ فقضى على أحدهما. فقال المقضي عليه: حسبي الله ونعم الوكيل فقال النبي ﷺ إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل } فالكيس ضد العجز. وفي الحديث: { كل شيء بقدر حتى العجز والكيس } رواه مسلم.
وليس المراد بالعجز في كلام النبي ﷺ ما يضاد القدرة؛ فإن من لا قدرة له بحال لا يلام ولا يؤمر بما لا يقدر عليه بحال. ثم لما أمره بالاجتهاد والاستعانة بالله ونهاه عن العجز أمره إذا غلبه أمر أن ينظر إلى القدر، ويقول: قدر الله وما شاء فعل ولا يتحسر ويتلهف ويحزن. ويقول: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا فإن لو تفتح عمل الشيطان.
وقد قال بعض الناس في هذا المعنى: الأمر أمران: أمر فيه حيلة وأمر لا حيلة فيه. فما فيه حيلة لا تعجز عنه وما لا حيلة فيه لا تجزع منه. وهذا هو الذي يذكره أئمة الدين. كما ذكر ( الشيخ عبد القادر وغيره. فإنه لا بد من فعل المأمور وترك المحظور والرضا أو الصبر على المقدور.
وقد قال تعالى حكاية عن يوسف: { أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين } فالتقوى تتضمن فعل المأمور وترك المحظور. والصبر يتضمن الصبر على المقدور.
وقد قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا } - إلى قوله - { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا }
فبين سبحانه أنه مع التقوى والصبر لا يضر المؤمنين كيد أعدائهم المنافقين.
وقال تعالى: { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } فبين أنه مع الصبر والتقوى يمدهم بالملائكة. وينصرهم على أعدائهم الذين يقاتلونهم.
وقال تعالى: { لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور } فأخبرهم أن أعداءهم من المشركين، وأهل الكتاب لا بد أن يؤذوهم بألسنتهم وأخبر أنهم إن يصبروا ويتقوا فإن ذلك من عزم الأمور. فالصبر والتقوى يدفع شر العدو المظهر للعداوة المؤذين بألسنتهم والمؤذين بأيديهم وشر العدو المبطن للعداوة. وهم المنافقون.
وهذا الذي كان خلق النبي ﷺ وهديه هو أكمل الأمور. فأما من أراد ما يحبه الله تارة وما لا يحبه تارة أو لم يرد لا هذا ولا هذا فكلاهما دون خلق رسول الله ﷺ وإن لم يكن على واحد منهما إثم كالذي يريد ما أبيح له من نيل الشهوة المباحة والغضب والانتقام المباح كما هو خلق بعض الأنبياء والصالحين فهو وإن كان جائزا لا إثم فيه فخلق رسول الله ﷺ أكمل منه.
وكذلك من لم يرد الشهوات المباحة وإن كان يستعان بها على أمر مستحب ولم يرد أن يغضب وينتقم ويجاهد إذا جاز العفو وإن كان الانتقام لله أرضى لله. كما هو أيضا خلق بعض الأنبياء والصالحين فهذا وإن كان جائزا لا إثم فيه فخلق رسول الله ﷺ أكمل منه.
وهذا والذي قبله إذا كان شريعة لنبي فلا عيب على نبي فيما شرع الله له. لكن قد فضل الله بعض النبيين على بعض، وفضل بعض الرسل على بعض.
والشريعة التي بعث بها محمد ﷺ أفضل الشرائع؛ إذ كان محمد ﷺ أفضل الأنبياء والمرسلين وأمته خير أمة أخرجت للناس.
قال أبو هريرة في قوله تعالى { كنتم خير أمة أخرجت للناس } كنتم خير الناس للناس تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة. يبذلون أموالهم وأنفسهم في الجهاد لنفع الناس فهم خير الأمم للخلق.
والخلق عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، وأما غير الأنبياء فمنهم من يكون ذلك شرعة لاتباعه لذلك النبي وأما من كان من أهل شريعة محمد ﷺ ومنهاجه فإن كان ما تركه واجبا عليه وما فعله محرما عليه كان مستحقا للذم والعقاب إلا أن يكون متأولا مخطئا فالله قد وضع عن هذه الأمة الخطأ والنسيان، وذنب أحدهم قد يعفو الله عنه بأسباب متعددة.
ومن أسباب هذا الانحراف أن من الناس من تغلب عليه طريقة الزهد في إرادة نفسه فيزهد في موجب الشهوة والغضب كما يفعل ذلك من يفعله من عباد المشركين وأهل الكتاب كالرهبان وأشباههم وهؤلاء يرون الجهاد نقصا لما فيه من قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال ويرون أن الله لم يجعل عمارة بيت المقدس على يد داود لأنه جرى على يديه سفك الدماء. ومنهم من لا يرى ذبح شيء من الحيوان كما عليه البراهمة ومنهم من لا يحرم ذلك لكنه هو يتقرب إلى الله بأنه لا يذبح حيوانا ولا يأكل لحمه بل ولا ينكح النساء ويقول في ممادحه: فلان ما نكح ولا ذبح.
وقد أنكر النبي ﷺ على هؤلاء كما في الصحيحين عن أنس: { أن نفرا من أصحاب النبي ﷺ سألوا أزواج النبي ﷺ عن عمله في السر فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فبلغ ذلك النبي ﷺ فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال أقوام قالوا: كذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني }.
وقد قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } نزلت في عثمان بن مظعون وطائفة معه كانوا قد عزموا على التبتل ونوع من الترهب.
وفي الصحيحين { عن سعد قال رد رسول الله ﷺ على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا }.
و الزهد النافع المشروع الذي يحبه الله ورسوله هو الزهد فيما لا ينفع في الآخرة فأما ما ينفع في الآخرة وما يستعان به على ذلك فالزهد فيه زهد في نوع من عبادة الله وطاعته والزهد إنما يراد لأنه زهد فيما يضر أو زهد فيما لا ينفع فأما الزهد في النافع فجهل وضلال كما قال النبي ﷺ " { احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز } ".
والنافع للعبد هو عبادة الله وطاعته وطاعة رسوله وكلما صده عن ذلك فإنه ضار لا نافع ثم الأنفع له أن تكون كل أعماله عبادة لله وطاعة له وإن أدى الفرائض وفعل مباحا لا يعينه على الطاعة فقد فعل ما ينفعه وما لا ينفعه ولا يضره.
وكذلك الورع المشروع هو الورع عما قد تخاف عاقبته وهو ما يعلم تحريمه وما يشك في تحريمه وليس في تركه مفسدة أعظم من فعله - مثل فعل محرم يتعين - مثل من يترك أخذ الشبهة ورعا مع حاجته إليها ويأخذ بدل ذلك محرما بينا تحريمه أو يترك واجبا تركه أعظم فسادا من فعله مع الشبهة كمن يكون على أبيه أو عليه ديون هو مطالب بها وليس له وفاء إلا من مال فيه شبهة فيتورع عنها ويدع ذمته أو ذمة أبيه مرتهنة.
وكذلك من الورع الاحتياط بفعل ما يشك في وجوبه لكن على هذا الوجه. وتمام الورع أن يعم الإنسان خير الخيرين وشر الشرين، ويعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة الشرعية والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات. ويرى ذلك من الورع كمن يدع الجهاد مع الأمراء الظلمة ويرى ذلك ورعا ويدع الجمعة والجماعة خلف الأئمة الذين فيهم بدعة أو فجور ويرى ذلك من الورع ويمتنع عن قبول شهادة الصادق وأخذ علم العالم لما في صاحبه من بدعة خفية ويرى ترك قبول سماع هذا الحق الذي يجب سماعه من الورع.
وكذلك الزهد والرغبة من لم يراع ما يحبه الله ورسوله من الرغبة والزهد وما يكرهه من ذلك؛ وإلا فقد يدع واجبات ويفعل محرمات مثل من يدع ما يحتاج إليه من الأكل أو أكل الدسم حتى يفسد عقله أو تضعف قوته عما يجب عليه من حقوق الله تعالى وحقوق عباده أو يدع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله لما في فعل ذلك من أذى بعض الناس والانتقام منهم حتى يستولي الكفار والفجار على الصالحين الأبرار فلا ينظر المصلحة الراجحة في ذلك.
وقد قال تعالى: { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل }. يقول سبحانه وتعالى: وإن كان قتل النفوس فيه شر فالفتنة الحاصلة بالكفر، وظهور أهله أعظم من ذلك فيدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما.
وكذلك الذي يدع ذبح الحيوان أو يرى أن في ذبحه ظلما له هو جاهل فإن هذا الحيوان لا بد أن يموت فإذا قتل لمنفعة الآدميين وحاجتهم كان خيرا من أن يموت موتا لا ينتفع به أحد والآدمي أكمل منه ولا تتم مصلحته إلا باستعمال الحيوان في الأكل والركوب ونحو ذلك؛ لكن ما لا يحتاج إليه من تعذيبه نهى الله عنه كصبر البهائم وذبحها في غير الحلق واللبة مع القدرة على ذلك وأوجب الله الإحسان بحسب الإمكان فيما أباحه من القتل والذبح. كما في صحيح مسلم عن شداد بن أوس عن النبي ﷺ أنه قال: { إن الله كتب الإحسان على كل شيء: فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته }.
وهؤلاء الذين زهدوا في الإرادات حتى فيما يحبه الله ورسوله من الإرادات بإزائهم طائفتان: ( طائفة رغبت فيما كره الله ورسوله والرغبة فيه من الكفر والفسوق والعصيان ). و( طائفة رغبت فيما أمر الله ورسوله لكن لهوى أنفسهم لا لعبادة الله تعالى ) وهؤلاء الذين يأتون بصور الطاعات مع فساد النيات كما في الصحيحين عن النبي ﷺ " { أنه قيل له: يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله }.
قال الله تعالى: { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا } وهؤلاء أهل إرادات فاسدة مذمومة فهم مع تركهم الواجب فعلوا المحرم. وهم يشبهون اليهود كما يشبه أولئك النصارى.
قال تعالى: { ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون }.
وقال تعالى: { سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا }.
وقال تعالى: { واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين } { ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون }.
فهؤلاء يتبعون أهواءهم غيا مع العلم بالحق وأولئك يتبعون أهواءهم مع الضلال والجهل بالحق. كما قال تعالى: { ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل } وكلا الطائفتين تاركة ما أمر الله ورسوله به من الإرادات والأعمال الصالحة مرتكبة لما نهى الله ورسوله عنه من الإرادات والأعمال الفاسدة.
فصل
فأمر الشيخ عبد القادر وشيخه حماد الدباس وغيرهما من المشايخ أهل الاستقامة - رضي الله عنهم -: بأنه لا يريد السالك مرادا قط وأنه لا يريد مع إرادة الله عز وجل سواها بل يجري فعله فيه فيكون هو مراد الحق. إنما قصدوا به فيما لم يعلم العبد أمر الله ورسوله فيه فأما ما علم أن الله أمر به فعليه أن يريده ويعمل به وقد صرحوا بذلك في غير موضع. وإن كان غيرهم من الغالطين يرى القيام بالإرادة الخلقية هو الكمال وهو " الفناء في توحيد الربوبية " وأن السلوك إذا انتهى إلى هذا الحد فصاحبه إذا قام بالأمر فلأجل غيره أو أنه لا يحتاج أن يقوم بالأمر فتلك أقوال وطرائق فاسدة قد تكلم عليها في غير هذا الموضع.
فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشايخ السلف: مثل الفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وأبي سليمان الداراني ومعروف الكرخي والسري السقطي والجنيد بن محمد وغيرهم من المتقدمين، ومثل الشيخ عبد القادر والشيخ حماد والشيخ أبي البيان وغيرهم من المتأخرين. فهم لا يسوغون للسالك ولو طار في الهواء أو مشى على الماء أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين بل عليه أن يفعل المأمور ويدع المحظور إلى أن يموت وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف.
تابع كلام الجيلاني
وهذا كثير في كلامهم: كقول الشيخ عبد القادر في كتاب فتوح الغيب: " اخرج من نفسك وتنح عنها وانعزل عن ملكك. وسلم الكل إلى الله - تبارك وتعالى - وكن بوابه على باب قلبك، وامتثل أمره - تبارك وتعالى - في إدخال من يأمرك بإدخاله وانته نهيه في صد من يأمرك بصده. فلا تدخل الهوى قلبك بعد أن خرج منه فإخراج الهوى من القلب بمخالفته، وترك متابعته في الأحوال كلها وإدخاله في القلب بمتابعته وموافقته فلا ترد إرادة غير إرادته - تبارك وتعالى - وغير ذلك منك تمن وهو وادي الحمقى وفيه حتفك وهلاكك وسقوطك من عينه - تبارك وتعالى - وحجابك عنه.
احفظ أبدا أمره وانته أبدا نهيه وسلم إليه أبدا مقدوره ولا تشركه بشيء من خلقه فإرادتك وهواك وشهواتك كلها خلقه فلا ترد ولا تهو ولا تشته كيلا تكون مشركا. قال الله تعالى: { فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } ليس الشرك عبادة الأصنام فحسب؛ بل هو أيضا متابعتك لهواك وأن تختار مع ربك شيئا سواه من الدنيا وما فيها والآخرة وما فيها فما سواه - تبارك وتعالى - غيره فإذا ركنت إلى غيره فقد أشركت به عز وجل غيره فاحذر ولا تركن وخف ولا تأمن وفتش ولا تغفل فتطمئن ولا تضف إلى نفسك حالا ولا مقاما ولا تدع شيئا من ذلك ".
وقال الشيخ عبد القادر أيضا: " إنما هو الله ونفسك وأنت المخاطب والنفس ضد الله وعدوته؛ والأشياء كلها تابعة لله فإذا وافقت الحق في مخالفة النفس وعداوتها فكنت خصما له على نفسك ".
إلى أن قال: " فالعبادة في مخالفتك نفسك وهواك قال تعالى: { ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله } ".
إلى أن قال: " والحكاية المشهورة عن أبي يزيد البسطامي - رحمه الله - لما رأى رب العزة في المنام فقال له: كيف الطريق إليك يا بارخذاه؟ فقال: اترك نفسك وتعال قال أبو يزيد: فانسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها. فإذا ثبت أن الخير كله في معاداتها في الجملة في الأحوال كلها فإن كنت في حال التقوى فخالف النفس بأن تخرج من حرام الخلق وشبههم ومننهم والاتكال عليهم والثقة بهم والخوف منهم؛ والرجاء لهم والطمع فيما عندهم من حطام الدنيا فلا ترج عطاءهم على طريق الهدية أو الزكاة أو الصدقة أو الكفارة أو النذر فاقطع همك منهم من سائر الوجوه والأسباب فاخرج من الخلق جدا واجعلهم كالباب يرد ويفتح وكالشجرة يوجد فيها ثمرة تارة ونخيل أخرى كل ذلك بفعل فاعل وتدبير مدبر، وهو الله تبارك وتعالى. فإذا اصح لك هذا كنت موحدا له - تبارك وتعالى - ولا تنس مع ذلك كسبهم لتتخلص من مذهب الجبرية وأعتقد أن الأفعال لا تتم لهم دون الله - تبارك وتعالى - لكيلا تعبدهم وتنسى الله تعالى ولا تقل فعلهم دون الله فتكفر وتكون قدريا. لكن قل: هي لله خلقا وللعباد كسبا. كما جاءت به الآثار لبيان موضع الجزاء من الثواب والعقاب، وامتثل أمر الله فيهم وخلص قسمك منهم بأمره ولا تجاوزه فحكمه قائم يحكم عليك وعليهم فلا تكن أنت الحاكم وكونك معهم قدر والقدر ظلمة فادخل في الظلمة بالمصباح وهو " الحكم ": كتاب الله وسنة رسوله ﷺ لا تخرج عنهما.
فإن خطر خاطر أو وجد إلهام فاعرضهما على الكتاب والسنة فإن وجدت فيهما تحريم ذلك مثل أن تلهم بالزنا أو الربا أو مخالطة أهل الفسوق والفجور وغير ذلك من المعاصي فادفعه عنك واهجره ولا تقبله ولا تعمل به واقطع بأنه من الشيطان اللعين وإن وجدت فيهما إباحته كالشهوات المباحة من الأكل والشرب واللبس والنكاح فاهجره أيضا ولا تقبله واعلم أنه من إلهام النفس وشهواتها وقد أمرت بمخالفتها وعداوتها ".
قلت: ومراده بهجر المباح إذا لم يكن مأمورا به كما قد بين مراده في غير هذا الموضع. فإن المباح المأمور به إذا فعله بحكم الأمر كان ذلك من أعظم نعم الله عليه وكان واجبا عليه وقد قدمت أنه يدعو إلى طريقة السابقين المقربين؛ لا يقف عند طريقة الأبرار أصحاب اليمين.
قال: " وإن لم تجد في الكتاب والسنة تحريمه ولا إباحته بل هو أمر لا تعقله مثل أن يقال لك ائت موضع كذا وكذا الق فلانا الصالح؛ ولا حاجة لك هناك ولا في الصالح؛ لاستغنائك عنه بما أولاك الله تعالى من نعمه من العلم والمعرفة فتوقف في ذلك ولا تبادر إليه. فتقول: هل هذا إلهام إلا من الحق فاعمل به؟ بل انتظر الخير في ذلك وفعل الحق بأن يتكرر ذلك الإلهام، وتؤمر بالسعي أو علامة تظهر لأهل العلم بالله تبارك وتعالى يعقلها العقلاء من أولياء الله والمؤيدون من الأبدال.
وإنما لم تبادر إلى ذلك لأنك لا تعلم عاقبته وما يؤول الأمر إليه وربما كان فيه فتنة وهلاك ومكر من الله وامتحان فاصبر حتى يكون هو عز وجل الفاعل فيك فإذا تجرد الفعل وحملت إلى هناك واستقبلتك فتنة كنت محمولا محفوظا منها؛ لأن الله تعالى لا يعاقبك على فعله وإنما تتطرق العقوبة نحوك لكونك في الشيء ".
تعليق ابن تيمية
قلت: فقد أمر - رحمه الله - بأن ما كان محظورا في الشرع يجب تركه ولا بد وما كان معلوما أنه مباح بعينه لكونه يفعل بحكم الهوى لا بأمر الشارع فيترك أيضا وأما ما لم يعلم هل هو بعينه مباح لا مضرة فيه أو فيه مضرة مثل السفر إلى مكان معين أو شخص معين والذهاب إلى مكان معين أو شخص معين فإن جنس هذا العمل ليس محرما ولا كل أفراده مباحة؛ بل يحرم على الإنسان أن يذهب إلى حيث يحصل له ضرر في دينه فأمره بالكف عن الذهاب حتى يقهر أو يتبين له في الباطن أن هذا مصلحة؛ لأنه إذا لم يتبين له أن الذهاب واجب أو مستحب لم ينبغ له فعله وإذا خاف الضرر انبغى له تركه فإذا أكره على الذهاب لم يكن عليه حرج فلا يؤاخذ بالفعل. بخلاف ما إذا فعله باختياره وشهوته؛ وإذا تبين له أنه مصلحة راجحة كان حسنا.
وقد جاءت شواهد السنة: بأن من ابتلي بغير تعرض منه أعين، ومن تعرض للبلاء خيف عليه. مثل قوله ﷺ لعبد الرحمن بن سمرة " { لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها } ".
ومنه قوله: { لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا }.
وفي السنن { من سأل القضاء واستعان عليه وكل إليه ومن لم يسأل القضاء ولم يستعن عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده } - وفي رواية - وإن أكره عليه.
وفي الصحيحين أنه ﷺ قال في الطاعون: { إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه؛ وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه }.
ومنه أنه ﷺ { نهى عن النذر }.
ومنه قوله: { ذروني ما تركتم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه. وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم }
فصل: تابع كلام الجيلاني
قال الشيخ عبد القادر: " وإن كنت في حالة الحقيقة وهي حالة الولاية: فخالف هواك، واتبع الأمر في الجملة واتباع الأمر على قسمين: ( أحدهما ): أن تأخذ من الدنيا القوت الذي هو حق النفس وتترك الحظ، وتؤدي الفرض وتشتغل بترك الذنوب ما ظهر منها وما بطن.
و القسم الثاني: ما كان بأمر باطن وهو أمر الحق تبارك وتعالى يأمر عبده وينهاه وإنما يتحقق هذا الأمر في المباح الذي ليس حكما في الشرع على معنى أنه ليس من قبيل النهي ولا من قبيل الأمر الواجب بل هو مهمل ترك العبد يتصرف فيه باختياره فسمي مباحا فلا يحدث العبد فيه شيئا من عنده بل ينتظر الأمر فيه فإذا أمر امتثل فتصير جميع حركاته وسكناته بالله تعالى ما في الشرع حكمه فبالشرع وما ليس له حكم في الشرع فبالأمر الباطن فحينئذ يصير محقا من أهل الحقيقة وما ليس فيه أمر باطن فهو مجرد الفعل حالة التسليم. وإن كنت في حالة حق الحق وهي حالة المحو والفناء وهي حالة الأبدال المنكسري القلوب لأجل الحق، الموحدين العارفين أرباب العلوم والفعل، السادة الأمراء الشحن الخفراء للخلق، خلفاء الرحمن وأخلائه وأعيانه وأحبابه عليهم السلام، فاتباع الأمر فيها بمخالفتك إياك، بالتبري من الحول والقوة، وأن لا يكون لك إرادة وهمة في شيء ألبتة، دنيا وأخرى، عبد الملك لا عبد الملك، وعبد الأمر لا عبد الهوى، كالطفل مع الظئر، والميت الغسيل مع الغاسل، والمريض المغلوب على جنبه مع الطبيب فيما سوى الأمر والنهي ".
وقال أيضا: " اتبع الشرع في جميع ما ينزل بك إن كنت في حالة التقوى، التي هي القدم الأولى، واتبع الأمر في حالة الولاية وخمود وجود الهوى ولا تتجاوزه، وهي القدم الثانية، وارض بالفعل، ووافق، وافن في حالة البدلية والغوثية والقطبية والصديقية، وهي المنتهى.
تنح عن الطريق القدر خل عن سبيله رد نفسك وهواك كف لسانك عن الشكوى فإذا فعلت ذلك إن كان خيرا زادك المولى طيبة ولذة وسرورا، وإن كان شرا حفظك في طاعته فيه وأزال عنك الملامة وأفقدك فيه حتى يتجاوز ويرحل عند انقضاء أجله كما ينقضي الليل فيسفر عن النهار، والبرد في الشتاء فيسفر عن الصيف.
ذلك أنموذج عندك فاعتبر به. ثم ذنوب وآثام وإجرام وتلويث بأنواع المعاصي والخطيات ولا يصلح لمجالسة الكريم إلا طاهر عن أنجاس الذنوب والزلات، ولا يقبل على سدته إلا طيب من دون الدعوى والهواشات كما لا يصلح لمجالسة الملوك إلا الطاهر من الأنجاس وأنواع النتن والأوساخ فالبلايا مكفرات مطهرات. قال النبي ﷺ { حمى يوم كفارة سنة } ".
تعليق ابن تيمية
قلت: فقد بين الشيخ عبد القادر - رضي الله عنه - أن لزوم الأمر والنهي لا بد منه في كل مقام، وذكر الأحوال الثلاث التي جعلها: حال صاحب التقوى وحال الحقيقة، وحال حق الحق وقد فسر مقصوده بأنه لا بد للعبد في كل حال من أن يريد فعل ما أمر به في الشرع، وترك ما نهي عنه في الشرع وأنه إذا أمر العبد بترك إرادته فهو فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه وهذا حق. فإنه لم يؤمر به فتكون له إرادة في وجوده ولا نهي عنه فتكون له إرادة في عدمه فيخلو في مثل هذا عن إرادة النقيضين.
وقد بين أن صاحب الحقيقة عليه أن يلزم الأمر دائما الأمر الشرعي الظاهر إن عرفه أو الأمر الباطن، وبين أن الأمر الباطن إنما يكون فيما ليس بواجب في الشرع ولا محرم وأن مثل هذا ينتظر فيه الأمر الخاص حتى يفعله بحكم الأمر.
فإن قلت: فما الفرق بين هذا وبين صاحب التقوى الذي قبله؟ وصاحب الحق الذي بعده؟
قيل: أما الذي بعده الذين سماهم الأبدال فهم الذين لا يفعلون إلا بأمر الحق، ولا يفعلون إلا به فلا يشهدون لأنفسهم فعلا فيما فعلوه من الطاعة؛ بل يشهدون أنه هو الفاعل بهم ما قام بهم من طاعة أمره. ولهذا قال: " فاتباع الأمر فيها بمخالفتك إياك بالتبري من الحول والقوة ".
فهؤلاء يشهدون توحيد الربوبية مع توحيد الإلهية فيشهدون أن الله هو الذي خلق ما قام بهم من أفعال البر والخير فلا يرون لأنفسهم حمدا ولا منة على أحد، ويرون أن الله خالق أفعال العباد فلا يرون أحدا مسيئا إليهم ولا يرون لهم حقا على أحد إذ قد شهدوا أن الله خالق كل شيء من أفعال العباد وغيرها وهم يعلمون أن العباد لا يستحقون من أنفسهم ولا بأنفسهم على الله شيئا بل هو الذي كتب على نفسه الرحمة.
ويشهدون أنه يستحق أن يعبد لا يشرك به شيء، وأنه يستحق أن يتقى حق تقاته، وحق تقاته أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر فيرون أن ما قام بهم من العمل الصالح فهو بفضله وجوده وكرمه له الحمد في ذلك.
ويشهدون أنه لا حول ولا قوة إلا بالله. وأما ما قام بالعباد من أذاهم فالله خالقه وهو من عدله، وما تركه الناس من حقوقهم التي يستحقونها على الناس فهو الذي لم يخلقه وله الحمد على كل حال على ما فعل وما لم يفعل.
ولهذا كانوا منكسرة قلوبهم؛ لشهودهم وجوده الكامل، وعدمهم المحض، ولا أعظم انكسارا ممن لم ير لنفسه إلا العدم لا يرى له شيئا ولا يرى به شيئا.
وصاحب الحقيقة الذي هو دون هذا قد شاركه في إخلاص الدين لله وأنه لا يفعل إلا ما أمر به فلا يفعل إلا لله لكن قصر عنه في شهود توحيد الربوبية ورؤيته وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله وأنه ليس له في الحقيقة شيء. بل الرب هو الخالق الفاعل لكل ما قام به وأن كمال هذا الشهود لا يبقي شيئا من العجب ولا الكبر ونحو ذلك.
فكلاهما قائم بالأمر مطيع لله لكن هذا يشهد أن الله هو الذي جعله مسلما مصليا وأنه في الحقيقة لم يحدث شيئا، وذاك وإن كان يؤمن بهذا ويصدق به إذ كان مقرا بأن الله خالق أفعال العباد؛ لكن قد لا يشهده شهودا يجعله فيه بمنزلة المعدوم.
وأيضا بينهما فرق من جهة ثانية: وهي أن الأول تكون له إرادة وهمة في أمور فيتركها فهو يميز في مراداته بين ما يؤمر به وما ينهى عنه وما لا يؤمر به ولا ينهى عنه؛ ولهذا لم يبق له مراد أصلا إلا ما أراده الرب إما أمرا به فيمتثله هو بالله وإما فعلا فيه فيفعله الله به ولهذا شبهه بالطفل مع الظئر في غير الأمر والنهي.
وأما الأول: الذي هو في مقام التقوى العامة فإن له شهوات للمحرمات وله التفات إلى الخلق وله رؤية نفسه فيحتاج إلى المجاهدة بالتقوى بأن يكف عن المحرمات وعن تناول الشهوات بغير الأمر فهذا يحتاج أن يميز بين ما يفعله وما لا يفعله وهو التقوى.
وصاحب الحقيقة لم يبق له ما يفعله إلا ما يؤمر به فقط فلا يفعل إلا ما أمر به في الشرع وما كان مباحا لم يفعل إلا ما أمر به باطنا.
وأما الثالث: فقد تم شهوده في أنه لا يفعل إلا لله وبالله. فلا يفعل إلا ما أمر الله به لله ويشهد أن الله هو الذي فعل ذاك في الحقيقة ولا تكون له همة إرادة أن يفعل لنفسه ولا لغير الله ولا يفعل بنفسه ولا بغير الله.
والثلاثة مشتركون في الطريق في أن كلا منهم لا يفعل إلا الطاعة لكن يتفاوتون بكمال المعرفة والشهادة وبصفاء النية والإرادة. والله أعلم.
فإن قيل: كلام الشيخ كله يدور على أنه يتبع الأمر مهما أمكن معرفته باطنا وظاهرا وما ليس فيه أمر باطن ولا ظاهر يكون فيه مسلما لفعل الرب بحيث لا يكون له اختيار لا في هذا ولا في هذا بل إن عرف الأمر كان معه وإن لم يعرفه كان مع القدر فهو مع أمر الرب إن عرف وإلا فمع خلقه،
فإنه سبحانه له الخلق والأمر وهذا يقتضي أن من الحوادث ما ليس فيه أمر ولا نهي فلا يكون لله فيه حكم لا باستحباب ولا كراهة.
وقد صرح بذلك هو والشيخ حماد الدباس، وإن السالك يصل إلى أمور لا يكون فيها حكم شرعي بأمر ولا نهي بل يقف العبد مع القدر.
وهذا الموضع هو الذي يكون السالك فيه عندهم مع " الحقيقة القدرية " المحضة إذ ليس هنا حقيقة شرعية.
وهذا مما ينازعهم فيه أهل العلم بالشريعة. ويقولون: إن " الفعل " إما أن يكون بالنسبة إلى الشرع وجوده راجحا على عدمه وهو الواجب والمستحب. وإما أن يكون عدمه راجحا على وجوده. وهو المحرم والمكروه. وإما أن يستوي الأمران وهو المباح. وهذا التقسيم بحسب الأمر المطلق.
ثم الفعل المعين الذي يقال هو مباح إما أن تكون مصلحته راجحة للعبد لاستعانته به على طاعة ولحسن نيته فهذا يصير أيضا محبوبا راجح الوجود بهذا الاعتبار وإما أن يكون مفوتا للعبد ما هو أفضل له كالمباح الذي يشغله عن مستحب فهذا عدمه خير له.
والسالك المتقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض لا يكون المباح المعين في حقه مستوي الطرفين فإنه إذا لم يستعن به على طاعة كان تركه وفعل طاعة مكانه خيرا له وإنما قدر وجوده وعدمه سواء إذا كان مع عدمه يشتغل بمباح مثله.
فيقال: لا فرق بين هذا وهذا، فهذا يصلح للأبرار أهل اليمين الذين يتقربون إلى الله بالفرائض: أداء الواجبات وترك المحرمات، ويشتغلون مع ذلك بمباحات. فهؤلاء قد يكون المباح المعين يستوي وجوده وعدمه في حقهم إذا كانوا عند عدمه يشتغلون بمباح آخر ولا سبيل إلى أن تترك النفس فعلا إن لم تشتغل بفعل آخر يضاد الأول؛ إذ لا تكون معطلة عن جميع الحركات والسكنات.
ومن هنا أنكر الكعبي المباح في الشريعة لأن كل مباح فهو يشتغل به عن محرم، وترك المحرم واجب ولا يمكنه تركه إلا أن يشتغل بضده وهذا المباح ضده، والأمر بالشيء نهي عن ضده، والنهي عنه أمر بضده المعين إن لم يكن له إلا ضد واحد وإلا فهو أمر بأحد أضداده فأي ضد تلبس به كان واجبا من باب الواجب المخير.
وسؤال الكعبي هذا أشكل على كثير من النظار فمنهم من اعترف بالعجز عن جوابه: كأبي الحسن الآمدي، وقواه طائفة بناء على أن النهي عن الشيء أمر بضده كأبي المعالي.
ومنهم من قال: هذا فيما كانت أضداده محصورة فأما ما ليست أضداده محصورة فلا يكون النهي عنه أمرا بأحدهما كما يفرق بين الواجب المطلق، والواجب المخير. فيقال في المخير: هو أمر بأحد الثلاثة ويقال في المطلق هو أمر بالقدر المشترك. وجدي أبو البركات يميل إلى هذا.
وقد ألزموا الكعبي إذا ترك الحرام بحرام آخر وهو قد يقول: عليه ترك المحرمات كلها إلى ما ليس بمحرم بل إما مباح وإما مستحب وإما واجب.
و تحقيق الأمر أن قولنا: الأمر بالشيء نهي عن ضده. وأضداده والنهي عنه أمر بضده أو بأحد أضداده من جنس قولنا: الأمر بالشيء أمر بلوازمه وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والنهي عن الشيء نهي عما لا يتم اجتنابه إلا به. فإن وجود المأمور به يستلزم وجود لوازمه وانتفاء أضداده، بل وجود كل شيء هو كذلك يستلزم وجوده وانتفاء أضداده وعدم المنهي عنه؛ بل وعدم كل شيء يستلزم عدم ملزوماته وإذا كان لا يعدم إلا بضد يخلفه كالأكوان فلا بد عند عدمه من وجود بعض أضداده.
فهذا حق في نفسه؛ لكن هذه اللوازم جاءت من ضرورة الوجود وإن لم تكن مقصوده للأمر. والفرق ثابت بين ما يؤمر به قصدا ما يلزمه في الوجود.
فالأول هو الذي يذم ويعاقب على تركه بخلاف الثاني فإن من أمر بالحج أو الجمعة وكان مكانه بعيدا فعليه أن يسعى من المكان البعيد، والقريب يسعى من المكان القريب فقطع تلك المسافات من لوازم المأمور به ومع هذا فإذا ترك هذان الجمعة والحج لم تكن عقوبة البعيد أعظم من عقوبة القريب بل ذاك بالعكس أولى مع أن ثواب البعيد أعظم فلو كانت اللوازم مقصودة للأمر لكان يعاقب بتركها فكأن تكون عقوبة البعيد أعظم وهذا باطل قطعا.
وهكذا إذا فعل المأمور به فإنه لا بد من ترك أضداده، لكن ترك الأضداد هو من لوازم فعل المأمور به ليس مقصودا للأمر بحيث إنه إذا ترك المأمور به عوقب على تركه لا على فعل الأضداد التي اشتغل بها وكذلك المنهي عنه مقصود الناهي عدمه؛ ليس مقصوده فعل شيء من أضداده وإذا تركه متلبسا بضد له كان ذلك من ضرورة الترك.
وعلى هذا إذا ترك حراما بحرام آخر فإنه يعاقب على الثاني ولا يقال فعل واجبا وهو ترك الأول؛ لأن المقصود عدم الأول، فالمباح الذي اشتغل به عن محرم لم يؤمر به ولا بأمثاله [ كان ] أمرا مقصودا؛ لكن نهي عن الحرام ومن ضرورة ترك المنهي عنه الاشتغال بضد من أضداده فذاك يقع لازما لترك المنهي عنه فليس هو الواجب المحدود بقولنا الواجب ما يذم تاركه ويعاقب تاركه أو يكون تركه سببا للذم والعقاب.
فقولنا ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب أو يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب يتضمن إيجاب اللوازم. والفرق ثابت بين الواجب الأول والثاني. فإن الأول يذم تاركه ويعاقب، والثاني واجب وقوعا أي لا يحصل الأول إلا به ويؤمر به أمرا بالوسائل ويثاب عليه لكن العقوبة ليست على تركه.
ومن هذا الباب إذا اشتبهت الميتة بالمذكى فإن المحرم الذي يعاقب على فعله أحدهما بحيث إذا أكلهما جميعا لم يعاقب عقوبة من أكل ميتتين بل عقوبة من أكل ميتة واحدة، والأخرى وجب تركها وجوب الوسائل.
فقول من قال: كلاهما محرم صحيح بهذا الاعتبار؛ وقول من قال: المحرم في نفس الأمر أحدهما صحيح أيضا بذلك الاعتبار وهذا نظير قول من قال: يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب.
وإنكار أبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي على من قال هذا ومن قال المحرم أحدهما لا يناسب طريقة الفقهاء، وحاصله يرجع إلى نزاع لفظي. فإن الوجوب والحرمة الثابتة لأحدهما ليست ثابتة للآخر بل هي نوع آخر حتى لو اشتبهت مملوكته بأجنبية بالليل ووطئها يعتقد حل وطء إحداهما وتحريم وطء الأخرى كان ولده من مملوكته ثابتا نسبه بخلاف الأخرى ولو قدرنا أنه اشتبهت أخته بأجنبية وتزوج إحداهما فحد مثلا ثم تزوج الأخرى لم يحد حدين مع أنه لا حد في ذلك لجواز أن تكون المنكوحة هي الأجنبية.
وبهذا تنحل شبهة الكعبي. فإن المحرم تركه مقصود، وأما الاشتغال بضد من أضداده فهو وسيلة.
فإذا قيل: المباح واجب بمعنى وجوب الوسائل أي قد يتوسل به إلى فعل واجب وترك محرم فهذا حق.
ثم إن هذا يعتبر فيه القصد؛ فإن كان الإنسان يقصد أن يشتغل بالمباح ليترك المحرم مثل من يشتغل بالنظر إلى امرأته ووطئها ليدع بذلك النظر إلى الأجنبية ووطئها أو يأكل طعاما حلالا ليشتغل به عن الطعام الحرام فهذا يثاب على هذه النية والفعل.
كما بين ذلك النبي ﷺ بقوله: { وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله؛ أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أما كان عليه وزر؟ قالوا: بلى. قال: فلم تعتدون بالحرام ولا تعتدون بالحلال؟ }.
ومنه قوله ﷺ { إن الله يحب أن تؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته } رواه أحمد وابن خزيمة في صحيحه.
وقد يقال: المباح يصير واجبا بهذا الاعتبار وإن تعين طريقا صار واجبا معينا وإلا كان واجبا مخيرا لكن مع هذا القصد وأما مع الذهول عن ذلك فلا يكون واجبا أصلا إلا وجوب الوسائل إلى الترك.
وترك المحرم لا يشترط فيه القصد. فكذلك ما يتوسل به إليه فإذا قيل هو مباح من جهة نفسه وأنه قد يجب وجوب المخيرات من جهة الوسيلة لم يمنع ذلك. فالنزاع في هذا الباب نزاع لفظي اعتباري. وإلا فالمعاني الصحيحة لا ينازع فيها من فهمها.
و المقصود هنا: أن الأبرار وأصحاب اليمين قد يشتغلون عن مباح بمباح آخر فيكون كل من المباحين يستوي وجوده وعدمه في حقهم. أما السابقون المقربون فهم إنما يستعملون المباحات إذا كانت طاعة لحسن القصد فيها؛ والاستعانة على طاعة الله. وحينئذ فمباحاتهم طاعات.
وإذا كان كذلك لم تكن الأفعال في حقهم إلا ما يترجح وجوده فيؤمرون به شرعا أمر استحباب أو ما يترجح عدمه فالأفضل لهم ألا يفعلوه وإن لم يكن فيه إثم.
والشريعة قد بينت أحكام الأفعال كلها فهذا سؤال. وسؤال ثان وهو أنه إذا قدر أن من الأفعال ما ليس فيه أمر ولا نهي كما في حق الأبرار فهذا الفعل لا يحمد ولا يذم ولا يحب ولا يبغض ولا ينظر فيه إلى وجود القدر وعدمه؛ بل إن فعلوه لم يحمدوا وإن لم يفعلوه لم يحمدوا، فلا يجعل مما يحمدون عليه أنهم يكونون في هذا الفعل كالميت بين يدي الغاسل مع كون هذا الفعل صدر باختيارهم وإرادتهم. إذ الكلام في ذلك.
وأما غير الأفعال الاختيارية: وهو ما فعل بالإنسان بغير اختياره، كما يحمل الإنسان وهو لا يستطيع الامتناع، فهذا خارج عن التكليف مع أن العبد مأمور في مثل هذا أن يحبه إن كان حسنة ويبغضه إن كان سيئة ويخلو عنهما إن لم يكن حسنة ولا سيئة، فمن جعل الإنسان فيما يستعمله فيه القدر من الأفعال الاختيارية - كالميت بين يدي الغاسل - فقد رفع الأمر والنهي عنه في الأفعال الاختيارية وهذا باطل.
وسؤال ثالث: وهو أن حقيقة هذا القول طي بساط الأمر والنهي عن العبد في هذه الأحوال مع كون أفعاله اختيارية، وهب أنه ليس له هوى فليس كل ما لا هوى فيه يسقط عنه فيه الأمر والنهي بل عليه أن يحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض ما أبغضه الله ورسوله.
قيل: هذه الأسولة أسولة صحيحة.
وفصل الخطاب أن السالك قد يخفى عليه الأمر والنهي بحيث لا يدري هل ذلك الفعل مأمور به شرعا أو منهي عنه شرعا؛ فيبقى هواه لئلا يكون له هوى فيه ثم يسلم فيه للقدر، وهو فعل الرب لعدم معرفته برضا الرب وأمره وحبه في ذلك الفعل.
وهذا يعرض لكثير من أئمة العباد وأئمة العلماء فإنه قد تكون عندهم أفعال وأقوال لا يعرفون حكم الله الشرعي فيها بل قد تعارضت عندهم فيها الأدلة أو خفيت الأدلة بالكلية فيكونون معذورين لخفاء الشرع عليهم.
وحكم الشرع إنما يثبت في حق العبد إذا تمكن من معرفته فأما ما لم يبلغه ولم يتمكن من معرفته فلا يطالب به وإنما عليه أن يتقي الله ما استطاع. وهذا خطأ في العلم وليس خطأ في العمل وهو كالمجتهد المخطئ له أجر على قصده واجتهاده، وخطؤه مرفوع عنه.
فإن قيل: فإذا كان الأمر هكذا. فالواجب على العبد أن يتوقف في مثل هذه الحال إذا لم يتبين له أن ذلك الفعل مأمور به أو منهي عنه وهو لا يريد أن يفعل شيئا لا مدح فيه ولا ذم فيقف لا يستسلم للقدر ويصير محلا لما يستعمل فيه من الأفعال اللهم إلا إذا فعل غيره فعلا فهو لا يمدحه ولا يذمه ولا يرضاه ولا يسخطه؛ إذا لم يتبين له حكمه.
فأما كونه هو من أفعاله الاختيارية يصير مستسلما لما يستعمله القدر فيه: كالطفل مع الظئر والميت مع الغاسل فهذا ما لم يأمر الله به ولا رسوله بل هذا محرم، وإن عفى عن صاحبه وحسب صاحبه أن يعفي عنه؛ لاجتهاده وحسن قصده.
أما كونه يحمد على ذلك ويجعل هذا أفضل المقامات فليس الأمر كذلك، وكونه مجردا عن هواه ليس مسوغا له أن يستسلم لكل ما يفعل به.
ثم يقال الأمور مع هذا نوعان: أحدهما أن يفعل به بغير اختياره كما يحمل الإنسان ولا يمكنه الامتناع، وكما تضجع المرأة قهرا وتوطأ فهذا لا إثم فيه باتفاق العلماء. وإما أن يكره بالإكراه الشرعي حتى يفعل، فهذا أيضا معفو عنه في الأفعال عند الجمهور، وهو أصح الروايتين عن أحمد لقوله تعالى { ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم }.
وأما إذا لم يكره الإكراه الشرعي فاستسلامه للفعل المطلق الذي لا يعرف أخير هو أم شر، ليس هو مأمورا به وإن جرى على يده خرق عادة أو لم يجر فليس هو مأمورا أن يفعل إلا ما هو خير عند الله ورسوله.
قيل: هذا السؤال صحيح وحقيقة الأمر أن السالكين إذا وصلوا إلى هذا المقام فبحسن قصدهم وتسليمهم وخضوعهم لربهم وطلبهم منه أن يختار لهم ما هو الأصلح إذا استعملوا في أمر وهم لا يعرفون حكمه في الشرع رجوا أن يكون خيرا؛ لأن معرفتهم بحكمه قد تتعذر عليهم،
والإنسان غير عالم في كل حال بما هو الأصلح له في دينه وبما هو رضا الله ورسوله فيبقى حالهم حال المستخير لله فيما لم يعلم عاقبته إذا قال: { اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر؛ وتعلم ولا أعلم؛ وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه. وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فأصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به }.
فإذا استخار الله كان ما شرح له صدره وتيسر له من الأمور هو الذي اختاره الله له. إذ لم يكن معه دليل شرعي على أن عين هذا الفعل هو مأمور به في هذه الحال فإن الأدلة الشرعية إنما تأمر بأمر مطلق عام لا بعين كل فعل من كل فاعل إذ كان هذا ممتنعا؛ وإن كان ذلك المعين يمكن إدراجه تحت بعض خطاب الشارع العام؛ إذا كانت الأفراد المعينة داخلة تحت الأمر العام الكلي؛ لكن لا يقدر كل أحد على استحضار هذا ولا على استحضار أنواع الخطاب.
ولهذا كان الفقهاء يعدلون إلى القياس عند خفاء ذلك عليهم. ثم القياس أيضا قد لا يحصل في كل واقعة فقد يخفى على الأئمة المجتهدين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان دخول الواقعة المعينة تحت خطاب عام أو اعتبارها بنظير لها فلا يعرف لها أصل ولا نظير. هذا مع كثرة نظرهم في خطاب الشارع ومعرفة معانيه ودلالته على الأحكام. فكيف بمن لم يكن كذلك؟
ثم السالك ليس قصده معرفة الحلال من الحرام؛ بل مقصوده أن هذا الفعل المعين خير من هذا وهذا خير من هذا وأيهما أحب إلى الله في حقه في تلك الحال.
وهذا باب واسع لا يحيط به إلا الله ولكل سالك حال تخصه قد يؤمر فيها بما ينهى عنه غيره ويؤمر في حال بما ينهى عنه في حال آخر.
فقالوا: نحن نفعل الخير بحسب الإمكان وهو فعل ما علمنا أنا أمرنا به ونترك أصل الشر وهو هوى النفس ونلجأ إلى الله فيما سوى ذلك أن يوفقنا لما هو أحب إليه وأرضى له؛ فما استعملنا فيه رجونا أن يكون من هذا الباب؛ ثم إن أصبنا فلنا أجران وإلا فلنا أجر وخطؤنا محطوط عنا فهذا هذا.
وحينئذ فمن قدر أنه علم المشروع وفعله فهو أفضل من هذا، ولكن كثير ممن يعلم المشروع لا يفعله ولا يقصد أحب الأمور إلى الله، وكثير منهم يفعله بشوب من الهوى فيبقى هذا يفعل المشروع بهوى، وهذا يترك ما لم يعلم أنه مشروع بلا هوى. فهذا نقص في العلم، وذاك نقص في العمل؛ إذ العمل بهوى النفس نقص في العمل ولو كان المفعول واجبا.
فيقال: إن تاب صاحب الهوى من هواه كان أرفع بعلمه وإن لم يتب فله نصيب من عالم السوء.
ولهذا تشاجر رجلان من المتقدمين عام الحكمين في مثل هذا. فقال أحدهما لصاحبه: إنما مثلك مثل الكلب؛ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث. وقال الآخر: أنت كالحمار يحمل أسفارا؛ فهذا أحسن قصدا وأقوى علما.
ولهذا تجد أصحاب حسن القصد إنما يعيبون على هؤلاء اتباع الهوى وحب الدنيا والرئاسة، وأهل العلم يعيبون على أولئك نقص علمهم بالشرع، وعدولهم عن الأمر والنهي فهذا هذا.
والله هو المسئول أن يهدينا إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وقد قال بعض ( أهل الفقه والزهد ): من الناس من سلك الشريعة ومنهم من سلك الحقيقة. ولعله أراد هؤلاء وهؤلاء؛ فإن هؤلاء يرجحون بما ييسره الله،
مع حسن القصد واتباع الأمر والنهي المعلوم لهم مع خفاء الأدلة الشرعية في ذلك المتيسر لهم وهؤلاء يرجحون بالأدلة الشرعية من الظواهر والأقيسة وأخبار الآحاد وأقوال العلماء مع خفاء الأمر المتيسر لهم.
و أيضا فهؤلاء قد يشهدون ما في ذلك الفعل المقدور من المصلحة والخير فيرجحونه بحكم الإيمان وإن لم يعرفوا دليلا من النص على حسنه وأولئك إنما يرجحون بالنصوص وما استنبط منها. فهؤلاء لهم القرآن وهؤلاء لهم الإيمان.
وسبب هذا أن كلا من الطائفتين خفي عليه ما مع الأخرى من الحق، وكل من الطائفتين في طريقها حق وباطل. فأما المدعون للحقيقة بدون مراعاة الأمر والنهي الشرعيين فهم ضالون؛ كالذين يعرفون الأمر والنهي ولا يفعلون إلا ما يهوونه من الكبائر فإنهم فساق. وهؤلاء وهؤلاء الذين قيل فيهم: "احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون".
والحقيقة قد تكون قدرية وقد تكون ذوقية وقد تكون شرعية ولفظ الشرع يتناول المبدل والمؤول والمنزل.
و المقصود هنا ذكر أهل الاستقامة من الطائفتين، والكلام على حال أهل العبادة والإرادة الذين خرجوا عن الهوى وهو الفرق الطبعي وقاموا بما علموه من الفرق الشرعي. وبقي قسم ثالث" ليس لهم فيه فرق طبعي ولا عندهم فيه فرق شرعي فهو الذي جروا فيه مع الفعل والقدر.
وأما من جرى مع الفرق الطبعي إما عالما بأنه عاص وهو العالم الفاجر أو محتجا بالقدر أو بذوقه ووجده معرضا عن الكتاب والسنة وهو العابد الجاهل فهذا خارج عن الصراط المستقيم.
وهذا مما يبين حال كمال حال الصحابة وأنهم خير قرون هذه الأمة؛ إذ كانوا في خلافة النبوة يقومون بالفروق الشرعية في جليل الأمور ودقيقها مع اتساع الأمر والواحد من المتأخرين قد يعجز عن معرفة الفروق الشرعية فيما يخصه كما أن الواحد من هؤلاء يتبع هواه في أمر قليل. فأولئك مع عظيم ما دخلوا فيه من الأمر والنهي لهم العلم الذي يميزون به بين الحسنات والسيئات ولهم القصد الحسن الذي يفعلون به الحسنات. والكثير من المتأخرين العالمين والعابدين يفوت أحدهم العلم في كثير من الحسنات والسيئات حتى يظن السيئة حسنة وبالعكس، أو يفوته القصد في كثير من الأعمال حتى يتبع هواه فيما وضح له من الأمر والنهي.
فنسأل الله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
هذا لعمري إذا كان عند العالم ما هو أمر الشارع ونهيه حقيقة وعند العابد حسن القصد الخالي عن الهوى حقيقة فأما من خلط الشرع المنزل بالمبدل والمؤول، وخلط القصد الحسن باتباع الهوى فهؤلاء وهؤلاء مخلطون في علمهم وعملهم.
وتخليط هؤلاء في العلم سوى تخليطهم وتخليط غيرهم في القصد، وتخليط هؤلاء في القصد سوى تخليطهم وتخليط غيرهم في العلم فإنه من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم. وحسن القصد من أعون الأشياء على نيل العلم ودركه. والعلم الشرعي من أعون الأشياء على حسن القصد والعمل الصالح فإن العلم قائد والعمل سائق، والنفس حرون فإن ونى قائدها لم تستقم لسائقها وإن ونى سائقها لم تستقم لقائدها فإذا ضعف العلم حار السالك ولم يدر أين يسلك فغايته أن يستطرح للقدر وإذا ترك العمل حاد السالك عن الطريق فسلك غيره مع علمه أنه تركه فهذا حائر لا يدري أين يسلك مع كثرة سيره وهذا حائد عن الطريق زائغ عنه مع علمه به.
قال تعالى: { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم }. هذا جاهل وهذا ظالم. قال تعالى: { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا }. مع أن الجهل والظلم متقاربان لكن الجاهل لا يدري أنه ظالم،
والظالم جهل الحقيقة المانعة له من العلم. قال تعالى { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب }.
قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد فقالوا: كل من عصى الله فهو جاهل وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب.
وقد روى الخلال عن أبي حيان التيمي قال: العلماء ثلاثة فعالم بالله ليس عالما بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالما بالله، وعالم بالله وبأمر الله.
فالعالم بالله الذي يخشاه والعالم بأمر الله الذي يعرف أمره ونهيه.
قلت: والخشية تمنع اتباع الهوى، قال تعالى: { وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى } { فإن الجنة هي المأوى }.
والكمال في عدم الهوى وفي العلم، وذلك هو لخاتم الرسل ﷺ الذي قال فيه: { والنجم إذا هوى } { ما ضل صاحبكم وما غوى } { وما ينطق عن الهوى } { إن هو إلا وحي يوحى } فنفى عنه الضلال والغي ووصفه بأنه ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فنفى الهوى وأثبت العلم الكامل وهو الوحي فهذا كمال العلم وذاك كمال القصد ﷺ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
ووصف أعداءه بضد هذين فقال تعالى: { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى } فالكمال المطلق للإنسان هو تكميل العبودية لله علما وقصدا.
قال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون }.
وقال تعالى: { وأنه لما قام عبد الله يدعوه }.
وقال تعالى فيما حكاه عن إبليس: { قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين } { إلا عبادك منهم المخلصين }. وقال: { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } وقال تعالى: { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } وقال تعالى: { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون }. و" عبادته " تعالى هي طاعة أمره، وأمره لنا ما بلغه الرسول عنه؛ فالكمال في كمال طاعة الله ورسوله باطنا وظاهرا ومن كان لم يعرف ما أمر الله به فترك هواه واستسلم للقدر أو اجتهد في الطاعة فأخطأ، فعل المأمور به إلى ما اعتقده مأمورا به أو تعارضت عنده الأدلة فتوقف عما هو طاعة في نفس الأمر، فهؤلاء مطيعون لله يثابون على ما أحسنوه من القصد لله واستفرغوه من وسعهم في طاعة الله وما عجزوا عن علمه فأخطئوه إلى غيره فمغفور لهم.
وهذا من أسباب فتن تقع بين الأمة فإن أقواما يقولون ويفعلون أمورا هم مجتهدون فيها وقد أخطئوا فتبلغ أقواما يظنون أنهم تعمدوا فيها الذنب أو يظنون أنهم لا يعذرون بالخطأ وهم أيضا مجتهدون مخطئون فيكون هذا مجتهدا مخطئا في فعله وهذا مجتهدا مخطئا في إنكاره والكل مغفور لهم. وقد يكون أحدهما مذنبا كما قد يكونان جميعا مذنبين. وخير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد ﷺ وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة.
والواحد من هؤلاء قد يعطى تصرفا بالأمر والنهي. فيولي ويعزل ويعطي ويمنع فيظن الظان أن هذا كمال وإنما يكون كمالا إذا كان موافقا للأمر فيكون طاعة لله وإلا فهو من جنس الملك وأفعال الملك: إما ذنب وإما عفو وإما طاعة.
فالخلفاء الراشدون أفعالهم طاعة وعبادة وهم أتباع العبد الرسول ﷺ، وهي طريق السابقين المقربين. وأما طريق الملوك العادلين فإما طاعة وإما عفو؛ وهي طريقة الأنبياء الملوك؛ وطريقة الأبرار أصحاب اليمين.
وأما طريقة الملوك الظالمين: فتتضمن المعاصي؛ وهي طريقة الظالمين لأنفسهم. قال تعالى: { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير } فلا يخرج الواحد من المؤمنين عن أن يكون من أحد هذه الأصناف: إما ظالم لنفسه وإما مقتصد وإما سابق بالخيرات.
و خوارق العادات إما مكاشفة وهي من جنس العلم الخارق وإما تصرف وهي من جنس القدرة الخارقة؛ وأصحابها لا يخرجون عن الأقسام الثلاثة.
فصل
وقد تفرق الناس في هذا المقام الذي هو غاية مطالب العباد، فطائفة من الفلاسفة ونحوهم يظنون أن كمال النفس في مجرد العلم، ويجعلون العلم الذي به يكمل ما يعرفونه هم من علم ما بعد الطبيعة، ويجعلون العبادات رياضة لأخلاق النفس حتى تستعد للعلم فتصير النفس عالما معقولا موازيا للعالم الموجود.
الفلاسفة ضالون كافرون من وجوه
وهؤلاء ضالون، بل كافرون من وجوه: منها:
الأول: أنهم اعتقدوا الكمال في مجرد العلم، كما اعتقد جهم، والصالحي، والأشعري في المشهور من قوله، وأكثر أتباعه: أن الإيمان مجرد العلم.
لكن المتفلسفة أسوأ حالا من الجهمية، فإن الجهمية يجعلون الإيمان هو العلم بالله، وأولئك يجعلون كمال النفس في أن تعلم الوجود المطلق من حيث هو وجود، والمطلق بشرط الإطلاق إنما يكون في الأذهان لا في الأعيان، والمطلق لا بشرط لا يوجد أيضا في الخارج إلا معينا، وإن علموا الوجود الكلي المنقسم إلى واجب وممكن، فليس لمعلوم علمهم وجود في الخارج.
وهكذا من تصوف وتأله على طريقتهم كابن عربي وابن سبعين ونحوهما.
وأيضا فإن الجهمية مقرون بالرسل وبما جاؤوا به من حيث الجملة، مقرون بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، وغير ذلك مما جاءت به الرسل، بخلاف المتفلسفة.
وبالجملة فكمال النفس ليس في مجرد العلم، بل لا بد مع العلم بالله من محبته وعبادته والإنابة إليه، فهذا عمل النفس وإرادتها، وذاك علمها ومعرفتها.
الوجه الثاني: أنهم ظنوا أن العلم الذي تكمل به النفس هو علمهم، وكثير منه جهل لا علم.
الثالث: أنهم لم يعرفوا العلم الإلهي الذي جاءت به الرسل، وهو العلم الأعلى الذي تكمل به النفس، مع العمل بموجبه.
الرابع: أنهم يرون أنه إذا حصل لهم ذاك العلم سقطت عنهم واجبات الشرع وأبيحت لهم محرماته، وهذه طريقة الباطنية من الإسماعيلية وغيرهم، مثل أبي يعقوب السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية وأمثاله، وطريقة من وافقهم من ملاحدة الصوفية الذين يتأولون قوله: { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } إنك تعمل حتى يحصل لك العلم، فإذا حصل العلم سقط عنك العمل.
وقد قيل للجنيد: إن قوما يقولون: إنهم يصلون من طريق البر إلى أن تسقط عنهم الفرائض وتباح لهم المحارم، أو نحو هذا الكلام. فقال: الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر أحسن حالا من هذا.
ومن هؤلاء من يكون طلبه للمكاشفة ونحوها من العلم أعظم من طلبه لما فرض الله عليه، ويقول في دعائه: اللهم إني أسألك العصمة في الحركات والسكنات، والخطرات والإرادات والكلمات، من الشكوك والظنون والأوهام الساترة للقلوب عن مطالعة الغيوب.
وأصل المتفلسفة أن الفلسفة التي هي الكمال عندهم هي التشبه بالإله على قدر الطاقة، وهم يقولون: إن حركات الأفلاك لأجل التشبه بالأول.
وعلى هذا بنى أبو حامد كتابه في شرح الأسماء الحسنى، وتخلق العبد بأخلاق الله، وأنكر ذلك عليه المازري وغيره، وقالوا: ليس لله خلق يتخلق به العبد.
وعدل أبو الحكم بن برجان عن لفظ التخلق إلى لفظ التعبد.
وعلى هذا الأصل الفلسفي بنى ابن عربي معنى ولي الله، وأنه المتشبه به المتخلق بأخلاقه، كما يفسر أبو حامد التقرب من الله بالتشبه به، وابن عربي ونحوه يجعلون الولي أفضل من النبي بناء على أصولهم الفلسفية الاتحادية.
وطائفة أخرى عندهم أن الكمال في القدرة والسلطان والتصرف في الوجود، بنفاذ الأمر والنهي، إما بالملك والولاية الظاهرة، وإما بالباطن، وتكون عبادتهم ومجاهدتهم كذلك.
وكثير من هؤلاء يدخل في الشرك والسحر، فيعبد الكواكب والأصنام لتعينه الشياطين على مقاصده، وهؤلاء أضل وأجهل من الذين قبلهم.
وعامة من يعبد الله لطلب خوارق العادات يكون فيه نصيب من هذا.
ولهذا كان منهم من يموت فاسقا أو مسلوبا، وكلهم ضلال جهال.
وطائفة تجعل الكمال في مجموع الأمرين، فيدخلون في أقوال وأعمال من الشرك والسحر، ليستعينوا بالشياطين على ما يطلبونه من الإخبار بالأمور الغائبة، وعلى ما ينفذ به تصرفهم في العالم.
وأما الحق المبين فهو أن كمال الإنسان في أن يعبد الله علما وعملا، كما أمره ربه. وهؤلاء هم عباد الله، وهم المؤمنون والمسلمون، وهم أولياء الله المتقون، وحزب الله المفلحون، وجند الله الغالبون، وهم أهل العلم النافع، والعمل الصالح، وهم الذين زكوا نفوسهم وكملوها. كملوا القوة النظرية العلمية، والقوة الإرادية العملية.
كما قال تعالى: { واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار }. وقال تعالى: { والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى }.
وقال تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين }، وقال تعالى: { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى }. وقال تعالى: { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون }، وقال تعالى: { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه }، وقال تعالى: { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر }.
(هذا ما وجد في الأصل.
وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا.
كتبه محمد بن أحمد بن علي الخطيب بقرية بييلا في ثاني عشر جمادى الأول سنة أربع وسبعمائة)




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع ابن حجر الهيتمي الباب الثاني{الجزء الثاني}

كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع/الباب الثاني المحتويات  القسم الأول: اللعب بالنرد  القسم [الثاني]: اللعب بالشِّطرَنج  القسم الثالث: ...