التيجان/النص الكامل
المحتويات
المقدمة
نسب ولد حام
ملك حمير
وائل بن حمير
ملك وائل بن حمير
ملك السكسك بن وائل
ملك يعفر بن السكسك
عامر ذو رياش
ملك المعافر بن يعفر
ملك شداد بن عاد
قصة المغارة التي فيها شداد بن عاد والصعاليك الثلاثة حين دخلوها وما جرى عليهم
ملك لقمان بن عاد
ملك الهمال بن عاد المعروف بذي شدد ملك متوج
ملك الحارث بن الهمال
ملك الصعب ذي القرنين
ملك أبرهة
ملك العبد بن أبرهة
ملك عمرو بن أبرهة
ملك شرحبيل
ملك الهدهاد ابنه
التيجان/النص الكامل المؤلف: ابن هشام
تمهيد
رب يسر وأعن يا كريم
حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام عن أسد بن موسى عن أبي إدريس ابن سنان عن جده لأمه وهب بن منبه إنه قال: قرأت ثلاثة وتسعين كتاباً مما أنزل الله على الأنبياء فوجدت فيها أن الكتب التي أنزل الله على جميع النبيين مائة كتاب وثلاثة وستون كتاباً أتزل صحيفتين على آدم بكتابين صحيفة في الجنة وصحيفة على جبل لبنان وعلى شيت بن آدم خمسين صحيفة وعلى اخنوح وهو إدريس ثلاثين صحيفة وعلى نوح صحيفتين صحيفة قبل الطوفان وأخرى بعد الطوفان وعلى هود أربعاً وعلى صالح صحيفتين وعلى إبراهيم عشرين صحيفة وعلى موسى خمسين صحيفة وهي الألواح قال الله {إنَّ هِذا لفي الصُّحُفِ الأولى صُحُفِ إبراهيم وَموسَى} وعلى داود الزبور وعلى عيسى الإنجيل وعلى محمد الفرقان صلى عليه وآله وسلم وعلى جميع النبيين.
قال وهب بن منبه: وأنزل الله على عيسى بدأ الخلق حين أنشأه وابتدأ ابتدعه فقصه الله على نبيه موسى صلى الله عليه من يوم ابتدأه حتى أنزل عليه التوراة. قال وهب: أن الله لما خلق الماء على الهواء وخلق الهواء على ماء. . . . . . الله بجميع ما وراء ذلك إلى الحي القيوم وكان عرشه على الماء حين لأسماء مبنية ولا أرض مدحية. قال وهب: فاضطرب الماء وهاج فاصطفق فأزبد فصار أرضاً فخلق الله الحوت والبحر من ذلك الزبد ثم رفع الله السماء وهي دخان {فقال لها وللأرض أتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين} وخلق الملائكة في كل سماء أمرها أسكنهم السموات يسبحون ويهللون ويقدسون الواحد القهار وخلق الجبال في الأرض أوتاداً. قال وهب: وخلق فلك سماء الدنيا شمسه وقمره ودراريه ونجومه وخلقه دائراً مستمراً قال الله: {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم} {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون}. وقال وهب: وخلق الجنة وخلق فيها أجناس الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون ثم خلق النار بعد الجنة بألف عام فزفت النار وتغيظت فتطاير منها الشرر فخلق الله من ذلك الشرر إبليس والجان وأسكنهم الجنة يسبحون الله تعالى كما يرون الملائكة يفعلون ويعيد الله إبليس مع الملائكة. قال وهب: وخلق الله الأزمنة أربعة، شتاء وصيفاً وربيعاً وخريفاً.
قال وهب: فبسط الله الأرض بقدرته وأمسكها كيف شاء بحكمته وخضعت لعظمته ورفع السموات كيف شاء بحكمته وأدار الأفلاك بإتقان حكمه وحسن تدبيره فدار الفلك بهذه الأزمنة الأربعة فأول ما خلق الله من الأزمنة الشتاء بارداً طباً وخلق الربيع حاراً رطباً فكان متصلاً بالشتاء بالرطوبة مخالفاً له بالحرارة وخلق الله الصيف حاراً يابساً فكان ملائماً متصلا بالربيع بالحرارة مخالفاً له باليبوسة وخلق الخريف بارداً يابساً فكان ملائماً متصلاً بالصيف باليبوسة مخالفاً له بالبرد ولذلك زعمت الفلاسفة أن الله خلق الإنسان على خلق الأربعة الأزمنة على أربع طبائع كطبائع الأزمنة فأول طبائع الإنسان البلغم وهي مبنية الجسد وقوامه وأسكنه الأعضاء والمفاصل وعنصره الرأس وكان البلغم مضاهياً للشتاء لبرده ورطوبته ثم خلق الدم حاراً رطباً متصلاً بالبلغم ملائماً له بالرطوبة مخالفاً له بالحرارة مضاهياً للربيع وخلقه سفاحاً مسكنه العروق والعصب وعنصره الكبد وهو جوهر الجسد وحياته ثم خلق الصفراء حارة يابسة متصلة بالدم ملائمة له بالحرارة مخالفة له باليبوسة وهي خادمة الجسد منضجة للغذاء مميزة له ومسكنها المعدة وعنصرها الكلى ثم خلق الله السوداء باردة يابسة متصلة لا صفراء ملائمة باليبوسة مخالفة لها بالبرد مضاهية للخريف بالبرد واليبوسة وزعموا أنها الريح خاملة في الجسد عنصرها الطحال وأنها ميزان الجسد وأنها ضد الدم والصفراء ضد البلغم. قالوا: وحقيق على التحرير العاقل أن يقابل الأزمنة بما يضادها من الأغذية فيقابل بالحار اليابس لأنه ضده ويقابل الربيع بالبارد واليابس لأنه ضده ويقابل الصيف بالبارد الرطب لأنه ضده ويقابل الخريف بالحار الرطب لأنه ضده وقالوا الآن كل طبيعة يهيج سلطانها في زمانها فيعدل الجسد والطبيعة باختلاف الأغذية ولا باقي مع الله. قالوا: فوجدنا ذلك مبيناً عيناً موجوداً في الإنسان وذلك أن الجوع حار قاتل فإذا قوبل بالشبع مات الجوع وإن العطش حار قاتل فإذا قوبل بالري أمات ذا العطش فكان هذا دليلاً على غيره من الأدواء ودليلاً على غيره من الأدوية الدافعة الآفات تدفع الآفات المعينة. قال وهب: وإن الله لما خلق الجنة حين شاء كيف شاء حيث شاء في سابق علمه وخلق النار وصار إبليس والجان إلى الجنة وهم لا يتناسلون في الجنة وإن الجان تنافسوا في الجنة وطغى بعضهم على بعض وعصوا الله وسفك بعضهم دم بعض عج الملائكة إلى الله بالدعاء - قالوا سبحانك ربنا ما أحلمك وأكرمك يتقلب في نعمك من يكفر بك لم تعبد زيادة في ملكك ولم تعص مغالبة في سلطانك تمهل من أساء وتصفح عمن عصى لم تخش الفوات فإليك المصير وأنت على كل شيء قدير لا يفوتك هارب ولا ينجو منك هارب لم ينقص ملكك من عصاك ولا زاده من أطاعك أنت قبل كل شيء وأنت بعد كل شيء لم يؤدك حفظ ما خلقت فأنت بكل شيء عليم. قال ابن منبه: فغضب الله على الجان فأوحى الله إلى جبريل أن أخرج الجان من جواري وطهر منهم جنتي فأخرجهم جبريل من الجنة إلى أرضنا هذه فأسكنهم جزائر البحار وقفار الأرض وبقي إبليس مع الملائكة يعبد الله ثم خلق الله آدم عليه السلام لما شاء كيف شاء حين شاء في سابق علمه المكنون وحكمه النافذ من أديم الأرض من سهلها وجبلها وأبيضها وأسودها وأحمرها فجمع الطين فصار صلصالاً حمأ مسنوناً فصور آدم من تلك الطينة. قال وهب: فلذلك وجد في بني آدم اختلاف الصور للسهل والجبل واختلاف الألوان لاختلاف ألوانهم فرفع جبريل آدم إلى الجنة فلما رأته الملائكة قالوا ربنا ما هذا قال الله تعالى {إني جاعل في الأرض خليفة قالوا ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} وأنت أعلم ربنا {قال إني أعلم ما لا تعلمون} وطاف إبليس بآدم فغمه ما رأى من جماله وحسن خلقه حسداً ثم جسه بيده فدوى آدم فقال خلق مجوفاً أصبت والله فيه حاجتي ونفخ الله تبارك وتعالى الروح في آدم صلى الله عليه وعلى محمد وسلم فجال الروح في رأسه فأبصر فرأى جبريل فقال له جبريل عليه السلام: يا آدم وكان قد خلق الله تعالى آدم ملهماً ثم انتشر الروح في جسم آدم فشق جوفه إلى حقويه فاستوى جالساً فلذلك أنزل الله {وخلِق الإنسان عجولا} لأنه جلس قبل أن يصل الروح إلى ساقيه وفخذيه وقدميه. قال وهب: فقال جبريل يا آدم إن الله لم يخلق بشراً قبلك أنت أبو البشر فاشكر الله تعالى فرفع آدم بصره إلى العرش فلم يحجب عنه العرش فرأى في ساق العرش مكتوباً بالنور (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وكان ملهماً للقراء فقال يا جبريل ألم تقل إني أبو البشر وهذا محمد مكتوب في ساق العرش فقال له جبريل صدقت يا آدم صدقتك هذا محمد حبيب الله أكرم البشر على الله خاتم الأنبياء من ولدك وبه تكنى يا أبا محمد له غداً المقام المحمود وله الشفاعة واللواء والحوض والكوثر. قال وهب: وإن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم اليسرى. قال وهب: فقال بعض أهل العلم إن الله خلق حواء من الأرض كما قال {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} قال: أولئك الأولون قال الله: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها}، فعطف على النفس لا على للأرض لأنه لم يسبق ها هنا الأرض قصة.
قال وهب: خلق حواء بيضاء نقية صافية البياض ناصعة كحلاء سوداء الأشعار وبه سميت حواء فأسكنها الله الجنة فعلم الله آدم اسم كل شيء في الجنة بكل لسان نطقت به ذريته بعده ثم قال تعالى للملائكة {أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين} في قولكم، {أتجعل فيها من يفسد فيها}، {قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم}، {قال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون}، وأمر الله تعالى الملائكة وإبليس بالسجود لآدم {فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} وعتا أن يسجد لآدم وقال {أتأمرني أن أسجد لمن أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} فغضب الله عليه وقال له {اخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون} قال الله له {إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم} قال وهب: ولم يعطه الله سؤاله ولكن أخر، لما سبق في علمه إنه يكون محنة وابتلاء لآدم وبنيه. قال وهب: ولم يعط الله تعالى إبليس الحياة إلى يوم القيمة ولكن إلى يوم الوقت المعلوم، وهو نذر قبلته الملائكة قال الله تعالى {يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون} وقال قوم إنه باق إلى موت الخلق كلهم فيموت. قال وهب: وإن الله أنزل صحيفة على آدم قال {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة} ونهاه عن فتنة إبليس ألا يفتنه ويطغيه وإن إبليس أظهر لآدم عبادة الله رياء ثم طرقه ووسوس إليه وقال له: يا آدم أنا أحبك وأنا لك ناصح إن الله لم ينزل عليك النهاية عن هذه الشجرة إلا أن لا تكون أنت وزوجك ملكين فتكونا من الخالدين في الجنة واقسم بالله إني لكما ناصح، قالت له حواء: يا آدم هل يحلف خلق الله وهو كاذب لا يكون ذلك. فذكر آدم النهاية فأبى وإن إبليس راعى أحوال آدم فلم يجده يغفل إلا عند إفاقته من نومه فلما أفاق آدم من نومه أتاه إبليس فقال له كل من هذه الشجرة يذهب عنك ما تجد من كسل ووسن وهو رأس النهي، فمد يده فأكل وأكلت حواء لما رأته أكل ثم ذكر النهاية آدم فرمى بما في يده وتفل بما في فمه وفعلت ذلك حواء وزجر آدم إبليس عن نفسه فقال له إبليس: إني برئ منك يا آدم عصيت الله، قال آدم: رب إني نسيت واستفزني عدوي عند ساعة نومي وذلك قول الله {فنسي ولم نجد له عزماً} أي لم يعزل على مضغ ما في فمه ولا حبس ما في يده. قال: ثم تطايرت عنهما حلل الجنة فعلم إنه عاص {فلما بدت لهما سوآتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة}. قال وهب بن منبه: ولما أراد الله خروج آدم من الجنة للذي سبق في علمه قال: يا آدم اخرج أنت وزوجك من جواري. قال وهب: قال بعض أهل العلم أن إبليس ركب الحية وكانت ذات قوائم أربع حين أتى آدم ليأكل من الشجرة، قال لهم الله اخرجوا من الجنة اهبطوا إلى الأرض بعضكم لبعض عدو قال وسلبت الحية قوائمها وأخذ جبريل يجتاحه فرماه بجبل جي بخراسان.
وزعم بعض أهل العلم إنه يخرج منه الدجال في آخر الزمان فنزل آدم على جبل لبنان وقال قوم على الجودي ونزلت حواء على جبل الطور وإن آدم لما غوى وأمره الله بالخروج من الجنة أخذ جوهرة من الجنة يمسح دموعه بتلك الجوهرة حتى اسودت من دموع الخطيئة وتاب الله على آدم قال الله {ثم اجتباه ربه فتاب عله وهدى} ثم أنزل الله عليه صحيفة نزل بها جبريل كتاب من عند الله أمره أن يسير إلى البلد الحرام ويبني البيت العتيق وكيف يكون نكاح ولده وولد ولده بما يصلحهم من معاشهم وهو قول الله تعالى {اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فأما يأتيكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا}.
قال وهب: وإن آدم قال يا حبيبي يا جبريل لا أعرف البلد الحرام فأوحى الله إلى جبريل اني دليل الأدلاء دله على البلد الحرام فسار جبريل بآدم حتى أوقفه على الحرم وعلى المسجد واراه مبتدأ البيت وإن حواء وجدت رائحة الجنة من قبل المسجد الحرام عن آدم فتوجهت قبل آدم فلما رأى آدم شخصها من بعيد سعى إليها فالتقيا بعرفات فتعارفا فمن ثم سميت عرفات ثم بنى آدم البيت وتعينه حواء حتى رفع الحطيم فأمره جبريل أن يجعل فيه الجوهرة التي خرج بها من الجنة ففعل وقال هذا منسك لك ولودك من بعدك فلما تم بناء البيت أمره جبريل بقطع خشبة من المسجع بين الطائف ومكة وقال بعض الناس بل من المسجد الحرام فقطع خشبه فرفع سمك البيت وأمره بالحج إليه والصلاة وأعلمه إنه قبله له ولبنيه فأول أثر على وجه الأرض مكة وقال الله تعالى {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً}.
قال وهب: وأول ما تكاثف من الأرض وانعقد وصار أرض البيت حين كانت الأرض زبداً ثم تكاثف المسجد الحرام حولها ثم دحى الله الأرض تحتها قال الله تعالى {ولتنذر أم القرى ومن حولها} مكة أم الدنيا وما فيها من أثر. قال الذي ألف هذا الكتاب: أن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم اختلفت في الجنة التي اهبط منها آدم عليه السلام فقالت فلاقة أن الجنة التي خرج منها آدم هي جنة من جنات الدنيا وليست جنة الخلد التي وعد الله المتقين وكذلك النار التي أوعد الكافرين ولم يخلقا وإنما يخلقان غداً يوم الفصل واحتجوا في ذلك وقالوا أقاويل فكان ما احتجوا به أن قالوا قال تعالى {كل شيء هالك إلا وجهه} فإن كانتا خلقتا فهما يهلكان بهلاك الدنيا وما فيها وقالوا قوله إلا وجهه ما أراد إلا هو كما تتقول هذا وجه الأمر وهذا وجه الحق أرادوا بوجه هنا هو الأمر وأما الأمر فما له وجه ولا قفا وهذا هو الحق وكذلك قوله لا وجهه إلا هو. ومما احتجوا به أيضاً أن قالوا إنما سميت الدنيا لأنها دنت بجميع ما فيها من خلق الله من كل شيء مخلوق وسميت الآخرة آخرة لأنها تأخرت بعد الدنيا بجميع ما فيها فهذه الدنيا بما فيها وتلك أخرى بما فيها وليس في لآخرة إلا داران جنة ونار فإن كانتا خلقتنا فقد خلقت الآخرة في الدنيا فحينئذ يكونان دنيا جميعهما وانتفت الآخرة وذلك غي جائز ويكونان جميعاً آخرة ولا دنيا وقد بينها الله في كتابه فقال في الآخرة تلك الدار الآخرة وقال في الدنيا {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} فدار الآخرة عند الله ممدوحة غير غرور وهذه غرور فهذا من الله تبارك وتعالى البيان. ومن حجتهم أن قالوا: إن الجنة دار الخلد لا يخرج منها من قد دخلها وهذه قد خرج منها آدم وحواء وإبليس والجان فهذا دليل على أنها ليست جنة الخلد. ومن حجتهم أن قالوا: إن جنة الخلد ليست دار تكليف وإنما هي دار جزاء لعمل الدنيا وليس يكلف فيها أحد وقد كلف فيها آدم وحواء ألا يأكلا من الشجرة وكلف إبليس والملائكة السجود لآدم فهذه عبادة تعبدهم الله بها. ومما احتجوا به أن قالوا إن الجنة التي وعد المتقون فيها فاكهة لا مقطوعة ولا ممنوعة وقد منع آدم وحواء في هذه الأكل من الشجرة وقالوا إن احتج من ناظرنا أن الله قال {اسكن أنت وزوجك الجنة} إنما هي جنة الخلد سماها الجنة فقال الله {ودخل جنته وهو ظالم لنفسه} فهذا يلزم أن تكون جنة الخلد لأنه سماها جنة. وقد احتج أيضاً من زعم أن الجنة مخلوقة والنار مخلوقة فقالوا: قال الله {جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين} وأخبر أنها أعدت ولم يقل تعد لأن قوله أعدت فعل ماض وتعد فعل مستقبل وقال {اتقوا النار التي أعدت للكافرين} وقد أبان الله الماضي من المستقبل قال {فأتى الله بنيانهم من القواعد} ماض وقال {يوم يأتيهم الله في ظلل من الغمام} مستقبل والماضي كثير شاهده في القرآن. ومما احتجوا أن قالوا: قال الله {ادخلوا آل فرعون أشد العذاب، النار يعرضون عليها غدواً وعشيا}. ومما احتجوا أن قالوا: قال الله تعالى في حبيب النجار الشهيد {قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين} فأراد قومه الذين خلف في دار الدنيا يعلمون كرامة الله له.
ومما احتجوا به أن قالوا: قال الله {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. لا خوف ولا حزن على الذين لم يلحقوا بهم من إخوانهم المؤمنين الذين في دار الدنيا قالوا: والآثار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثيرة غير أنا اكتفينا بالقرآن وجعلنا القرآن الناطق المحكم. وقالوا بالقياس السوء فقد حمل القياس الفاسد على القرآن الناطق والآثار الصادقة فحملوا القياس السوء وادعوا به علم الغيوب ويعلمون من علم الله ما لا يعلمونه وقد قال الله تعالى {ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون} فقال الله لا تشعرون وقالوا بل نشعر نحن رداً على الله وقد نهاهم فقال ولا تقولوا فقال ولا هم أموات وقد احتجوا به أن قالوا قد حملوا رأيهم بالقياس على الخصوص فجعلوه عموماً في قوله {كل شيء هالك إلا وجهه} وقد أجمعنا نحن وإياهم على أن أعمال العباد أشياء وإن الله عدل لا يجوز أن يعذبهم على غير شيء وقال {ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً} فهل تفنى أعمال العباد والكتب التي كتبتها الحفظة الكرام الكاتبين والله يقول {اقرأ كتابك} فإن هلكت الأعمال والكتب فما يقرئون غداً وما يجزون - وأعظم غيهم أنهم يقولون أن أسماء الله وصفاته أشياء وهي غيره فهل تفنى أسماؤه وصفاته فأرادوا أن يدركوا علم الغيب بالقياس وقال الله {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض} وقال آخرون احتج هؤلاء ونحن نرد علم هذا إلى الله وقال الله {وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً، وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيامة} فلم نؤمر إلا بهذا ونرد علمه إلى الله تعالى غير أنا نعلم أن الله جنة وناراً يثيب بهذه المتقين ويعذب بهذه الكافرين وهو العالم إن كان خلقهما الآن أو يخلقهما غداً فقد صدقنا بما قال والكلام غي هذا كثير غير أنا اختصرنا تأليف هذا الكتاب عن السلف الصالح. قال أبو محمد عن أنس عن أبي إدريس عن وهب قال: حبلت حواء وآدم بمكة يبتني فولدت شيئاً وعناقاً في كل بطن غلاماً وجارية وكانت حواء تحمل في كل عام فتلد في كل بطن غلاماً وجارية فنزل جبريل على آدم فأمره أن يزوج الغلام من البطن الأول الجارية من البطن الآخر ويزوج أيضاً الغلام من البطن الأخير الجارية من البطن الأول ثم أمر الله تعالى آدم بالسير إلى البلد المقدس فأراه جبريل كيف يبني بيت المقدس فبنى بيت المقدس ونسك فيه وقبلته منه المسجد الحرام ويحج إليه وقت الحج ويحج معه ولده فكان آدم وولده يبنون البيت ويقربون القربان في جبل الطور فمن قبل سعيه نزلت النار من السماء على قربانه فأكلته فمن أكل قربانه علم إنه قبل سعيه ومن لم تأكل النار قربانه علم إنه لم يتقبل سعيه فتفكر في ذنبه وسأل آدم أن يستغفر الله له من ذنبه ثم يقرب قرباناً آخر حتى إذا أكلت النار قربانه علم أن سعيه مقبول وقد تاب الله عليه. قال وهب: وأنه لما أتى وقت الحج نزل جبريل على آدم فقال السلام يقرئك السلام يا أبا محمد ويقول لك أنا الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء حكمت عليك بالموت وعلى زوجك وعلى ولدك إلى يوم الدين ولا يبقى معي لا نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا جن ولا شيطان كل يذوق الموت فأتى آدم حواء وهو باك قالت له مالك قال لها حكم ربي علي بالموت وعليك وعلى جميع الخلق من الجن والأنس والملائكة بكت حواء لفراق الدنيا قال لها آدم: الدار الآخرة خير للمتقين ثم سار آدم إلى الحج وإن هابيل وقابيل قربا قربانا تقبل من هابيل ولم يتقبل قربان قابيل: {إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين}. قال وهب: قال ابن عباس كانت منافستهما على أخت قابيل على أخت قابيل التي ولدت معه في بطن وكانت جميلة فطلب هابيل أن يتزوجها وقال له قابيل أنا أتزوجها فقال له هابيل أن تحل لك قال له قابيل أقرب معك قربانا فمن أكلت النار قربانه تزوجها فقربا فأكلت النار قربان هابيل فبقى قربان قابيل فحسد هابيل عليها ونفز عليه فقتله. قال وهب: قال بعض أهل العلم أن شيئا وهابيل وقابيل وحبيب وعبد الصمد وعبد الرحمن وصالحاً وعبد الله وعبد الجبار. قال وهب: فلما رآه ميتاً حين قتله أقبل عليه يدعو وينادي: يا هابيل يا هابيل فلما لم يجبه أقبل عليه يقلبه ليتحرك، فلما رآه ميتاً لا يتحرك ولا يحير جواباً ولا ينظر، ندم وأدركه الخوف وعلم إنه الموت وداخلته وحشه الموت وعلم إنه عصى الله فطلب الحيلة له فلم يدر ما يفعل فيه وضاقت عليه الأرض فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه فلما مات بحث الغراب الحي حتى خد في الأرض أحدوداً ثم جر إليه الغراب القتيل فالقاه في الأخدود فقال: هذا غراب علم ما يعمل بأخيه فما لي لا أواري سوأة أخي هكذا فلما حفر ليواريه أتت حواء لتطلبهما لما غابا عنها فوجدته قد حفر له قبرا ووجدت هابيل قتيلاً فحملته وسارت به إلى آدم وقالت: له يا آدم هذا هابيل أكلمه فلا يكلمني ولا ينظر ولا يتحرك. قال: ما باله، قال له قابيل: أنا فعلت به هذا، قال آدم: اذهب عني فقد عصيت الله إياك أن تلقاني، فذهب فلم يلق آدم بعدها. وقال آدم لحواء: هذا الموت الذي أعلمتك به تزودي منه فإنك لن تريه إلى يوم الدين يرجع إلى الأرض التي خلقنا منها، فلما أيقنت بفراقه وأنها لا تراه أبد الأبد عظمت عليها المصيبة ورفعت يديها إلى رأسها صاحت، فمن أجل ذلك صارت كل امرأة على الدنيا إذا أصابتها مصيبة تأدت بيدها على رأسها وصاحت كفعل حواء، فلما بكت حواء قال لها آدم: مذ خلق الموت في الدنيا لم تجف لعاقل فيها عين ولا تجف لأهلها عين يبكون ويبكي عليهم حتى يتفارقوا ونفارقهم يا حواء ذهب الأمل وحل الأجل فمن قدم خيراً وجده ومن قدم شراً وجده وأنشأ يقول يرثي هابيل: تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
وجاورنا عدوٌ ليس يهدي ... لعينٌ لا يموت فاستريح
أيا هابيل يا ثمر الفؤاد ... أبعد العين مسكنك الضريح
محل تخلق الأجسام فيه ... ويبلى عند الوجه الصبيح
فعيني لا تجف عليك سحاً ... وقلبي الدهر محزون قريح
قال وهب: قال قوم من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن قابيل لم يقتل أخاه هابيل قتلاً مفنياً ولكنه تناظر معه في الملكوت وكانت قابيل أبعد بالحجة في ذلك فقتله بالحجة. والغراب عندهم تأويل ويحتجون أن الأنبياء لا تقتل الأنبياء ولو كان ذلك لما ذم بني إسرائيل بغير حق وإذا كانت الأنبياء تفعل ذلك فما بال غير الأنبياء - واحتجوا فقالوا: قال الله {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل إنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً} أي من استدعى نفساً إلى الشرك فقتلها فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها ودعاها إلى الإيمان فأحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً فكان قتل ابن آدم لأخيه بالحجة لا بالقوة لأنه لم يقتل نبي نبياً. قال وهب: قال جبير بن مطعم هذه القصيدة ليست لآدم وهي منحولة، وقال ابن عباس، تكلم آدم بجميع الألسن التي نطق بها بنوه ومن بعده من عربي وعجمي، وهذه الأسماء لم تعلمها الملائكة {فقالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا أنك أنت العليم الحكيم}. قال وهب: إن آدم غرس الثمار التي هبط بها من الجنة فأول ما غرس بالبد المقدس ثم انتشر بنو آدم إلى الجزيرة وغلى بابل وإلى اليمامة وإلى الطائف وبلغوا البحرين يغرسون الثمار وبلغوا اليمن وعمان يغرسون الثمار ويحفرون الأنهار ويبنون المصانع وينحتون الجبال. ثم أن آدم لما بلغ دعوة الله وعلت حجة الله في بنيه وفي الجن وكثرت ذريته في الأرض فتكملت أيامه آتاه وعد الله آتاه جبريل فقال له: يا أبا محمد السلام يقرئك السلام ويأمرك أن تقيم شيثاً خليفة من بعدك في الأرض للأنس والجن يقيم فيهم حجة الله وينهاهم عن معصيته فعلم آدم أن نعيت إليه نفسه فأوصى شيثا واستخلفه. قال وهب: لم يقبض الله آدم عليه السلام حتى وصل خلفه ألف رجل من بنيه وبني بنيه، ثم إن الله قبل روح آدم وأعلمه جبريل فلذلك قال: يا حبيبي يا جبريل نعيت إلى نفسي بموت حواء، وكان موت حواء قبل موت آدم بعامين، ثم دعا آدم فقال: رب هب لأوصيائي القائمين بجنبك عمري ما قاموا على عهدك وأظهروا حجتك وقاموا بحقك فمن بدل فإنك أنت العليم الحكيم. قال وهب: وكان عمر آدم عليه السلام تسعمائة وثلاثين سنة ثم قبضه الله ﷺ واسمه بالسرياني والعربي (آدم) وكان عمر حواء تسعمائة وثمانية وعشرين سنة. خلقت حواء بعد خلقه. وولي أمر بني آدم من أنس ومن الجن شيث (شيث) اسم عبراني وتفسيره باللسان العربي خلف وشايث باللسان السيرياني وتفسيره بالعربي نصب لأن عليه نصب الدنيا على ذريته ليس على الدنيا ذرية شيث وجميع ولد بني آدم أغرقهم الطوفان فقام شيث في الأرض وخليفة بأمر الله يصدع بالحق وذلك أن بني آدم وبني البنين انتشروا في الأرض يبنون ويغرسون فتنافسوا فيها وطغى بعضهم على بعض فأنزل الله على شيث خمسين صحيفة في صلاح الأرض يدعو الثقلين الجن والأنس وكان شيث مخبولاً على القراءة ولا يكتب. فأنزل الله شريعة آدم في نكاح الأخ للأخت لأن آدم ﷺ كان يزوج الأخ من الأخت إذا اختلفت البطون فأتت شريعته بخلاف ذلك ولا يزوج إلا ما تباعد نسبه كبنات العم وغير ذلك. قال الله تعالى {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً}. فأنكر عليه ذلك بنو آدم وسرجوا فقام فيهم بأمر الله وغلب عليهم الله حتى تمت كلمة الله وعمت دعوته. قال وهب: وإن لامك بن هنوش بن هابيل بن آدم وهو هابيل قتيل قابيل مر عليه وهو يرعى غنماً له راكباً على فرسه ولامك أعمى فتكلم قابيل فقال: لامك من هذا المتكلم فقد انتفض لكلامه كبدي واقشعر له جلدي فقالوا: هذا قابيل قاتل هابيل جدك قال: أوتروا إلى قوساً فأوتروا له قوساً ثم استمع الكلام من أين يأتيه حتى علم أين هو ثم قال: ألهم أهدني وانتقم ثم رمى فأصاب نحر قابيل فسقط عن فرسه. ثم سال من هذا قيل لامك بن هنوش بن هابيل قال: حسبي أبناء الأبناء قروا حدود ومات فأتوا بنو قابيل بلامك الأعمى إلى شيث فقالوا: هذا قتل أبانا قابيل قال لهم: أخذ الله حقه بأضعف خلقه دعوه النفس بالنفس فإن الله أوحى إلى آدم أنا أرحم الراحمين قتل ولدك ولا آمرك بقتل ولدك الآخر دعه لا يفوتني هارب ولا ينجو مني غالب وأنا القوي الطالب فلما بلغ شيث حجة الله وتمت كلمة الله بالصحف خمسين صحيفة وخمسين كتاباً وقد ذكر الله صحف شيث وغيرها من الصحف فقال: {رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة} وقال: {أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى} حكمنا حق في الأولين والآخرين، وقال: لا تبديل لكلمات فأوحى الله إلى شيث أن اتخذ ابنك أنوش صفياً ووصياً فعلم إنه نعيت إليه نفسه فأوصى إلى ابنه انوش واستخلفه فلما بلغ تسعمائة سنة واثنتي عشرة سنة قبضه الله وولي أمر الله في الأرض ومن فيها انوش بن شيث فحكم بما في صحف شيث واسمه باللسان العبراني انوش بكسر الهمزة الألف والشين وتفسيره باللسان العربي إنسان واسمه باللسان السيرياني انوش بفتح الألف والشين وتفسيره باللسان العربي صادق فعمل في الأرض بطاعة الله حتى بلغ عمره تسعمائة وخمسين سنة، فلما بلغ العمر المسمى في الدعوة أوصى إلى ابنه قينان ثم قبضه الله عز وجل. (قينان): عبراني تفسيره باللسان العربي مشتري وكذلك اسمه بالسرياني، فعمل بأمر الله وقام بحق الله واسمه في الإنجيل واينان وتفسيره بالعربي عيسى. فلما بلغ من العمر غاية دعوة آدم وعاش تسعمائة سنة وعشرسنين أوصى إلى مهليل ابنه، ومات قينان وولي الأمر ابنه. (مهليل): عبراني وتفسيره باللسان العربي ممدوح واسمه بالسرياني في الإنجيل مالالي وتفسيره بالعربي مسيح الله فصار بأمر الله قائماً فلما بلغ الغاية من العمر من دعوة آدم وعاش بضع مائة سنة وعشرين سنة أوصى إلى ابنه يارد: اسمه في التوراة عبراني وتفسيره بالعربي ضابط، واسمه في الإنجيل سرياني وتفسيره بالعربي هبط أي هبط في الأيام ثم قبض الله مهليل وولي الأمر في بني آدم يارد، فعمل بأمر الله فلما بلغ إلى غاية الدعوة وعاش تسعمائة سنة واثنين وستين سنة أوصى إلى ابنه (اخنوخ) ثم قبضه الله إليه. (واخنوخ): اسمه في التوراة عبراني وتفسيره بالعربي إدريس وهو إدريس عليه السلام، واخنوخ اسمه سرياني وأنزل في التوراة إنه حي إلى موت جميع الخلق وموت الملائكة فيذوق الموت حتماً مقضياً، وأنه عاش في الأرض ثلاث مائة سنة وخمساً وستين سنة ثم رفعه الله إلى السماء السابعة فهو مع الملائكة. وقال الله: {واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صديقاً نبيا ورفعناه مكاناً علياً}. وقال بعض أهل العلم: ورفعناه مكاناً علياً أي إنه رفعه في النسب مكاناً علياً أن ليس بعد آدم وشيث نبي غيره والله أعلم. قال وهب: إدريس النبي أول من كتب بيده من أهل الدنيا أنزل عليه الكتاب السرياني وعلمه إياه جبريل. فأول من أنزل الله تبارك وتعالى عليه {بسم الله الرحمن الرحيم} في صحيفة وبعده في الصحيفة مكتوب شهد الله إنه لا اله إلا هو. إلى آخر الآية ثم أنزل عليه أبجد إلى آخرها فكتب وقرأ ولما رفع الله إدريس استخلف ابنه متوشلح: عبراني تفسيره باللسان العربي مطلوق وهو بالسرياني متشالح وتفسيره بالعربي مات الرسول. فعمل متوشلح بأمر الله وحكم بحكم الله حتى بلغ علم المدة التي علم بها آدم فأوصى إلى ابنه لامخ. (لامخ): عبراني وهو بالعربي لمك وهو بالسرياني لامخ فبنى المصانع وتجبر واحتجب فلما رآه بنوه كذلك فعلوا كفعله ونافسوه ودافعوه، فعاش لامخ تسعمائة سنة وسبعاً وسبعين سنة ثم قبضه الله ومرج الناس وطغى بعضهم على بعض فبعث الله نوحاً (نوح) ﷺ: هو نوح بن لامخ فدعا الناس والجن إلى طاعة الله وأنزل الله عليه صحيفتين بكتابين ودعاهم إلى ما في الصحف فعصوه وارتفع عنهم الغيث فقال لهم: {استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين}. قال وهب: وأوحى الله إلى نوح {لا تبتئس بما كانوا يفعلون} فإن حكم الله نافذ إلى يوم الوقت المعلوم فاصنع الفلك فكانوا يسخرون منه ويقولون ترك الكذب وصار نجاراً فأقام نوح يدعو الثقلين الجن والإنس ألف سنة إلا خمسين عاماً فكان الآباء يوصون الأبناء بتكذيبه ويقولون لهم: لا تطيعوا هذا الشيخ الكذاب فانا أدركنا سلفنا يكذبونه، فأوصى الأبناء أبناء الأبناء بتكذيبه فكلما طاف الأرض يبلغ حجة الله فيأتيه وقت الحج فيرجع إلى البيت الحرام فيحج. فلما رأوه يفعل ذلك قالوا: لو هدمتم بيت نوح لكف عنكم فائتمروا بهدم البيت وخراب المسجد الحرام فهدموا البيت وخربوا آثار المسجد الحرام. فأوحى الله إلى نوح فقال له جبريل: يا نوح السلام يقرئك السلام، يا نوح جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا اشتد غضب الله وحقت كلمة العذاب على الكافرين لا ملجأ ولا منجا لأهل الأرض من عذاب ابنه احمل في السفينة من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم، فإذا رأيت التنور فاركب أنت ومن معك وكان الذي آمن معه سبعين رجلا. قال الله: {وما آمن معه إلا قليل} فلما رأى التنور ركب بالسبعين رجلاً بلا نساء معهم وركب بنوه سام وحام ويافث ونساءهم كن قد آمن، ثم رفعت الأرض ماءها وهرب ابن نوح الرابع إلى جبل فقال له نوح: يا بني آمن واركب معنا {قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء}، قال له نوح: {لا عاصم اليوم من أمر الله}. والعرب تجعل فاعل في موضع مفعول قال الله {في عيشة راضية} و {ماء دافق} أي مرضية ومدفوق. قال وهب: فآوى ابن نوح إلى جبل وهربت معه امرأة باينها فلما طما الماء على قنن الجبال وأخذها الماء جعلت المرأة ابنها على رأسها فلما ألجمها الماء جعلت ابنها تحت رجليها لتنجو ثم علاها الماء فغرقا وغرق ابن نوح. فأوى الله إلى نوح (لو كنت أرحم منهم أحداً لرحمت أم الطفل). ثم انهمرت السماء بماء منهمر والتقى الماءان ماء الأرض وماء السماء. قال الله: {فالتقى الماء على أمر قد قدر} ولو نزل الله ماء السماء على الأرض لأغرقها ولكنهما التقيا في الهواء ودار الماء على البيت وعلى المسجد فلم يعد وبقي ما فوقه هواء وأنه لما آن وقت الحج قذفت الرياح السفينة إلى البلد الحرام فطاف نوح بالبيت أسبوعاً ثم قال نوح لبنيه: إنكم في حج فاعتزلوا النساء فجعل نوح النساء بمعزل وجعل دون النساء رماداً وإن حام جاز إلى امرأته ليلاً فوطئها فلما أصبح نوح رأى الأثر في الرماد قال: من جاز إلى النساء؟ قالوا: لا نعلم من جاز. وكتمه حام. فقال نوح (اللهم سود وجهه ووجه ذرية من عصى ووطئ أهله) فولدت امرأة حام غلاماً أسود فسماه كوشا فعلم أن الدعوة أدركته. قال وهب: أقام الماء على الأرض أربعين عاماً وقال بعض الرواة أربعين يوماً ثم أمر الله السماء فأقلعت ماءها وأمر الأرض فغاصت ماءها ونزلت السفينة بنوح على الجودي فقال: {بعداً للقوم الظالمين}. قال وهب: وعاش نوح بعد الطوفان خمسمائة عام وإن السبعين رجلاً الذين كانوا معه في السفينة ماتوا بلا عقب وإنما أعقب بنو نوح الثلاثة سام وحام ويافث، فولد سام ارفخشد وارم وبنين كثيراً درجوا ودرج أبناءهم، فولد أرم: عوص فولد عوص عاد الأكبر، وولد عابر بن أرم فولد عابر ثموداً وطسم وولد آرم أيضاً لاوي فولد لاوي عملاقاً وريثاً وولد أيضاً فارساً ومارما، فولد فارس الفرس. وقال بعض الرواة أن طسم وجديش ورايش وعملاقاً أولاد من ابن ارم فأما بني ازفخشد فهم النخلة يعني نسبهم في نخلة النسب فاغنى عن أبنائهم هنا.
نسب ولد حام
نسب ولد حام
ولد حام كوشا وماريع، فولد كوش الحبشة، ولد لماريح بن حام كنعان بن ماريع بن حام فولد بربر بن ماريع ونوبة بن ماريع، وولد حام قبط بن حام وسند بن حام وقول بن حام وعامور بن حام، وولد يافث عجلان بن يافث، وولد يافث عوجان بن يافث وبرجان بن يافث، فولد عجلان بن يافث ياجوج وماجوج والترك والخزر أولاد عجلان بن يافث، وولد عوجان بن يافث صقالب بن عوجان وسكس بن عوجان وقوط بن عوجان. قال وهب بن منبه: ولما خلق الله الجنة جعلها خير معد لأوليائه وخلق الألسن فاختار لجنته من جميعها العربية وخلق بني آدم فاختار للعربية العرب. قال وهب: ولما أراد الله إتمام أمره وإظهار العربية أنزل كتاباً مقطعاً وهو: {شهد الله بالحق بسم الله الرحمن الرحيم شهد الله إنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}. حكم الحي القيوم إنه إذا اعتكر الزمان وكثر النسيان وحكم في ذرية آدم الشيطان وغلب هذا اللسان فعبدت الأوثان وقتل الولدان بعث الله محمداً بالعدل والبيان يصدع بالقرآن وينصر الإيمان زمان ظهور السودان نبي لا نبي بعده ولم يخلف الله وعده. قال وهب قال جبريل يا نوح خذ هذه الصحيفة فإنها كنز لذريتك فاحبسها عنهم فانه من صارت له من ولدك القسلة تعلم إنه خير ولدك وذريته خير ذريتك محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فلم يزل تبارك وتعالى ينقله من الأصلاب الطاهرة والمحتد الطيب حتى بعثه الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت الصحيفة عند نوح لا يعلم ما فيها حتى نعيت إليه نفسه فقال له جبريل: ساهم بين بنيك بني سام وحام ويافث فقال لهم نوح: اقترعوا على هذه الصحيفة فأيكم صارت له فهو خير ولدي وذريته خير ذريتي، فاقترعوا عليها فارت لسام فأخذها سام فصارت إليه وكانت في يدي سام ولا يعلم ما فيها. (سام): تفسيره بالعربية اسما، ومات نوح وولي أمر أهل الأرض سام وهو وصي نو. وقال بعض أهل العلم: أن وصي نوح ابنه نون بن نوح. قال وهب: وكان سام جزوعاً من الموت فسأل نوح الله ألا يميته حتى يسأل الموت. فعاش أربعة آلاف عام نبي القين وعمّر ألفين وإن سام اعتل بنسمة فسأل ربه الموت فمات. قال وهب: أتى الحواريون عيسى بن مريم فقالوا له: يا روح الله وكلمته أرنا جدنا سام بن نوح ليزيدنا الله يقيناً فسار بهم عيسى إلى قبر سام فقال: أجب بإذن الله يا سام بن نوح فقام بقدرة الله كالنخلة السحوق قال له: كم عشت يا سام؟ قال له عشت أربعة آلاف سنة تنبيت ألفين وعمرت ألفين، قال له عيسى: فكيف كانت الدنيا هناك؟ قال له سام: كبيت ببابين دخلت من هذا وخرجت من هذا ثم أن ساع قرع بين أولاده في الصحيفة فصارت إلى ارفخشد فعلم سام إنه خير ولده فأوصى له واستخلفه وولي ارفخشد. وتفسير (ارفخشد) بالعربي مصباح مضيء، وارفخشد باللسان السرياني واسمه بالعبراني ارفخشاد، فعاش ارفخشد أربعمائة وثلاثاً وستين سنة فكانت الصحيفة عنده لا يعلم ما فيها وهو على دين الله فساهم بين بنيه فصارت الصحيفة بالسهم إلى شالخ بن ارفخشد وولي أمر الناس شالخ. وشالخ بالعربي وكيل وكان على حق والصحيفة لا يعلم ما فيها، فعاش ثلاث مائة سنة وثلاثاً وستين سنة، فلما حضرته الوفاة ساهم بين بنيه فصارت الصحيفة إلى عابر بن شالخ فأوصى شالخ إلى ابنه عابر فولي أمر الناس عابر بالحق والعدل فبنى المجدل وحلب النهر والصحيفة عنده لا يعلم ما فيها حتى أراد الله تفرقة الألسن للذي سبق في علمه لظهور الحجة. قال الله {واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين}. قال وهب: وإن عابر رأى في منامه كأن باباً من السماء فتح له ونزل منه ملك فأخذ بيديه فأقامه قائماً فشق صدره ونزع قلبه فشقه وغسله ثم أطبقه فعاد صحيحاً كما كان ثم رده في صدره وريده فعاد سوياً. فلما أصبح داخلته وحشة وهيام منها فتوارى عن أخوته وقومه وأنكره أهله وولده وامتنع من الطعام. فلما رأى إلى فراشه رأى كما رأى في الليلة الأولى، فرأى كأن الملك آتاه فأخذ بيديه وأقامه على نفسه ثم قال: هات الصحيفة يا عبر فأتى بالصحيفة عابر فقال له الملك: اقرأ يا عابر، قال له عابر: ما الذي اقرأ؟ قال: (اقرأ (شهد الله بالحق بسم الله الرحمن الرحيم شهد الله إنه لا إله إلا هو). إلى آخر الصحيفة ثم قرأها معه مراراً فلما أصبح عابر ازداد وحشة وفراراً من قومه، فقالوا: أن عابر خولط في عقله، فجعلوا يحرسونه وهو يتوارى عنهم بالصحيفة يتذاكر ما علمه الملك ويتدبر الأحرف بعقله وافتراقها كيف واتصالها كيف نهاره أجمع. فلما أوى إلى فراشه عادت الرؤيا ثم أخذ الملك بيده فأقامه وقال هات الصحيفة يا عابر! فلما آتاه بها قال له: يا عابر أمر هذه الأحرف وسمها بما أعطاك لسانك وشفتاك ألا ترى أنك قلت باء بشفتك فسم حرف الباء، ثم قلت سين فهو سين، ثم قلت ميم توالي الحرف بالحرف يكن بسم. وكذلك سائر الحروف فتدبرها وسمها بما أعطاك لسانك وشفتاك لتسعد. فلما أفاق عابر تدبر الصحيفة كما رأى فسهل عليه أمرها وفتحت له قراءتها فقرأها وعلم ما فيها فدعا ابنه هود وهو هود النبي ﷺ - فقال له: يا هود إن الله اختصني بعلم عظيم جليل القدر لنا به الشرف في الدنيا والآخرة، ثم أخرج الصحيفة فقرأها فقال له هود: يا أبت رأيت رؤيا كأن آتياً أتاني فأطعمني طعاماً فلما وصل إلى جوفي تضوع له من فمي نور ملأ ما بين المشرق والمغرب. قال له عابر: أنت يا بني صاحب الصحيفة سيقال لك وتقول فاحترس بما في يديك. ثم تبلبلت ألسن الخلق فأقاموا بالمجدل وبأرض بابل يموجون ويعالجون اللغات فسلبوا اللسان السرياني إلا أهل الجودي فإنهم لم يعتوج لهم لسان يتكلمون بالسرياني. وأجرى جبريل صلى الله عليه على كل لسان كل أمة لغة فنطق بالألسن العجمي والعربي وأفصح يعرب بالعربية وهود أبوه وفالغ بن عابر أخو هود بالجودي يتكلم بالسرياني، ويتكلم مع عابر جميع أخوته وبني عمه أرم بن سام ما خلا الفرس فإنها تكلمت بلسان أعجمي، وأما عاد وثمود وطسم وجديس وعملاق وراتش فإنهم نطقوا مع ابن عمهم عابر بالعربية فأدركتهم بركتها وشرفوا وتغلبوا على جميع من كان معهم من الألسن حتى زهوا على الناس وأظهروا فيهم الطغيان وأشرفوا على الناس وكانوا كذلك إلى حين والناس إذ ذاك ببابل. قال وهب: ولما تغلب المتعربون من ولد سام بن نوح على الناس ببابل وطغوا عليهم وعاثوا فيهم، بعث الله إليهم أخاهم هوداً نبياً فدعاهم إلى طاعة الله فعتوا وهو قول الله تعالى: {وإلى عاد أخاهم هوداً}. فإنه لما تغلب بنو عابر على جميع أهل الألسن وقهروا الناس، هبت الرياح الأربع الصبا والدبور والشمال والجنوب وهو أن تقف وتستقبل بوجهك مطلع الشمس فما هب عن وجهك فهو صبا وما هب عن يمينك فهو جنوب وما هب عن شمالك فهو شمال وما هب عن خلفك فهو دبور. قال وهب: ولما هبت لقوم تبعوا ريح الصبا أين سارت واقتدوا بها وهم بنو حام فساروا حتى نزلوا اليمن ولم يسم إذ ذاك يمن. ثم هبت بعدهم ريح فتبعها قوم من بني يافث وهم القوط فنزلوا بجوار بني حام والموضع الذي نزلت به بنو حام يسمى العالية والموضع الذي نزلت فيه بنو يافث يسمى الهيفاء، فعملوا الأرض وافتتحوها وغرسوا الثمار وأجروا الأنهار ثم تنافس بنو حام وبنو يافث فاقتتلوا فغلب بنو حام على بني يافث وملكوهم وأجروا عليهم الخراج، والقوط أول من أدى الخراج على الأرض من ولد نوح، وفي ذلك كله هود يدعو الناس ببابل إلى الله ثم أن هوداً رأى رؤيا كأن آتياً أتاه فقال له: يا هود إذا ضربت رائحة المسك إليك أو إلى أحد من ولدك من ناحية من نواحي الأرض فليتبع من وجد رائحة المسلك ذلك النسيم حتى إذا كف عنه فذلك مستقره وللناس سعى ولله فيه علم وقضاء سبق ذلك فجاء مكنون علم الله. فقص الرؤيا هود ﷺ على ولده وقومه. ثم آتاه آت في الليلة الثانية فقال له: يا هوج من وجد رائحة المسك اتبعه فإنه يفضي به إلى خير بلد الله وفيه بيته العتيق وحرمه وهو البيت الذي بناه آدم والملائكة ورفعه الله من الطوفان. وقال بعض الرواة: بل هدمه ثوم نوح. فأقام هود ببابل على الرجاء فلا يجد شيئاً وهو يدعو الناس المتقربين من ولد سام بن نوح عاد أو ثمود وطسماً وجديساً وراتشاً وعملاقاً وبني ارفخشد بن سام وعاد وإخوانهم بنو أرم بن سام ببابل. قال وهب: وإن يعرب بن قحطان بن هود النبي عليه السلام وجد رائحة المسك فقال له هود: دانت ميمون النقيبة يا يعرب أنت أيمن ولدي مر فإذا سكن عنك ما تجد فانزل على اليمن ولا تمر فإنها لك خير وطن وجاور بيت الله يا خير جوار. فصار يعرب بمن تبعه من بني قحطان وبني عابر ومن خف معه من بني ارفخشد فساروا في جمع عظيم ووجوه أهل بابل وكان يعرف وسيماً كريماً أفضل غلام ببابل وقال في ذلك: أنا ابن قحطان الهمام الأقيل ... لست لكاك ولا مؤمل
يا قوم سيروا في الرحيل الأول ... قحطاننا الأوفر غير الأرذل
إني أنادي باللسان المسهل ... بالمنطق الأبين غير المشكل
ومنطق الأملاك بعدي الكمل ... حسرت والأمة في تبليل
أجرى بعين الشمس في تمهل ... لا قهر الأملاك بالتفضل
عن قول نوح غير ذي تغزل ... وقول نوح ذاك علم الفيصل
يرجى لتعقيب الزمان الأحول ... زمان ذي الوحي الكريم المفصّل
محمد الهادي النبي المرسل ... والناس عند سبقنا بمعزل
عن خير قول قلته وأجمل ... لله در الماجد المستقبل
قوله بمنطق الأملاك يعدي الكمل: طعن في علم ما يكون بعده أراد منطق التبابعة من ولده وأراد بقوله الزمان الأهول بعد ما بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم إنه يحارب الجار جاره ويعادي المرء كلبه ووالده وأمه. قال وهب: وقوله عن قول نوح - يريد الصحيفة كنز ذرية سام - ثم سكنت عنه رائحة المسك على رأس العالية فنزل بجوار بني حام فشاجره بنو حام كما فعلوا ببني يافث فرجعوا إلى يعرب وبني عابر اللذين معه فقاتلهم قتالاً شديداً فهزمهم يعرب ونفاهم إلى غربي الأرض فآتاه بنو يافث مذعنين فأمرهم بالإقامة ورفع عنهم الخراج الذي كانوا يؤدونه إلى بني حام. قال وهب: وورث يعرب أرض اليمن. قال وهب: اسم (يعرب) يمن ولذلك قيل أرض يمن وأقام يعرب بها يغرس الثمار ويجري الأنهار. وكان يعرب أول من قال شعر ووزنه وذهب في جميع الأعاريض ومدح ووصف وقص وشيب فتعلم منه أخوته وبنو عمه حتى وصل الأمر إلى المتعربين ببابل عاد وثمود وطسم وعملاق وراتش فاستطابوا الشعر وخف على ألسنتهم وراموا قوله فنسج لهم قوله. قال وهب: وبلغ عادا ما يعرب فيه هو وبنو أبيه من النعمة ورفد العيش وكان شخص مع يعرب من بابل إلى أرض يمن رجل من عاد يقال له رقيم ابن عويل بن الجماهر بن عوص بن أرم فلما رأى يعر ومن معه في أمن وسعة ورغد من عيشهم حسدهم وكان يعرب يرى الأسباب في منامه وكان يخبر بها قومه ليكون الذي رأى رواية - رأى أن آتياً آتاه فقال له: يا يعرب هلا جعلت نقباً في الجبل الأغر من أرض برهوث في غربي الأرض فإنه معدن عقيان وأفقر شرقيه فإنه معدن لحين ففعل ثم إنه يرى ويستخرج معدن الجوهر من العقيق والجوهر فكبر اللجين والعقيان في أرض يمن وإنما زيد في يمن الألف واللام لصلة الكلام، وإن رقيم بن عويل لما رأى أرض اليمن أتى قومه عاداً وكان فيهم رأساً فجمع عاداً ثم أخبرهم بما فيه بنو قحطان مع يعرب وأنكم ها هنا لستم على شيء وأعنتم على أنفسكم هوداً بكل من غشيم عليه وقهرتموه من جميع الناس فصاروا يداً عليكم مع هود ولكن لاينوا هوداً وأعطوه عقوداً حتى يلين لكم ثم اخرجوا إلى اليمن وانزلوا ناحية منها واسألوا أخوانكم الجوار فإذا سكنتم كنتم من وراء أمركم فويل للمنزول عليه من النازل. قال وهب: فأوحى الله إلى هود يخادعونك والله من ورائهم محيط أعطهم ما سألوا فاني لا أخشى فوتاً فوعزتي وجلالي ما ينتقلون إلا من أرضي إلى أرضي ولا يفرون من قدرتي إلا إلى قدرتي. فأعطاهم هود ما سألوه ورفعوا إلى اليمن فنزلوا بالأحقاف فلما نزلوا الأحقاف لم يتعرض لهم يعرب بشيء وقال لقومه: أخوانكم لجئوا إليكم فقال لهم رقيم: تحرموا عليهم الديون حتى يقاتلوكم فإذا طفرتم بهم قويتم على حرب هود بقتلكم ذريته فليس لأحد بكم طاقة وذلك إن الله خلقهم خلقاً عظيماً. قال الله تعالى: {ألم تر كيف فعل ربك بعاد ارم ذات العماد} أي ذات الأصلاب الطوال التي لم يخلق مثلها في البلاد ثم إن عاداً شاجرت يعرب وبني قحطان وتسببوا إليهم للحرب. فقال يعرب: يا بني قحطان إن كان أعطى الله عاداً أعظم الأجسام فقد أعطاكم الصبر والجلد فقاتلوهم بإذن الله تعالى ثم التقى بنو قحطان ويعرب ومن معهم مع عاد بموضع من اليمن يقال له بارق بين الأحقاف والعالية فاقتتلوا قتالاً شديداً فهزمهم يعرب وقتلهم مقتلة عظيمة فقال يعرب في ذلك: لعمري لقد شادت على الدهر خطبة ... سيوف بني قحطان في يوم بارق
لقد حضرت عاد إلى الموت ضحوة ... وللمرهفات الغر فوق العواتق
دلفنا إلى عاد بجمع كأنه ... على الأرض يعدو كالسيول الدوافق
أرادوا دفاع الله والله غالبٌ ... فكن عليهم منه إحدى الصواعق
لنا لجة وسط العجاج يُرى لها ... على فارسات الصبر حر الودائق
إذا عججوا أو لججوا خلت جمعهم ... صخوراً تدلت من رؤوس الشواهق
بكل فتى ماضٍ على الهول باسقٍ ... يلاقي المنايا بالسيوف البوارق
نفينا بني حام عن الأرض عنوة ... إلى الجانب الغربي رجم المضايق
لنا شرفات العز من حصن عابر ... علونا بها عن كل بان وسابق
أبونا هو الهادي النبي الذي له ... على أمم الدنيا عهود المواثق
سمونا إلى هود ومن كان مثلنا ... يقول بفخر واضح النور صادق
قال وهب: وإن الله أنزل على هود صحيفة أمره فيها بالحج إلى البيت الحرام وأنزل عليه ما بقي على أبيه من العربة وأنزل عليه (اب ت ث ج ح خ د ذ ر ز ط ظ ع غ س ش هـ ولا ي) فأنزل لها تسعة وعشرين حرفاً ولذلك علا اللسان العربي على جميع الألسن لأن كل لسان من الألسن مثل العبراني والسرياني إنما هو اثنان وعشرون حرفاً، وأنزل عليه - يا هو أن الله قد آثرك أنت وذريتك بسيد الكلام وبهذا الكلام يكون لك ولذريتك من بعدك استطالة وقدرة وفضيلة على جميع العباد إلى يوم القيامة ويجري هذا الكلام فيهم أبد الأبد حتى يختم بنبوءة محمد صلى الله عليه وآله وسلم آخره في الأصلاب الطاهرات يخرجه من صلب إلى صلب نبي مطهر ثم يخرج من ولد أخيك فالغ على عشر آباء من نوح إليه. قال وهب: فحج هود وقحطان ابنه ولحق بهم بمكة يعرب بن قحطان وحج معه يعرب بن قحطان والبيت مهدوم، فإذا مر بموضع الحجر الأسود وهو مدفون أومأ إليه واستلم فقضى حجه. فقال يعرب: أتأمرني يا رسول الله أبنيه قال له: لا قد أخر الله أمره يبنيه ويبني معه النبي بعده وتعينه الملائكة وذلك قول الله {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت} (وقال} وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل}. قال وهب: نبي معه إسماعيل. قال وهب: ثم أن رأس عاد وهو عاد بن رقيم بن عابر بن عوص بن ارم قال لرقيم: أنت مشئوم ورأيك نكد دعوتنا إلى حرب يعرب ولم يردونا بسوء فلما قتل عاد أدرك الجزع فلبست الذل وإن ملك عاد عاد بن رقيم دعاه إلى حرب يعرب وأنشأ يقول: ألا يا عاد ويحكم فسيروا ... إلى العلياء واحتملوا برشد
لقد ظفرت بنو قحطان منا ... بيوم طالع من غير سعد
لقد نزلوا البلاد فأوطنوها ... وكانوا في المحافل غير جند
ولينوا في مداهنة لهود ... فقد صرتم إلى ذل وجهد
وداروه ومن يهوى هواه ... ليرضى من سجيتكم بود
وفي غب النفوس يكون غلا ... دفينا في الصدور له بحقد
فأجابوه إلى المسير وخرجوا إلى حربه ويعرب بمكة ومعه وجوه بني قحطان وحملة أمورهم فلما برزت عاد أنشأ يقول عاد بن رقيم: يا قوم أجيبوا صوت ذا المنادي ... سيروا إليهم غير ما أرواد
إني أنا عاد الطويل النادي ... وسام جدي غير جد هادي
سيروا إلى أرض بذي اطواد ... بنهد أرض في ثرى الثماد
اذ يعرب سار على الجياد ... يظهر قفر أو ببطن وادي
قد شد من قبل على الآساد ... حتى سبا وعاث في البلاد
قوموا ليشهد خافق الفؤاد ... ويلق منا صولة الأعادي
يرمي إلينا مرسن القياد
وبلغ بنو قحطان خروج عاد بقومه فعادوا إليهم فخرجوا والتقوا ببارق فاقتتلوا قتالاً شديداً ونال بعضهم من بعض فكان بينهم قتل عظيم وبلغ ذلك يعرب بمكة فأمره هود بالانصراف إلى اليمن، فلما جاءهم يعرب تهيأ للزحف إلى عاد وإن الله أمر هود بالمسير إلى اليمن لينذر عاداً ويدعوهم إلى طاعة الله تعالى. فسار هود حتى نزل بجوار الأحقاف بموضع يقال له الهنيبق وأمر يعرب فكف عما كان عليه من حرب عاد ودعا عاداً إلى الله تعالى ووعدهم الجنة إن هم أطاعوا الله وخوفهم بالنار إن هم لجوا وتمادوا على ما هم عليه من الكفر فقالوا له: صف لنا هذه الجنة التي وعدتنا؟ فقال لهم: هي جنة بناؤها بطون العقيان وطينها لجين وفيها حور العين أبكار والفواكه الدائمة التي لا تنقطع والأنهار من كل الأشربة تجري بين القصور تحتها والغرف المبنية من الياقوت على أعمدة اللؤلؤ والزمرد والزبرجد وقيعانها من فتيت المسك والكافور والزعفران. قالوا: فصف لنا النار؟ قال لهم: هي سوداء مظلمة مدلهمة وهي طبقات الهاوية والحجيم ولظاً وجهنم والسعير وأوديتها موبق والزمهرير وطعامها الزقوم من أكله سالت عيناه وأحرق حشاه وشرابها الغسلين يتساقط منها لحم الوجوه قبل أن يصل إلى أفواه الشاربين مع مقاربة الزبانية المعذبين. فقالوا وهذا هود قد وصف لنا ولكن أرسلوا إليه وفداً من أهل الرياسة والشرف والعقول يسألونه أن يريهم الجنة ويريهم النار؟ فأجمع أمرهم على ذلك فأرسلوا ألف رجل وفداً. فقال لهم ملكهم عاد بن رقيم: اسألوه أن يريكم هذه الجنة وسموها على اسم جدكم أرم بن سام بن نوح فيكون اسم جدكم موجوداً مذكوراً أبداً ويكون له به فضيلة على الخلق أجمعين وينسى اسم جدهم ارفخشد فيكون لكم علواً ولهم ضعة إلى آخر الدهر. فبعثوا منهم رجلاً من أهل الشرف والرياسة والمنطق يقال له البعيث بن وقاد بن خضرم بن هاد بن عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح، فوفد البعيث على هود مع ألف رجل فقال له: يا هود أنت وعدتنا بالجنة ووصفتها لنا وأوعدتنا بالنار ووصفتها لنا في الآخرة وخير هذه الدنيا قد رأيناه فلسنا تاركين الحاضر للغائب بقول قائل صادق أو كاذب فنحن من قولك في شك أو تبين ما قلت من جنة أو نار وإلا فأنت كاذب وإنا رأينا حور الدنيا وفواكه الدنيا، ثم وصفت لنا ما هو أحسن من هذا فحقيق على من كان له لب أن يرغب فيما وصفت ثم رأينا نار الدنيا محرقة فزعمت أن تلك النار أشد إحراقاً وظلماً فحقيق لمن خوفته بها أن يخافها فاخرج لنا مدينة نسكنها ونسميها على اسم أبينا أرم بن سام بن نوح تكون لنا فضيلة إلى آخر الأبد واخرج لنا ناراً نتعظ بها ونزداد فيما دعوتنا إليه رغبة وتخرج لنا حيث نريد - وهم يسألونه ذلك على وجه الاستهزاء به وأنه لا يقدر على ذلك - فقال لهم هود: سألتم أمراً وهو يسير عليه ولكن أخشى عليكم أن لا تقوموا لله بوفاء العهود وإنما يقول له كن فيكون فإن عصيتم الآية قال: لما يهلككم كن فيكون فاذهب يا بعيث مع أصحابك فخذوا عهودهم لله ثم أعلموهم أن هم أعطاهم الله سوء لهم أن كذبوا أن الله يهلكهم بمثلة تكون عبرة للعابرين فرجع البعيث والذين معه فقال للملك ولعاد البعيث: لقد جئتكم من عنج هود بقصة ... وما عنده قول إلى الحق يتبع
دعاكم لأمر ليس فيه حقيقة ... وما فيه شيء للجماعة ينفع
دعاكم لآمال غرور بعيدة ... وترك الذي يهوى ألذ وأنفع
كتمت له في النفس مني جوابه ... وظني به يا عاد يخدع
واني مشير فيكم بنصيحة ... وإن أصبحت عاد تطيع وتسمع
فإن تقبلوا رأي تنالوا سعادة ... خذوه برشد في الذي قال أو دعوا
ذروني أقل من قبل يبدأ قائل ... فاني له إن قلت بالفلج أطمع
قال له عاد: ما رأيك يا بعيث؟ قال له: نسير إلى هود فنسأله أن يخرج لنا هذه المدينة في الحفيف. وهو واد يسيل ويخرج من بين جبال وجرز وعود شعث والحفيف نهر يسير ليلاً ونهاراً بالرمل يتيهأ بالرياح العواصف. فخرج من عاد ثلاثة آلاف وفدا إلى هود، فاتوا هوداً فقالوا له: يا هود اخرج لنا هذه المدينة على عهد الله علينا وعلى قومنا أن نؤمن وأخرجها لنا بنهر الحفيف؟ فسار معهم حتى وقفوا على الحفيف. فقال لهم هود: اذهبوا عني إلى نجاد الأحقاف فإذا هب لكم نسيم المسك أقبلتم إلي. فذهبوا وناجى هود ربه فأخرجها الله لهم قصور الياقوت على أعمدة اللؤلؤ والزمرد والدر والزبر جد وقصوراً مبنية بلبن اللجين والعقيان وقيعانها بالمسك والكافور والزعفران. فلما رأوا ذلك عشيت أبصارهم وخشعت قلوبهم وداخل قلوبهم منها رعب ورقي إليهم منها نور كشعاع الشمس. فقال لهم هود: هذه التي اسمها أرم على أسم أبيكم فإن آمنتم كان لكم بها فضيلة على الخلق إلى يوم القيامة وإن رغبتم فإن الله قوي عزيز يهلككم كما أهلك من قبلكم ممن كان أشد منكم عتواً في الأرض، فأنا أعلم أنكم لم تؤمنوا ولن يراها أحد من خلق الله إلا رجل من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قال وهب بن منبه: رآها تميم الداري زمان عمر بن الخطاب، ثم هموا بدخولها فعميت أبصارهم واقشعرت جلودهم فولوا مدبرين، فقال لهم ميسعان بن عفير: ويحكم آمنوا فإنها آية من الله، فقالوا: أن هوداً لساحر من سحرة أرض بابل، قال لهم ميسعان: آمنت بما جاء به هود، ثم ساروا ومعهم ميسعان يعظهم حتى بلغوا موضعاً يقال له لكنة المعتال فأنزل الله عليهم ناراً بريح صرصر عاتية فأحرقتهم وخلص ميسعان فلذلك الموضع يسمى الحرقانهة إلى اليوم فانطلق ميسعان سالماً حتى أتى عاداً ليلاً أول رقده فاستوى على شرف من رمل ونادى بأعلى صوته وهو يقول شعراً: قد منحت القوم رشداً ناصحاً ... فأبى لي النصح من قد وفدوا
آمنوا بالله وارضوا بالذي ... قال هود يال قوم اعبدوا
بعد أن ساروا وسألوا آية ... فرضوها بعد عقد عقدوا
جعلوا الآية فيهم نسبا ... كانتساب الأب لما وردوا
ثم قالوا إنما هم أرم ... وهي بحر عليها وكدوا
فرضي هود بما قالوا معا ... فسني المسك ولاح العمد
قد رضوها فرأوها نسبا ... واليها بعد عاد قصدوا
ثم خانوا بعد صلح ورضي ... وعهود لنبي عهدوا
إنما مهرج شؤم وبه ... عن هوى هود لعمري عمدوا
حلت النار لهم فاحترقوا ... وكذا النار عليهم تقدُ
أوقد النار عليهم خيرهم ... ما نجا غيري منهم أحد
ويل عاد يا ويل لهم ... قدموا شيئاً فها هم وجدوا
ومهرج هو الذي أمرهم أن لا يؤمنوا لهود، وأنها لما سمعت عاد ميسعان ثاروا عليه في جوف الليل فقص عليهم ما كان من شأنهم فصاروا إليه يداً واحدة وقالوا له: يا ميسعان لقد دلنا شعرك على هوجك ولقد أعميت على وفدنا بالهوى. ولميسعان منعة بأخوته وولده وقومه فكرهوا أن يسرعوا إليه بسوء حتى يعذروا إلى قومه، فلما أعذروا إليهم قال له قومه: يا ميسعان ما حملك على خلاف جماعة قوم عاد؟ قال لهم ميسعان: لقد أوضحت لهم المنهاج أنرت لهم السراج لئلا يجهلوا الحق لاشتباه الفتنة وتخليط العمى أني رأيت آية باهرة للعقول أقام الله علينا بها حجة ثم صدرنا إلى قومنا منذرين لهم فرجعوا عنه إلى جماعة يعتذرون عنه فكفت عنه عاد فقال لهم هجال بن رفيدة: يا معشر عاد عليكم بهود فلاينوه حتى يسكن جأشكم فإن مصيبتكم بما حل في وفدكم عظيمة. قال لهم ميسعان: يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ثم سيروا إليه في الهنيبق نستبدل ما هو خير بما هو أدنى. قالوا له: لا حاجة لنا بقولك يا ميسعان فأنشأ ميسعان يقول شعراً: إلى جزع الهنيبق عاد سيري ... توفي الأمن والرأي المبينا
وتبدو لي الحرون وحقف رمل ... وتترك بارقاً أبداً حزينا
وترتحلي إلى بلد كريم ... وتتخذي المصانع والعيونا
من الماء المعين وكل غرس ... بها ترضونه عنباً وتينا
وتتخذون فاكهة وزرعا ... وماء في جعافره معينا
ترون برأيكم فيها بحزم ... إذا ما كان رأيكم مبينا
وإن عاداً عملت مهداً فاسداً للماء غرسوا تحته الجنات فكانت عجيبة بها من جميع الفواكه والزرع، وأقاموا على ملاينتهم لهود حولين كاملين يرجو إيمانهم وهم من ذلك في حيرة ويعرب معتزل لحربهم فأرسل إلى هود أن عادا قد مردت وأصرت فأذن لي في حربهم فأرسل إليه هود أن أمر الله أعظم من حربك فكف. قال وهب: وإن الله تبارك وتعالى رفع عن عاد الغيث عامين العامين اللذين هادنوا فيها هوداً فهلكت زروعهم وأسرع الهلاك في جناتهم وهلكت أنعامهم وأسرع الهلاك في أموالهم فأتوا إلى ملكهم عاد فشكوا إليه ما نزل بهم فقال: استسقوا فقصدوا إلى شيخ لهم يقال له قيل بن عنز كان طلق اللسان خطيباً فقدموه وخرجوا خلفه فأنشأ أبو الهجال يقول: ألا يا قيل ويحك قم فهنيم ... لعل الله يسقينا غماما
فيسقي أرض عاد أن عادا ... قد أمسوا ما يبينون الكلاما
فما ترجو بها غرساً وزرعاً ... ولا الشيخ الكبير ولا الغلاما
ثم أن عاداً أرسلت إلى هود فشكت إليه ما نزل بها من القحط، فقال لهم هو دان: الله يرسل عليكم ثلاث سحابات: سحابة صفراء وسحابة حمراء وسحابة سوداء ويخيركم في إحداهن فاختاروا لأنفسكم ما شئتم؟ فرجعوا إلى قومهم فأعلموهم بقول هود. ثم أن الله أرسل ثلاث سحابات: سحابة صفراء وسحابة حمراء وسحابة سوداء فأقامت عليهم ثلاثة أيام معلقة من جهة المغرب فأرسلوا إلى هود: أنا قد اخترنا السوداء ولا حاجة لنا في الصفراء والحمراء. قال لهم: إن الله يرسلها عليكم واضمحلت الصفراء وذهبت ثم تبعتها الحمراء ثم أرسل الله عليهم ريحاً صرصراً أحمت الشجر ولونت الزرع، وكان درب العرب في الغربي من اليمن وكان في الدرب ثلاثة فجوج فنفحت عليهم من الفج الأوسط من الدرب فذلك الفج يسمى إلى اليوم فج العقيم وكان في طاعة عاد خمس مائة رجل طوال الأجسام - كما ذكر الله - فخرج منهم ثلاث مائة رجل إلى الفج يريدون يبنون الفج لدفع الريح وتعسكر الباقون إلى هود لئلا من خلفهم وبينهم وبينه ثلاثة أيام، وبينهم وبين يعرب شهران، وإن عاد بن رقيم ملكهم انتصب إلى هود بعاد وتكفل الطوال بالفج فجعلوا إذا وضعوا حجراً قلبته الريح، فقالوا: اجعلوا رجالاً منكم يردون الريح عن البناء حيث يثبت، فقدموا الخلخال وكان أطول عاد جسماً وأشدهم بطشاً، وخرج إليه هازل بن غسان فأمسك عنهم الريح وأسسوا بنيانهن إلى آخر النهار فعصفت الريح وصرصرت فأخذت رأس الخلخال وهازل فنزعت رؤوسهما بقلوبهما وأكبادهما وحشاً أجوافهما فرمت بهما وألقت أجسامهما وبقي الأساس على حاله لما أراد الله من هلاكهم وكان ذلك يوم الأحد ثم أرسل الله الريح يوم الاثنين أول النهار لينة لما أراد الله من هلاكهم ويجعلهم مثلاً للأولين والآخرين وعبرة للعابرين فلما غدوا الفج قلبت الريح الحجر فأخرجوا شداد بن حمام والأمنع بن اصبغ إلى آخر نهارهم فهبت الريح وصرصرت ثم أخذت رؤوسهما فنزعتهما بالأحشاء وألقت بأجسامهما ثم قام يوم الثلاثاء سجار بن الهيعقان ومبدع بن قفال فنزل بهم مثل ما نزل بأولئك، ثم قام يوم الأربعاء يافث بن شرعب وسلاب بن الهيلجان فمثل ذلك، ثم قام يوم الخميس شرس ين عقاب وسجيل بن واغل فمثل ذلك، ثم قام يوم الجمعة تبان بن واقد وميدعان بن السبل فمثل ذلك، ثم قام يوم السبت سرحان بن عنبل وعامر ابن سالف فمثل ذلك، ثم قام يوم الأحد الرفصان بن هزيم فمثل ذلك، وخلفه الهندوان بن العميل فمثل ذلك، فاشتدت الريح وصرصرت لتمام سبع ليال وثمانية أيام فعصفت الريح وصرصرت فلم تدع منهم أحداً وهدمت الجبال وخددت الأرض وحطمت الشجر وأخذت الحجر كما قال الله تبارك وتعالى: {وفي عاد أرسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم} فأخرجتهم من الكهوف والقنون فكانوا كما قال الله {وأما عاد فاهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما}، فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية)، فلم يبق منهم إلا ميسعان بن عفير وبنوه الذين آمنوا معه وإنهم لعلى الدنيا إلى اليوم ولم يبق من الكافرين أحد فقال في ذلك ميسعان: ألم تر الريح العقيم إلا يدا ... والعارض العراض فيها الأسودا
تمطر بالنار وتهمي باردي ... تخدد الأرض وتذري الجلمدا
أرسلها صرا عليهم سرمدا ... أضحت بها عاد رمادا أرمدا
فلم تدع في الأرض منهم أحداً ... إلا هشيماً بالمنايا والردا
قال وهب: وإن الله أنزل على هود أربع صحف، ثم أن الله تبارك وتعالى قبض هوداً ودفن بالأحقاف بموضع منه يقال له الهنيبق بجوار الحفيف فإن نهر الحفيف أخرج الله فيه الماء المعين وغرست فيه الثمار من يوم أخرج الله فيه آية هود. قال وهب: عن ابن عباس: أن هود النبي عليه صلى الله وسلم أرى عاداً الآيتين الجنة فأما النار فرأوها في وادي برهوت وزعم أن ببرهوت عيناً من عيون جهنم، وإن جهنم في أرض المغرب يسكن عليها شرار خلق الله وهم الحبشة. قال وهب: وأراهم الجنة بنهر الحفيف - قال: وصار أمر هود إلى وصيه ابنه (قحطان). فقام قحطان بأمر الله وهو خليفة هود وانه تغلب بأذربيجان الاسكنان بن جاموس بن جلهم بن شاد بن عجلجان بن يافث بن نوح على جميع الألسن ببابل بعد هود طسم وعملاق فهربت بنو عملاق إلى بيت مكة إلى جوار قحطان ولحقت بهم رائش وتبعتهم طسم وجديس فنزلوا اليمامة ورحلت ثمود ونزلوا بمأرب من أرض اليمن وشكوا إلى قحطان ما نزل بهم من الاسكنان بن جاموس فجمع قحطان أهل اللسان العربي وزحف إلى بابل يريد الاسكنان بأذربيجان وانتصب له الاسكنان في بني يافث فلقيه قحطان فهزمه وقتل الاسكنان وفضت جموعه من بني يافث إلى أرض أرمينية وإلى ما خلفها من الأرض وما والاها وهربت القوط والسكس والإفرنج وهم بنو عرجان بن يافث ولحق بهم أخوتهم الصقالب بنو عرجان بن يافث. قال وهب: وكان قد تملك بيت المقدس وملك الشام ونمرود بن كنعان ابن ماريع بن كنعان بن حام بن نوح وأنه زحف إلى بيت المقدس وقحطان بسمرقند، فلم يكن لبني عملاق به طاقة فأجابوه ودافعه رائش بن لاوذ ابن سام بن نوح فقتلهما فمن بقي من رائش صاروا في إخوانهم عملاق في آخر الدهر. فأول قبيل انقطع عن الدنيا من ولد ارم بن سام عاد ورائش وبلغ قحطان خبر نمرود بن كنعان فأقبل إليه بجموعه فلم يستطع بنو حام مدافعة بني سام ومن لف إليهم من بني يافث فهربت النوبة والفرار إلى المغرب فنزلت النوبة والفراور بجوار القوط من بني يافث ولكنهم تقربوا إلى المغرب وكان القوط قبل ذلك باليمن فتبعتهم عاد إلى الشام وهربوا من قحطان إلى المغرب وإن قحطان لما نزلوا على بني كنعان ببيت المقدس وخذلهم إخوانهم من بني حام ورحلوا عنهم القوط فنزلوا على النيل أخذ نمروداً أسيراً فقتله وصلبه ببيت المقدس وكان النمرود بن كنعان أول قتيل صلب. ثم حج قحطان ورجع إلى اليمن فعاش مدة طويلة ثم مات بمأرب، وولي أمره ابنه يعرب بن قحطان، وكان ولي الملك من ولد قحطان لصلبه عشرة إلا أنهم من تحت ملك أخيهم يعرب بن قحطان وهم: جرهم بن قحطان وعاد بن قحطان وناعم بن قحطان وحضرموت بن قحطان وظالم بن قحطان وغاشم بن قحطان وأيمن بن قحطان وقطان بن قحطان والسلف بن قحطان وهميسع بن قحطان. فولي جرهم بن قحطان أمر مكة فنتملك أمر من كان بها، وولي عاد بن قحطان أرض بابل، وولي حضرموت بن قحطان أرض الحبشة، وولي ناعم بن قحطان عمان.
وولي أيمن بن قحطان الجزيرة، فلم يكن من هؤلاء من لم ينل الملك، ويعرب يملكهم ذلك، وعاش يعرب مدة طويلة ثم مات فولي (يشجب بن يعرب) بعد أبيه وكان سقيماً فدام به السقم حيناً ثم مات ولم يعمر في الملك. فلما مات يشجب ادعى كل رجل شريف من بني عابر الملك وأراد أن يتمنع ومرج أمر الناس فقام (عبد شمس بن يشجب) فجمع بني قحطان وبني هود فملكوه على أنفسهم. قال وهب: فلما ملك عبد شمس قال: يا بني قحطان إنكم ألا تقاتلوا الناس قاتلوكم وألا تغزوهم ولم يغز قوم قط في عقر دارهم إلا ركبتهم الذلة، فاغزوا الناس قبل أن يغزوكم وقاتلوهم قبل ان يقاتلوكم واعلموا أن الصبر فوز والعمل مجد والأمل منهل فمن صبر أدرك ومن فعل فاز فلتطب أنفسكم لغزو الأمم يعز غابركم، ففي الصبر النجاة وفي الجزع الدرك، ولا تغشكم الدعة فيطول داءكم والرأي اليوم لا غد وهو رزق مطلوب فواجد ومحروم فاعتمدوا العزم وكل ما هو كائن كائن وكل جميع بائن والدهر صرفان صرف رخاء وصرف بلاء والدهر يومان يوم لك ويوم عليك فإن أدر يوم من يوميك فلا تقنط من الرجاء في يوم معقب، وإن الناس رجلان رجل لك ورجل عليك والزمان دول له حين ينصر وحين يغدر - والناس مجتهدون فمن لقي رشداً كان محموداً ومن لقي غياً كان مذموماً ورأى الناس منتظرين كل محتال لثواقب الدهر غير محتال للموت والتجارب علم والعزم عون وكل هذا الناس ينو الدنيا صحبوا أقدارها خيراً وشراً راجين خائفين ليس أحد آخذاً منها عهداً ولا آمناً غدراً قاصدين أجداداً حتمت وأقداراً قسمت حتمها غير نائم وقسمها من لا يلومه لائم فقد يسعى المرء إلى الميقات يوم فيه فراق الدنيا أو بلوغ العليا والدنيا صاحبة الغالب وعدوة المغلوب والصبر باب العز والجزع بابا الذل ليس جمع خيراً من جمع ولكن جد خير من جد ولرب حيلة أزكى من قوة وكيد أسرع عياناً من جيش والأمل الخالب ولقدر الغالب والمرء الحازم من كيس دهره خالس) محملاً في بادله اقتصاده في دوله قدر ولم ينظر وبلى يخذل حذر من دهره ما لم ينزل به شرف همته بمحل النجم لم يرض من الزمان بأيسر خطة فلا تصحبوا التواني فإنه شر صاحب ولا ترضوا بالمنى فإنه مراتع العاجزين ولا تقروا على ضيم فإنه مصارع الأذلاء فقوموا قبل أن تمنعوا القيام. قال وهب: فأجابوه فسار إلى أرض بابل فافتتحها وقتل من كان بها من البوار حتى بلغ أرض أرمينية وافتتح أرض بني يافث، ثم أراد أن يعبر نهر الأردن يريد الشام فلم يستطع ذلك، فقيل له: إياها الملك ليس لك مجاز غير الرجوع في طريقك فبنى قنطرة سنجة وهي من أوابد الدنيا وجاز عليها إلى الشام، والشام اسم أعجمي من لغة حام وهو طيب تفسيره بالعربي فأخذ الشام إلى الدرب ولم يكن خلف الدرب أحد ثم نهض إلى المغرب فبلغ النيل فنزل عليه فدعا أهل مشورته، ثم قال: لهم إني رأيت أن أبني مصراً بين هذين البحرين يكون صلة بين المشرق والمغرب فإنه يلجأ إليه أهل المشرق والمغرب، قالوا له: نعم الرأي أيها الملك. فبنى المدينة وسميت مصر - كما قال لهم - وبنو حام بالمغرب سكنوا براري مصر فوصل إلى قمونية والقوط من ولد يافث بقمونية.
قال وهب: وإن عبد شمس كل من قتل من الأمم سبى ذراريهم وعيالاتهم، ولذلك سمى سبأ، وإن سبأ ولي على مصر ابنه بابليون وإليه تنسب مصر لملكه عليها ثم انصرف سبأ عبد شمس يريد مكة فسار بالعساكر على الشام وأوصى ابنه بابليون وأنشأ يقول: ألا قل لبابليون والقول حكمة ملكت زمام الشرق والغرب فأجمل
وخذ لبني حام من الأمر وسطه ... فإن صدفوا يوماً عن الحق فاقتل
وإن جنحوا بالقول للرفق طاعة ... يريدون وجه الحق والعدل فاعدل
ولا تظهرن الرأي في الناس يجتروا ... عليك به واجعله ضربة فيصل
ولا تأخذن المال من غير وجهه ... فإنك أن تأخذه بالرفق تسهل
ولا تتلفن المال في غير حقه ... وإن جاء ما لابد منه فابذل
وداو ذوي الأحقاد بالسيف إنه ... متى يلق منك السيف ذو الحقد يعقل
وخذ لذوي الإحسان ليناً وشدة ... ولا تك جباراً عليهم وأمهل
وكن لسؤال الناس غيثاً ورحمة ... ومن يك ذا عرف من الناس يسأل
وإياك والسفر الغريب فانه ... سيثني بما توليه في كل منهل
قال وهب: ورجع سبأ إلى اليمن فبنى السد الذي ذكر الله في كتابه وهو سد فيه سبعون نهراً ويقبل إليه السيل من مسيرة ثلاثة أشهر وإن سبأ لما أسس قواعد السد لم يتم له بناؤه حتى نزل به الموت وكان عمره خمسمائة عام وسبعين عاماًُ وكان ملكه خمسمائة عام فدعا بحمير وكهلان ابنيه. وكان لسبأ عدد عظيم من ولده غير إنه لم يكن له من ينقل ملكه إليه إلا إلى حمير وكهلان، وانه لما مات سبأ صار الملك بعده إلى ابنه (حمير) وقال ابنه حمير يرثي أباه سبأ وهب أول مرثية في العرب فأنشأ يقول: عجبت ليومك ماذا فعل ... وسلطان عزك كيف انتقل
فأسلمت ملكك لا طائعاً ... وسلمت للأمر لما نزل
فيومك يوم وجيع العزاء ... ورزؤك في الدهر رزء جلل
فلا تبعدن فكل امرئ ... سيدركه بالمنون الأجل
لأن صحبتك بنات الزمان ... وبدت يد الدهر أوجه الأمل
لقد كنت بالملك ذا قوة ... لك الدهر بالعزعان وجل
بلغت من الملك أعلى المنى ... نقلت وعزك لم ينتقل
فطحطحت في الشرق آفاقه ... وجبت من الغرب حرب الدول
جريت مع الدهر إطلاقه ... فنلت من الملك ما لم ينل
وحملت عزمك ثقل الأمور ... فقام بها جازماً واستقل
فأبقيت ملكك بالخافقات ... وليس لرأيك فيها زلل
له قدم بمحل العلا ... فزلت بك النعل عنه فزل
فسام لك العيش عيب الهوى ... شربت بذلك نهلا وعل
صحبت الدهور فأفنيتها ... وما شاء سيفك فيها فعل
بنيت قصوراً كمثل الجبال ... ذهبت لم يبق إلا الظلل
وجردت للدهر سيف الفنا ... تطاير عن جانبيه القلل
نعمنا بأيامك الصالحات ... شبنا بسجلك وبلا وطل
تؤمل في الدهر أقصى المنى ... ولم ندر بالأمر حتى نزل
فزالت لفقدك شم الجبال ... ولم يك حزنك فيها هبل
كأن الذي قد مضى لم يكن ... وفقدك بعد الفناء لم يزل
وللدهر صرف يريد الردى ... فصرح عن قيل ما لم يقل
نهار وليل به مسرعان ... فهذا مقيم وهذا رحل
يسومان بالخسف ما يبديان ... أطاعا لما شاء فينا لال
فيا عبد شمس بلغت المدى ... وشيدت مجداً فلم يمتثل
وشيدت ذخراً لدار البقاء ... فلما أفلت إليها أفل
فلم يبق من ذاك إلا التقى ... وذاك لعمري أبقى العمل
فأحكمت من هود المحكمات ... وآمنت من قبله بالرسل
وأحرمت فأهللت حتى إذا ... أناف الهلال بها واستهل
رحلت وزادك خير التقى ... وقوضت * * عن حرميها بحل
ملك حمير
قال وهب: وولي حمير بن سبأ فجمع الملك الجيوش وسار يطأ الأمم ويدوس الأرضين، وأمعن في المشرق حتى أبعد يأجوج ومأجوج إلى مطلع الشمس وبقي قبائل ومن ولد يافث تحت يده، وهم: الترك والزط والكرد والصعد والخزر والقذر والذيلم وفرغان. ثم قفل نحو المغرب كما فعل أبوه سبأ، فسار حتى نزل بمكة فآتاه قبائل من اليمن من بني هود يشكون إليه ثمود بن عابر بن ارم وما نزل بهم منه من الخسف والظلم وآتاه رسول أخيه بابليون من مصر يستدعيه لنصرته على بني حام، وذلك لما بلغ بني حام موت سبأ بن يشجب، عتوا على بابليون بمصر وكان بالشام قبائل من ولد كنعان ابن حام، وهم: بنو ماريع بن كنعان، وكان نزول الحبشة بني كوش بن حام على النيل إلى برية الرمل، فتداعوا على مصر يريدون خرابها فرجع حمير إلى اليمن وأخرج ثموداً من اليمن فأنزل أبة من أرض الحجاز فعمروها من آيلة إلى ذات الاصاد إلى أطراف جبل نجد وذات الاصاد نهر من أنهار الحجاز وهو يجري في صفا أملس يرده الحافر ولا يرده الخف تزلق فيه فقطعت فيه ثمود الصخر لطرق الإبل لمراعيها ونحتوا في جباله البيوت سترة من حر الشمس في الحجاز. قال الله تعالى: {وثمود الذين جابوا الصخر بالواد} وقال: {وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين}. وفي ذات الاصاد كان السبق بيت قيس بن زهير العبسي وحذيفة بن بدر الفزاري وفيه حبس فرس زهير داحس فقال في ذلك قيس شعراً: كما لاقيت من حمل بن بدر ... وأخوته على ذات الاصاد
هم فخروا على بغير فخر ... وردوا دون غايته جوادي
وكنت إذا منيت بخصم سوء ... دلفت له بداهية نآد
فأنى الصقر منطلق كريم ... وسوف أريك من طعن الطراد
أقاتل ما أقاتل ثم آوى ... إلى جار كجار أبي دواد
مقيماً وسط عكرمة بن قيس ... وهوب للطرائف والتلاد
كفاني ما أخاف أبو بلال ... ربيعة فانتهت عني الأعادي
قال وهب: ونزل حمير بدمشق فقاتل بني ماريع حتى غليهم وأجرى عليهم الخراج، ثم مضى إلى الحبشة فلقيهم بالقيس والبهشة فهزمهم على النيل فتبعهم حتى بلغ بهم إلى البحر المحيط من المغرب فأذعنوا وأجرى عليهم إتاوة يؤدونها كل عام. فدرب الحبشة في غربي الأرض سبعة أشهر في سبعة أشهر، ثم رجع عنهم على النيل إلى مصر فتزود من مصر، ثم مضى في المغرب حتى بلغ إلى البحر المحيط ثم أجرى على القبط الخراج. قال وهب: ولما توجه حمير إلى المغرب أقام في المغرب مائة عام يبني المدن ويتخذ المصانع، فمات بعده أخوه بابليون بمصر، وولي أمر المغرب امرؤ القيس بن بابليون وتكبرت عليه ثمود وطغوا على بني كنعان بالشام وعلى جميع من جاورهم، فأرسل إليهم صالح نبياً وهو صالح بن عويم بن ساهر بن هميسع بن همر بن عميل بن عابر فدعاهم إلى الله فعصوه وسألت أن يخرج لهم آية؟ - كما سألت عاد هوداً - فقال لهم صالح: ما هذه الآية يا قوم؟ قالوا له: اخرج لنا من هذه الصخرة ناقة. فدعا الله فأخرج لهم، فكانت تشرب الماء من نهر الاصاد ذات يوماً وهم يشربون يوماً، فأبوا أن يؤمنوا بعد الآية، ثم ائتمروا بها ليعقروها فمشى إليها قدار سالف فعقرها فأرسل الله عليهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين. قال وهب: وإن حمير قفل من أرض المغرب راجعاً وكان يكتب بالمسند في جميع سلاحه من الحديد. وفي الأجيال إذا مر عليها فأكثر من ذلك فرأى في منامه كأن آتياً آتاه فقال له: اتق الله يا حمير. قال له: ومالي؟ قال: تكتب هذا الخط المسند الكريم على الله على الحديد والحجر والعود يدرس وتعلوه النجاسات والله كرمه واصطفاه وأدخره للفرقان يأتي به محمد صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الزمان فصنه وأحفظه فإن الله تبارك وتعالى اصطفاه للقرآن أكرم الكتب إلى الله واللسان العربي سيد الألسن وللجنة خير خلق الله ولمحمد خير البشر ولكن استخدم هذا الخط أنت وولدك فإن لكم به على الخلق فضيلة إلى مبعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومر بنيك من بعدك بحفظ هذا الخط، ثم ارتفع. فلما أصبح دعا بنيه فقال: يا بني إنه كان من أمري ما كذا وكذا، قالوا له: هل رأيت شيئاً؟ قال: لا. قال له وائل ابنه: سترى يا أبت أن الله كريم لا يمنعك شيئاً إلا جعل لك منه عوضاً. فلما نام الليلة الثانية آتاه آت فقال له: اقرأ يا حمير! قال له: وما أقرأ فنظر إلى جبينه فإذا عليه خط مكتوب قال له حمير: اقرن هذا بخط أبيك المسند من الأول إلى آخره هذا الخط فقرأ حمير وردده حتى فهمه. فلما أصبح دعا بنيه وكتبه وهو هذا. ثم قال له: يا حمير استخدم هذا ولا تستخدم المسند فإنه وديعة عندكم إلى وقته وإنما قيل له المسند أسند إلى هود عن جبريل. قال وهب: وإن حمير ملك الأرض ومن عليها حتى لم يبق منها مكان كما ملكها أبوه سبأ وكان عمر حمير أربع مائة عام وخمسة وأربعين عاماً أقام في الملك أربع مائة عام، فلما جاوز مائة قال: ملكت من عدد السنين هنيدة ... ذا الملك عمرك زينة الأيام
وأرى السباب يميل في لهو الصبي ... ومع الشباب غواية الأيام
فلما بلغ مائتين قال:
سأميت عن مائتين ملكاً باذخاً ... والعمر لا يبقى مع الأعوام
قالوا لحمير مدة محجوبة ... والغيب لا يخفى على العلاَّم
فلما بلغ ثلاثمائة قال:
لما ركبت من المأين ثلاثة ... كان الذي أمضيت كالأحلام
والعمر يدأب والمشيب كلاهما ... يتسابقان إلى محل حمام
فلما بلغ أربع مائة قال: بدلت من ذي أربع ملكتها ... عوضاً من الأيام بالأسقام
هيهات ما حكم الخلود وقد أبى ... من أن أخلد حاكم الحكام
فلما بلغ أربع مائة سنة وخمساً وأربعين سنة واتاه وقته وأيقن بالموت، دعا بنيه ثم قال لهم: يا بني لم تصحبوني على عهد أن لا أموت بل كنتم تنتظرونه في صباحاً وانتظره فيكم مساء فقد حل ما كنتم تنتظرون وقد أزف الوقت الذي ترقبون وأمري لك يا وائل، ثم أنشأ يقول: يا من رأى صرف الزمان مصوراً ... يغدو على الآباء والأعمام
غدر الزمان بعهد ملكك فانقضى ... وبعبد شمس قبل ذاك وسام
راميت دهرك بالمنى وخطوبه ... بالغدر دانية إليك روامي
أزف الزمان على زمانك بغتة ... فغدوت مرتحلا بغير مرام
يبكون أن مروا عليك قلما ... يغني البكاء على صوى الأعلام
ولانت بعد حلوله مستيقظ ... من ضنك فاقرة لفضل مقام
فلما مات حمير صار أمره وملكه إلى ابنه.
وائل بن حمير
ونزل قصر غمدان، وكان يعرب أسسه وجعل يبني فيه ثم غزا البيت فأصلح ما كان حوله من القبائل وأمر بنقش الخط الحميري في قصر غمدان، وقال في نقش الخط الحميري عمرو بن معد يكرب. ورثنا حصوناً شتت الدهر أهلها ... أولي العز قدماً والحلوم الرواجح
كأن خطوطها فوقها حميرية ... تهاويل وشي في متون الصفائح
قال وهب: وكان يقال لحمير العرنجج، والعرنجج: العتيق، وكانت علته التي مات منها الغم، فقال: يا بني إني لأجد ثقل الثرى وغم الضريح ولكن اجعلوا لي نفقاً في هذا الجبل، جبل عنفر، ثم أجلسوني فيه ففعل به ذلك ابنه وائل بن حمير، فحمير أول من جعل في مغارة، وإن وائلاً جعل مع حمير في تلك المغارة جميع لأمته غيره وأنفة أن لا يلبسها بعده أحد من الناس وكتب في لوح من رخام هذا الشعر وعلقه فوق رأسه: عبر العرنجج مدة من دهره ... بعد الإقامة والأسى لمن يعبر
واراش دهر لا تطيش سهامه ... ورمى فأثبت في العلا من حمير
قبر الندى والجود عند محله ... والشخص باد فيهم لم يُقبر
ماتت لميتته المعالي جملة ... والعز أصبح ثاوياً في عنفر
ملك وائل بن حمير
قال وهب: وإن الله لما أراد في سابق علمه إنه لما ولي الملك وائل بن حمير نافسه أخوه مالك بن حمير ودافعه حيناً، فتغلب على أطراف اليمن ملوك عدة وعلى أرض بابل حسان بن حراش بن عمل بن عابر وعلى الشام ملوك أخر. فلم يزل وائل يحارب أخاه ملكاً حتى مات مالك وولي أمره بعده قضاعة بن مالك، ومات بعده أخوه وائل بن حمير، وولي بعده السكسك ابن وائل.
ملك السكسك بن وائل
كان السكسك حازماً جلداً وكان له مقعقع العمد وكان إذا غلب على من ناوأه هدم بناءه وغير آثاره بالنار وهو أول من حرق بالنار وخرب المدن فسمي مقعقع العمد. وإن سكسكاً زاحف قضاعة بن مالك فغلب عليه وصار إليه ملكه. فجمع الملك، فلما اجتمع لسكسك الملك كله باليمن أنشأ يقول: سأركب قطعاً للقرين وإن أبي ... لي العزم في هذا الشقيق المجرب
واقطع حبل الوصل بالسيف كارهاً ... وأركب أمراً للردى ليس يركب
أألبس ثوب الذل والموت دونه ... أم اقطع قوماً قربهم لي مشغب
عصيت به قول النصيح وإنما ... ألاقي لفقد الملك من ذاك أعجب
سألقي المنايا السود بالبيض ضحوة ... وأقرع وجه الدهر والدهر مغضب
وأبذل نفسي للمكاره طائعاً ... إذا ما جبان القوم بالسيف يغصب
إذا الموت عند الجمع كالصاب طعمه ... يطيب لها عند الهياج ويعذب
إذا البيض من قاني الدماء كأنها ... عليها خطوط الحميرية تكتب
قال وهب: فغلب على الشام فلقيه عمرو بن امرئ القيس بن بابليون ابن سبأ من أرض مصر بالرملة يهديه فقبل منه هداياه وأقره على مصر والمغرب ورجع إلى غزو أرض بابل يريد نمرود بن ماش، فلما نزل بحنو قراقر من أرض العراق اعتل فمات فحملوه ورجعوا به قافلين إلى اليمن وافترق ملك اليمن على ملوك شتى، وولي ابنه يعفر بن السكسك بعده في مكانه وافترق أمر اليمن للذي أراد الله وإن نمرود بن ماش جمع جموعاً ليقاتل بها السكسك بن وائل، فلما مات السكسك رجع جمعه إلى اليمن زاده ذلك جرأة واستكباراً في الأرض فطغى ونمرود بن ماش أول أعجمي متوج.
ملك يعفر بن السكسك
قال وهب: ولما ولي يعفر بن السكسك زاحف ملوكاً من أهل اليمن كان عمره يسيراً فمات ومرج آمر حمير وافترقوا على ملوك شتى. قال وهب: وكان يعفر بن السكسك رجلاً سقيماً لم يكن يلي لزحوف بنفسه فكان يدخل عليه في عمالاته النقص ولم يكن له ولد فلما انقضت مدته وحان وقته وأيقن الموت أخذ تاجه وهو تاج جده وائل لن حمير فقال لقومه: يا قوم هذا تاجكم فخذوه فأخذ قومه التاج ووضعوه على بطن امرأة يعفر وهي مثقلة وملكوا ما في بطنها فولدت غلاماً فسموه النعمان فكان النعمان ملكاً في بطن أمه. قال وهب: كانت أم وائل ومالك وعوف بني حمير مالكة ابنة عميم ابن زهران بن يشجب بن يعرب، وكان وائب بن حمير حين ولي الملك يعد أبيه حمير ولي أخويه مالكاً وعوفاً فنافساه في الملك، فغلب على مالك أخيه فعزله وأذعن له عوف فأقره على عمان والبحرين، فعظم أمره وشأنه بعد أخيه وائل حتى ولي السكسك بن وائل الملك فدان له عوف. ومات النعمان فولي أمره باران بن عوف بن حمير، فلما هلك السكسك بن وائل بن حمير وولي بعده ابنه يعفر بن سكسك نابذه باران العداوة وراجعه وأخذ الهنبيق والأحقاف، وكان يعفر رجلاً سقيماً ولم يكن يغزو فانتقص ملكه وعظم ملك باران بن عوف بن حمير، ثم مات فولي الأمر بعده ابنه بعده ابنه عامر ذو رياش
عامر ذو رياش
فزحف إلى غمدان وأخذه وأخذ صنعاء وما والاها فغيب نفسه النعمان بن يعفر بن سكسك في مغارة في جبل عنفر ومعه أمه نائلة بنت مالك بن الحاف ابن قضاعة بن مالك بن حمير. عامر ذو رياش أول الاذواء ولم يكن تبعا، قال وهب: فطلب عامر ذو رياش النعمان بن يعفر فلم يقدر عليه ولم يجد له مكاناً فجمع كل منجم كان بأرض اليمن وكل عائف وزاجر فقال لهم: ما الذي طلبت وقد فرقهم فجعل أهل النجم ناحية وأهل العيافة ناحية وأهل الزجر ناحية فنظروا فلم يجدوا شيئاً غاب عنهم أمره إلى أن قام إليه عائف فقال له: أيها الملك إن الذي تسال عنه امرأة وصبي. قال له الملك: لله درك من أين قلت ذلك. قال له العائف: أما ترى الجنازة التي مروا علي بها سألتهم عنها فقيل: إنها رجل فنظرت فإذا يده على صدره كأنه يقول: أنا الرجل والذي تسأل عنه صبي وامرأة ثم رجع إلى مكانه فنظر إلى صبي يقفوا أثر الميت والجنازة باكياً فرجع إلى الملك فقال: إنه صبي باك حقق ذلك العلم، ثم رجع فنظر إلى الصبي يتبع الجنازة حتى أدخلت مغارة ودخل الصبي في أثرها. فرجع إلى الملك فقال له: إن الذي تسأل عنه صبي حي غيب في مغارة في هذا الجبل فأمر العساكر فطافت بالجبل يتجسسون المغارات في الجبل ويقفون الآثار حتى دخلوا المغارة التي فيها النعمان وأمه فأخذوهما وأتوا بهما إلى عامر ذي رياش فأخذهما ورجع فنزل قصر غمدان ولم يكن ينزل قصر غمدان إلا الملك الأعظم ولا ينزله إلا من استحق عندهم اسم تبع من ملوك حمير وحبس النعمان وأمه عنده في قصر غمدان، فلم يزل النعمان محبوساً فماتت أمه وشب الصبي واحتلم. فبينما النعمان ليلة من ذلك الزمان مع الحرس الذين كانوا يحرسونه وكانوا عشرة وفيهم رجل يقال له همدان بن الوليد بن عاد الأصغر بن قحطان، وكان يخدم السكسك جد النعمان، وكان يرق له سراً وكان أغلط الحرس في العلان فبينما النعمان في الحرس جالس إذ طلع القمر وقد خسف فبكى النعمان لما رأى القمر خاسفاً وقالوا له: مال الذي يبكيك؟ قال: أبكاني تقلب الدهر بأهله لن ينجو من غدر هذه الدنيا وعثراتها شيء في الأرض ولا في السماء. فلما كان في الليلة الثانية طلع القمر مشرقاً زاهراً فضحك النعمان فقالوا له: ما الذي أضحكك؟ قال لهم: لعل الذي أبكى يضحك، ثم قال لهم: أرى هذا الدهر يقيل واحداً عثرته فيدرك أمله وآخر يمضي عليه فيستريح وأنا كما ترون لا يمضي علي فأستريح ولا يقيلني عثرتي فأبلغ أملي، وكان همدان بن الوليد رجلاً عاقلاً قد استمال إليه الحرس بعقله ولطفه يصرفهم كيف ساء، فقال لهم: إن في الكلام راحة تريدون أن أجيب عنكم النعمان؟ قالوا: نعم. فقال همدان: يا نعمان لعل أملك أقرب من أجلك، ثم نظر همدان إلى من حوله وتصحف وجوههم ليرى من يرضى قوله ومن يسخطه، فقالوا له: رضينا قولك يا همدان - فنظر النعمان إلى القمر في الليلة الثالثة وهو مشرق زاهر فأنشأ يقول: اربد وجهك بعد حشن ضيائه ... وخسفت بعد النور والإشراق
هل كان هذا الشأن منك سجية ... أم خان عهدك غادر الميثاق
واراك بعد محلة مذمومة ... أمسيت مشرقاً على الآفاق
علَّ الذي أنشأ سناك بقدرة ... من بعد مهلكة يريح وثاقي
إن الزمان بصرفه متقلب ... بين الورى كتقلب الأخلاق
قال وهب: وإن همدان قال للذين معه ويلكم أن ذا رياش نكد جبار لن يرحم قريباً ولا بعيداً ولن تروا معه راحة ولكن قدموا في النعمان يداً فإن أدرك أمله ووفى لكم أفدتم وإن لم يكن هذا كنتم قد وفيتم لسلفه فأجابوه فقال لهم: يأتي كل رجل منكم غدا بجديدة ففعلوا ووضع النقب في وسط المجلس حتى خرجوا من خارج القصر وكان ذلك وقت رجوع ذي رياش إلى عمان خالفه إليها مالك بن الحاف بن قضاعة فأخرجوا النعمان من ذلك السرداب ليلاً وإن النعمان كان يرسل في وجوه بني وائل بن حمير وبني مالك ابن حمير وسائر بني قحطان، فأجابوه إلى القيام على ذي رياش. فجمع حمير ثم سار يريد ذا رياش وإن إذ رياش لقي مالك بن الحاف فهزمه ذو رياش - ومر مالك على وجهه يريد أرض برهوت قال طلبة لحق بأرض الحبشة ولما بلغ ذا رياش ومن معه من أهل صنعاء وأهل العالية والهنبيق خروج النعمان بن يعفر في ديارهم وطوع الناس له فارقوا عسكر ذي رياش هاربين إلى ديارهم وذراريهم، ثم خرج عنه من كان معه من بني وائل بن حمير وهم: أعد حمير وتبعهم مالك بن حمير، فلما رأى ذو رياش أن جمعه قد افترق أكثره عنه وصار إلى النعمان جميع من معه، سار يريد حرم مكة عائذاً به. وسار النعمان في أثره فلقيه بالمشلل فقاتله فهزمه النعمان وأخذه أسيراً. وسار النعمان إلى مكة فأوفى نذره ورجع إلى غمدان بذي رياش أسيراً ثم أن النعمان دعا همدان فقال له: هذا الملك لك ولأصحابك فما رأيك في ذي رياش؟ قال له همدان: حبس بحبس لا عدوان فقبل منه وأحسن إليه وإلى أصحابه وأنشأ يقول: إذا أنت عافرت الأمور بقدرة ... بلغت معالي الأقدمين الأقاول
فأما حمام النفس تلقاه عاجلاً ... وأما تراث الملك عن ملك وائل
فهل يدفع النعمان أمراً يريده ... وهل يتقي شر الذي غير نازل
إذا لم يكن بد من الموت حتمة ... فما تغن عني خافقات الجحافل
إذا لم يكن للمرء بد من التي ... تبذ الأماني عاجلاً أو بآجل
ويصبح في الأهلين يوماً جنازة ... ويلحق حتماً بالقرون الأوائل
علام يداري الدهر والدهر جائر ... ويرضى بظلم من يد المتطاول
ولكن نباني الملك في درج العلا ... كنجم اعوجاج من فنا الملك وائل
يفوز سعيداً أو يلاقي منية ... ويمسي على الدنيا بعيد المناهل
فما المرء للأيام تخلق نفسه ... وهل كانت إلا حيضة للقوابل
ألا أيها الراضي بأيسر خطة ... صبرت على خسف من الذل نازل
قيامك في الدنيا حياة لأهلها ... وصبرك عنها * غير طائل
إذا لم يكن للمرء عزم يزينه ... ولب يرى عيب القوي المخاتل
له سطوة تكسو العزيز مذلة ... وتهدي حتوفاً للنساء الحوامل
له علل تعلو النجوم وسطوة ... تصم فيخشى طرقها كل جاهل
وللموت خير من لباسك ذلة ... تجاذب مأسوراً صليل السلاسل
محلاً يراه الزائرون شماتة ... هواناً لمقدام العشيرة باسل
ملك المعافر بن يعفر
قال وهب: كانت حمير إذا لقي بعضها بعضاً يقولون: ما حال اليتيم يريدون بذلك النعمان بن يعفر فيقول بعضهم لبعض: أصبح اليتيم معافراً للملك وذلك لبيت قاله وهو: إذا أنت عافرت الأمور بقدرة ... بلغت معالي الأقدمين المقاول
قال وهب: فسمى بذلك المعافر بن يعفر بن سكسك بن وائل بن حمير. قال وهب: وإن المعافر بن يعفر سار يريد أرض بابا ولم يكن للتبابعة ملك أرض بابل هي من الأرض وينبوع الناس فسار النعمان وهو المعافر راجعاً وسار بذي رياش معه لئلا يفتق عليه من بعده فتقاً، فسار النعمان حتى أخذا أرض بابل توجه يريد خراسان حتى بلغ صحراء بر فنظر عامر ذو رياش إلى أفعى رقشاء قد خرجت إليه من تحت فرشه فمد يده فأخذ ذنبها والحرس ينظرون إليه فحركه فعركه حتى حميت وتلمظت وهم لا يدرون ما يريد ثم نصب ذراعيه ولدغته فمات مكانه وأعلموا بذلك النعمان فقال: سابقته في ميدان الموت فسبقني، أما والله لو كنت أصبت مثل هذا لأرحت نفسي منه به واروه، ثم مضى يأخذ البلدان ويتأدى إليه الخراج حتى أتى الفرات فعبره إلى أرمينية فأخذها وقتل من عانده من ملوكها ووجد فيها لوكاً شتى. ثم مضى فعبر قنطرة سنجة إلى أرض الشام فأباح من وجد فيها من الملوك، ثم قفل إلى البلد الحرام راجعاً فنزل بمكة فأصاب بها نفيلة بن مضاض الجرهمي وجرهم من قحطان وكان بها ملكاً بعد موت نابت بن إسماعيل فقدم بالبيت قدار بن إسماعيل وأمر نفيل بن مضاض بقصد مكة ورجع إلى غمدان ومات بها فكان عمره في الملك ثلاثمائة سنة. قال وهب: وإن النعمان وهو المعافر بن يعفر مات فقال لبنيه وقومه: لا تضجعوني فينضجع ملككم ولكن ادفنوني قائماً فلا يزال ملككم قائماً. قال أبو محمد: قال أسد بن موسى عن أبي إدريس إن في خلافة سليمان ابن عبد الملك بن مروان فتحت مغارة في اليمن فأصابوا فيها جوهراً كثيراً وذهباً وسلاحاً ووجدوا فيها مالاً جسيماً ووجدوا فيها سارية من رخام قائمة ختم رأسها بالرصاص فاعلم بذلك سليمان بن عبد الملك فأمر بقلع ذلك الرصاص فأصابوا في السارية شيخاً واقفاً وعلى رأسه لوح من ذهب فيه بالحميرية: أنا المعافر بن يعفر بن مضر ... نسبي إلى ذي يمن مقر
أسمو بحر مضري حر ... من فتن بالبائع المحفز
باسق فرع وصميم سر قال أبو محمد: لقيت الليث بن سعد وهو من أهل مصر وولاة المعافر، وذلك أن عمرو بن العاص افتتح بعسكر معافر في سبعين ألفاً لم يكن معهم أحد غيرهم خلا كلب في ألف رجل وبهرة في ألف رجل ومهرة في ألف رجل فزعم الليث أن الشعر منحول وذلك فعل بني أمية ينتصرون بهم لمضر. قال وهب: حدثني كعب الأحبار قال سمعت أهل الكتب الأول والأخبار المتقدمون يقولون أن حمير في الأرض كالسراج المضيء في الليلة وإن الناس ليريدون هكذا وخفض يده ويريد الله بهم هذا: ورفع يده.
ملك شداد بن عاد
قال وهب: ثم استجمع أمر حمير وبني قحطان على شداد بن عاد ملطاط بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان. قال وهب: لما ولي (شداد بن عاد) الملك جمع الجنود وكان امرءاً حازماً فسار يدوس الأرض وبلغ أرمينية الكبرى فقتل فيها كل ثائر بها ثم عبر الفرات إلى المشرق فبلغ أقصاها لا أحد يقف له إلا هلك، ثم مضى على ساحل سمرقند إلى أرض التبت، ثم عطف على أرمينية فأمعن، ثم جاز إلى الشام وبلغ إلى المغرب فأكثر الآثار في المغرب حتى بلغ البحر المحيط يبني المدن ويتخذ المصانع فأقام في المغرب مائتي عام، ثم قفل إلى المشرق فأنف أن يدخل غمدان ومضى إلى مأرب فبنى به القصر العتيق الذي يسميه بعض الرواة (ارم بن العماد) فلم يدع باليمن دراً ولا جوهراً ولا عقيقاً ولا جزعاً ولا بأرض بابل وأرسل في الآفاق بجمع ذلك جواهر الدنيا من الذهب والفضة والحديد والقصدير والنحاس والرصاص، فبنى فيه وزخرفه ورصعه بجميع ذلك الجواهر وجعل أرضه رخاماً أبيض وأحمر وغير ذلك من الألوان وجعل تحتها أسراباً فاض إليها ماء السد فكان قصراً لم يبن في الدنيا مثله ثم مات شداد بن عاد بعد أن عمر خمسمائة عام فنقبت له مغارة في جبل شمام ودفن بها وجعل فيها جميع أمواله.
قصة المغارة التي فيها شداد بن عاد والصعاليك الثلاثة حين دخلوها وما جرى عليهم
قال وهب: قال أبو محمد عبد الملك بن هشام، حدثنا زياد بن عبد الملك البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي عن عبيد بن شرية الجرهمي قال: حدثنا شيخ من أهل اليمن بصنعاء عام الردة وكان معمراً عالماً بملوك حمير وأمورها قال لنا: كان باليمن رجل من عاد بن قحطان وهو عاد الأصغر وأما عاد الأكبر فلم يبق منهم أحد. قال الله تعالى: {فهل ترى لهم من باقية} وإن هذا الرجل العادي كان يقال له الهميسع بن بكر وكان جسوراً لا يهاب أمراً وكان يعرف بذلك، وكانت الصعاليك تقصده من آفاق الأرض، وكان أكثر طلبه المغارات يطلبها في جبال اليمن وعمان والبحرين وأنه آتاه رجل فاتك من عبس وآخر من خزاعة وكانا صعلوكين جسورين فقالا له: يا هميسع احملنا من أمرك على ما تريده فانا نبلغ مرادك، فمضى معهما الهمسيع حتى أتى بهما جبلاً وعليه غابة فيها ثعابين لا ترام الهميسع أمام الصعلوكين قد أتى الجبل مراراً وحده وكان إذا عاين الثعابين يجزع فيرجع فلما آتاه الصعلوكان جسر بهما وقال: الق رأسك بين اثنين ولو غم إلى الأذنين ثم أخذ سيفه وزناده ومشاعله وزاده وسار بهما حتى وصل إلى الجبل ولم يزل يترايا لهم الثعابين وتهرب حتى بلغ باب كهف عظيم وكأن الجبال على أكتافهم عظماً وثقلاً، ودخلت قلوبهم وحشة عظيمة وسمعوا من داخل الكهف دوياً عظيماً وخيمنة وعلى بابا الكهف نقش بالحميري فقالا له: اقرأ يا ميسع فقرأه فإذا هو مكتوب هذين البيتين: لا يدخل البيت إلا ذو مخاطرة ... أو جاهل بدخول الكهف مغرور
إن الذي عنده الآجال حاضرة ... موكل بالذي يغشاه مأمور
فغاب الخوف والجزع على الخزاعي في أول أمره ثم أن الجزع أيضاً على العبسي فاستدرك نفسه العبسي وثبت فقال الخزاعي: يا هميسع قد عاش في الدنيا كثير ممن لم تبلغ نفسه هذا المبلغ - ثم ولى العبسي عن صاحبه هارباً. فقال الهميسع: نمضي في هذا الكهف أم لا؟ فقال له: نعم. فسارا في الكهف حيناً، فإذا حيات يصفرن عن يمين وشمال ورياح تجري عليهما من داخل الكهف، وسمعا دوياً من داخل الكهف، فقال العبسي: لقد حملت نفسك على مكروه يا هميسع أعلى يقين أنت من هذا الكهف؟ فقال له الهميسع: ما تيقنت إلا ما رأته عيني، والرجاء فقال له: افعلي شك أنت هارش الثعابين وأبيع مهجتي ببخس يا هميسع لقد بعت نفسك من دهرك أبخس ثمن وهميسع في ذلك لا يلوي إلى كلامه وهو يسير داخل الكهف حتى وقف به على بابا آخر أعظم من الباب الأول وأهول وأشد وحشة وزاد عليهم الدوى والحسيس والهينمة وعلى ذلك الباب بالخط الحميري. فقال له العبسي: اقرأ يا ميسع! فقرأه فإذا هو: انظر لرحلك لا يساق فإنه ... حتم الحمام إلى العرين يساق
يا ساكني جبلي شمام لعله ... يوفي بما أجنبتما الميثاق
قوموا إلى الإنسي أن محله ... يدعو إلى يوم الفراق فراق
قال: فولى العبسي هارباً عنه وناداه الهميسع فلم يلتفت إليه، وولى وهو يوقل: قاتل الله أخا عاد ما أجسره! قال: فهم الهميسع أن يفر ثم حمل نفسه على الأصعب ومضى حتى بلغ إلى باب هو أعظم هولاً وأشد وحشة وعليه نقش بالقلم الحميري فقرأه الهميسع فإذا فيه مكتوب: قد كان فيما قد مضى واعظ ... لنفسك البينة المسمعه إن جهل الجاهل ما قد آتى ... وكان حيناً قلبه في دعه فدخل الباب الثالث فسمع دوياً عظيماً كالرعد وهده عظيماً، فبينما هو كذلك إذ برز إليه تنين أحمر العينين فاتح فاه فلما رآه الهمسيع رجع هارباً إلى خلفه، فسكن حس التيني فوقف العادي وقال في نفسه: قدر رآني ولو كان حيواناً لم يدعني وما هو إلا طلسم فرجع له ثانية حتى ظهر له، فسار نحوه فسمع له دوياً عظيماً فهرب فأقبل يسمع الدوى فإذا هو في رجوع التنين كما قاله في إدباره فعلم إنه طلسم فأخذ حذره من صدمته وأقبل يمشي قليلاً قليلا ويخفف وطأ قدميه حتى وضع قدمه في موضع فتحرك التنين ودوى، فأخذ قدوماً كان معه فحفر على الموضع حتى ظهرت له سلاسل على بكرات. فأجنه الليل فأسرع الخروج من الكهف وجمع حطباً من الغيضة وأضرمها ناراً وبات عند بابا الكهف، فلما غشيه ظلام الليل سمع بكاء وحنيناً داخل الكهف فلم يزل ينظر ويرتقب وينظر حتى نظر إلى نار عظيمة خارجة إليه من داخل الكهف، فلما رآها لم يبرح من موضعه حتى غشيته فصبر لها فلم تؤلم فيه شيئاً ثم أتته أخرى ثانية أكبر من الأولى فصبر لها كذلك، فلما مالت عنه أخذ مقياس النيران التي أضرمها وأقبل يضرب بها حيطان الكهف يميناً وشمالاً حتى سمع نداء من داخل الكهف يهتف: يا هميسع لا حاجة لنا في دخولك. فأقام حتى أصبح فدخل باب الكهف إلى أن وصل إلى البابا الذي رأى فيه التنين، ثم حفر على بقية حد التنين حتى قلعه وسقط التنين، فسار إليه فقلع عينيه فإذا هما ياقوتتان حمراوان لا قيمة لهما، وسار حتى انتهى إلى بابا هو أعظم هولا وأشد وحشة فلما هم أن يفتحه سمع دوياً عظيماً وبدا له أسد عظيم فرجع أيضاً إلى خلفه فرجع عنه الأسد بدوي عظيم فحفر على موضع حركته كما صنع بالتنين حتى أبطل حركته وقلع عينيه فإذا هما ياقوتتان حمراوان لا قيمة لهما، ثم دخل الباب فإذا هو بدار عظيمة وفيها بيت في وسطه سرير من ذهب شيخ على رأسه لوح من ذهب معلق وسقف البيت مرصع بأصناف اليواقيت وعلى رأسه في الحائط لوح من ذهب فيه مكتوب (أنا شداد بن عاد عشت خمس مائة عام وافتضضت فيها ألف بكر وقتلت ألف مبارز وركبت ألف جواد من عتاق الخيل) وتحته مكتوب: من ذاك يا شداد عاد أصبحت ... آماله مهزومة الأقدام
يا من رآني إنني لك عبرة ... من بعد ملك الدهر والأعوام
فكأنني ضيف ترحل مسرعاً ... وكأنني حلم من الأحلام
احذر تصاريف الزمان وريبه ... لا تأمنن حوادث الأيام
هلا يضرك من كلامي مرة ... يا ساكن الغيضات والآجام
قال ثم ملت إلى الركن الذي عن يمينه فإذا هو سرير من ذهب وعليه جاريتان فوق رأسهما في الحائط لوح من ذهب أو قال من عاج فيه مكتوب (أنا حية وهذه لبة بنت شداد بن عاد أتت إلينا أزمان فيها الطارف والتليد على عبيدنا صاعاً من بربصاع من در فلم نجده - فمن رآنا فلا يثق بالزمان وليكن على بيان فإنه يحدث العز والهوان) - قال فأخذ الهميسع الألواح وما بالبيت من در وجوهر وياقوت وخرج.
ملك لقمان بن عاد
قال وهب: فلما مات شداد بن عاد صار الأمر إلى أخيه لقمان بن عاد وكان أعطى الله لقمان ما لم يعط غيره من الناس في زمانه أعطاه حاسة مائة رجل وكان طويلاً لا يقاربه أهل زمانه. قال وهب: قال ابن عباس كان لقمان بن عاد بن الملطاط بن السكسك ابن وائل بن حمير نبياً غير مرسل. قال أبو محمد: لقيت عامة من العلماء يقولون أن لقمان وذا القرنين ودانيال أنبياء غير مرسلين وعامة يقولون عباد صالحين والله أعلم بذلك. قال وهب: لقمان بن عاد هو الذي سمته حمير الرايش لأنه كان متواضعاً لله لم يكن متوجاً. قال وهب: وكان لقمان بن عاد يدعو قبل كل صلاة ويقول: أللهم يا رب البحار الخضر ... والأرض ذات النبت بعد القطر أسألك عمرا فوق كل عمر فنودي قد أجيبت دعوتك وأعطيت سؤالك ولا سبيل إلى الخلود واختر إن شئت بقاء سبع بقرات عفر في جبل وعر ولا يمسهن ذغروان شئت بقاء سبع نوايات من تمر - مستودعات في صخر لا يمسهن ندى ولا قطر وإن شئت بقاء سبعة نسور كلما هلك نسر عقب بعده نسر. قال: فكان ذلك إنه اختار سبعة نسور. قال وهب: فيذكر إنه عاش ألفي سنة وأربعمائة سنة وهو صاحب لبد. قال وهب: وكان لقمان يأخذ فرخ النسر من وكره فيربيه حتى يموت وهو يطير مع النسور ويرجع إليه. قال وهب: وأعطى لقمان سؤله وأخوه شداد في ملكه وعاش معه دهراً طويلاً وهو يدعو إلى الله، فلما مات شداد صار إليه الأمر فكان الناس يأتونه من أقاصي الأرض وأدانيها. قال وهب: وإن عاد الأصغر بن قحطان كانوا أهل غدر ومكر وختر لا يأمن فيهم ابن السبيل ولا يطمئن فيهم جار ولا ينزل فيهم غريب ولا يثق بهم معاهد، وكان فيهم قبيل يقال لهم: بنو كركر بن عاد بن قحطان فعاشوا بأقصى اليمن فحاربهم جميع قبائل عاد وأعانهم عليهم وناصرهم بنو غنم بن قحطان وبنو غانم بن قحطان وبنو ظالم بن قحطان فغلبوا بني كركر. فإنما رأى بنو كركر بن عاد ما صاروا إليه من الذل بعد العز ومن الضر والجهد بعد النعمة شكوا ضر ما نزل بهم إلى سيدهم وصاحب أمرهم السميدع بن زهير فقال لهم: يا بني كركر كنتم أهل غدر ومكر لا يثق بكم قريب ولا بعيد ولا يأمنكم بغيض ولا حبيب أقرضتم الدهر قرضاً فرده إليكم فلم ترضوه. قالوا له: قد علمنا أنا فتحنا على أنفسنا بابا الموت فدلنا على باب الحياة؟ قال لهم: أما ها هنا فلا ولكن سيروا بنا إلى هذا الملك الحميري لقمان بن عاد فإن عنده رشداً وسداداً وصلاحاً للعباد يدعو إلى الله وإلى أبواب البر ومن دعا إلى الله أمن من الأذية واطمأن من لجأ إليه وطاب له وجه أمره ورضي عاقبته. قالوا له: لك الأمر فخذ بنا حيث شئت، قال لهم: يا بني كركر قدمتوني إلى أمر جليل وإن الله لا يرضى من أفعالكم شيئاً وأنه رأى ما فعلتموه منكراً فغيره، وأنشأ يقول: من أضمر المكر وأبدى الغدرا ... يلقي مدى الأيام ضراً مر
لم يدر ما سر وما قد ضرا ... يعذل فيما قد لقيه الدهرا
ورحل بهم إلى لقمان بن عاد وقال:
سيروا بني كركر في البلاد ... أني أرى الدهر إلى فساد
قد قام من حمير ذو الرشاد ... لقمانها فقد هداه الهادي
يدعو لها النادي وأهل النادي ... من حمير السادة في العباد
فغير المنكر بالسداد ... يا حبذا من رائد مرتاد
دعو بني كركر كل عاد ... إلى مقام الفصل والميعاد
فسار بهم السميدع إلى لقمان، وإن لقمان عرض عليهم الإيمان فآمنوا كلهم، فأنزلهم أرض العالية وتزوج منهم امرأة وهي سوداء بنت أمامة - وكانت جميلة - وكان لقمان غيوراً فأخذها فجعلها في كهف عظيم في رأس صخرة عالية لا يطيق أحد يطلع إليها إلا هو لطوله وتمامه، وكان يعبد الله في ذلك الكهف وكان له عيد يصلي بالناس فيه كل عام بالرجال والنساء فصلى ببني كركر وقد اجتمع النساء والرجال فبصر هميسع بن السميدع بن زهر إلى امرأة لقمان فهويها فقال: (معشر عاد والله إن لم تحتالوا لي حيلة أدرك فيها سوداء امرأة لقمان لأقتتلن لقمان ثم تأتي على آخركم حمير)، وكان جسوراً فتاكاً وعلموا أنهم إن لم يفعلوا ذلك يفعل ما قال، فاجمع أمر بني كركر على أن يحتالوا كيف يجمعون بينهما ولا يعلم كيف يجمعون بينهما ولا يعلم لقمان فقال رجل منهم - يقال له عامر بن مالك: أسأتم الجوار ونقضتم العهد فما أشبه أول أمركم بالآخر لا أمان بعد مكر ولا عذر بعد غدر ولا نقض بعد أصر، أطعتم غوياً عاهراً وعصيتم ناهياً آمراً أطعتم شيطانكم فكأني بكم وقد رمتكم العرب عن قوس واحدة فأحسن لقمان جواركم فكيف تخونونه في حريمه. فلم يلتفتوا إلى ما قال ومضوا فيما هم فيه من الحرام فقال عامر: أفي كل عام سنة تحدثونها ... ورأي على غير الطريقة تعبروا وإن لعاد سنة من حياضها ... سنحيا عليها ما حيينا ونقبر وللموت خير من طريق تسبنا ... بهاجرهم فيما تسب وحمير قال: فضربه الهميسع بن السميدع بن زهير فقال: يا بني كركر أراد دماركم فاقتلوه فقتلوه ثم إنهم أتوا لقمان فقالوا له: إنا خشينا الحرب فيما بيننا، ولكن إن رأيت أن تحبس سلاحنا عندك في هذا الكهف فإن تنازعنا لم يكن لنا سلاح نسفك به دماً ولا نقطع به رحماً. قال: افعلوا فأخذوا السلاح فجعلوا في وسطه الهمسيع بن السميدع وستروه به من كل جانب وأعطوه لقمان فطلع به الكهف، فلما خرج لقمان تكلم همسيع إلى سوداء امرأة لقمان وقال لها: أنا همسيع بن السميدع، وأخرجته ونال منها وأطعمته وسقته ثم ردته في السلاح، فلم تزل تعمل معه إلى أن رقد معها على سرير لقمان ثم تنخم ورمى النخامة إلى سمك الكهف وقد التصقت النخامة في سمك الكهف ثم أن لقمان أتى وقد أعيا فألقى بنفسه على سريره ثم رمى بصره إلى سمك الكهف فرأى النخامة فقال لامرأته: من بصق هذه البصقة؟ قالت: أنا. قال: ابصقي فبصقت فلم تدرك. ثم قالت له: أنا جالسة حين بصقتها، قال لها: اجلسي فجلست فبصقت فلم تدرك، قالت له: واقفة كنت، قال لها: قفي، فوقفت وبصقت فلم تدرك، فقال لها: من السلاح أتيت - ثم بادر إلى السلاح ففتحه واستخرج همسيع. فدعا بحمير فقال لهم: ما رأيكم في بني كركر؟ قالوا له: يا لقمان انف بني كركر بن عاد من أرض حمير فإنهم أهل غدر ومكر لا يزرعون فينا إلا الغدر ويحملونا الأحقاد ويورثونا الضغائن. فقال لقمان لعاد: اخرجوا من جواري. ثم طلع على الجبل وشد سوداء امرأته مع همسيع في السلاح الذي كان همسيع فيه، ثم رماهما من أعلى الجبل، ثم رماهما بالحجر ثم رماهما جميع من كان معه، فأول من رجم في الحد حد الزنا لقمان فقتلهما، ثم أخرج بني كركر من جواره. فقالوا له: يا لقمان إن أنت لم تشيعنا نتخطف في الأرض فسار معهم لقمان ليمنعهم من قبائل حمير، فبينما هو يسير إذ سمع رجلاً يقول لامرأة منهم: يا رجيم أين زوجك قالت له: يرعى غنمه وهذا عشي النهار وهو وقت إيابه إلينا ولكن خذ ما تريد قبل أن يأتيك فزنى بها ولقمان يسمعهما ويراهما فهما كذلك إذ سمعت ثغاء الشاء فقالت له: هذه غنمنا. قال لها: خذي لي حيلة فأخذته فأدخلته تابوتاً لها وأقفلت عليه ثم أتى زوجها إلى حيه ثم أنهم رحلوا ليلاً فقالت له: إن حيلتي وجميع شأني في هذا التابوت فأحمله فحمله قال، وساروا ومعهم لقمان فهم يسيرون اذ ضيق البول على الذي في التابوت فبال فلما سال على رأس زوجها، قال لها: ما هذا الذي سال على رأسي من هذا التابوت؟ قال له: في التابوت اداوة الماء. قال لها: إنه مالح، ورمى التابوت عن رأسه فانكسر وثار الرجل هارباً يسعى في سند الجبل فثار في أثره زوج المرأة فأدركه وأخذه وجاء يدفعه يريد به لقمان وتعاوره من كان معه حتى أتى به لقمان فقال: يا لقمان إن هذا من شأنه كذا وكذا، فلما أصبح أمرهم لقمان بالنزول ونزلوا ثم قال: جيئوني بالرجل المأخوذ وبالمرأة فأتي بهما فأنكرا قول الرجل. فقال لهما لقمان: قد رأيتكما وسمعت كلامكما وعلمت كل ما فعلتما، قال له بنو كركر: الأمر لك يا لقمان احكم فيهما. قال لهم: حملوها ما حملت زوجها فأخذ الرجل فحمله في التابوت وشده بالحبال على رأسها، ثم قال لهم: دعوها تجول حتى تموت ويموت. فلم تزل تجول به حتى ماتت ومات على رأسها. وإن رجلاً أتى لقمان قال له: يا لقمان إن سارقاً يأتي رحلي فيدخل يده في خرق الخيمة ويسرق ما أصابت يده من الخيمة، فقال له لقمان: احرسه حتى إذا أدخل يده وسرق فخذ يده واقطعها. ففعل ذلك الرجل وإن السارق آتاه كما كان يفعل أول مرة فقطع رب الخيمة يده وذلك أن أول من حكم بالقطع في السرقة لقمان. قال وهب: وإن لقمان اخرج بني كركر بن عاد من أرض حمير وردهم إلى قومهم عاد بن قحطان. قال وهب: ورجع لقمان إلى مأرب ومعه لبد نسره الآخر وهو أطول النسور عمراً. قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي قال: كان عمر لقمان بن عاد أربعة آلاف عام عاشت ستة نسور كل نسر خمسمائة عام وذلك ثلاثة آلاف عام وعاش لبد وكان آخرها ألف عام. قال وهب: فلما كان اليوم الذي أصبح فيه لقمان مشرفاً على الموت فأراد أن ينهض فضربت عروق ظهره ولم يكن قبل ذلك يشتكي شيئاً منها فقال: يا لقومي نعى إلي بموتي ... اختلاف النساء وحبل الوتين
ثم نظر إلى لبد وقد تطايرت النسور ولم يطير فلم يطق فقال له: انهض لبد نهضاً شدد ... إذ لم يكن أبد الأبد
فأراك حين تطايرت ... تلك النسور فلم تعد
بشرت لقمان به ... ولعله لم يعتمد
قال: ثم أخذ لبداً بيديه ورمى به ليطير فسقط لبد وتطاير وتناثر ريشه فلم يطق أن ينهض، ثم قال: يا لبد صحبتني فصحبتك وكذبتين فكذبتك، ثم عاد لقمان فأخذ لبداً فرمى به ليعلو ويطير فسقط وتطاير ريشه فقال: انهض لبد نهضاً شدد ... فإن الملك للمجرد يشير إلى الحرث بن ذي شدد. فلما أيقن بالموت قال: يا قوم دعوني من سير الجبارين واسلكوا بي سبيل الصالحين احفروا لي ضريحاً واروني ترباً وحصباً ولا تجعلوني للناظرين نصباً ومات لقمان ودفن بالأحقاف إلى جوار قبر هود النبي عليه السلام. وقد ذكر لقمان والنسور كثير من الشعراء فقال تيم اللات بعده: رأيت الفتى ينسى من الدهر حقه ... حذار لريب الدهر والدهر آكله
ولو عاش ما عاشت للقمان انسر ... لصرف الليالي بعد ذلك يأكله
قال النابغة يصف لبداً: أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد وقال لبيد بن ربيعة فذكر لقمان وقصته ولبداً وقصته: لله نافله الأجل إلا فضل ... وله العلى واثبت كل موصل
لا يستطيع الناس محو كتابه ... أني وليس قضاؤه بمبدل
سوى فاعدل دون عزة عرشه ... سبعاً طباقاً فوق فرع المنقل
والأرض تحتهم مهاداً راسياً ... نبتت جنباتهم بصم الجندل
بل كان سعيك في حياتك باطل ... وإذا مضى شيء كأن لم يفعل
لو كان شيء خالد لتواءلت ... عصماء مؤلفة ضواحي مأقل
بظلوفها ورق البشام ودونها ... طود يزل سراته بالاجدل
أو ذو زوائد لا يطاف بأرضه ... يغشى المهجهج كالذنوب المرسل
في نابه عوج يجاوز شدقه ... ويخالف الأعلى وراء الأسف
فأصابه ريب الزمان فأصبحا ... أنيابه مثل الزجاج النصل
ولقد رأى صبح سواد خليله ... ما بين قائم سيفه والمحمل
صبحن صبحاً حين حق حذاره ... أصبحن صبحاً قائماً لم يعقل
لقد جرى لب فأدرك جريه ... ريب الزمان وكان غير مثقل
ولقد رأى لبد النسور تطايرت ... رفع القوادم كالفقير الأعزل
من تحت لقمان يرجو سعيه ... ولقد رأى لقمان ألا ياتلى
غلب الليالي بعد آل محرق ... وكما فعلن يتبع وبهرقل
وغلبن أبرهة الذي الفته ... قد كان عمر فوق غرفة موكل
والحارث الحراب أمسى قاطناً ... داراً أقام بها ولم يتحمل
والشاعرون الناطقون أبادهم ... سلكوا سبيل مرقش ومهلهل
ودعت قومي بالسلام كأنني ... ماض إلى سفر بعيد المرحل
وقال الأعشى في ذلك أيضاً: فأنت الذي سقيت عمراً بكأسه ... ولقمان إذ خيرت لقمان في العمر
فقال مميت الخلق ما يصحب الندى ... ثم لم يلق بدعوتها القطر
لنفسك أن تختار سبعة أنسر ... إذا ما مضى نسر خلفت إلى نسر
فقال نسر حين أيقن إنه ... خلود وهل تبقى النسور مع الدهر
وهي لبد والطير يخفقن حوله ... وقد بلغت منه المدى صحوة القدر
فقال له لقمان إذ حلَّ ريشه ... هلكت وقد أهلكت هاداً وما تدري
وأصبح مثل الفرخ أطلق ريشه ... وبادت به عمراه في ليلة الحشر
قال وهب: كان بنو كركر بن عاد بن قحطان أصابهم قحط فسار لقمان إلى بيت مكة وسار معه قيل بن الكثير بن عنتر العادي يستسقيان ويدعوان الله تعالى، فكان يسأل لقمان العمر وقيل يسأل القطر فأجيبت دعوة لقمان ولم تقبل دعوة قيل ألا إنه رأى في المنام كأن آتياً آتاه فقال له: يا قيل انك ضيف الله في البلد الحرام قصدت الله وجاورت بيته فلك قرى الدعاء وقد استسقيت لقوم الله عليهم غضبان ولكن اذهب إلى الموضع الذي تدعو الله فيك فانك تصيب فيه كأساً فاشرب به كأساً من زمزم إجابة لدعائك فانك لن تصم ولن تعمى ولن تسقط لك سن ولا ضرس بعده حتى تلقى الله، فلما أفاق سار إلى الموضع فأصاب به كأساً فأخذه وسار به إلى زمزم فشرب به كأساً كما أمره فما اعتل بعده بعلة في جارحة حتى مات.
ملك الهمال بن عاد المعروف بذي شدد ملك متوج
وأنه لما مات لقمان بن عاد صار الملك إلى أخيه الهمال بن عاد بن الملطاط ابن السكسك بن وائل بن حمير. والهمال بن عاد هو ذو شدد، فلما صار الملك إلى هم الذي شدد دخل إلى المغارة التي دفن فيها أخوه شداد بن عاد فأخرج التاج وتتوج به وكان لقمان غيبه في تلك المغارة لأنه لم يكن متوجا كان متواضعاً لله، فلما ولي الهمال بن عاد أخذ الملك أخذاً شديداً فولي ذلك حيناً من الدهر ثم مات، وإنما قيل له ذو شدد بلغة حمير كقولك ذو شطط ابن عاد بن مناح أي ذو عطاء.
ملك الحارث بن الهمال
قال وهب: وولي أمر الملك بعد الهمال بن عاد ابنه الحارث بن الهمال وهو الرائش الأصغر والرائش الأكبر عنه لقمان بن عاد وهو الحارث ذو مراثد بن الهمال ذي شدد بن عاد بن ذي مناخ وكانت تأتي هدايا الهند إلى التبابعة من أصناف الطيب والمسك والعنبر والكافور وحب البان والينجوج والزعفران وغير ذلك من أنواع الطيب ومرافق أرض الهند والفلفل والهليلج وغيره، ويأتي الجوهر والعقيق والدن، فلما أتت الهدية إلى الرائش الحارث ذي مراثد وذو مراثد في لغة حمير ذو أيادي وذو مرثد ذو يد.
قال وهب: فلما أتت الهدية من قبل الهند إلى ذي مراثد ورأى ما رأى من عجائب الهند تطلعت نفسه إلى غزوها فعبى الجنود وجمع العساكر وأظهر إنه يريد المغرب في البحر وأعد السفن وكان غزاها قبله ثلاثة من الملوك على البر من جبال حران وأرض التبت حتى وصلوا إليها وهم: عبد شمس ابن * سبأ وبعده ابنه وائل بن حمير وبعده ابنه السكسك بن وائل، فكان خراجهم الذي أجروه على الهند جميع هذه الطرائف يطرفونهم بها. قال وهب: فلما أمكن لذي مراثد الرائش جواز البحر ركب وقدم بين يديه رجلاً من حمير يقال له: يعفر بن عمرو. فسار يعفر حتى دخل أرض الهند وتبعه الرائش ذو مرراثد فقاتل أهل الهند يعفر حتى آتاه الرائش فغلب عليهم فقتل المقاتلة له وسبى الذرية وغنم الأموال ورجع إلى اليمن من جهة مطلع الشمس وكان طريقه مدينة الصغد وهي سمرقند وخلف يعفر بن عمرو في اثني عشر ألفاً في مدينة بناها الرائش ذو مراثد وسماها على اسم الرائش. فلم يقدر أهل الهند يقيمون اسمها فسموها الرائد فهي مدينتهم اليوم وبها ملكهم. وقال في ذلك نوفل بن سعد من رؤساء حمير: من ذا من الناس له ما لنا ... من عارب في الناس أو أعجمي
سار بنا الرائش في جحفل ... مثل مفيض السيل كالأنجم
يوماً لأرض الهند يسمولها ... تجري به الأمواج كالضغيم
فأول الغاية قاموا بها ... واستسلموا للفيلق المظلم
في بحرها المنشور سام به ... يوم أمام الملك المعلم
يغيرها يعفر اذ جاءها ... يا حبذا ذلك من مقدم
فصبح الهند له وقعة ... هدت قواه بالقنا الصيلم
وانغص الرائش أملاكها ... وآب بالخيرات والأنعم
فالدر والياقوت يجبي له ... والخرد الأبكار في الموسم
قال وهب: ولما صار الرائش بجبال خراسان أتته هدايا أرمينية اتقوه خوفاً لما وقع في الهند فأرسل ملوك أرمينية ببزاة بيض وديباج وسروج ومتاع عجيب مما يقابل به الملوك فقال للرسل: كل هذا في أرضكم؟ قالوا: نعم أيها الملك. قال: فلم نأخذ شيئاً إذ لم نأخذ أرض أرمينية، فسار يريد أرض أرمينية فقدم بين يديه شمر بن العطاف الحميري في مائة ألف وسار يتبعه بالجمع فأخذ أرمينية وأخذ في دروب الأرض إلى عجز الأرض ما تحت بنات نعش وأبواب زوايا الأرض، ثم قفل راجعاً حتى بلغ أذربيجان حتى بلغ إلى الصخرتين من أذربيجان وهما صخرتان قد تقابلا جبلان شامخان يحسر الطرف عنهما وليس يأخذ أخذ بأذربيجان إلا بينهما. فكتب في الصخرتين بالحميري المسند وسموا الحميري المسند لأنه على عدده وهو منثور مثله فكتب في الصخرة الواحدة أن الرائش ذا مراثد سيد الأوابد بلغ من الدنيا أمله وبقي ينتظر أجله فمتى ينقض يمض وتحته منقوش: يا جابيا خرج خراسان ... ملججاً في أرض حران
فتحت أرض الهند مستأثراً ... يعفر الأول والثاني
يتبع قرن الشمس إن أشرقت ... حتى بدا نور الضحى قاني
سام على البيت مستعجلاً ... مقتحماً أرض أذربيجان
سينقضي الرائش بعد الذي ... نال ويبقى الناس في شان
وكتب في الأخرى: إلا أن الزمان أطاع أمري ... وسوف أطيعه قهراً بقسر
ركبت الدهر إعصاراً عزيزاً ... سيسأم طول هذا الدهر دهري
يخادعني بأيام حسان ... ويقطع دائباً في ذاك عمري
لقد صبر الزمان على اعتزامي ... ليعلم أن عصاني كيف صبري
له أيد طوال عن قصار ... تناول ذا الورى خسري ويسري
ال أبو محمد: أن ذلك الكتاب لمكتوب فيها اليوم - قال: وإن الرائش ذا مراثد رجع إلى اليمن ونزل غمدان ومات، فكان عمره في الملك مائة عام وخمسة وأربعين عاماً، والله أعلم.
ملك الصعب ذي القرنين
وولي بعده ابنه الصعب ذو القرنين بن الحارث الرائش ذي مراثد بن عمرو الهمال ذي مناح بن عاد ذي شدد بن عامر بن الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود عليه السلام ابن عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح عليه السلام. قال وهب: رفع الحديث إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إنه قال (حدثوا عن حمير فإن في أحاديثها عبراً). قال وهب: وولي الملك الصعب ذو القرنين بن الحارث الرائش ذي مراثد بن عمرو الهمال ذي مناح بن عاد ذي شدد تجبراً لم يكن في التبابعة متجبر مثله ولا أعظم سلطاناً ولا أشد سطوة وكان له عرش من ذهب صامت مرصع بالدر والياقوت والزمرد والزبرجد، وكان يلبس ثياباً منسوجة من الذهب منظومة دراً وياقوتاً وكان عظيم الحجابة. قال: فبينما هو في ذلك المكان إذ رأى رؤيا كأن آتياً آتاه فأخذ بيده وسار به حتى رقي به جبلاً عظيماً منيفاً لا يسلك فيه سائر من هول ما رأى إذا شرف على جهنم وهي تحته تزف وأمواجها تلتطم وفيها قوم سوط تتخطفهم النيران من كل جانب. فقال له الصعب: من هؤلاء؟ قال له: الجبابرة فاخلع يا صعب رداء الكبر وتواضع لله يعطك عزاً أعظم من عزك وهيبة أجل من هيبة الكبر وعزاً أعظم من عز الملك فاختر لنفسك أي المقامين أحب إليك. قال: فلما أصبح برز للناس بعد الحجابة وتواضع وانبسط بعد العز والقسوة وجلس بين الناس ودخل قلبه وحشة خوفاً من الله ثم أمر بالعرش فاخرج، ثم قال: أيها الناس اهتكوا ولكل يد ما أخذت فهتك العرش وانتبه الناس ثم رمى بثوبه فتخطفه الناس، ثم قال: أيها الناس إن الله الجبار يبغض الجبارين، قهر الموت من ادعى إنه ندره وأذل الملك من ادعى إنه ضده واستأثر بالبقاء بعد ذهابه الإملاء. قال وهب: ثم إنه رأى في الليلة الثانية كأنه نصب له سلم إلى السماء ورقى عليه، فلم يزل يرقى حتى بلغ إلى السماء فسل سيفه ثم علقه مصلتاً إلى الثريا ثم أخذ بيده اليمنى الشمس وأخذ القمر بيده اليسرى ثم سار بهما وتبعته الدراري والنجوم، ثم نزل بهما إلى الأرض، فلم يزل يمشي بهما وتبعته النجوم في الأرض، فأفاق. فلما أصبح خرج إلى الناس هائماً لا يدري ما هو فيه فاستنكر الناس أمره. قال وهب: ولما كانت الليلة الثالثة رأى كأنه جاع جوعاً شديداً وظهر إلى الأرض فصارت له غذاء فأقبل عليها يأكلها جبلاً وأرضاً حتى أتى عليها كلها، ثم عطش فأقبل على البحار يشربها بحراً بحرا حتى أتى على السبعة الأبحر، ثم أقبل على المحيط يشربه فلما أمعن فيه إذا هو بطين وحمأة سوداء لم تسغ له بما آتاه فترك ثم أفاق من نومه فلما أصبح هام وحار فيما رأى وغاب عن الناس لما به. فقال الناس: يوماً يظهر ويوماً يحتجب. قال وهب: فلما نام في الليلة الرابعة رأى كأن الأنس والجن آتوه من الأرض كلها حتى جلسوا بين يديه، ثم أقبلت البهائم والأنعام من الأرض كلها حتى جلست بين يديه، ثم أقبلت الوحوش من الأرض كلها حتى جلست بين يديه، ثم أقبلت الطير حتى أظلته وأقبلت الهوام من جميع الأرض كلها حتى حفت به، ثم أقبلت الرياح حتى استدارت فوقه. قال: فأرسل أمماً من الإنس والجن مع ريح الصبا إلى المغرب فهبت بهم إلى المغرب، ثم أرسل أمماً من الإنس والجن مع ريح الشمال، فهبت بهم إلى يمنى الأرض فلما ذهبت الإنس والجن أمر البهائم والأنعام فذهبت بهم الرياح الأربع وجوهاً من ألأرض، فذهبوا في سبيل الأنس والجن، ثم أمر الطير فذهبت بها الرياح في الوجوه الأربع، ثم أمر الرياح فذهبت بالوحوش وحبس سباعها تحت قدميه، ثم أمر الرياح فذهبت بالهوام في سبيل من مضى من جميع من أرسل، فلما أصبح غلب عليه هول ما رأى من الرؤيا الأولى والثانية والثالثة والرابعة فأرسل في وزرائه وأهل مشورته ووجوه قومه فجمعهم، ثم قص عليهم ما رأى. قال لهم: كنت كتمتكم أمر وهو أمر جسيم. قالوا له: هال علينا حالك أيها الملك فتحيرنا في أمرك وخشينا من سخطك إن نحن سألناك من قبل أن تظهره، فلما كان إظهاره منك فرجت علينا أيها الملك أمراً جليلاً واطمأنت قلوبنا فما هو أيها الملك؟ قال لهم: رأيت رؤيا عظيمة، ثم رأيت في الليلة الأخرى أعظم منها، ثم رأيت في الليلة الثالثة ما هو أعظم منهما جميعاً، ثم رأيت في الرابعة من أعظم مما تقدم، فلم أدر ما أفعل؟ قالوا له: ما هي أيها الملك؟ فقص عليهم جميع ما رأى. فهالهم ما سمعوا منه فقالوا له: نامت عينك أيها الملك اجمع أهل العلم بالتأويل والنجم والكهانة والحبابرة من أهل الدين الأول فإنهم يفسرون للملك جميع ما رأى في الليلة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، فقالوا له: أيها الملك هذا شأن عظيم لم تدرك عقولنا تأويل هذا، وإن نحن تأولناه لك لم نأمن إن نحن لم نصب وجه الرؤيا يسخط علينا الملك وقد يخرج تأويل الرؤيا على غير ظن المتأول. قال: ثم قام إليه شيخ منهم له عقل ودين وقد جرب الأمور وحكمته الدهور. فقال له: أيها الملك أما أنهم قد أحسنوا إلى أنفسهم إذا لم يفسروا شيئاً من رؤيا الملك ولو أجابوا الملك لرددت عليهم، أنا وإن تقدمت في ذلك بين يدي الملك تحسن العاقبة قال له الصعب ذو القرنين: لم ذلك؟ قال له الشيخ: ذلك لأن الله فوض إليك أمراً جليلاً وقلدك أمراً جسيماً ثم أراك وحياً عظيماً، فقد استمسكت بأمر الملكوت واني يفسره لك من الله عليه فاضطره إليك وجعل حكمك في دمه وماله فقد وقفك الله بين الجنة والنار فإن عدلت يميناً فجنة وإن عدلت يساراً فنار، ثم أراك هذا البناء العظيم فأردت أن تسبرن في علم الله من أباح لك جهله دمه وماله يحملون آراءهم على علم الملكوت ووحي الغيوب فقد رأيت أيها الملك عظيماً فليس على الأرض من يفسر تأويل رؤياك إلا نبي ببيت المقدس من ولد إسحاق بن إبراهيم الخليل. قال له الصعب: ولله نبي على الأرض؟ قال له الشيخ: نعم أيها الملك ما أتيت الملك إلا وقد لقيته وسمعت منه ما يدعو إليه فأمر ذو القرنين بالجنود فجمعت، فجمع جنوداً لم يجمعها ملك قبله، وذلك عند كمال قوة لابن سام ابن نوح ﷺ وبه كانوا يتداعون في ذلك الزمان وهم عمود النسب من ناولهم من جميع العجم، فلكا اجتمع للصعب ذي القرنين الجموع العظيمة والعساكر البارزة أوقفها بمآرب وعمل بطاعة الله وحكم بحكمه، ثم أمر بعمود من رخام فنقش فيه بالمسند الحميري: يلوم اللائمون الجهل جهلاً ... وداء الجهل ليس بذي دواء
وعلم العالم التحرير جهل ... إذا ما خاض في بحر البلاء
إذا كان الإمام يحيف جوراً ... وقاضي الأرض يدهن في القضاء
فويل ثم ويل ثم ويل ... لقاضي الأرض من قاضي السماء
ثم أمر الصعب ذو القرنين الجنود فنهضت وجعل على طالعته ألف ألف فارس، ثم مشى بالخيل والرجل فسار حتى انتهى إلى البلد الحرام فنزل به، ومشى في الحرم راجلاً حافياً وطاف البيت وحلق ونحر، ثم قضى حجه ومشى في الحرم راجلاً حافياً حتى إذا خرج منه ركب ثم سار إلى بيت المقدس، فلما نزل بيت المقدس سأل عن النبي الذي ذكر له ولم يطلب شيئاً غيره حتى ظهر عليه. قال له الصعب: أنبي أنت؟ قال له موسى الخضر: نعم، قال له: ما اسمك ونسبك؟ قال له: موسى الخضر بن خضرون بن عموم بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام. قال له الصعب: أيوحى إليك يا موسى؟ قال له: نعم يا ذا القرنين، قال الصعب له: يوما هذا الاسم الذي دعوتني به ما هو؟ قال: أنت صاحب قرني الشمس وذلك أن أول من سماه ذي القرنين الخضر. قال وهب: ثم قص عليه كيف رأى جهنم والجنة ثم قص عليه كيف رأى إنه علق سيفه بالثريا مصلتاً وأنه أخذ الشمس والقمر وتبعته النجوم والدراري ونزل بهم إلى الأرض ومشى بهما في الأرض والنجوم تتبعه، ثم قص عليه كيف أكل الأرض بجبالها وشرب البحار كلها، ثم شرب عامة ماء البحر المحيط حتى آتاه كدر وحمأة فلم يستطع شربه وكف عنه. وقص عليه كيف رأى الأنس والجن والبهائم والأنعام والوحوش والطير والهوام وعقد الريح وكيف صرفهم في الأرض. قال له: أن الله مكن لك في الأرض وأعطاك من كل شيء سببا فأما جهنم فقد أنذرت فانتبه. فأما طلوعك إلى السماء فهو علم من عند الله تدركه، وأما الشمس والقمر والدراري والنجوم فإنه لا يبقى معك في الأرض ملك إلا خلعته ولا رأس إلا تبعك. وأما الأرض التي أكلتها إلى غايتها فلم تبق منها شيئاً فإنك تملك الأرض ومن عليها. والسبعة البحار التي شربتها فإنك تركب السبعة الأبحر وتملك جزائرها. وأما البحر المحيط فإنك تركبه وتبلغ منه غاية يأتيك عكر لا تستطيع تعبره فترجع دونه، وأما الأنس والجن فإنك تنقلهم في الأرض من مكان إلى مكان تحول أهل المغرب إلى المشرق وأهل المشرق إلى المغرب وأهل يمين الأرض إلى شمالها وأهل شمالها إلى يمينها، وأما الأنعام والبهائم فإنها تسخر لك. وأما الوحوش والطير والهوام فإنها تسخر لك لا تضر شيئاً في زمانك وحيث ما شئت عقدتها بيدك زمامها، وأما الرياح فانك تملك عقدها تصرف ضرها عن أي بلد شئت، وأما رؤياك أنك طفت بالشمس والقمر في الأرض فانك ستجاوز مغرب الشمس وتصير في ظلمة لا تهتدي إلا بما في يديك من العلم ويذهب عنك ضوء الشمس والقمر فانهض بأمر الله واعمل بطاعة الله فإن الله يغنيك ويسددك ويوفقك. قال وهب: وإن ذا القرنين نام فرأى أي سبباً كأن الأرض كلها عليها ليل إلى أن طلعت له الشمس من المغرب بيضاء صافية فسار يلقى الشمس فلم يزل يتبع نورها حتى بلغ أرضاً مفروشة بنجوم السماء، فمشى عليها، ثم أفاق فاعلم الخضر بهذا السبب، قال له الخضر: أمرت بأن تسير إلى المغرب وتبلغ وادي الياقوت. فكان الخضر يأتيه الوحي فيعلم بذلك ذا القرنين، وتأتي الأسباب إلى ذي القرنين فيعلم بها الخضر. فكان ذو القرنين يعمل بالعلمين، ثم سار ذو القرنين إلى القرنين إلى المغرب وسار معه الخضر فسار ذو القرنين يطأ المغرب بالجنود يقتل ويسبي وينقل الناس من أرض إلى أرض فعاد على ارض الحبشة، فلم يزل يفتحها أرضاً أرضا وأمة أمة حتى بلغ أقصاها. قال أبو محمد عن أسد بن موسى عن أبي إدريس عن وهب عن عبد الله ابن عباس إنه قال: الدنيا مسيرة خمسمائة عام فثلاث مائة منها بحار ومائة قفار ومائة عمران، فثمانون منها لياجوج وماجوج وأربع عشرة للسودان وست منها لما سوى ذلك من الخلق. قال وهب: لما لجج ذو القرنين في أرض السودان يقتل ويحرق بالنار إلى أن أتى إلى قوم بكم قال له الخضر: هل لك أن تسمعهم فإنهم قوم لا ينطقون فمن عمل بما أمرته علم إنه قبل ومن لم يعمل قتلته. ثم مضى حتى انتهى إلى قوم سود زرق الأعين فقتل من قتل وآمن من آمن ثم مضى حتى انتهى إلى قوم بلق آذانهم كآذان الجمال فقتل منهم أمماً وعفا عمن آمن، ثم مضى حتى انتهى إلى قوم آذانهم كبار من أعلى رأس احدهم إلى ذقنه فإذا رقد وضع شقاً عليها وغطت الأخرى الشق الأعلى فقتل من كفر وعفا عمن آمن حتى غلب على أرض السودان وجلب منهم أمماً بين يديه في عساكره، ثم مضى حتى بلغ أرض بني ماريع بن كنعان بن حام فقتل وغنم وسبى وساق منهم أمماً بين يديه، ثم جاز إلى جزيرة الأندلس فغلب عليها إلى أقصاها، ثم رام ركوب البحر المحيط فزفر عليه البحر وصار كالجبال الشم فرأى في الأسابا عقدة فبنى منارة وجعل عليها صنماً من نحاس عقد بها عاصفات الرباح، ثم سكن البحر فلان فركبه وسار بجميع جموعه حتى أبعد عن العقد، ثم طغى عليه البحر فبنى منارة أخرى ونصب عليها صنماً عقداً. فلم يزل يسير في المحيط وكلما عبر وزفر عليه بنى منارة وعقد عقداً حتى انتهى إلى عين الشمس فوجدها تغرب في عين حمأة في البحر المحيط ووجد من دونها جزائر فيها أمم لا يفقهون ما يقولون ولا ما يقال لهم فقال ذو القرنين: من رمى بكم ها هنا؟ فقالوا له: سبأ، فأخذهم ذو القرنين فأراد قتلهم قال له الخضر: يا ذا القرنين {إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً، قال: أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً، وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسراً ثم أتبع سبباً} حتى بلغ وادي الرمل وأقبلت الشمس حتى سقطت في العين الحمأة، فكاد يهلك ويهلك جميع من معه من حر الشمس. فلما أتى وادي الرمل وجده يسيل بالرمل كالجبال الرواسي فرام أن يعبره فلم يطق، وأقام عليه أربعة أيام حتى دخل عليه السبت فسبت وأمر عمرو بن يعفر الحميري فعبر وادي الرمل في عشرين ألفاً فمضى حتى غاب عنه فلم يرجع إليه من عنده أحد، ثم أمر زهير بن مالك الحميري فعبر في عشرة آلاف رجل وقال له: يا زهير انظر إليه عمرو ومن معه وانصرف ولا تمض فعبر زهير فلما صار إلى مكان عمرو ولى بمن معه. فلم يرجع إليه من عنده أحد وغاب عنه، فلما رأى أن عمراً ذهب وذهب زهير فلم يرجعا بمن معهما علم إنه علم مغيب عنه فقال للمسقر بن حوشب يا مسقر أنت أعظم رجالي عندي وارجاهم فاعبر وارجع إلي بما رأيت وما صار إليه عمرو وزهير، فعبر المسقر في خمسة آلاف رجل، فلما عبر وصار مكان عمرو وزهير مضى جميع من معه مستعجلين، ووقف المسقر مكانه لا يرجع ولا يذهب حتى غشيه الليل وسقطت الشمس فأصبح الوادي يوم الأحد وهو يجري كالجبال الشم وحال بينه وبين المسقر وغاب عنهم فلا يدري ما صاروا إليه. قال له الخضر: يكفيك يا ذا القرنين ف ' نه لن يجوز إلا من قد جاز اتبع ذو القرنين سبباً وسار مع وادي الرمل حتى بلغ إلى الظلمة فصار ليله ونهاره واحداً وعين الشمس تسقط خلفه فشق وادياً تزلق فيه الخيل والجمال وجميع ما معه. قالوا: يا ذا القرنين ما هذا؟ قال لهم: أنتم بمكان من أخذ منه ندم ومن تأخر ندم، فساروا فيه أياماً، ثم عطف بهم الوادي إلى جهة أشرق عليهم نور أبيض يكاد يخطف أبصارهم، قالوا له: يا ذا القرنين ما هذا الوادي الذي عبرناه؟ قال لهم: الوادي الذي عبرتم أنتم ذلك وادي الياقوت فمن أخذ منه قال: ليتني أخذت كثيراً ومن لم يأخذ قال: ليتني أخذت منه قليلاً. ثم انتهى إلى الصخرة البيضاء فكادت تذهب بأبصارهم من نورها وشعاعها وكان الذي وجدوا من الظلمة نور الصخرة ونظر ذو القرنين إلى منكب من مناكب الصخرة فرأى عليه نسوراً فعجب ذو القرنين منها ومن تعلقها في ذلك الموضع. قال ذو القرنين للخضر: يا ولي الله ما لهؤلاء النسور ها هنا! قال له الخضر: لهم شأن عجيب ونبأ جسيم، قال له ذو القرنين: ما هو يا نبي الله؟ قال له الخضر نعم يا ذا القرنين إنه لما أمر الله خليله إبراهيم بالهجرة إلى أرض بابليون أرسل إبراهيم جرجير بن عويم داعياً، وكان ولياً من أولياء الله داعياً من دعاته، إلى المغرب ليقيم حجة الله تعالى على الناس فبلغ قمونية فدعا الناس إلى الله تعالى فأجابه أمم وعصى أمم، ثم عبر إلى جزيرة الأندلس فأصاب بها أمما من بني يافث بن نوح وهم السكسك والقبط والإفرنج والجلائق والبربر والرعر فدعاهم إلى الله فقتلوه والقوه في موضع يجتمع فيه حشوشهم، فأرسل الله له هذه النسور للذي أراد من خلاص وليه من ذلك الموضع فجبذوه وأزالوه منه ونزل غيث وابل فطهره، ثم أكله هؤلاء النسور حتى نخر لحمه من عظامه وتفرقت عظامه وأوصاله، ثم أتى النسور إلى هذه الصخرة المنيعة فنزلوا فلم يقدروا على إمساك لحمه في حواصلهم فتقيؤوا فألقوه في ذلك الموضع فلم يبق من لحمه في حواصلهم شيء، ثم أرسل الله عظامه طيراً بعد من فرقتها النسور فكانت تأخذها عظماً عظما فإذا استقلت بها في الهواء ألقتها في الأرض فتنزل العظام في غابة عظيمة تغيب فيها فيتبعها الطير وتمنعه الغابة فلا يجد الطير إليها سبيلاً فعظامه فيها إلى يوم القيامة ولحمه على هذه الصخرة إلى يوم القيامة طهره الله من نجاسات المشركين وقد حرم الله النبيين والشهداء دماءهم ولحومهم على الأرض والطير والوحوش والهوام حتى يقفوا بين يدي الحكم العدل فسائل ومسئول وخاصم ومخصوم فهناك الفوز والدرك، ثم دنا ذو القرنين من الصخرة ليرقى عليها فانتفضت وارتعدت وتقعقعت فرجع عنها فسكنت، ثم عاد إليها ثانية فاتفضت وارتعدت وتقعقعت فرجع عنها فسكنت، ثم عاد إليها ثالثة فانتفضت وارتعدت وتقعقعت، ثم دنا منها الخضر فسكنت فرقى عليها فلم يزل يرقى وذو القرنين ينظر إليه والخضر يطلع إلى السماء حتى غاب عنه فناداه مناد من قبل السماء امض أمامك فاشرب فإنها عين الحياة وتطهر فإنك تعيش إلى يوم النفخ في الصور ويموت أهل السموات وأهل الأرض فتذوق الموت حتماً مقضياً. فمضى حتى انتهى إلى رأس الصخرة فأصاب عيناً ينزل فيها ماء من ماء السماء فشرب منه وتطهر، فلما رأى الماء ينزل ويستدير ولا يسيل منه شيء قال: إلى أين تذهب أيها الماء فنودي قد بلغ علمك، فلما رجع الخضر إلى ذي القرنين قال له: يا ذا القرنين إني شربت من ماء الحياة وتطهرت منه وأعطيت الحياة إلى يوم النفخ في الصور وموت أهل السموات والأرض ثم أموت حتماً مقضياً، ومنعت أنت ذلك ولك مدة تبلغها وتموت فارجع فليس بعدها مزيد لأنس ولا جن - ولم ير ذو القرنين سبباً فأقام حيناً ينتظر السبب، فأنشأ يقول: منع البقاء تقلب الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي
وطلوعها بيضاء صافية ... وغروبها صفراء كالورس
تجري على كبد السماء كما ... يجري حمام الموت للنفس
لم أدر ما يقضيه حكم غد ... ومضى بفصل قضائه أمس
وتشتت الأسباب تخلجني ... نحو العراق ومطلع الشمس
أزجي لهم حرباً تؤدبهم ... يلقون ذاك بأوجه عبس
تهوى المنون عليهم قذفاً بليوث غاب غير ما نكس
في ألف ألف كالنجوم لهم ... زجل كأسراب القطا الهمس
والصعب ذو القرنين قاد بها ... لصلاح أرض الترك والفرس
يا رب معصوم لساحتها ... عن هالك بعالم درس
للدهر أيام لعبن بنا ... يأتي القضاء بمحكم الطرس
كم من قرير العين في دعة ... ومروع الأيام في نحس
ومسود من غير مكرمة ... وممجد في ذاته يمسي
وعسيف قوم ظل في سعة ... ومقام حر عاش في تعس
ومعزز لم يلق قط وغى ... وحليف ذل فارس الدعس
إني أرى الأسباب واضحة ... وأرى علوم الغيب في طمس
يجري الزمان لنا بأربعة ... غيرن ما أصلحن بالأمس
يوم وليل دائر بهما ... نحس وسعد غاية النفس
إن المسقر بعد عزته ... ناء عن الخلان والأنس
والموت أس للنفوس متى ... حل القضاء رجعن للاس
هيهات لم يخدع فكان فتى ... لابد أن يمسي بلا حس
رهنا ببطن تنوفة أبداً ... بالحنو حنو الرمل في رمس
وان الخضر عليه السلام قال لذي القرنين: قد بلغت مبلغاً ليس وراءه من مزيد ولا مرمى وطفت جزائر المحيط وبلغت حجة الله على الجن والأنس بالمغرب، فانتظر ما يوحى إليك فأقام حيناً ينتظر حتى رأى السبب الصادق فناداه مناد من السماء: يا ذا القرنين اليوم الغناء وغداً الفناء اليوم العارية وغداً الهبة يا ذا القرنين إن النار زفرت وتغيظت على من يعرف الله ولم يغضب له يا ذا القرنين عذ بالرضى من الغضب وبالولاء من السخط، يا ذا القرنين اطلع مشارق الأرض فإنها ثلاثمائة مطلع وخمسة وستون مطلعاً تحت كل مطلع أمة لا يعرفون الله ولا يقنون بالبعث فبلغ حجة الله وأقمها على من لا يعلم وعده ووعيده. وإن الخضر أتى ذا القرنين فقال له: يا ذا القرنين إن لم يقل لك فسيقال لك وإن لم تر فسترى فهل قيل لك أو رأيت؟ قال له ذو القرنين: رأيت الأسباب الصادقة وسمعت النبأ العظيم يأمر وينهي.
وا==وصية الخضر عليه السلام== قال له الخضر: يا ذا القرنين إن الله مكن لك في الأرض وآتاك من كل شيء سبباً ولم تعلم إلا ما شاء الله أن تعلمه من علمه ولو ظهر إليك حرف مما غب عنك لا نصدع قبلك فرقاً، يا ذا القرنين حملت أمانة لو حملت على السماء انفطرت وعلى الجبال انهدمت وعلى الأرض انشقت، أعطيت الصبر وأوتيت النصر، وسترى قوماً يرون أهل الأرض عبيداً وأنهم شركاء الله في خلقه، وهم يأجوج ومأجوج والله الطالب لا يفوته هارب ولا يغلبه غالب والعقوبة بعد القدرة والمنع قبل الذل والغضب تحت الرضا والوفاء بعد العهد، يا ذا القرنين مرٌّ ينفع خير من حلو يضر، خذ ودع، خذ ما لزمك ودع ما لم يلزمك، يا ذا القرنين ربما رأت عينك شيئاً لم تدركه يدك ومثل لك أملك ما لم يبلغه عملك وحال دونه أجلك، يا ذا القرنين اعمل عمل من لا يموت وازهد زهادة من نزل به الموت واقنع من عيشك بالقوت. يا ذا القرنين أيقن وأتقن فإتقانك صلاح الدنيا ويقينك صلاح نفسك، يا ذا القرنين اجعل نفسك يدك في الدنيا وعينك في الآخرة امش مشي من لا يغفل ولا تعجل ولا تمهل فإن في الغفلة الهلكة وفي العجلة الندامة ومن المهل العطب كن بين حالين سدد ففي السداد الرشاد والحق دليل فاستدل ترشد والغنى لهو ومهلكة واني يفيق غاوٍ لاهٍ - يا ذا القرنين من نظر إلى الدنيا بعين سقيمة نظرت إليه بعين صحيحة وأرته النجاة وأعاضته جدة لا تخلق ومن نظر إليها بعين صحيحة شوقته بالآمال الكاذبة وكان حظه منها غدراً وزادته ندماً، يا ذا القرنين من عاش كذب ومن مات صدق مدة غايتها القطع كذب وغرور وابد لا يفي فالمطمئن إلى الحياة مخدوع والميت في منزل الأموات قدم علمه وأخر أجله فذلك الحي الذي لا يموت، يا ذا القرنين الناس عبيد الدنيا فمن نصح نفسه اعتقها ومن خلط طال رقه - راحة النفس القناعة وعذابها الحسد وزينتها العفاف -، يا ذا القرنين خذ ما ما أتيت بحزم وعزم واجعل الصبر دثاراً والحق أشعاراً والخوف من الله جنة، يزكو لك العمل وتأمن من هول الأجل، خذ بيدك سيف الله فإنه ليس له دافع ولا لنصره مانع وحسبك من كان الله له ناصراً، يا ذا القرنين خذ تحت أكتاف السماء عن شمال الأرض. قال: فحمل عساكره في المحيط يريد جزائر الأرض خلف جزيرة الأندلس، فلما وصل وعبر إلى الأرض وأخذ أهل الجزائر، وأنشأ ذو القرنين يقول: ألا أيها الوراد قد نلت خطة ... علوت بعلميها ملوك الأعاجم
سلكت غروب الأرض حزماً بجحفل ... لنأتي أرضاً غير أرض التشائم
فعمت جميع الغرب لله دعوة ... إلى غايتها بالقنا والصوارم
خرجت على الدنيا عن اللهو محرماً ... وسقت جموعاً كالهضاب الرواكم
وردت بباب الغرب والجمع مشرع ... على موج بحر مزبد متراكم
عقدت بعين الريح عقداً يكفه ... فامسك عن مجرى المدى المتفاقم
فارجيت فيه أمة بعد أمة ... وقدمت فيه عالماً بعد عالم
فأوردتها مثل القطا فيه نهلاً ... لندرك في الدنيا قسّ المعالم
تجرعته عذباً من الماء سائغاً ... وكان أجاجاً طعمه كالعلاقم
فصرت كمثل الطير فوق متونه ... تطير خوافيه بهز القوادم
أتيت إلى واد حثيث مسيله ... برمل تراه كالجبال الرواسم
تسير مهاراً والليالي كاتبا ... ترامي بسافيه حفي المخارم
صحبت ولياً مسكن الوحي قلبه ... ليعلم من أسراره كل كاتم
وأعطيت أسباباً أرى الرشد عندها ... تناهت بصدق العلم عن كل عالم
فلما آتاه السبت أسبت وارتقي ... على متنه عمرو وعاد بعاصم
فبادر سباقاً ويعفر بعده ... بجمعها أهل النهى والمكارم
وغودر إذا ذاك المسقر قائماً ... له همة تزري على كل قائم
فرجم بعض الناس بالظن أمرهم ... وقال دعوا في الأمر دعوة حازم
وقالوا رأوا مالاً يقيمون عنده ... فحثوا إلى الحور الحسان النواعم
ومن قال في علم العيوب بعلمه ... له نومة تربى على كل نائم
فهد جنا حيَّ المسقر فجعة ... وأنت على فقدانه غير نادم
فودعني عمرو عليه تحيتي ... وفارقني من يعفر حزم حازم
فهل مبلغاً في العهد يأتيه إنه ... ليعلم أن النقض غير المآثم
كتبت بخط الحميرية آية ... بأن ليس بعدي من مسير لقادم
ولا مذهب غير الذي قد أتيتم ... بني حمير غير النسور القشاعم
ولا بد مما أن تريحون غزوة ... لقتل الأعادي والملوك النواجم
ويوشك أن تدعوا يقيناً لمثلها ... إلى المشرق الأقصى لأمر ملازم
ليعرف حق الله من قد أضاعه ... ويهتك بالأسباب سجف المظالم
ويعلم أن الدهر يبلى جديده ... ومن قارع الأيام ليس بسالم
ألم تر أن الدهر يهدم ما بنى ... ومن يك مهدوماً فليس بهادم
ثم أرسل عساكره إلى جزيرة الأندلس وأمرهم أن لا يبقوا عليهم حنقاً عليهم لما فعلوا بجرجير بن عويم داعي إبراهيم الخليل عليه صلوات الله إلا من آمن منهم أو من كان على دين جرجير وما دعا إليه من الحنفية دين إبراهيم. ثم أرسل الخضر إلى قمونية في عساكره وأمره أن يلقاه بدروب الشام، وأخذ ذو القرنين على ألأرض الفرقاء، وإنما سميت الفرقاء لانفراق جزائرها في البحر حتى وصل إلى الشام لا يأتي على أمة إلا آمنت أو هلكت، وسار الخضر إلى قمونية يفعل كذلك إلى أرض بابليون يقتل من صدف ويتجاوز عمن آمن ومر إلى الشام فاخربوه ونجوا هاربين إلى بيت المقدس مستجيرين، فأرسل إلى ذي القرنين استجاروا بالله نعم الجار، فمن كان قد آمن فله ذمام الإيمان وحرمة الدين ومن كفر فإن الله عدو للكافرين أخرجهم من حرم الله المقدس واجر عليهم الجزية ففعل ذلك الخضر حتى انتهى إلى الدروب، فلقي ذا القرنين، فسارا يريدان مطلع الشمس يدعوان إلى الإيمان ولا يأتيان على أمة إلا آمنت أو هلكت حتى بلغ المحيط من عجز الأرض تحت بنات نعش فأصاب فيها أمماً من بني يافث بن حام وأوساه من بني سام، فلم يزل يحملهم على الإيمان فمن آمن نجا ومن صدف عن الحق حمله على السيف ثم عطف على الجزيرة ومضى إلى الرعاق يدعو ويقتل، ثم قصد أرض فارس فآمن من آمن وقتل من غدر وكفر ونزل على جبل الصخر ونزل على قصر المجدل وهو القصر الأبيض قصر عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح الذي بنى في زمان البلبلة حين تبلبلت الألسن وكان من أمره وشأنه إنه استخرج الصحيفة المستودعة عند النبي صلى الله عليه التي فيها العربية، فكان عابر أول من نطق بالعربية ونطق بها معه هود عليه الصلاة السلام، وذلك إنه لما بنى القصر الأبيض وبني فيه الصرح وجعل حول القصر المجدل، وبني القصر بألواح الرخام الأبيض وسقوفه بالزجاج الأبيض وأرضه ألواح الزجاج الأبيض وكان لجامه الفردية، وأفرغ الماء تحت الزجاج من أسفل القصر، فكان القصر الأبيض أعجب ما بنى في الدنيا في وقته ولم يبن قبله في الدنيا مثله وهو أبدة من أوابد الدنيا، فلما بناه عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح وتكلم بالعربية تكلم بها معه ابنه هود النبي ﷺ، ولم يتكلم بها معه ابنه فالغ للذي أراد الله، وذلك أن فالغ بن عابر جد إبراهيم النبي ﷺ وهو إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن ساروع بن ارعوي ابن فالغ بن عابر، وعابر بن هود النبي ﷺ وأبو فالغ، فهود أبو بني قحطان وأخوه فالغ أبو بني عدنان، فلما تكلم عابر بالعربية تكلم بها معه ابنه هود وتكلم بها معه بنو عمه ارم بن سام ين نوح وعملاق بن لاوي بن ارم بن سام بن نوح وطسم وجديس ورائش وقطورا بني لاوذ ابن ارم بن سام بن نوح فتكلم بنو ارم بن سام بالعربية كلهم ما خلا فارس بن لاوذ بن سام بن نوح فانه تكلم بالفارسية وهو فارس الأسود ورحل عابر من ارض بابل حتى نزل العراق وحير الحيرة وهو أول من نزلها وحيرها وعرق العراق بغرس النخيل وغير ذلك من الثمار وبقي ابنه فالغ لأقصر الأبيض فتكلم بالفارسية مع بني فارس الأسود فأقام فيهم هو وولده حتى بعث الله إبراهيم الخليل ﷺ فأمره بالهجرة والخروج مع بني فارس إلى بني عمه هود وهم العرب بنو قحطان، فأمره أن ينزل ابنه إسماعيل في بيته مكة في بني جرهم بن قحطان للذي أراد الله من تمام أمره ووعده لنبيه إسماعيل بن إبراهيم ﷺ وبقي القصر الأبيض قصر عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح إلى زمان ذي القرنين الصعب بن ذي مراثد، فلما رحل ذي القرنين من جبل الصخر لاح له القصر البيض فقال: ما هذا؟ قيل له: هذا القصر الأبيض قصر عابر بن شالخ، فأنشأ يقول: أين رب الملك بل أين الذي ... شيد القصر زماناً ثم جن
أين من ينجو من الموت ومن ... أخذ العهد على رب الزمن
ثم نزل على القصر ودخله فرأى فيه أعاجيب يرى من يمشي فيه من داخل القصر ويرى من في مجالسه من ظاهرها فقال حكم فيه ما أرادوا حكم فيه ما لم يرد، وأنشأ يقول: خرجنا من قرى الصخر ... إلى القصر فقلنا
فمن يسأل عن القصر ... فمبيناً وجدناه
رأينا القصر كالشمس ... منيراً حين أمناه
فأين الساجد السامي ... مليك القصر بناه
وقد كان به حيناً ... ولو كان سألناه
عن القوم وما قالوا ... ولو قال لقلناه
أراه العيش آمالاً ... على بعد ومناه
جرى باللهو إطلاقاً ... وسلم الدهر هناه
فراق القصر رب القصر ... حيناً ثم أفناه
إذا ما أقبلت منه ... أماني حمدناه
وإن ألوى لسوء منه ... أحياناً سئمناه
إذا ما خاننا الدهر ... بصرف منه خناه
سريعاً بعدنا يفني ... إذا نحن تركناه
ثم سار حتى بلغ إلى فج عظيم بنهاوند ثم لقيته جبال شم منيعة بينها شعاب عظيمة. فقيل له: يا ذا القرنين هذا الشعب ينفذ إلى جابر صا وهذا الشعب يصل إلى هرات ومرو وسمرقند وهذا ينفذ إلى جاجا وبلخا وحابلجا وبارد وأرض يأجوج ومأجوج، فأخذ شعب جابرصا وجابلقا فقتل من قتل وآمن ومن آمن وهو في عجز الأرض وغلب على أرمينية ومن بها، ثم عطف إلى فج نهاوند فقيل: هذا باب الأبواب وهو اسمه إلى اليوم بابا الأبواب، فأمشأ ذو القرنين يقول هذه الأبيات: جزعنا الغرب والشرق ... وجئنا باب أبواب
وأعلا ما من الدنيا ... بآيات وأسباب
بعلم صادق الحزم ... وبأس غير هياب
بأمر الواحد القهار ... رب فوق أرباب
وفي المر تصاريف ... وآيات لألباب
وعلم فوق ذي علم ... وغلاب لغلاب
ثم مضى حتى بلغ أرض ياجوج ومأجوج فقاتلهم فغلب عليهم وأناب أمة منهم وهم بنو علجان بن يافث بن نوح فتركهم في جزيرة أرمينية إلى ناحية جابرصا فسموا الترك لأن ذا القرنين تركهم ومضى يطلب ياجوج ماجوج حتى لجج في أرضهم فلم يزل يأخذها أرضاً أرضا وأمة وأمة حتى انتهى إلى الأرض الشماء وهي جبال شم شواهق شوامخ، فلم يزل يخرقها بالطرق وينزل العلو ويرقع الوهاد ويفتتحها حتى غلب عليها وبلغ الأرض الهامدة فافتتحها - وهي أرض مبسوطة لا تلعة فيها ولا ربوة عليها - وغلب من بها من ياجوج وماجوج. ثم بلغ جزائر الأرض الرواب التي تزاور عنها الشمس عند طلوعها، فوجد عندها قوماً صغار الأعين صغار الوجوه مشعرين وجوههم كوجوه القردة وهم لا يظهرون في النهار وإنما يظهرون في الليل يختفون من حر الشمس في المغارات والكهوف في الجبال فدعاهم بلسانهم وقد أعطاه الله سبباً من كل لسان، ثم صار في أرضهم حتى بلغ أطراف جزائر المحيط فأصاب بها أمماً من ياجوج وماجوج يقال لهم الأحرار تطلع الشمس وهم قوم سود زرق الأعين طوال الوجوه طوال الأنوف تشبه وجوههم وجوه الخنازير وهم يختفون في النهار من حر الشمس ويظهرون في الليل فدعاهم وآمنوا. فكان كما قال الله تعالى وتبارك: {ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً}. ثم ركب البحر المحيط فسار فيه حولاً حتى ترك الشمس عن يمينه ولجج في الظلمات حتى وصل إلى أرض بيضاء كالثلج فيها نبات وعليها ضوء ليس كنور الشمس نور أبيض يكاد يخطف الأبصار. قال أبو محمد: فرام أن يمشي فساخت بهم الدواب إلى الصدور فترك عساكره كلها ومضى وحده وأعطى سبباً عبر به الأرض فسار أياماً حتى أشرف على دار مفردة بيضاء فيها بيت واحد وعلى باب الدار رجل أبيض واقف وعلى سطح الدار رجل مبيض واقف قد اخذ شيئاً كمزمار فحبسه في فمه وأمسكه بيديه جميعاً وعيناه تشخص إلى السماء يشخص بهما، قال له الرجل الذي على باب الدار: إلى أين تريد يا ذا القرنين ألم يكفك أرض الأنس والجن حتى أتيت أرض الملائكة! قال له ذو القرنين: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا ملك من ملائكة الله، قال له ذو القرنين: فما هذه الدار ومن هذا عليها؟ قال له الملك: هذه الدار دار الدنيا وهذا الذي عليها ملك من ملائكة الله أوحى الله إليه أن يريك كيف أخذ اسرافيل الصور وعيناه شاخص بهما إلى العرش ينظر متى يؤمر بالنفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض، ثم ينفخ فيه أخرى فيقومون إلى الميقات فهناك الفصل والعدل وكفى بالله حسيباً يا ذا القرنين ارجع فليس لك مزيد وخذ هذا العنقود يا ذا القرنين فأعطاه عنقوداً من عنب وقال له: كل منه يا ذا القرنين وليأكل منه عساكرك فإن لهم فيه آية وهو يبلغكم إلى أرض الأنس والجن وخذ هذا الحجر فأعطاه حجراً مثل البيضة وقال له: زنه بما ترى عينك في الدنيا فإن لك فيه عظة وعبرة فرجع ذو القرنين بالعنقود والحجر إلى عساكره فأكل العنقود وأكل العساكر كلهم ولا ينقص حتى بلغ أرض العمارة فكان مما زادهم يقيناً إلى يقين وكان لهم عبرة وآية، ثم أخذ الحجر فوزنه بجميع جواهر الأرض فرجح الحجر، فلم يزل يزنه بالحجر العظيم والحديد الكبير فرجح عليه، ولم يزل يرجح كل ما وزنه به ولو وزنه بالكثير من جميع ما في الأرض ما وزنه والخضر ينظر إليه ساكتاً قال له ذو القرنين: يا ولي الله هل عندك علم من هذا المثل؟ قال له: نعم هذا الحجر مثل لعينك لم يملأ عينك جميع ما في الأرض مثل هذا الحجر الذي لم يرجح عليه شيء في الأرض، ولكن هذا يملؤها ومد يده فأخذ قبضة من تراب فجعلها في الكفة وجعل لحجر في الكفة فرجح عليها التراب وخف الحجر. قال له الخضر: هذه عينك لا يملؤها إلا التراب وهو الغلب عليها. قال أبو محمد عبد الملك: ثم إن ذا القرنين رجع حتى بلغ السد وهو بالصدفين ولا سد فيه فوجه فيه قوماً أوفر آذانهم حسيس الفلك فقليل ما يسمعون. قال الله تبارك وتعالى: {ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولا، قالوا: يا ذا القرنين إن ياجوج وماجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً؟ قال: ما مكنني فيه ربي خير فأعينوني بقوة اجعل بينكم وبينهم ردماً، آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال: انفخو حتى إذا جعله ناراً قال: آتوني افرغ عليه قطراً فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً. قال: هذا رحمة من ربي، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعاهم جمعاً وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً}. قال أبو محمد فبنى السد ذو القرنين بين ياجوج ماجوج وبين الناس قال: عظم السد في جسمه ألف ذراع وفي طوله ألف ذراع. بنى جسراً دونه وهو من أوابد الدنيا من الصدفين إلى أرض أرمينية وهو مسيرة سبعة أشهر ثم سار يريد أرض الهند حتى بلغ قطر بيل فوجد بها قوماً سموا بالترجامنيين وهم من بني يافث بن نوح وإنما سموا بالترجمانيين لأنهم ترجموا صحف إبراهيم بلسانهم فأجابوا بما فيها، فلما آتاهم ذو القرنين وجدهم بقرطبيل وهم من بني عرجان بن يافث بن نوح وجدهم قد سكنوا مقابرهم ووجدهم لا غني فيهم ولا فقير ولا قاض فيهم ولا أمير ولاناه ولا آمر ورأى مواشيهم بلا رعاة ورآهم بين الأنهار في خلاء من الأرض وقفار واستغنوا منها باليسير عن الكثير، قال لهم: يا بني عرجان ما بالكم سكنتم المقابر؟
قالوا: يا ذا القرنين سكناها لئلا ننسى الموت ونطمئن إلى الحياة وتستهوينا الدنيا، وإنا رأينا الأرض كالبحر يسلكه المرء فيغطي قدميه ثم يمضي فيغطي ساقيه ثم يتمادى فيعلو حقويه ثم يمضي فيعلو منكبيه ثم يعلو رأسه ثم يضطرب بيديه ورجليه فتقلبه أمواجه فتذهب به حيث شاءت فلا يدري ما تحته من الهواء ولا ما فوقه من السماء، فكذلك تستدرج المرء تخدعه ويتبعها حتى إذا لجج سارت به حيث شاءت والدنيا دار إبليس والآخرة دار الله فمن عمل للآخرة أطاع الله وعصى إبليس ومن عمل للدنيا أطاع إبليس وعصى الله فإن إبليس نصب فتنة بكل سبيل. قال: وما بالكم أراكم ليس فيكم غني ولا فقير؟ قالوا له: رأينا غني الدنيا فقيراً بالآخرة، ورأينا معاش هذه الدنيا أعز أهلها وأعظمهم كعيش أذل من فيها وأحقرهم، ولو أن الدنيا كلها للعزيز ذهب وفضة ودر وجوهر ليس له من جميع ماله غير شبعه ولا من كسوته غير لبسه، فارفع طعام ذا في شبعه وأحسن لباس ذا في كسوته اذ دفع عنه حره وبرده كأحقر لباس ذا من كسوته اذ دفع عنه حره وبرده وكان الأمل من قلوبهما واحداً تواسينا فيما لا فضل فيه بين الأرواح والأجسام، ثم رأينا القوي منا لا غنى له عن الضعيف، والضعيف لا قوام له دون القوي وأنه متى هلك الضعيف منا هلك القوي، ومتى هلك القوي هلك الضعيف فتساوينا لئلا يكون منا ضعيف يحسد قوياً ويبغضه ولا يكون قوي يحقر ضعيفاً فواصل القوي الضعيف حتى تكافأ الناس في معاشهم فحسنت معاشرتنا. قال لهم: فما بالكم لا أمير فيكم ولا قاض ولا آمر ولا ناه؟ قالوا له: رأينا القرون من قبلنا والأمم في دهرنا يغصب القوي الجاهل الضعيف القليل الناصر، ويقهر العزيز القادر الذليل المهين ويستطيل كل ذي يد إلى ما قدرت عليه. فما من عزيز إلا أرسل الله عليه أقوى منه يسلبه قواه وأذله بعد عزه ولا يد استطالت فبطشت إلا حال الله بينها وبين ذلك بيد أبطش منها وأجهل وما من متكبر إلا أديل عليه بمتكبر ولا من أمة إلا انتقم الله منها بأمة، فلما رأينا ذلك كففنا بعضنا عن بعض البغي والعدوان والجهل والتسافه والحسد والتواكل فأصبحنا وأمسينا أخواناً وليس فينا ظالم ولا مظلوم فلما لم يجر بيننا ظلم كفانا الله بغي غيرنا من الناس واطمأنت بنا الدار وطاب لنا القرار. قال: فما بالكم بين أنهار وأنتم في خلاء وقفار ليست لكم إلا عمارة يسيرة؟ قالوا له: اجتزينا بالقوت ويسير المعاش. قال لهم: أحسنتم في جميع أحوالكم خلا عمارة الأرض أعمروها لعقبكم فإن العقب إذا لم يجد متعة يتمسك بها من معاشه تطاول بها إلى ما في يده غيره فحمل نفسه على الهلكة فأما لا دنيا ولا آخرة وأما دنيا أن ظهر عليه عدوه كان بلا دنيا ولا آخرة وإن ظفر فدنيا بلا آخرة، ولكن ذللوا الأرض للحرث واغرسوا الأشجار واستخدموا الأنهار فإنها حياة النسل والبهائم والأنعام فإن لكل دين فترة ولكل فترة كفرة ولكل كفرة سكرة واحذروا التبديل فإن لكل أمة تبديلاً وتكذيباً. ثم مضى إلى أرض سمرقند فوجد فيها الزط والكرد والصغد فقتل منهم من قتل وأجاب من أجاب، ثم أخذ أرض مرو فوجد فيها الخزر وفرغان والديلم وجميع هؤلاء القبائل من بني يافث فقتل منهم من كفر وآمن من آمن ثم مضى إلى أرض هراة فوجد فيها الخوز والإفرنج فأجابوه فغلب عليهم وقتل الجبابرة وأهل العتو في الأرض، ثم سار على البر إلى أرض الصين فلقي السند، وهم من بني حام بن نوح فقاتلهم فغلب عليهم وقتل من قتل، ثم دخل أرض الهند - والهند أخوة السند - من بني حام بن نوح فقاتلهم فغلب عليهم وعلى جميع أرض الصين، ثم رجع إلى أرض بابل فغلب عليها وعلى من بها من قبائل بني نوح حتى أجابوا، ثم سار يريد أرض تهامة والحج بمكة، فلما صار من رمل العراق بموضع يقال له حنوقراقر من ارض برقة رحرحان رأى في الأسباب إنه يموت بالحنو ويكون فيه قبره ومنه محشره وكان رآه أيضاً حين امتنعت من طلوعه عليها الصخرة البيضاء - فلما رأى الموت وأيقن به ونعيت عليه إليه نفسه أعلم بذلك الخضر فقال له الخضر: يا ذا القرنين انقضى الأمل وحان الأجل وبقي العمل فحكم عليك اليأس لما تقحم عليك الممات فنزل الرضا وغاب عنك القضاء، وقد وعدك الله وعداً والله متم وعده - عصم دعاته في الدنيا من المكاره وحرمهم في الآخرة على النار، فقال ذو القرنين الصعب بن ذي مراثد الحميري: لما رأيت من المنون وعيداً ... قوضت رحلك سحرة تجريداً
مثل لنفسك ملحداً أخدوداً ... واحذر لنفسك موقفاً مشهودا
وبدت لك الأسباب عن آياتها ... لما بدرت وجردت تجردا
إن اليقين يزيد لحظاً صادقاً ... وترى من الأمر الخفي وعيدا
قد حقق السبب الخبير بأمره ... لما آتاك يصدق الموعودا
ودعاك إذ حان الرحيل ولم تجد ... لما دعاك عن الرحيل محيدا
ولقد رجوت بأن تقال فلم تجد ... عند الرجاء من السنين مزيدا
ولت سنوك وغاب عنك مقامها ... وأرى لعمرك فقدها موجودا
ليس الذي ولى وإن أملته ... مما تحب إلى المنى مردودا
أني يلوم أخو النهي أيامه ... سفهاً ويكثر عندها التفنيدا
أسفاً لمن جارى الزمان ولم يزل ... بظبي المنية نحره مقصودا
أين الذي يخشة وينسى عمره ... يوماً على بعد المدى معدودا
لابد أن يلقي المنون وإن نأت ... تأبدت أيامه تأبيدا
ولقد رأى من حكمها فيما مضى ... عبرا مشين معجلاً ووئيدا
كم جددت من ذي السقام واخلقت ... بعد الغضارة والنعيم جديدا
كم الفت من شاسعين وشتت ... بعد الإقامة والجميع عديدا
من كان في حقب الدهور مخلد ... أو كان في جمع العبيد عتيدا
تستعبر الأيام منه جدة ... بعد النعيم ولو غدا جلمودا
يهتكن عنقة والثبير ووائلا ... وتحط بعد علوه عبودا
لا يطمئن إلى الزمان وريبه ... من كان لم يعهد خلودا
فايأس فلا يبقى وإن طال المدى ... من كان فوق أديمها مولودا
ألوى بحمير والمقعقع بعده ... وأباد عاداً قبله وثمودا
يا صعب حقاً كل شيء هالك ... إلا الإله الواحد المعبودا
هتكت خطوب الدهر عزك هتكه ... أمسى حسامك دونها مغمودا
أخذ الزمان من الشبيبة فرصة ... فأرى الزمان وعصره محمودا
عمرت ألفاً بعد ألف قبلها ... في العالمين وقد دعيت وحيدا
يا سائلين عن الزمان وسيره ... مذ كنت منه مضغة موؤدا
أعطيت ما لم يعط قبلي قائم ... وجمعت جمعاً كالدبا محشودا
وجلبت أهل الأرض من آفاقها ... ألفت أملاً كابها وجنودا
عج النساء لدى الحجون بمكة ... لما رأين حريمها مقصودا
فنحرت فيها ألف ألف ضحوة ... ودعوت قولاً بالمقام سديدا
فلقد أخم اللحم فيها برهة ... وحنذت لما أن أضل قصيدا
وقصدت آفاق الغروب بقدرة ... فوجدت نحساً عندها وسعودا
فهديت منها مرمناً ذا همة ... وفسرت منها كافراً وجحودا
ما أن ارم لما أجاب مخافة ... حتى يظل عن الصراط لدودا
ورأيت عين الشمس عند سقوطها ... ووردت أمواج المحيط ورودا
وبلغت أعلام المشارق كلها ... أبقى لمن أبقى بهن حدودا
فوطئت يأجوجا ومأجوجا بها ... وبنيت قطراً دونها وحديدا
فجعلت عن سربيهما مندوحة ... والفج عن دفيهما معقودا
وولجت في الظلمات حتى جبتها ... خوفاً وكان رتاجها محدودا
ولقيت تحت الشمس قوماً خلتهم ... تحت الظلام خنازرا وقرودا
وعلى بني حام غدوت بسطوة ... بالصين حتى بددوا تبديدا
فلقد كشفت الناس عن أسبابهم ... وبولت منهم طارفاً وتليدا
ولقيت منهم أنوكاو ولبيبا ... ورأيت منهم عاجزاً وجليدا
يوماً يشب من الحروب خمودها ... يوماً وتطفى للحروب وقودا
وعلوت في الدنيا بعزة قادر ... أكدت فيها للبقاء تأكيدا
حاولت أن أعطي الخلود وارتقي ... في الخافقين إلى السماء صعودا
فأبى لي الله الذي أملته ... أمسى المنى دون الرضا مردودا
فالحنو للصعب المعبهل منهل ... يمسي به أمداً له ممدودا
سيموت من تنسى المنية يومه ... وتنال بنت الدهر منه بعيدا
سلَّ المفاصل والنفوس رهائن ... تزجي البوارق فوقهن رعودا
من ذاك يدري الاين من أرواحهم ... أو ما تراهم راقبين خمودا
حالان لا تلقى النفوس سواهما ... فيها شقياً خاسراً وسعيدا
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام عن أسد بن موسى عن أبي إدريس ابن سنان عن وهب بن منبه قال: لما نزل الصعب بن ذي مراثد بالحنو حنو قراقر من أرض العراق، مرض ثماني ليال ثم مات ثم غاب الخضر، فلم يظهر إلى أحد بعده إلا إلى موسى بن عمر أن النبي ﷺ وعلى جميع النبيين ودفن ذو القرنين بحنوقراقر، فقال النعمان بن الأسود ابن المعترف بن عمرو بن يعفر بن سكسك المقعقع الحميري يرثى ذا القرنين الحميري: بحنو قراقر أمسى رهيناً ... أخو الأيام والدهر الهجان
لئن أمست وجوه الدهر سودا ... جلين بذاك للملك اليماني
لقد صحب الردى ألفين عاما ... ولاقاه الحمام على ثمان
إذا جاوزت من شرفات جو ... وسرت بايك برقة رحرحان
وجاوزت العقيق بأرض هند ... إلى الصوبات والنخل الدواني
وهناك الصعب ذو القرنين ثاو ... ببطن تنوفة الحنوين عانى
فمن صحب الزمان بغير صعب ... لقد صحب الزمان بلا أمان
هو الوزر الذي يلجأ إليه ... بنو الأيام من أنس وجان
لقد جاز الخلود إلى مداه ... وسار كما جرى فرساً رهان
ألم تر أن حنو الرمل أمسى ... لملك الدهر والدنيا مغان
فقل للنازلين بكل أرض ... لكم امن على بعد وآن
وقال المحمود بن زيد بن غالب بن المنتاب بن زيد بن عملاق يرثى ذا القرنين بن الحارث ذي مراثد الملك الحميري: اسمع ذا القرنين لما علا ... عن المغاني النبأة الشامله
فيا لها من نبأة لم تكن ... مصروفة عنه ولا حائله
بخدعها عن نفسه ساعة ... فيا لها من خدعة قاتله
فأصبح الصعب ذليلاً لما ... صبحه من صيلم نازله
لم يجهل الموت ولكنه ... قد جهلت أيامه الجاهلة
لم يدفع الموت الذي جاءه ... بسكسك العز ولا عامله
سألوا على الدنيا كمثل الدبا ... ونفسه بينهم سائله
لم يصرفوا عنه سهام الردى ... لما أتته الرمية القاتله
فأصبح الحنو له منزلا ... أخرس لا يبني به سائله
قد قدم المرء له عدة ... مستنصراً زاداً بلا راحله
قال أبو محمد: حدثنا أسد عن أبي إدريس عن وهب عن عبد الله بن عباس إنه سئل عن ذي القرنين ممن كان؟ قال: هو من حمير وهو الصعب ابن ذي مراثد. هو الذي مكن الله له في الأرض وآتاه من كل شيء سبباً، فبلغ قرني الشمس وداس الأرض وبنى السد على يأجوج ومأجوج، فقيل له: فالاسكندر الرومي؟ قال: كان الاسكندر الرومي رجلاً صالحاً حكيماً بنى على بحر افريقس منارتين واحدة بأرض بابليون وأخرى في غروبها بأرض أرمينية، وإنما سمي بحر المغرب بأفريقس لأنه عظيم من عظماء التبابعة أكثروا الآثار عليه في المغرب من المصانع والمدن لآبار.
ملك أبرهة
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: لما مات ذو القرنين الصعب بن ذي مراثد، ولي الملك ابنه أبرهة ذو المنار سماه الصعب على اسم إبراهيم الخليل ﷺ، وإنما سمي أبرهة باللسان الحبشي وتفسيره وجه أبيض. قال أبو محمد: كان أبرهة أبيض وسيماً جميلاً، فلما دفن أبرهة أباه ذا القرنين الصعب بن ذي مراثد بالحنو حنوقراقر في رمل العراق ورجع بعساكره، ظهرت لهم الزمردة بعد موت ذي القرنين وهي صنف من الحيات تسكن الرمل قصيرة لها رأسان في طرفيها وما أكلت بهذا الرأس ألقته برأسها الآخر وهي لا تظهر إلا في النهار وتعمى في الليل لأن جميع حيوان الأرض لا يستطيعها يسري سمها في الأبدان كسير البرق في الهواء تفر منها الثعابين والشجعان والأفاعي، فلما كثرت على عساكره الزمردة ذات الرأسين أضرت بعساكره ضراً شديداً، فكان يعرس نهاراً ويسير ليلاً فكانت تضل العساكر في الليل بعضها عن بعض فأمرهم أن يوقدوا النيران على رؤوس الجبال ليهتدوا بها. وهو أول منار جعل في الدنيا فسمي أبرهة ذا المنار، فسار أبرهة حتى نزل بالمشلل، وكان أجمل الناس وجهاً فرأته امرأة من الجن فعشقته فهجمت عليه ليلاً إلى فراشه. قال له: أيها الملك إني عشقتك وليس لي منك بد وأنا حنيفية على دين إبراهيم: وأنا لا أرضى بالزنا ولا أدين به فاختر من أربع خلال أي خصال واحدة إن شئت قتلتك وإن شئت أعميتك وإن شئت أبرصتك وإلا فتزوجني. قال لها العاقل إذا خير اختار أنا أختار منك العافية يا عيوف فذهبت مثلا فأتته بنفر من الجن فيهم الرابع أبو هافز وجه إياها قال له الرابع: أيها الملك منزلي وادي الجن بالمشلل من أرض جو وهي أرض اليمامة اليوم وإن الأنس ينزلون وادي الجن من أرض الجو فتتعرى نساءهن إلى رجالنا ويتعرى رجالهم إلى نسائنا. قال له أبرهة: أنا أبدر إليهم وأمنعهم من أن ينزلوا بوادي الجن وهم لا ينزلونه ما عشت فمن نزله أحرقوه بالنار، فكان حرماً عند العرب حتى أتى رهط من بني حلوان بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير فنزلوه فبينما هم نائمون في جوف الليل إذ سمعوا دوياً وهينمة ناداهم مناد: إنما هذا محرم الرابع وحمى أبرهة وأتتهم نار عظيمة فأكلت أموالهم وأكلت أناساً وولوا هاربين فسمي ذلك الموضع الحرقانة فهو اسمه إلى اليوم. حدثنا أبو مالك عن زياد البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي: أن عمر بن الخطاب دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فوقف بين يديه رجل كالنخلة السحوق فقال له عمر: من أنت؟ قاتل له الرجل: أنا حارق، قال له عمر: ابن من؟ قال له: ابن شهاب. قال له عمر: وأين مسكنك؟ قال له الرجل: بالحرقانة حرقانة الجو، فقال له عمر: ويحك أدرك أهلك فقد احترقوا. قال: فرجع الرجل إلى الحرقانة فأصاب قومه قد أقبلت عليهم نار ليلاً فاحترقوا، وكان عمر أعيف العرب في الجهالية وأزجرها ولقد حكم بالقيافة. قال أبو محمد: ولن العيوف ابنة الرابع ولدت لأبرهة ولدين ذا الأشرار وعمراً ذا الاذعار، وفي العيوف يقول طرفة بن العبد بعد الزمان ويقال إنه للرابع الجني حيث يقول: لابنة الجني بالجو طلل ... حله الرابع حيناً وارتحل
حرم الجن على الإنس فمن ... شاء بعد الملك والرابع الحل
حل منه ذو منار أهله ... فتولى الجمع عنه واحتمل
كل ما حل عليه راشد ... أوقدت نار عليه فاشتعل
كم به من ذات دل حسن ... وقوام ووسام ومقل
وجواد وهمام حازم ... عاقه عنهم زماناً ونزل
قال أبو محمد: ثم أن إبرهة ذا المنار جمع الجموع العظيمة وسار يريد المغرب أرض بابليون فأرسل إليه حلوان امرئ القيس بن عملاق بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن بابليون بن سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان بن هود النبي ﷺ - وعمرو بن بابليون هو فرعون إبراهيم بمصر - فسار أبرهة يريد حلوان بن امرئ القيس إلى مصر أرض بابليون، وقد رجعا إليه الحبشة وبنو ماريع بن كنعان، فسار أبرهة بجموع عظيمة حتى بلغ مأرب ثم سار حتى بلغ الأحقاف حتى بلغ نهر الحفيف. فأصابوا بنهر الحفيف نصل سهم قد رشق في شق من صخر في صخرة منيعة وقد عفن القدح، فذهب وبقي النصل فأخذوه فوجدوا بجانب منه مكتوب بخط من ذهب: لقلبك من بين الخليط سواد ... وحلت بموماة العراق سعاد
نأى النوم عن طرف المشوق فهل له ... بطرف الذي يهوى عليه سهاد
ألا هل إلى أبيات سمح بذي اللوى ... لوى الرمل يوماً فاعلمن معاد
بلاد بها كنا وكنا نحبها ... إذ الناس ناس والبلاد بلاد
وفي الجانب الآخر مكتوب: ألا حبذا العيش السنين التي خلت ... وأيامنا دهر الملوك المقاول
خرجنا لنبني الملك للناس بعدنا ... ونتبع آثار القرون الأوائل
على عهد ذي القرنين والمرء حازم ... يموت ويخلى للأمور النوازل
رأى سبباً والله بالغيب اعلم ... فقام ولم يرقب مقالة قائل
فقرءوا تاريخ السهم فأصابوا مكتوباً فيه بالمسند لذلك السهم ألف عام مذ سقط في ذلك المكان، فسار أبرهة بجموعه حتى دخل مكة فنذر وأقام حجه، ثم أخذ على الشام يريد أرض بابليون مصر وحمل ابنه العبد في السفن إلى أرض الحبشة فبلغ ذلك الحبشة فولوا منهزمين ولحق أبرهة بحلوان فتبع الحبشة على النيل وأمر حلوان أن يتبع بني ماريع بن كنعان إلى البحر المحيط من أرض المغرب، وسار أبرهة في طلب الحبشة وإن العبد بن أبرهة مضى على وجهه في أرض الحبشة فقتل وسبى حتى تضلل ولم يدر أين يسير وغرق في المخالب، فكاد يهلك ويهلك من معه، وكان العبد بن العيوف الجنية، فطلع على جبل من جبال أرض الحبشة في الليل، فقال: يا معاشر الجن أنا العبد بن العيوف بنت الرابع فأعطوني منكم دليلاً كيلا أضل فسمع صوتاً وهو يقول: خذ الجانب الغربي مسلماً ... على النيل تحدوك المناهل يا عبد
وخذ لبنى حام من الأمر صعبه ... إذا ما بدت للناس أوجهها الربد
وعند حراج الأمر لو وبعده ... مقالة ليت لا يهولنك البعد
فانك تلقى أمة ليس مثلها ... على الأرض أقواماً جدودهم مكد
يكون مجال عنده الموت نازل ... ويدخل فيه النحس إذ ذاك والسعد
فرجع إلى الموضع الذي أمره فأصاب النيل، فسار عليه شهراً حتى فرغ النيل وانقطع عنه وذهب عنه أشهراً حتى لقي قوماً سوداً قصاراً بيض العيون ليست لهم أعناق وجوههم على الصدور، فقاتلهم فغلب عليهم وأسر منهم أمماً وأصاب مالاً كثيراً وأصاب إذ جاءهم الذهب يدخر كما يدخر البر فغنم مالاً كثيراً وسبى أمماً من الحبشة، وقدم اليمن وقد عبر بحر النجاة ونزل بحرم مكة فجعل العرب يختلفون إلى الأسرى من الحبشة ويتعجبون من خلق أمم مختلفة، وإن أبرهة ذا المنار قفل من أرض الحبشة راجعاً، فأخذ على ساحل البحر حتى وصل إلى أرض بابليون، ثم أخذ على الشام وبلغ الدرب فلقيته هدايا الروم وأهل أرمينية، ثم سار حتى بلغ مكة فلقيه ابنه العبد بسبايا الحبشة. فرأى قوماً قصاراً فأمر بهم أن يمضي بهم إلى أرض البحرين وعمان يخدمون المراكب فيزعمون أن النوتيين الذين، ثم كانوا بعمان والبحرين من بقايا سبايا الحبشة الذين سبى العبد بن أبرهة، ثم رجع أبرهة إلى غمدان وهو دار مملكة التبابعة، فكان ملك أبرهة ثلاثمائة سنة وستين عاماً، ثم مات فرثاه المحموم بن زيد بن غالب بن السياب بن عمرو بن ذي أنس بن قدم بن الصوأر بن سكسك فقال: أزفت خطوبك يا ابن هاتك عرشه ... لم تدر حتى صبحتك بذالكا
عاصيت ذا إذ لم يكن لك عاجل ... وأطعت ذاك إلى مدى إذ لا لكا
فلقد بلغت من البلاد مبالغاً ... يا ذا المنار وضعضعت لجلالكا
قدت الجنود إلى الجنود سريعة ... وحملت منها على السفين كذالكا
سرت الجيوش فأمعنت في سيرها ... ما تهتدي إلا بنور جمالكا
حتى وطئت جميع حيث تغلبت ... أسباط حام بهلالكا
أوغلت عبداً فاستقر به النوى ... حتى تشرد حالهم عن حالكا
فسقيتهم سجلاً بكل مهند ... حتى أبرت حرامهم بحلالكا
فآتاك بالنسناس خلق وجوههم ... فوق الصدور وليس مثل رجالكا
زالت لك الشم الشوامخ هيبة ... لما قصدت إلى الوغى بنزالكا
قالت لك الأرضون سمعاً وطاعة ... لم تستطع أن تصطبر لقتالكا
قد قصرت همم الزمان عن التي ... كانت لمن جر الكتائب سالكا
أنا هديت وأنت هاد للتي ... لما سعيت لمنتهى آجالكا
من ذا يجاري من سموك خطة ... هيهات من يهدي لحسن فعالكا
خضع الملوك لوجه ملكك هيبة ... لم ينج من حتم المنية ذالكا
ملك العبد بن أبرهة
قال أبو محمد عبد الملك: عن محمد بن السائب الكلبي: لما مات أبرهة ذو المنار ولي الملك بعده ابنه العبد بن أبرهة وهو ذو الأشرار، وإنما له ذو الأشرار لأن الحبشة هم الأشرار وكان العبد هو الذي غلب على جميع أرض الحبشة وسباهم أمماً وسقاهم في الأغلال إلى مكة، وهو أول من رأت العرب في زمانه داء الكلب. وداء الكلب داء يعرو الدماغ فيسكن من حركته فلا يبرأ حتى يسقى الخمر بدم من دماء بني مذحج، قال عبد الله ابن حزم الأزدي: وجوه بني زبيد إن تجلت ... إلى الأبصار تخطف كالبروق
إذا نطقوا يزينوه لعدل ... وإن صمتوا على علم حقيق
وإن فخروا آتوك بعز بأس ... وبالأفعال والحسب العتيق
دماؤهم على الأشفار أشهى ... إلى الكلبي من المسك الفتيق
وقال حصين بن الحمام المري لبني العنقاء حين أعطاهم ابنه ديا رهينة فأبوا:
خذوا ديا بما أحدثت فيكم ... فليس بكم على دأب غلاء
فلستم من بني عمرو بن عمرو ... ملوك والملوك لهم نماء
ولا العنقاء ثعلبة بن عمرو دماء القوم للكلبي شفاء زعم إنه من بني زبيد وذلك أن بني مرة بن سعد بن ذبيان يزعمون أنهم من بني زبيد وأما عبد الله بن حزم في قوله: دماؤهم على الأشفار أشهى ... إلى الكلبي من المسك الفتيق أراد أن دماءهم أطيب من المسك الذي يبري الدماغ عن داء الكلب وذلك أن النتن إذا خامر الدماغ أفسد طبيعته وأضعف قواه.
قال عبد الملك: وولي أمر الملك العبد بن أبرهة بن الصعب فغزا الملوك ودانت له العرب والعجم وخضعت له الملوك فأقام في الملك ستين عاماً، ثم سقط من الفالج، فلم يغز بنفسه وكان يرسل الجيوش فدخل عليه الوهن في ملكه، ثم عدا عليه الفالج فمات وكان ملكه ستين عاماً.
ملك عمرو بن أبرهة
وولي الملك أخوه عمرو بن أبرهة وهو عمرو ذو الاذعار وأمه العيوف بنت الرابع الجنية، وقد ابى من هذا عامة الناس وزعموا إنه لا يظهر الجن للأنس وأنه لا يتناسل جنسان مختلفان ولا ينسل أنسي من جنية ولا جنى من أنسية وإن هذا باطل وأتى بهذا الحديث علماء والله اعلم أي ذلك كان. قال أبو محمد: لما ولي عمرو ذو الاذعار الملك قهر الناس بالملك وذعرهم بالجور فلا يرفق لقريب ولا بعيد وأسرف على العرب بالسلطان وشرد الناس ووسم من سخط عليه بالنار من أبناء الملوك وبدل على الناس السيرة التي كانوا عليها يعرفون. فذعر الناس من خوفه ذعراً شديداً وبه سمي عمرو ذو الاذعار وأنه كان يزني ببنات الملوك من حمير، فيؤتى بهن أبكاراً وغير أبكار فكن يشربن معه الخمر وكان ينادمهن على الخمر ويصيب منهن حاجته، فلما فعل ذلك بحمير كرهوا أيامه وأبغضوا دولته وكان شرحبيل بن عمرو بن غالب بن السياب بن عمرو بن زيد بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ نازلاً بمأرب في قصر بينون ولم يكن بني مثله ومثل قصر غمدان وسلحين باليمن، فجمع شرحبيل حمير وقبائل بني قحطان ممن كان بمأرب، ثم قام فيهم خطيباً، فقال: يا بني قحطان النساء هن الحمى فدون الحمى سفك الدماء هل جزعتم يسمكم بالنار فالنار ولا العار. والصبر صبركم وصبر كفر. فقد صبرتم على ما لا يصبر عليه أحد. أغضبوا الله ولا عراضكم قبل أن تخذلوا ويسلط عليكم النقم وتسلبوا النعم وتلبسوا الذلة فلم كسبتم الأنساب واعتدتم اللامات فتنافست فيكم الأحساب إذ لا تدفعون عن الحريم وتكشفون الضيم. قد شكت الأرحام وضجت إلى الله من الآثام، فلما عزة وسلامة أو ذلة وندامة وناصر الله منصور أما والله لئن لم تغضبوا لله ولا نفسكم لأضعن سيفي هذا على صدري فأخرجه من ظهري، فالموت عن مثلكم حياة والذهاب عنكم نجاة فقدموه فيكم وملكوه.
ملك شرحبيل
فولى الملك بمأرب شرحبيل بن عمرو بن غالب فرجع الملك في نجلته، الأولى نجلة يعفر بن سكسك، فجمع القبائل من قحطان وأجابته حمير للذي أراد الله من انقطاع دولة ذي الاذعار، وبلغ خبر شرحبيل بن عمرو إلى عمرو ذي الأذعار فجمع جنوده وزحف إليه وزحف إليه شرحبيل بن عمرو فالتقوا بالعالية فاقتتلوا قتالا شديداً ثم افترقا ومات بينهما خلق كثير. ثم رجع عمرو ذو الاذعار إلى غمدان، ورجع شرحبيل إلى بينون فأقام شرحبيل في الملك سنة ثم مات.
ملك الهدهاد ابنه
وولى ابنه الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو وهو الهدهاد أبو بلقيس الملكة باليمن، وكان الهدهاد بن شرحبيل رجلاً شجاعاً حازماً. قال أبو محمد، حدثنا ابن لهيعة عن مكحول عن أبي صالح عن ابن عباس قال: إنه لما ولي الهدهاد بن شرحبيل، زحف إليه عمرو ذو الاذعار وبرز إليه الهدهاد والتقوا بموضع معروف باليمن فتحاربوا أياماً فلما فصل العسكران، وبرز بعضهما إلى بعض، خرج الهدهاد على ناقة في زي أعرابي حتى وصل إلى عساكر عمرو ذي الاذعار، فطاف به وتدبر عساكره، ثم سمع لغطهم وما يتوعدون به عمراً ذا الاذعار من الخذلان واسترق ما يريدون له فزاده ذلك عزماً إلى لقاء عمرو، فانصرف الهدهاد يريد عساكره، فسار حتى بلغ إلى شرف العالية في يوم قائظ أجرهد فيه الصخور، والتهبت الهواجر وقال الضب: فنظر إلى شجاع أسود عظيم هارب وفي طلبه رقيق أبيض فأدركه فاقتتلا حتى لغبا، ثم افترقا، ثم أقبل الشجاع الأبيض إلى الهدهاد فتشبث مع ذراع ناقته حتى بلغ رأسه إلى كتفها ففتح فمه كالمستغيث، ثم عطف في طلب الأسود فأدركه فاقتتلا طويلاً فلغبا فافترقا، وأقبل الأبيض إلى الهدهاد كما فعل أولاً كالمستغيث فصب الهدهاد الماء في فيه حتى روي، ثم أقبل على الأسود وأخذه، فلم يزل الأبيض حتى قتل الأسود، ثم مضى على وجهه حتى غاب عنه، ومضى الهدهاد إلى شعب عظيم فاختفى فيه، فبينما هو مستتر بشجر أراك إذ سمع كلاماً فراغه سيفه فأقبل إليه نفر جان حسان الوجوه عليهم زي حسن فدنوا منه فقالوا: عم صباحاً يا هدهاد. لا بأس عليك وجلسوا وجلس فقالوا له: أتدري من نحن؟ قال: لا. قالوا: نحن من الجن ولك عندنا يد عظيمة. قال: وما هي؟ قالوا له: هذا الفتى أخونا من أبناء ملوكنا هرب له علام أسود فطلبه فأدركه بين يديك فكان ما رأيت وفعلت فنظر الهدهاد إلى شاب أبيض أكحل في وجهه آثار خداش. قال له: أنت هو! قال: نعم، قالوا له: ما جزاؤك عندنا يا هدهاد إلا أخته نزوجها منك وهي رواحة بنت سكن. فزوجوه إياها وقالوا له: لها عليك شرط لا تسألها عن شيء تفعله مما تستنكر منها فإن سألتها فهو فراقها قال: نعم، قالوا له ارجع إلى قصرك بينون فإنها تأتيك ليلة كذا ارجع فلا تقم لأن عمر ذا الاذعار ورجع إلى غمدان بعد انصرافك عنه، فرجع الهدهاد وفرق عساكره، ولحقه الخبر أن عمراً رجع فجلس في الليلة التي أمروه أن يجلس فيها مرتقباً حتى أحس ثقلاً في القصر وهرب جميع من معه في القصر من ثقل الذي أحسوه ووحشة داخلت قلوبهم حتى أتوا بها إليه فأدخلوها عليه وأولدها ولداً ذكراً، فلما شب وصار ابن سنة، فبينما هو يناعيه اذ أقبلت كلبة من باب المجلس فأخذت برجب الطفل وجرته حتى ذهبت به عنه فغاب فنظر إلى رواحة فسكتت وسكت، ثم ولدت أنثى، فلما صارت بذلك السن أتت الكلبة فجرت برجلها وهو ينظر فسكت وغابت عنه، ثم ولدت ذكراً، فلما بلغ سن أخيه وأخته أتت الكلبة وفعلت ما فعلت أولاً قال لها: يا رواحة، قالت له: كيف؟ قال لها: أكف ما نال هؤلاء الأطفال؟ قالت له: فارقتك يا هدهاد اعلم إنه لم يجر منهم أحد بل هو محمولون وتلك درة تحملهم وتربيهم حتى يبلغوا خمس سنين فيأتوك أنقياء. فأما ابنك الأول فقد مات أحسن الله عزاءك فيه وأما الآخر فإنه يأتيك وليس يعيش بعد أبي وهو يموت، وأنا ابنتك فإنها تأتيك وتعيش لك. ثم ذهبت عنه بعدها ووجد في الفراش ابنه وبنته بلقيس، فمات الصبي وعاشت بلقيس، وقد رد هذا الحديث عامة من العلماء ويقبله عامة من العلماء، والله أعلم أي ذلك كان.
فأقام الهدهاد في الملك عشرين سنة فلما حضرته الوفاة أحضر جميع وجوه حمير وأبناء ملوكهم وأهل المشورة من بني قحطان فقال: يا بني قحطان أما أنكم تعلمون فضل رأي بلقيس علي فإنها لا تخطئ ما تشير به عليكم كيف تجدون بركة رأيها؟ قالوا: نعم قال: وإنها أعقل النساء والرجال، قالوا: نعم قال: فاني استخلفها عليكم، فقال له رجل منهم: أيها الملك تدع أفاضل قومك وأهل ملتك وتستخلف علينا امرأة وإن كانت بالمكان الذي هي منك ومنا؟ قال: يا معاشر حمير إني رأيت الرجال وعجمت أهل الفضل وسبرتهم وشهدت من أدركت من ملوكها فلا والذي أحلف به ما رأيت مثل بلقيس رأياً وعلماً وحلماً مع أن أمها من الجن واني أرجو أن تظهر لكم عامة أمور الجن مما تنتفعون به وعقبكم ما كانت الدنيا فاقبلوا رأيي فإنها مع اختياري فيها مؤدبة لغيرها من أهل بيتها واني كنت سميت الملك لمالك بن عمرو بن يعفر بن حمير بن عمي وهو غلام له حزم وعقل فإذا بلغ فله الملك أما في حياتها وأما بعد موتها. قالوا: سمعنا وأطعنا أيها الملك انظر لنا. فمات الهدهاد بن شرحبيل وولي الملك بلقيس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق